“يوميا” الإنسان والتطور
6- 9 – 2007
(6) الورطة .. (أُكُمِلْ .. أم أتوقّف؟)
المسألة كالآتى:
نحن لا نختار تماما ما نفعل وما ندع، وإنما نحن نحشر أنفسنا (أو نجد أنفسنا محشورين) فى مجال يسمح لنا بأن نفعل بعض ما نفعل، وأحيانا هو لا يسمح إلا بأن نفعل ما يمكن أن يتم فيه.
أنا آسف لهذه البداية، لكن، لا ..،
فما فائدة خصوصية هذه الكتابة المستقلة إن لم تسمح لى بمثل ذلك؟
دعونى أقدم بعض الشرح:
الزواج: ليس اختيارا سواء كان عن حب أو ترتيب أو التزام دينى أو غير ذلك، الزواج مجال لاحتمالات اختيارات لاحقه، تُجْهَضُ عادة بعد أول خطوة، أو يستمر الحال على ما هو عليه والمتضرر يذهب فى ستين داهية، أو ربما يستمر أسوأ مما هو عليه، أو يتمادى بتسكين الأولاد، والعادة، وبأقل قدر من الحركة الحقيقية، ومع ذلك فالزواج ما زال هو الورطة المناسبة للمجتمع الحالى.
التعليم: ليس اختيارا، أنت لا تذهب للمدرسة لتتعلم، أنت تذهب للمدرسة لأنك بلغت سن المدرسة, وعيب ألا تذهب، وأنت من أسرة، يذهب أولاد جيرانها للمدرسة، برغم أن رب تلك الأسرة موظف فى الأرشيف، فى حين أن أباك باشكاتب فى السكة الحديد، ثم بعد أن تتعلم القراءة والكتابة، ثم لاحقا الحاسوب والنت حسب الظروف والاضطرار، تجد نفسك فى المجال الذى اخترته والذى لا يسمح لك بالحركة إلا داخل حدوده، ربما تستطيع أن تختار، فى حدود ما اكتبست من أدوات وأبجدية، لكنك عادة لا تفعل ولا مؤاخذه.
التعلم، بدءًا من القراءة والكتابة، والمهارات الحاسوبية، وغيرها، هو فى واقع الأمر “ورطة أرحب” – تفرز أو لا تفرز اختيارات أكثر.
وهكذا فى السياسة، والاقتصاد، والدين، والانتماء لوطن بذاته.
أنا لست مع أى احتمال يرجح أن الإنسان مسَّير لا مخير، وإلا أكون قد تنازلت عن أهم ما أفخر به، عن مسئولية وجودى، أنا فقط أنبه أننا فى كثير من الأحيان نَضْطر أنفسنا لما نتصور أنه يسمح لنا باختيارات أرحب.
يبدو أن هذا ما حدث لى وأنا أورط نفسى هذه الورطة الحالية: أن اضطر نفسى اضطرارا للكتابة اليومية ربما يتسع مجال اختيارى.
وربما هو هو ما حدث لنا ونحن نصدر “مجلة الإنسان والتطور”، منذ 1980 حتى 2002، فصلية بانتظام.
أكتشفت من قديم – وتأكدت حالا- أن حياتى كلها ربما استمرت بفضل أننى اتحرك بنفس “النص” Script: توريط، فاضطرار، فاستمرار، فاختيار، فإعادة اختيار، فتوريط، وهكذا.
أتساءل مكررا: هل فعلتُ شيئا فى حياتى إلا من خلال مثل هذا “النص” المعاد؟.
لم أستطع أن أنجح فى دراستى التقليدية (سنة أولى/ سنة تانية/ سنة خامسة/ بكالوريوس/ دكتوراه..) إلا بأن أورط نفسى فى “وساوس” مصطنعة، مضحكة غالبا.
كان الأمر يسير هكذا:
“أنا لو لم أذاكر كذا وكذا اليوم أو الآن، فسوف يحدث كيت وكيت (مما لا أحبه) فأذاكر، لا لأنجح أو أتفوق، ولكن حتى لا يحدث الشئ السرّى الذى قررت أن أضحى بكل شئ (حتى بوقتى أضيعه فى المذاكرة)، لكى لا يحدث هذا الذى لا أحبه سرًّا، وهكذا، وهكذا، فاستمر الحال والسلام.
