نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 18-3-2015
السنة الثامنة
العدد: 2756
المأزق فوق البرزخ بين العلم والدين
هذه بعض مقتطفات من مقال عمره ربع قرن، وقد وجدت ونحن نعيد بناء وطن مستقل إسمه “مصر” أن أقتطف منه ما هو ألزم للاستقلال الجديد، بما يميز إيمان المصرى الفريد الجديد الذى نعيد التعرف عليه هذه الأيام.
الجزءالأول
ماذا يفعل العالم فى مجتمعنا اذ يفشل أن يلحد حين يرى استحالة الالحاد – بيولوجيا – مع استمرار الحياة؟ هذا متى ما وعى بصدق علمه وأمانة موضوعية ماهية الإيمان كتناسق حتمى بين الكون الأوسط الإنسان) والكون الأعظم على طريق التكامل واستمرار التطور؟ وماذا يفعل نفس العالم إذا عجز أن يؤمن – بلغتهم – خوفا من الإرهاب الفكرى والقهر بحتمية التسليم لتفاصيل التفاصيل لمسلمات احتكروا تفسيرها، وحجروا على عقله – وهو فخره وأمانته – أن يعمل فيها؟؟
إن أمانة العالم مع نفسه، إذا يحسن استعمال عقله المكرم، ويجرؤ على تصديق حدسه الأعمق تعجزه عن الكفر، كما أن احترام العالم لعقله وخوفه من الحظر الفكرى والقهر القوالبى .. تحجزه عن إعلان إيمانه الحقيقى الأصيل فى سعية إلى موالفة صحية أعلى.
وهى قضية قديمة جديدة، ولكن الحاجة إلى ضرورة حلها اصبحت ملحة لا تحتمل أى ابطاء، وقد تحددت معالها من كل مجتهد بشكل لا يدع مجالا للتكرار، ولكن ينبغى أن ندرك أن تكرار الحديث فيها إنما يدل على الصعوبة التى تصل إلى درجة الاستحالة التى تمنع نقلها من مجال النقاش النظرى إلى مجال الفعل اليومى، وهذا هو ما يضطر المنادين بها إلى إعادة النداء والاستغاثة المتلاحقة.
فلم يعد خافيا أن الحضارة الغربية تتعاطى دفعات مركزة من أمصال تكنولوجية تحاول أن تستعيد بها شبابها، دون جدوى، وليس بعيدا عن الأذهان ما لجأت إليه الاسعافات العصرية لأزمة اغتراب الإنسان الغربى إلى استعمال وسائل تكنولوجية، وأبحاث فسيولوجية للدعاية لأديان جديدة تناسب منطق العصر (مثل التأمل التجاوزى بمركزيه فى سويسرا والولايات المتحدة الأمريكية).
هذا فضلا عن الأديان المتخفية فى شكل مواثيق ونظم مقدسة مثل دين الديمقراطية ودين حقوق الإنسان.
ولم يعد خافيا أن الفكر المادى يتسع فى تحايل إذا يحاول أن يحتوى الدين … وحتى الخرافة.
لحن نشاز!
وفى نفس الوقت تنتفض الأمة العربية والإسلامية انتفاضات توحى بأنها تكاد تدرك هذه الحقائق فتتأهب للقيام بدورها الحضارى الطبيعى والعالم فى أشد الحاجة إليه، وعلى هذا الطريق وفى هذا الاتجاه تتلاحق الأبحاث، وتدون الأفكار وتناقش الآارء على ورق مصقول وغير مصقول، وتموج الأحداث تلو الأحداث، وترتفع الشعارات وتعلو الصيحات على اختلافها من دوى طبول الحرب وصليل اهتزاز العروش .. إلى صخب موسيقى السلام وقرع كؤوس الوفاق، وكل هذا يمكن أن يكون طيب أو ينبغى أن يكون طيبا لو استمر فى الاتجاه الصحيح وتكلم بلغة العصر، إلا أن هذه الأفكار والانتفاضات تبدو قصيرة العمر تكاد تولد مهزومة لأنها رغم نغمتها الفردية المؤملة، ليست الا لحنا نشازا بلا حركة فكرية حرة، ولا التزام اجتماعى ولا هدف حضارى شجاع فى عمق جوهرها.
ويستطيع الفاحص الأمين أن يرجع ذلك إلى استقطاب العقل العربى والإسلامى بين غلاة المتعبدين فى محاريب أصنام العلم كوسيلة هروبية من قهر الدين (أعنى رجاله) ومن التفكير الحر الأشمل فى آن واحد، وبين غلاة المنغلقين فى تفسير محدود لألفاظ الدين، وهكذا أصبحنا فى موقف منشق يحد من فرصتنا فى اقتحام الطريق إلى الحقيقة غير مبالين إلا بأمانة الرؤية وتقدم الإنسان.
ولأضرب لذلك مثلا فى مجال علمى المتواضع (علم الطب النفسى وما يرتبط به من علم النفس) فالمشتغل بهذا العلم دراسة وممارسة إذ يتعرض “لماهية الإنسان” كحقيقة بيولوجية تتوازن مرة فى الصحة والسلامة، وتتنافر مرة أخرى فى المرض والتناثر، لا يستطيع إذا كان أمينا مع عقله ورؤيته أن يفصل هذه الحركة التوازنية – التنافرية عن مسار الإنسان بما فى ذلك اصله ومصيره، كفره وإيمانه، ويزداد هذا الحتم ونحن على أبواب العقد التاسع من القرن العشرين حيث أعلن فشل تفسيرات التحليل النفسى، ليس فقط بسبب لغتها الجنسية الرمزية ولكن بسبب نظرتها الحتمية السببية القاصرة، ويرتمى المشتغلون فى هذا الفرع فى أحضان الحلول الكيميائية، هربا من التهويمات الجنسية والتبريرات التثبيتية، وإذا بهم يسجنون عقولهم فى الخلية العصبية ومشتبكاتها التوصيلية، وسرعان ما ترفض عقولهم هذا الحل المسطح مرة ثانية لأنه يستهين بانسانيتهم وعقولهم جميعا إذ يختصر الظاهرة البشرية إلى تفاعلات محددة لا تمثل إلا جزءا يسيرا جدا من حقيقة التوازن البيولوجى الأكمل.
أما عندنا ونحن لم نبلغ بعد ترف العدم، فتظهر دعوات تحاول أن ترجع علم النفس – والطب النفسى بالمرة – كتابع لرجال الدين وخادم لأغراض الدولة (لا كدعامة لجوهر الدين ومنذر على مسار الدولة) ويفرح البعض منا لفرط ما أرهقتهم السباحة ضد تيار الطبيعة البشرية فى حركة تطورها الغائية المتكاملة، حين أنكرت – أو أهملت – هذه العلوم قيمة الدين والإيمان فى التكامل، ولكن النتيجة أن الفرحة لا تتم لأن هؤلاء المرهقين قد سلموا أمرهم لغير أهله فتنازلوا مباشرة عن حقيقة فطرتهم وحرية تفكيرهم معاً، ولا يعمر مثل هذا الحل قليلا أو كثيرا.