الدستور
22-4-2009
تعتعة
المأزق الانتحارى، وأن تولد من جديد!
قدم لى إبن صحفى متحمس تساؤلاته عن زيادة ظاهرة الانتحار فى مصر مؤخرا، وفى نفس اليوم دعيت لمناقشة نفس الموضوع، فى برنامج “الحياة اليوم”، ما الحكاية؟ تلفت حولى فوجدت أن من أعرف – حتى من أصدقائى المرضى– فى حالة من “عدم الانتحار”، إما بفضل التفسخ، أو التبلد، أو الفرحة الكاذبة، أو تصديق ما لا يصدق (وعود الحكومة مثلا) بالإضافة إلى جهود شركات الأدوية بتقديم حبوب الدغدغة والابتسام البلاستيك.
الأرقام التى استثارت الإبن الصحفى الشاب، تقول إن عدد المنتحرين فى مصر عام 2008 قد وصل إلى 14 ألفا وفق تقرير المركز القومى للسموم، وإلى 15 ألفا وفقا لمركز التعبئة والإحصاء، الذى لفت نظرى أن الرقمين متقاربين، وهذا فى حد ذاته ، مدعاة للتصديق، لأننا نسمى هذا المنهج علميا “المصداقية بالاتفاق“، ونعنى به أنه إذا جاءتك نفس المعلومة من مصدرين مختلفين متباعدين (منهجا، أو جغرافيا، أو تاريخا)، وكانت هى هى تقريبا، فإن هذا فى حد ذاته هو مدعاة لتصديقها ومع ذلك لم استسلم لهذه الأرقام الرسمية، صحيح أننى لا أستطيع أن أنكرها أو أكذبها دون بحث لاحق يقول غير ذلك بمنهج آخر، لكننى أضعها بين قوسين متأنيا متأملا حتى نرى.
الأرجح أن هذه الأرقام تشير إلى عدد محاولات الانتحار المحكية من الفاشلين فى إتمامه، وليس إلى عدد ما تم ورُصد وتأكد أهل المرحوم أو السلطات من أنه مات – فعلا– منتحرا، حتى أن الاسم العلمى للفريق الأول (محاولات الانتحار) هو “الانتحار المزيف” Pseudo-suicide، ليس معنى ذلك أن كل من نجا من الانتحار هو مزيف أو مدع، ولكن هذه هى اللغة العلمية ولها دلالتها.
فى البرنامج على الهواء، استضافوا سيدة فاضلة، سمراء، جميلة من الدقهلية، فقيرة بائعة ترمس فى الصيف فقط، لها ثلاثة أولاد من أربعة مصابين بالصرع، لها مطلب أو وعد بسكن لأسباب إنسانية، ذهبت إلى المحافظة، واستجدت، وارتمت على حذاء المحافظ تستعطفه، فمنعوها، وجروها سحلا إلى بعيد، وسبوها بما تيسر، فهددت بإلانتحار، ثم اندفعت إلى النافذة وقفزت من الدور الثانى، لكن ربنا ستر، أستمتعت بالحديث معها قبل البرنامج ، وقلت لها ما حضرنى من اسمها، وضحكنا كثيرا ورجتنى ألا أعيد ذلك على الهواء، وأن أكون فى صفها فخشيت أن ينقلب البرنامج إلى مساعدتها مثلما اعتدنا ، لكن المسألة أخذت مسارا أعم.
الخلاصة أننى اكتشفت غموضا ولبسا حول ظاهرة بهذه الأهمية، فقلت أوضح بعض جوانبها فيما يلى:
أولا: علينا أن نتعامل مع الأرقام خصوصا الرسمية، وأحيانا العلمية، بحذر شديد
ثانيا: علينا ألا نعزو ظاهرة بهذا التعقيد، إلى أسباب اقتصادية، أو كوارث عابرة
ثالثا: إن التركيز فى مثل هذه البرامج على التعامل مع حالات فردية، ومحاولة حل مشاكلها واحدة واحدة، برغم ما يبدو فى ذلك من لمسة إنسانية، إنما ينسينا أن المصيبة عامة، وخطيرة، وهو أيضا ينسينا حقوق من لم يتمكن من توصيل صوته للإعلام هكذا
رابعا: إن نوعية عقاب المنتحر من الله سبحانه، إنما تحمل رسالة لها دلالتها، حيث أن المنتحر لن يخلد فى جهنم فقط، وإنما سوف يكرر فعلته (الانتحار) فى النار، وكأن الله يبلغنا من خلال ذلك، أنه هو الذى وهبنا الحياة، وهو – الوحيد – الذى له حق أخذها.
خامسا: بالرغم من أن الله قد وهبنا الحياة، فكثير منا لم تتح له فرصة أن يكون له ما يميزه بشرا من كرامة وحقوق، وقد يقبع ذلك فى عمق داخل المنتحر، فتصبح فعلته بمثابة تحصيل الحاصل.
سادسا: إن هناك أنواعا من الانتحار شائعة عند ثقافات أخرى نحن لا نعرف عنها شيئا، مثل “الانتحار الفلسفى” تفعيلا لعدمية منظومة فكرية ترجح كفة التخلص من الحياة بقرار حكيم، وهناك الانتحار التكفيرى، وانتحار “مسئول” للاعتذارعن خطأ أضر الناس، وكل ذلك غير وارد فى ثقافتنا، لا هو، ولا ما يعادله (ولو بالاستقالة)
سابعا: إن العزوف عن الانتحار، اعترافا بإرادة الله فى خلقنا، هو إلزام لنا أن نحيا، وأن نحارب كل من يحرمنا من حقنا فى إنسانيتنا، وإلا فالبقاء استسلاما هو انتحار من نوع آخر.
ثامنا: إن من يريد أن ينتحر إيجابيا يمكنه أن يولد من جديد، يوجد ما نسميه المأزق الانتحارى أثناء العلاج الجمعى ، وهو المأزق الذى يخرج منه المريض مختلفا نوعيا، وتمر به أثناءه أفكار انتحاريه، لكنه يخترقها إلى كيانه البازع وكأنه انتحر بالتخلص من كيانه القديم
وهذا هو أشرف أنواع الانتحار.
وهو معروض لمن يريد أن يشرف بأنه بشر يحيا فعلا.