نشرت فى مجلة سطور
عدد مارس – 2000
اللعبة والملعوب
” النصف الطاغى من المخ (النصف الأيسر للشخص الأيمن والعكس فى الأعسر) مختص بالتفكير الرمزى والعلاقات والمنطق والأرقام والحساب (وهو أقرب ما يكون إلى منطق أرسطو) والنصف غير الطاغى مرتبط التفكير بالصورة والمساحات الكلية والتشكيل ولقد سمحت لنصف المخ غير الطاغى أن يقود الكتابة، فكانت النتيجة المقال التالى”.
-1-
وحدى تماما، مختبئ فى شقتى المتواضعة (نجمة ونصف، أو نجمتين بعد التعديل)، هناك فى أقصى الجنوب، بين جيران طيبين، مساكن شعبية جميلة، ناسها ليس لهم علاقة بهذه الحكاية، وقد زاد من اطمئنانى إلى نجاح خطة هروبى أنه ليس عندى طبق (دش) فى هذا المكان البعيد الجميل، “دهب”. الشقة ـ شديدة الشعبية ـ تقع بين البحر والجبل، رأيت كيف؟!!! قلبت المطبخ والممر الذى أمامه إلى حجرة تطل على البحر، وجعلت المطبخ الناحية الأخرى، أما الصالة فهى تقبع فى حضن الجبل، أحس بالفرق بين ما أكتبه فى الصالة فى حضن الجبل، وبين ما أكتبه فى تلك الحجرة والبحر على مرمى البصر، لا أفضل هذا عن ذاك، لكن لكل روحه ورائحته. عبر النافذة، أرى الشجر يتمايل فى نشوة نشطة، لو رأيت نفس حركته هذه فى القاهرة لحسبتها العاصفة، ليس عندى طبق فضائى، ولو أننى كنت أنوى أن أفعلها هنا أيضا حتى أواصل مبادءاتى إلى العالم قبل أن يقتحمنى هو. زودوا “دهب” أخيرا بمحطة تقوية جعلت القناة الأولى والثانية متاحة لى ولجيرانى، بمجرد استعمال هوائى (إيريال) داخلى، سوف أحتفل وحدى برأس السنة، ما زلت أذكر ليلتها فى باريس، ياه !! كم هى الفرحة معدية شريطة ألا يفسدها السكـر البين، ليس عندى مانع أن أحتفل بطريقتى وحدى بالسنة الجديدة، لكن عندى ألف مانع ومانع أن أحتفل ببداية ألفية لم تبدأ بعد، سوف أحتفل وحدى وسط خواجات لا أعرفهم، ولا يعرفوني.
هنا، أشعر أنى أنزل ضيفا على ضيوف بلدى.
-2-
منذ ساعات، وأنا أتناول عشائى، (الذى هو السحور فى واقع الأمر) فى المطعم الصينى الجميل فى العسلة. جاءنى النادل وهمس فى أذنى، وادعى أنه متعجب كيف يحبنى الناس هكذا من بعيد دون معرفة، وأن دليله على ذلك أن أحد الخواجات الجالسين على المائدة المقابلة يعزمنى على شراب ما، صحيح أننى أبالغ فى ما أنفح هذا النادل بالذات من منح (بقشيش) زيادة عن الحساب، وكأنى أشترى صمته، أو أجهض تساؤلاته، أضمن بذلك أن يتركنى فى حالى، ألاحظ أنه يفهم جيدا ما أريد، يبدو دائما ممتنا مرحبا مجاملا، لكن ليس لدرجة أن يحبب الناس فى هكذا، أو