“يوميا” الانسان والتطور
10 – 11 – 2007
العدد: 71
.. انتصار السعادة: برتراند رسل(!)
هذا عنوان خادع، فاحذر
سبعون يوما (30 + 31 + 9، سبتمبر، أكتوبر، نوفمبر) وسبعون يومية: تَغَيّرَ من خلالها نمط الإلتزام اليومى، وتلاحقت الأفكار، وتعددت الاقتراحات، وتكررت التراجعات، سبعون يوما وأنا أحاول الهرب، أو التراجع فلا أستطيع لكننى مضطر إلى هذه الوقفة معكم لأعود إلى التساؤل:
ماهذا؟ ما هذا الذى يجرى؟ لماذا؟ إلى أين؟ حتى متى؟
كلما لاحت لى فرصة للتوقف للتقييم أو محاولة الرد على مثل هذه الاسئلة، اختفت وراء إلحاح السكرتارية وهى تطالبنى بيومية الغد، بشكل ملاحق يستحيل صده.
ثبت أن اليومية ليست عامودا يوميا يتابع مجريات الحياة ليسهم برأى ما أو يضِئ ظلام زاوية ما،
وهى ليست عملا متصلا يصدر فى حلقات.
وهى ليست عملا جماعيا يساهم المسئول عنه مواصلة تنظيمه بمشاركة آخرين فى دفعهم إلى إنجازه والحفاظ عليه.
حتى دائرة الذين وصلتهم بعض ملامح هذه اليومية هى دائرة محدودة محدودة، لم تتجاوز بضعة أشخاص – نفس الأشخاص – صحيح أنها تتسع ببطء؟ ولا أنكر أننى أحاول أن تتسع أكثر، ولكننى فى نفس الوقت أرجو ألا تتسع أكثر،
أحاول أن تتسع لأبرر الاستمرار، وأنها البداية القادرة أن “تَضْرى إذا ضَّرْيتُمُوهاَ فتَضْرَم”.
وأرجو ألا تتسع فلست مستعداً أن أكون مسئولا عن التمادى فى اتساعها، مع الالتزام بالتجاوب والحوار المتصل.
أكتشف من خلال كل ذلك أمورا غريبة، مفيدة وصادمة وجديدة ومرعبة معا:
أكتشف مثلا أنه لا شئ ينتهى،
وأن البدايات اصبحت أعجز عن أن تبرر تكاثرها،
وأننى لا أستطيع أن ألاحق ما أكتشفه مخزونا فى حاسوبى (الكمبيوتر)
ولا أنا قادر أن أوجز بعض أو ما همَّشت به – مُصَارِعاً – أغلب الكتب التى قرأتها ولم أحدد كتابةً ما وصلنى منها،
كما لا أستطيع أن ألاحق الأفكار التى تراودنى وأريد توصيلها إلى أصحابها.
ولا أن أتابع راصداً ما يغمرنى به مرضاى من رؤى جديدة، تعيد تنظيم كل ما أعرف، أو تجعله يتناثر منى وأنا غير واثق متى أو كيف يعود ليستقر فى شكله الجديد.