هل فَهِمَ أحدٌ شيئا؟
لن أعتذر، فلو حاولت شرحا أكثر لغمُض الأمر أكثر، ولكن إليكم ما يلى:
أهم ورطة حشرتُ نفسى فيها هى اضطرارى أن أكتب 16 صفحة يوميا لمدة شهور شرحاً لديوانى الصغير عن تطور المرض النفسى “سر اللعبة”، وأن أسلم هذه الصفحات لعامل مطبعة يعمل يوميا فى “الجراج”، التابع لمنزلى، وذلك حتى يجد وظيفة أخرى بعد أن وافق على ترك وظيفته السابقة ليساعدنى فى إنجاز أوراق مؤتمر علمى كنت مسئولا عنه سنة 1978، كانت النتيجة لهذه الورطة هى خروج أهم عمل علمى لى حتى الآن “دراسة فى علم السيكوباثولوجى”، الذى يناهز الألف صفحة (أنظر الموقع: كتب نفسية)
عمر هذه الورطة الجديدة “الكتابة اليومية” إلزاما هو ستة أيام لا أكثر، مع ذلك أفادتنى حتى الآن بما يلى:
أولا: ألزمتنى بفعلٍ يومى تجاه جمهورٍ جديد لا أعرفه
ثانيا: أعطتنى فرصة الكتابة دون انتظار الإجابة عن سؤال يقول: “متى يرى هذا الكلام النور دون وصاية أو تحديد مساحة أو رقيب؟”.
ثالثا: أبرأتْ ذمتى أمام الله ونفسى أنى طرقت كل الأبواب
رابعا: أغنتنى عن تسوّل الرأى أو الموافقة من أعزاء، قد أكون متطفلا على وقتهم.
خامسا: ذكّرتنى بما قد مضى من تاريخى مع مجلة” الإنسان والتطور”.
سادسا: كسرت وحدتى!!
سابعا: ضاعفتْ وحدتى!! (الشرح فيما بعد!!)
ثامنا: حفزتنى أن أرجع إلى بعض ما سبق أن كتبُتُه مما نُشر بجهود شخصية أو عامة (وهو الأقل) أو مما لم ينشر أصلاً (خاصة الشعر).
تاسعا: سمحتْ لى أن أشرح بعض الغامض (ولو بما هو أغمض منه) من فكرى الذى خرج منى منفلتا فى عجالةٍ ما.
عاشرا: سمحت لى أن أقلب فى مخزون حاسوبى عشوائيا وقصدا، فأكتشف أن أغلب جهدى الفكرى والإبداعى والعلمى لم يخرج للناس أبدا بالصورة المفيدة أو الواجبة، كما أن أغلب هذا الأغلب لم يخرج أصلا.
حادى عشر: سمحتْ لى أن أكتشف بعض شطحاتى فأراجعها، أو أرجع عنها.
قِف…!
حاضِرْ أقف، ثم أنتقل إلى بعض المخاوف والسلبيات التى بدت لى فى هذه الأيام الستة، ومنها:
أولا: اقتطعتْ من وقتى ما أتصور أن ثمة مهام أهم أولى به
ثانيا: جرجرتنى إلى مناطق كنت أفضل أن تنتهى حياتى دون أن أدخلها، أو على الأقل دون أن أعلنها
ثالثا: اضطرتنى إلى شطحات جديدة، وخبطٍ متعجل..
رابعا: ………
خامسا: ……..
……….
ثانى عشر: ……..
قِفْ…!
– لن أسمح لك أن تثبت المثالب والمخاطر التى خطرت لك، فأوافق لأننى أخشى إذا تماديت فى تعدادها أن أتوقف نهائيا وأتراجع.
يا تُرَى، ما هو رأى القراء؟
أُكْمِلْ أم أتوقَّفْ
وإلى صباح الغد
ملحوظة: غيرت عنوان هذه الكلمات من “كل يوم” إلى “يوميا” بعد أن نبهتنى زوجتى أنه نفس عنوان عمود يومى فى صحيفة قومية ينشر فيه صاحبه حروفا سوداء، تتجمع فى كلماتٍ بإلحاح دؤوب فاتر معا، وأن ذلك عكس ما أكتب تماما تحت نفس العنوان، فشكرتها وغيرت العنوان فوراً، مع أننى كنت أود أن يكون “افتتاحيات مجلة، بدون مجلة”ً، أعنى مجلة “الإنسان والتطور” “الإصدار الإلكترونى”.
بالذمة هل هذا كلام؟
هل عندكم اقتراح عنوان آخر
شكرا
.. عن الحوار
عزيزتى أسماء أرسل لك الحكمة التى صدّرت بها كتابى “حكمة المجانين” (1980)، لأطمئنك كيف تشرق الأفكار فينا بعد حين، وهى الحكمة التى دعانى البحث عنها إلى تناول كتاب “أسمار وأفكار” الذى اقتطفت منه كلمة أمس، وهى –على فكرة- ليست خاصة، بأساتذة الطب طبعا!!
هذه الكلمة المقتطفة هى الحكمة قبل الألف. لأن الكتاب يحوى ألف حكمة وحكمة غير هذه، (وهو فى الموقع).
تقول هذه الحكمة التى هى “قبل العدّ” (قبل الواحد من ألف) تقول:
مثل البرق بين الغيوم السوداء،
سوف تخترق كلماتى ظلام فكرك،
لتصل إلى إحساسك – وجدانك – مباشرة،
فلا تحاول أن تفهمها جدا! …
ولسوف تشرق فى فكرك بعد حين
…….. .. ….. .!!!!
مع شكركما أنتِ، والفاضل “محمد كامل” على المبادرة بالاستجابة لتساؤلاتى.