أن يدعى ذلك، نظرت إلى المائدة المشار إليها فوجدت مجموعة من الأجانب الشباب الذين أدعو لهم عادة بالسعادة الحقيقية، مرة لأننى أتصور أنهم يحتاجون لدعوتى هذه، ومرة لأنه يخيل إلى أن نوع سعادتهم “ليست هي”، ومرة لأصالح من خلالهم كل ما هو خواجة، ومرة لاعتقادى أننى رجل طيب، و أن دعوتى مستجابة، لا أعرف كيف، فلا أستخسرها فيهم، لا أذكر من الذى قال من الخوجات القدامي: “كن أخى وإلا قتلتك”، أما نحن فكنا نغنى أطفالا “يا احنا ياهمه يا كوم الريش، همه يموتوا واحنا نعيش”، لم نكن نعنى الخوجات طبعا، كنا نعنى أى “همــه”. لاحظ من فضلك الفروق الثقافية، لسنا قتلة بطبعنا، كل ما نقدر عليه من عدوان هو أمنية أن يتولى عنا سيدنا عزرائيل المهمة، أما هم، فـ”كن أخى وإلا قتلتك”، ياه!!، كلام فارغ هذا وذاك، لا هم قتلة، ولا نحن نتمنى لهم الموت، التنوع البشرى الخلاق؟!! القبول بالآخر!! لا يا شيخ!!؟ والشيشان؟ أليسوا آخر؟ وأهل كوسوفو أليسوا “آخر”؟ والفلسطينى فى الداخل، والخارج أليس آخر؟
يا أخي. إلى أين أنت ذاهب، لا تذهب بعيدا هكذا إلى الناحية الأخرى، الروس والصرب والصهاينة حاجة ثانية، الدنيا فيها وفيها؟ والتاريخ مليء بالمآسى، ولا يبقى إلا الخير، لست متأكدا من ذلك، لكن لعله خيرا، هذه التكنولوجيا المتسارعة ترفع الحواجز بين الناس بسرعة أكبر من تنامى حقدهم وعماهم، هل يمكن أن تعمل شيئا أكبر يذيب التعصب ويرسى العدل؟ يزيل التعصب يمكن، لكن يرسى العدل !! كيف؟ هل يمكن أن “تخلق” لنا آخرين بطريقة أصدق؟ الآخر موجود ونصف، ألم يقرر العالم هذه الليلة أن يتجاوز تاريخه الدموى، وأن نلعب معا نحن الناس، كل الناس، هذه اللعبة على مستوى الدنيا بأسرها؟ لعبة بداية الألفية الثالثة، الألفية التى لم تبدأ بعد. بدأت أو إن شا الله ما بدأت، كله واحد، لماذا بدأناها قبل أن تبدأ؟ نحن أحرار، لماذا ننتظر حتى نبدأها فى وقتها؟ وهل يعرف أحد تحديدا وقت بداية أى شيء؟. الأمور دائما تبدأ قبل أن تبدأ، وحين ندرك أنها بدأت تكون قد طابت وطلبت الأكالة.
لم أصدق النادل واعتبرت كلامه من باب المجاملة، إلا أنه عاد فأصر على إبلاغ الرسالة، مشيرا بتأكيد حار إلى شاب “خواجة” يبدو ظريفا وطيبا.
-3-
كنت عندما أحضر إلى هنا أحاول أن أنصت إلى اللهجات من حولى لأتبين الجنسيات، توقفت عن ذلك بعد أن اعتبرت أنهم، أننا، كلنا أولاد حواء وآدم. فلماذا البحث؟. لا بد أن التراب الذى خلق منه سيدنا آدم كان من هذه الجبال النقية الفتية الجميلة من حولي.
