نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء: 25-4-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3889
الأربعاء الحر:
أحوال وأهوال (72)
من كتاب “قراءة فى عيون الناس” (1)
اللوحة العاشرة: “الترعة سابت فى الغيطان”
فقه العلاقات البشرية (3) (عبر ديوان “أغوار النفس”)
………………….
…………………….
لا يمكن أن يتم نمو بدون وقت، قفزات التغير لها دلالتها الرائعة، لكنها وحدها، بدون أن يتم الإعداد لها فى وقت كاف لإنضاجها، وبدون أن يلحقها بعدها فعل مناسب لاستثمارها، لا تدل على شىء إيجابى بالضرورة.
وارجَعْْ أشوف نهر الحنَانْ،
ألقاه بيطفى فى الشراقى بْدون “أوان” ،
بدون أوان هنا، إشارة إلى سوء التوقيت.
نتكلم دائما فى العلاج النفسى والتربية والنمو عن “الجرعة“، إضافة إلى التوقيت، إن ضبط جرعات الدعم المباشر، وجرعة المسافة، وجرعة النصح، لا يقل أهمية وحساسية عن ضبط جرعة الدواء، شعرت من هذه الخبرة أيضا أن فرط غمر الحنان هكذا قد يأتى بعكس الرى، وهو الغرق.
لكن الشراقى مَهْما شَّققْها الجفاف؛
الميه راح ترويها صُحْ،
لكنْْ كمانْ
إن سابتْْ الميّه على العمَّالْ على البطَّالْ حاتغرق أرضنَا،
حتى لو الأرض شراقى مْـَشَقَّقَهْ،
ولاّ الزراعةْْ بدونْ أصُولْ؟
أصول الزراعة، مثل أصول التربية، مثل أصول العلاج النفسى: لابد لها من الإعداد، والتدرج، وضبط جرعة المسافة المتغيرة، وتسميد الأرض مثل تسميد الوعى، ثم خذ عندك تقليب التربة، وتخطيط الخطوط، مثل تعتعة الوعى، ورسم المسار فى التربية والعلاج النفسى (وكذا الإبداع). إذن فالمسألة ليست غمرا بالحب والحنان والود والإراحة، بقدر ما هى تخطيط مناسب لحركية الوعى بمستوياته “معا”، تحريكا منضبطا على مسار معَدّ، هذا ما يشير إليه المتن هكذا:
مش لازم الأرض تجف وتتعزق؟!
أو ضَرْبِةِِ المحراتْ تِشُقّ الأرض تقلبِ تبْرِهَا؟!
العلاج النفسى كما أشرنا، يحتاج – بالإضافة إلى عاملـْى الوقت والتوقيت الذى ذكرناهما حالا – إلى خطوات منظمة، وإلى ضبط العواطف وأحيانا منعها حتى تجف الأرض، ليس بالإهمال ولكن بالحساب، ثم إلى جرعات منظمة من الألم والعمل (العزيق) أو جرعات قاسية من الرؤية العميقة للوصول إلى الجوهر (ضربة المحراث تشق الأرض تقلب تبرها).
كما لاحظنا فى اللوحات السابقة، يتأكد هنا أيضا أن سوء فهم العلاج النفسى، يؤدى إلى فرط الاعتمادية، وانتظار الحل السحرى من المعالج، كما أن أغلب الناس، وبعض الأطباء والمعالجين، يتجنبون كل ما يؤلم المريض، ونحن نكرر باستمرار أنه لا يمكن عمل علاقة حقيقية بين البشر بدون صعوبة حقيقية، ولا يوجد نمو بدون ألم، ومع ذلك فإن الإعلام وبعض التربويين يبالغون فى التأكيد على التفويت، والإراحة، ويحتجـَّون احتجاجا قويا على أى ضغط، على طالب النصح، أو المريض، مثلما يحتجـَّون مؤخرا على صعوبة الامتحانات، وعلى صعوبة الالتزام، وعلى صعوبة انضباط المواعيد، كل ذلك هو ما كتبته فى المتن وأنا أصف موقف هذه السيدة الكريمة، وكأنها تتقطع شفقة على الأرض وسلاح المحراث يخترق طبقاتها، كما تخترق رؤية المعالج والمريض نفسه طبقات وعيه حين يكتسب البصيرة، تحتج هذه السيدة الكريمة فى المتن على أى احتمال شدة مهما كانت لازمة فيقول لسان حالها:
والنظره إللى بْتُغْمر الكونْْ بالحنانْ من غيِر حِسَاب بتقول:
”حَرامْ..،
يانَاس حَرامْْ:
أرض الشراقى مْشَقَّقَةْْ، جاهزه،
بلاشْْ نِجْرح شُعُورْها بالسَّلاَحْ…”
أعود إلى رفضى ما يجرى، وأنا أتعجب من هذه الشفقة الرجراجة، ينبه المتن أن غمر المياه، ليس هو الرى المناسب دائما، فهو يحتاج إلى “صرف” سريع لزائد المياه حتى لا تفسد البذور، وقد أحلـُّوا الرى بالتنقيط، أو بالرش، محل الرى بالغمر حتى لا تفسد البذور، وأيضا توفيرا لجهود الصرف الضرورى اللاحق، بل إن الاهتمام بالرى المتدفق (وهو ما يقابل هنا: الحنان والشفقة والمبالغة فى تخفيف الألم على حساب معاناة النمو فى العلاج النفسى) قد يلهينا عن ضرورة وضع البذرة ابتداءَ لعل البذرة فى العلاج النفسى هى: المعنى، والعزق هو حركية التغيـّـر أما الثمرة فهى، إشراقة النقلة الكيفية…
من هنا فاض بى فصرخت محتجا:
يا ناس يا هُوه: بقى دا كلامْ؟ بقى دا حنانْ؟
”الزرع لازِمْ يِتْروِىِ ”! أيوه صحيحْ،!!
بس كمانْ: الَزرِعْ لازم يِتْزَرَعََ أَوَّلْْ،
ماذَا وإٍلا: البذرة حاتْنَبِّتْ وبسْ.
………………….
………………….
[1] – يحيى الرخاوى: كتاب “قراءة فى عيون الناس” (الطبعة الأولى 2018) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.