أتوقف لدقائق – ليس أكثر – وأنا أحاول أن اختار موضوع يومية اليوم(أى يوم)، ولا تطول الدقائق فلا وقت للتردد، فأمد يدى إلى أقرب كتاب من مكتبتى التى تقع أغلبها خلف مكتبى، أحيانا أمدى يدى دون أن أنظر ورائى، وأمسك بالكتاب الذى نجح أن يقفز إلى يدى دون أن أعنيه تحديدا: انجليزى، عربى، نفسى، شعر، طب، فسلفة، مكتبة الأسرة، أى حاجة، أتصفح الكتاب فأجد به “آثار عدوانى” على صفحاته بالحوار والشجار، والاحتجاج، وعلامات التعجب، وعلامات الاستفهام، والداوئر التى تحيط بعض الفقرات، وأحيانا بعض الجمل، وأحيانا بعض الكلمات، فأعرف أننى زرت هذا الكتاب يوما ما، وإلا ما لحقتْ به كل هذه الإصابات والكدمات، والزخارف والحليات. حين يطلب منى أحد أبنائى أو بناتى أو زوجتى أو طلبتى أن أصوّر له نسخة من كتاب نادر أكون قد مدحته أو اقتطفت منه شيئا، ويعرفون أن به ما به من آثارى هذه مما يحول بينهم وبين تلقائيتهم، يترددون فى الإلحاح على النسخة، ويبحثون عن نسخة عذراء لم يممسها بشر، خصوصا بشر مثلى لا يرعى للبياض (ولا لسواد الحروف) حرمة بشكل حضارى مهذب،
أكتشف أن أى هامش من هذه الهوامش يصلح لموضوع يومية،
الكتب التى مازالت صفحاتها تزهو بعذريتها تُبْلِغُنى رسائل أكثر تحدّياً: إذا كنت هكذا لم ألمسها فلماذا اشتريْتُها؟ ولماذا احتفظتُ بها فى مكتبتى؟ لأعود إليها!؟ متى؟ وكيف أعود إليها والكتابة أصبحت تلاحقنى هكذا حتى زحفتْ على الهامش الذى قد كنت قد جنّبْتهُ للقراءة؟ أقلّب فى هذه الكتب العذراء فأعرف لماذا اقتنيتها، وأحيانا أتذكر يوم اشتريتها أيام أن كنت أشترى كتبى بنفسى، ومؤخرا قد أتذكر متى كلفت بعض مساعدىّ بالبحث عنها وشرائها، طيب ماذا فعلت بها بعد اقتنائها؟ ها هى تقبع ساكنة منسية بين مئات الكتب دون أن تعبر حتى شريط ذاكرتى وأنا بعيد عنها، لا أجد فى صفحاتها – كما قلت – أى أثر من آثار عدوانى، فأذهب إلى المحتوى (أو الفهرس) فأكتشف فصولا كنت أدفع جزءاً من عمرى لأعرف ماذا بها تفصيلا، ويدفعنى دافعى الأول أن أرجع إلى متن أحد هذه الفصول، فأفاجأ أنها كذلك، أنها هى التى كنت أريد أن ألم بموضوعها حين اقتنيت الكتاب، كنت أريد أن أحيط بوجهة النظر التى تعرضها، والمصيبة الأكبر حين أكتشف أن بها مواضيع، أكون شخصيا وصلت فيها مؤخرا إلى فرض أو تصور أو نظرية تصورت أنها جديدة وأصيلة , وأننى بذلك أضيف إلى المعرفة أو إلى العلم إضافة جديدة غير مسبوقة، وإذا بهذا الفصل الذى عثرت عليه فى هذا الكتاب قد تناولها هى هى من قديم، بأروع وأدق مما اكتشفُتُه أنا بينى وبين نفسى مؤخرا، أخجل من جهلى، وأحمد الله أننى لم أسارع بنشر أفكارى هذه حتى لا تبدو أنها سرقة بشكل أو بآخر، ثم أعود أفخر أننى وصلت بنفسى إلى ما سبق أن وصل إليه هؤلاء الرواد الثقاة، يتكرر ذلك معى حتى أخترع ما أسميته “المصداقية بالاتفاق “الطولى“، أو “التاريخى” Consensual Validity Longitudinalبمعنى أن إعادة اكتشاف نفس النظرية ولو بعد عشرات السنين هو فى حد ذاته نوع من إثبات مصداقيتها (وطبعا هو إثبات لجهل اللاحق مثلى بجهود وأفكار من سبقوه)
نعم: يحدث ذلك حين يكتشف أحد العلماء نظرية ما فى مكان فى الكرة الأرضية، وفى نفس الوقت (نفس السنة ، نفس الشهر، قبل ذلك بقليل بعد ذلك بقليل، قبل نشر أو انتشار احداها)، أقول وفى نفس الوقت يكتشف آخر نفس النظرية تقريبا، فَيُتَّهم مَنْ نشرها بعد الآخر، أنه سرقها، مع أنه قد يكون اكتشفها وسجلها لنفسه أو لخاصته، ولم تتح له فرصة النشر الأسبق. وسوف افصّل ذلك فى يومية الغد “المصداقية بالاتفاق” وأكتفى هنا بالإشارة إلى نظرية الانفعال لجيمس – لانج، الأول “جيمس” أمريكى والثانى “لانج” دانيماركى، وتقوم معركة تنتهى بالاتفاق بتسميتها باسمهما معا، الفارق كان سنة واحدة 1884 – 1885، أيهما الأول؟ من يدرى؟ وإلا فلماذا المعركة؟، أما نظرية داروين – والاس عن التطور وأصل الأنواع فسوف نفصل ما دار بشأنهما غداً.