-4-
أنظر إلى المائدة المشار إليها، فإذا بالشاب الذى على طرفها يومئ لى برأسه فعلا، يومئ وهو يرفع ما يشرب إلى أعلى، فأفعل مثله شاكرا، ثم أربت على صدرى بمعنى أننى لا أستطيع أن أقبل كرمه بما عرض من شراب، فيبتسم ويحنى رأسه ثانية فى دماثة دافئة، الله !!!!، هؤلاء الناس بهم دفء خاص بعكس ما أشيع ـ أنا ـ عنهم، قلت للنادل إننى لا أعرف هذه الوجوه، فهل يعرفهم هو، قال إن الشاب هو أحد مدربى الغطس هنا، ألمانى على الأرجح، وأن الجلـساء ضيوفه أو زبائنه، (لا فرق) وأنه لا بد قد لاحظ كيف أننى آتى أجلس وحدى الأسبوع تلو الأسبوع، وسألنى النادل إن كنت أعمل هنا، ولم أرد، فلم يلح، إذن فأنا آتى وحدى، تعجبت لذلك مع أنى آتى وحدى فعلا، ألست أنا الذى أعلنت منذ قليل أننى إنما هربت إلى هنا لأحتفل وحدى، كيف لم أنتبه إلى ذلك بنفس المعنى الذى لاحظه النادل؟ لماذا أتحدث عن وحدتى مع أننى لا أمارسها، أو لعلى لا أشعر أننى أمارسها، هل أنا وحدى فعلا؟ لا أظن، الأغلب أننى لست وحدى، كيف؟ لا بد أننى كثير، وابتسمت.
نظرت إلى النادل وإلى المضيف (هكذا اعتبرت ـ كما أشرت ـ أنى ضيف هذا الخواجة) ودعوت ألا يكون أحدهما قد سمع ما لم أقله.
-5-
أعود إلى صديقى الحاسوب، كان ينتظرنى فى أدب وسماح لا تعرفهما الزوجات العصريات، اعترفت له أننى هارب وربما كاذب أدعى الوحدة، واكتشفت كيف أن لصديقى الحاسوب هذا، فضل، أو وزر، خفوت وعيى بوحدتى التى لاحظها كل من الخواجة والنادل، معا!!، كنت قد اقتنيت هذا النوع من الحاسوب حديثا، وهو نوع به بطاقة تلفاز تسمح بالاستقبال على شاشة صغيرة يمكن إزاحتها إلى زاوية هامشية على ناحية، وكنت قد اعتدت أن أشغل هذه الخلفية أثناء استغراقى فى عملى، وأن أعاود النظر للألوان الصامتة أحيانا، أو الإنصات للأصوات الهامسة أحيانا أخرى، أو إغفال هذا وذاك رغم بقاء أى منها فى الخلفية. ثم وأنا فى هذه الحال متصورا نجاح خطة الهرب المزعوم، وأنا أدعم إصرارى على مقاومة هذه الخدعة الجماعية المسماة الاحتفالية بالألفية، إذا بى أكتشف أن القناة الثانية، التى تصل إلى هذا المكان النائى من خلال محطة تقوية حديثة، تجرنى جرا إلى العالم كله، كل الناس اتفقوا أن يلعبوا معا هذه اللعبة الجماعية هذه الليلة. ليس أمامى خيار، ورائى ورائى، أضطر أن أتابع ما يجرى بجزء من وعيى، أجدنى أتسحب من ورائى لأنضم إلى هذه المليارات من البشر الذين يلعبون، هكذا أكتشف أننى غير رافض ولا حاجة، على الأقل لست رافضا كما كنت أتصور.
