نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 28-4-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3892
من كتاب “عندما يتعرى الإنسان” (1)
بداية حكاية: “الشعلة والحريق”
مقدمة:
.. وأنا أواصل إعداد أعمالى القديمة والجديدة للنشر أو إعادة النشر اكتشفت – فـَرِحا ومندهـِشاً – عمق علاقتى بالتطور وعلاقته بممارستى مهنتى منذ بداية البداية.
فى الأسبوع الماضى نشرت مقتطفا من كتاب باكر ذكرت أن علاقتى به ليست وثيقة، وإذا بى اكتشف أننى سجلت فيه أفكارى منذ البداية: الكتاب كما ذكرت فى الأسبوع الماضى هو “عندما يتعرى الإنسان”، نشر أولا عام 1972 وإن كنت قد وجدت أننى وقـّعـْتُ مقدمة الطبعة الأولى بتاريخ 1968، وسجلت ذلك فى طبعة 2017، إذن فقد مضى نصف قرن بالتمام.
ننشر مقتطف من نفس حكاية الأسبوع الماضى (حكاية: الشعلة والحريق”).
نواصل حوار هذا الشخص الغاضب المكسور الساخط مع الحكيم (الطبيب)
أكمل الحكيم قائلا:
…………………..
………………….
قلت (الحكيم) له (للمريض):
= ولكنك مازلت ثائراً.
- لا ..لا..، كله إلا هذا.. كفانى ثورة.
= بل أنت ثائر على تصوّر فشل الثورة، لذلك فأنت ترتدى مظهر الاستسلام.. ومازالت الجمرة شعلة فيك وبك.
- لا تحاول أن تبعث فيها الحياة.. لقد انطفأت الشموع جميعا وعم الظلام.
= الشموع قد تنطفىء، والجمرة قد يعلوها الرماد، ولكنها متقدة فى داخلك.
- لا ترسل نسيم ألفاظك إلى حيث لا تعلم، فإنها لو أشعلت الجمرة من جديد فلا أحد يعرف كيف سأنفجر، سأتحطم تماما وقد أحطمك معى.. ألا تسمع عن المرضى الذين يقتلون.. أنا أشعر الآن بالطريق إلى ذلك، إن هذا يحدث من إعادة اشعال هذه الجمرة، إياك أن تقترب منها داخل أى منا، دعه يكتوى بنارها المتسحبة تحت الرماد حولها حتى يحترق ويموت.
= إذن فهناك جمرة.
- تحترق.. فهيا ساعدها بعقاقيرك المهدئة العظيمة لتنطفىء إلى رماد،.. أرجوك لا تهيجها بألفاظك المثيرة.
= بل العقاقير تهدئها مرحليا حتى تصبح طاقة قادرة على الاستمرار.
- وماذا بقى منى حتى أستمر؟
= كل هذه الخبرات لابد أن تتجمع.. وتعود إلى حياتك العادية، لتجعل العالم كله غير عادى.. بالتطور والعمل والاستمرار.
- ولكنى فشلت.. فلماذا التطور ، هذه كلمة خبيثة خادعة، يبدو أن التطور هو خدعة تاريخية.
= ليس تماما، وبالذات بعد خبرتك هذه.
– ولماذا أنا بالذات؟
= لأنك مرضت، إذن فقوتك الداخلية أكبر من سائر البشر، إذن فأنت تحمل رسالة التطور.
- وهذه الرسالات التى آمنت بها حتى كفرت بها، ألم تكن وسيلة للتطور.
= وهى هى دليل التطور.
- إذن لماذا احترقتُ بنارها وشككت فى كل شئ.. على فكرة أنا أشك فيك.
= هذا بديهى.
- وأرى خيالات وصورا وأشياء كثيرة من حولى.
= مثل ماذ؟
- أرى أفلاطون وأرسطو وبعض الأنبياء، أى والله أحيانا أعيش فى جمهورية أفلاطون، وأحيانا أنام فى غار حراء.. ما أجمل كل هذا رغم كل شئ…، أن تعيش مع هؤلاء الذين استمروا ليغيروا العالم دون أن يمرضوا، ولا أن ينهاروا، ولكن من يدرى؟ لعله لو كان هناك أيامها طب نفسى كنتم قلتم أنهم مرضى.. كل شئ جائز، فالعلم الخبيث خليق أن يشوه كل شىء، أن يعطى رقما رمزيا أو إسما تشخيصيا لكل نبض إنسانى، حتى لو كان نبيا، على فكرة.. ما اسم مرضى؟
= ليس لمرضك اسم.
- طبعا… تخفيه لأنه الجنون.. فما معنى الجنون؟
= أنا لا أعرف معنى لهذا اللفظ… ولكن ما أنت فيه هو أزمة التطور.. أما ما يسمونه جنونا فأنا لا أعرفه إلا حين تتم الهزيمة الكاملة.
- ولكنى هزمت نفسى… فعلا.
= ليس بعد.
- إذن ماذا؟
= لا بديل للاستمرار.
- فما تفسير هذا الفشل كله؟
= لقد نسيتَ أن تطور الانسان يحتاج لآلاف السنين.
- إذن لا بد أن أعيش آلاف السنين حتى أتطور.
= بل بمجرد أن ترفض الهزيمة والاستسلام فإنك تكون قد أديت دورك لتسلم الشعلة لمن بعدك، ليخطو هو أيضا نحو الغد، وهكذا.
قال:
- لقد خطوتُ خطوات وخطوات، وفى كل طريق حسبت أنه يوصل، ولكن الناس… السادة الكبار.. أفقدونى ثقتى بالمبدأ وبالكلمة وبالحق وبالغد.. هذه هى نهاية الطريق.. حطام فى حطام.
قلت:
= بل إنها محنة على الطريق.. إن المبدأ لا يعيبه تأخر تحقيقه أو صعوبة تطبيقه؛ كل إنسان لابد أن يأكل ويعيش، لابد للحق أن ينتصر، لابد للحرية أن تزدهر، فقط….الوقت، الإشكال الآن هو أن إنسان الأمس بخوفه وضعفه ونقصه، يطبق اليوم.. نظرية الغد، فينشأ التضارب والفشل، ولكن الفشل فى التطبيق لا ينبغى أن يفقدنا الثقة فى المبادئ.. وفى الغد.. وفى التطور.
……………………..
…………………….
وبعد
لم أكن أتصور أننى أقحمت مفهوم التطور بهذا الإلحاح وهذه المباشرة فى هذا الحوار مع هذا الصديق الذى كاد يحترق حين طاحت منه شعلة المبادئ والثورة والحماس حتى راحت تـُشعل حريقا يكاد يأتى على كل مبادئه وطموحاته وتاريخه وآماله، بل وصحته وهو يهدد تماسكه.
طبعا هذه المباشرة تقلل من القيمة الأدبية للنص، ربما لهذا كانت علاقتى بهذا العمل متواضعة، أما ما اكتشفته الآن من أنه علامة على تاريخ تطور فكرى، فلعله اعتذار مناسب لتواضع الإبداع!!
[1] – يحيى الرخاوى: كتاب “عندما يتعرى الإنسان” الطبعة الرابعة 2017 (الطبعة الأولى 1969) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.