نرجع مرجوعنا إلى الكتب العذراء التى تقع فى يدى وانا ابحث عن موضوع لليومية التى علىّ أن أكتبها اليوم (أى يوم)، فأجد أننى أصبحت أشعر أن كل كتاب (تقريبا بلا استثناء) يمكن أن يكون مصدرا ليومية مفيدة، حتى الكتاب التافة، أو المزيف، أو السطحى، أو السئ، أشعر أن علىّ أن أوضح للناس ما وصلنى “هكذا”، حتى وصفُته لنفسى “هكذا”.
هكذا سمحت لى هذه الورطة بمراجعة ما فعلته بنفسى وبكتبى وبوقتى حتى هذه السن،
أما زيارتى لمخازن حاسوبى وأنا أبحث عن موضوع بذاته، فهى أكثر مصادمة وإرعابا، حيث أننى كثيرا ما أكتشف أننى كتبت فى هذا الموضوع كتابا كاملا، أو فصلا فى كتاب أو فهرساً كاملاً لعناصر كتاب، ثم أكتشف أننى نسيت كل ذلك تماما، وأنه لولا أن الحاسوب قد سجله واحتفظ به لأقسمت أننى لم أخطّ فيه حرفا، ومن البديهى أن أجد فى هذه الكتب والفصول والفهارس مايصلح لآلاف اليوميات التى ورطت نفسى فيها هكذا بالمصادفة.
هذا غير المفأجات الغريبة وغير السارة أحيانا التى تفاجئنى وانا أبحث فى حاسوبى حين أجد عنوانا رائعا على وجه الوثيقة أو الملف، ثم أفتحه فإذا به يحوى موضوعا آخر تماما ليس له أدنى علاقة بالعنوان، وقد لا أجد المحتوى الخاص بالعنوان أصلاً!! والعجيب أنه حتى هذا الموضوع الآخر الذى اخْتَبَأَ وراء العنوان الزائف أجده جديراً بالنظر، وإعادة النظر كما أجده صالحا للتقديم هنا أيضا.
ما هذا الذى يجرى؟ ما هذا؟
أرجع أتأمل وأسأل نفسى لو أن فرويد العظيم (وليس العبد لله الأى كلام)، أو هيجل مثلا كانت عند أى منهما فرصة تسجيل أفكاره وآرائه بمثل هذه العشوائية، وهذه التلقائية، وهذه الكثافة إذن لتركوا لنا من الثراء والإضافة ما هو أكثر مما تركوا، ربما عشرات المرات.
ما هذا الذى يجرى؟ ما هذا؟
الكتاب الذى وقع فى يدى صباح اليوم، والذى كان سبباً فى هذا الاستطراد هو كتاب “انتصار السعادة” لبرتراند رسل، وأنا اكره كلمة السعادة هذه وأتحفظ على استعمالها الطبى والتخديرى والطفولى والعشوائى، وقد كتبت نقداً لكتاب لخصه المرحوم أ.د. أحمد مستجير فى مجلة وجهات نظر، بعنوان “علم اسمه السعادة” وقد رفضت أغلب ما جاء فيه وحادثت المرحوم مستجير فى ذلك محذرا ترويج عقار لشركة بذاتها (ذكر د.مستجير اسم العقار فى المقال بحسن نية) تحت هذا الزعم، وكأن السعادة أصبحت حبوبا تباع فتشترى،
تساءلت وأنا أقلب كتاب برتراند رسل العظيم كيف يكتب رجل بهذا الحجم والعظمة كتابا بهذا العنوان “انتصار السعادة”؟
تصفحت الكتاب وإذا بى أكتشف أنه من الكتب التى قرأتها بعنف، حتى أن الاعتداء ظهر بألوان أقلام مختلفة، بدأت بالأسود والأزرق، ثم سالت الدماء بالأحمر العادى، والأحمر دم الغزال، لم أصدق وواصلت التقليب حتى وصلت إلى آخر صفحة فوجدت أننى فعلاً أجهزت عليه.
وسوف نعود إلى بعض ذلك مرة فمرة، ربما فى باب “مقتطف وموقف”.
…….
هل عرفت الآن لم حذّرتك من خداع عنوان هذه اليومية؟