-6-
مباراة كأس العالم فى كرة القدم، كان ذلك منذ أكثر من عامين، لست متأكدا، قفزت فرحا بالهدف، ليس المهم من أصاب مرمى من، الهم أننى جالس أمام التلفاز أشارك ألف مليون بنى آدم نفس الشعور، فى نفس اللحظة هل هذا هو “الحج الالكتروني”؟
-7-
قبل الفجر، اعتدت آنذاك ـ منذ عشرين عاما ـ أن أقتطف بضع ساعات أكتب وأقرأ فيها قبل أن تلتقطنى عجلة الواجبات اليومية، أفتح المذياع الصغير، لم يكن إرسال البرنامج الموسيقى متصلا 24 ساعة كما هو اليوم، ألعب فى المفتاح على الموجة القصيرة، أى دندنة تكفى، تكسر صمت الـليل، مع أنى لا أشبع من مناجاته، ورائى ما ينبغى إنجازه قبل وبعد مناجاة الصمت. الموسيقى الخالصة تأتينى، وهى لا تحتاج إلى فك رموزها. الأغانى الغريبة ألفاظها لا تحتاج بدورها إلى فك شفرتها، أعتبرها ضمن الموسيقى التى لا أفهمها، الأخبار التى تأتينى برطان متدفق أتركها دقيقة، أو أكثر، لا أغير المحطة، أنصت إلى جرس رطان فتحضرنى أسئلة كثيرة عن معتقدات أصحاب هذا الرطان وعن دينهم، وعن مآلهم، وعن رحمة ربنا بى وبهم، أطمئن إلى عدله طمأنينة لا قبلها ولا بعدها، من قال غير ذلك، الله يخيبهم، هذا المذياع الصغير “الترانسستور” يساعد الناس أن تتقرب إلى الله، يقربنا من بعضنا البعض، من ذا الذى يستطيع أن يقاوم؟
أهلا !!!
“أكتب فرحا”:
غصبا صدفة، لمست إصبعى المفتاح، فسرت كلمات عجمية،… تنتزع السيف من الغمد، تلتهم ظلام الرؤية”.
“أكتب أيضا”
يجتمع السامر من أحباب الله، البيض السود السمر الحمر.
البيذق والـفرز ورخ الشاه”
أنهى ما كتبت بأنه:
“يتراقص سهم الأفق يفتح وعيى المرتجف الأعشى، فيرينى العالم.،… مذياعا ملقى، فى حجم الكف، والناس الواحد كل ليس له مثل أصلا.
أختم صلاتى قائلا:
”… يتصاعد كدح الناس إلى خالقهم جمعا فى معراج الرحمة”.
-8-
أسير فى هذه المظاهرة العالمية وأنا وحدى هكذا فى أقصى الجنوب، أنتقل غصبا عنى من جزر “الأوكلاند” شرقا حتى جزيرة “سماو” غربا، أنبهر من هذه الألعاب النارية فى سيدنى، و أرقص مع الراقصين فى هاواي.
يا حلاوة!! لماذ اتفق العالم على الاحتفال معا هكذا بألفية لم تبدأ بعد؟
لا أقصد لماذا، بل كيف؟
كيف أقنع الناس بعضهم البعض أن يغيظوا التاريخ الحقيقى وهم يحتفلون بما اتفقوا عليه، وليس بما يفرضه عليهم هذا التاريخ الأعشي؟.
أشعر فجأة أن من حق الناس عبر العالم أن تلعب معا متى شاءت كيف شاءت، أفرح أننى واحد من هؤلاد الناس.
-9-
هذه الأرقام الأربعة التى تبدأ من اليسار بواحد ثم تسعة تلح على منذ تعلمت القراءه والكتابة 1911-1919 – 1933 - 1945- 1952- 1967- 1973 - 1999، لابد أن كل الناس مثلى، ثم نمى إلى علمنا ـ جميعا ـ أن هذا الشكل اللحوح، سوف يتغير، وماذا فى ذلك؟ يتغير كما يشاء، أنا مالي؟ نحن مالنا، كيف سيكون منظر التاريخ وأنا أكتبه قبل بداية أى رسالة، كيف سأكتب الرقم الجديد؟ تحريرا فى كذا شهر كذا سنة 2000، يا صلاة النبى، سنة مثل كل السنين، لماذا تغمرنى هذه الدهشة البريئة وأنا أتصور منظر التاريخ الجديد؟ يبدو أن هذه التسعات اللحوح أخذت حقها وزيادة. من يدري؟ بشرى، تختفى التسعات، ويختفى معها كل ما نريده أن يختفى ليحل محله ما لا بد أن يحل محله. من يدري؟
من فمك إلى باب السماء.
ما دامت السنون تجرى وراء بعضها، حتى وصلنا إلى سنة 2000 هكذا فلا بد أن العالم يتغير، لابد أن شيئا ما سوف يتغير، ليست المسألة فيما هو ليزر أو غير ليزر، المسألة هى نحن، ما هذا الليزر؟ طز، لا أريد أن تمتد هذه “الطز” إلى فانتوثانية زويل، نحن ما صدقنا فرحنا به وبها. كم فانتو ثانية مرت بنا حتى وصلنا إلى هذه السنة ذات الدم الخفيف هكذا؟
ثلاثة أصفار وبجوارها اثنين، منظر طبعا.
أقاوم أن يسحبونى أكثر من هذا، لابد أن آخذ حذرى، ليس كل سحب مثل الآخر، ربما يسحبونى لأشارك بالمرة فى النظام العالمى الجديد أو فى بورصة نيويورك بقروشى الخائفة قليلة الخبرة، من يدري؟ حتى لو لم يكن ملعوبا أو مؤامرة، فقد ضحكنا عليهم، أنا والناس، كل الناس ضحكوا على كل الناس. فـرحـنا – نحن الناس -بهذا الرسم الجديد ورحنا نلعب.
-10-
“أخيـــــر”.
ألقى بإحدى البليات الثلاث فتقع داخل المثلث بالكاد، فالبلية الثانية، فالبلية الثالثة، أجمعهم وأرصهم، يتقدم الرقم اثنين فـاردا جذعه مختالا، يميل برقة حانية، يبتسم،أطمئن إليه فأترك البلـى بجوار بعضها فى رعايته، لعله يحرسهم.
الخواجات يلعبون بالأصفار الدوائر الكرات مثل رجل السيرك فى مولد السيد البدوى، رقمهم الاثنين بالإنجليزية يهتز على موسيقى الراى، ثم ينتظر رصتهم أمامه وهو لا يكف عن الرقص.
فيم كان اعتراضى إذن على ما اتفق الناس عليه؟
آه! تذكرت، كنت معترضا أن يغالطونا وهم متجهمون يفرضون علينا حساباتهم لمجرد أنهم تورطوا فى فرحة طفلية مثلما أكتشف الآن.
كل ما أطالب به الآن هو أن يعترفوا أنه ليس احتفالا بالألفية الثالثة، ليكن الحفل هو الحفل، لكن فلنسمه حفل وداع الألفية الثانية، وداعا يمكن أن يستغرق عاما بأكمله.
لا يعنينى أن تبدأ ألفية ثالثة أو تنتهى ثانية، ما يغيظنى هو الاستعباط، يعايرونا كل رمضان وكل عيد ويقرصون أذننا أنه “عيب كذا”، وأننا لا بد أن نسمع كلام علم الفلك، يعنى كلامهم، فهم أصحاب توكيل شركات العلم الحديث، فلماذا لم يسمعوا هم الآن كلام علم حساب يحذقه طفل ذو سبعة أعوام. ما الفرق بين أن نحتفل اليوم بألفية لم تأت بعد أو أن نحتفل بها بعد عام أو خمسة، حتى لو أعلنوا أنهم أجلوا الألفية الثالثة لتأتى بعد الرابعة، مسموح. كل شيء مسموح ما دمنا نلعب جميعا معا، حلوة هذه، فقط علينا وعليهم، شروط أى لعب أن تسرى القواعد “علينا وعليهم” حتى لعبة الحرب، حتى الإجراءات الأمنية على الحدود، علينا وعليهم، أليس كذلك؟.
أين الحكم؟
يطل على فيدل كاسترو من الشاشة المظلمة، كنت قد أغلقت الحاسوب والتلفاز معه، تملأ لحيته واجهة النافذة، يمسك ورقة كبيرة يقرأ منها فرمانا سلطانيا، يختفى وجهه ليحل محله وجه فؤاد المهندس، كم هو ثقيل الظل فى الافلام رائع الحضور فى المسرحيات، يعود وجه كاسترو وهو يصيح “والله ما انا لاعب”، فيصفق له مارادونا وينتقلان معا من شاشة الكمبيوتر إلى الشاشة الصغيرة فى الركن يقفزان من النافذة دون أن تــفتح، لست متأكدا من الذى قفز أولا: فؤاد المهندس أم كاسترو، لم أكن أعلم أن فيدل خفيف الظل هكذا. فيجدان الظلام الدامس، يـرعبان.
افتح التلفاز فإذا مذيع صينى يشترط سرا أو علانية، كذا وكيت وأن الرئيس الصينى قد قرر بالنسبة لاحتفال الألفية، واتفاقية الجات معا، أنه “فيها لاخفيها”، وذلك بعد أن أملى شروطه، ولم ينتظر ليعرف إن كانوا قد قبلوها أم لا. خاف أن تنتهى اللعبة دون أن يحسبوا حسابه، سوف يشترك ويـطـنـبـل، ثم يأتى الحساب فيما بعد. ونحن؟
متى نقبض ثمن سماع الكلام؟
-11-
سوق النخاسة لتسويق المحترفين، أجور المدربين بعشرات أو مئات الألوف، تتراءى لى حركات الشابات لاعبات القوى، وأرقام الفوز تـحـسـب بجزء من الثانية.
لم ذاك يا بناتى الحلوات؟ تفوز الواحدة منكن بفارق يصل إلى جزء من عشرة من الثانية؟ هذا ليس لعبا، هذه صفقات (بيزنس).
أى قسوة يسمونها تدريبا؟ وأى منافسة يسمونها لعبا؟! “إخص”
اللعب خيال جامح، نشاط حر، فرحة فى ذاته وليس فى نتيجته، معية زائطة، اتزلى يا بنت أنت وهى حتى نرقص ونلعب معا دون شقاوه. نحتفل معا بأى كلام، المهم نحتفل بعيدا عن سوق النخاسة ومزادات أجزاء الثانية.
تلك الهيجة البهيجة الراقصة المضيئة لا تعرف من الذى يديرها.
هل يمكن أن نكون قد استطعنا أخيرا أن نلعب هذه الليلة معا، فعلا،
نلعب بجد.
هل يمكن أن يسمح السادة فى البيت الأبيض أو السراى الصفراء أن يلعب العالم دون إذنهم ودون عائد عليهم؟ طبعا لا،
إذن فهو “بيلي”.
بيلى من يا جدع أنت،؟ كل حاجة كلينتون، بيلي؟ بطل تفكير تآمري.
يعنى تريدنى أن أصدق أن ناس العالم الطيبين ـ نحن ـ هم الذين قرروا الاحتفال بالتخلص من هذه التسعات اللحوح “قبل الهنا بسنة” منهم لأنفسهم؟
والله فكرة !! لماذا ننتظر عاما آخر؟
ثم من أدرانا أن الألفية الأولى قد بدأت فى ميعادها؟
إن كل ما هو تاريخ هو مجرد لعبة وثائق خائبة. تبرر عجز الإنسان أن يكون كذلك.
-12-
أين ذهب رفضي؟ كيف ذابت مقاومتي؟ أنا لا أستطيع أن أشارك فيما ليس لنا، فيما ليس نحن، لماذا نتركهم يقررون لنا متى بدأ التاريخ، ومتى ينتهي؟ فوكوياما يعلن عن نهاية التاريخ، وهاهم يذكرونا ببدايته التى قرروها بغير استئذان من أصحابها، نعم هم الذين فرضوا علينا ما يجرى هكذا، وليس نحن ناس العالم الذين قررنا أن نلعب سويا.
-13-
أدخل مترددا إلى حجرة حضرة الناظر لآخذ إذنا أن ألعب فى الخمس دقائق التى بين الحصص، التى بين العقدين، التى بين القرنين،،التى بين الألفيتين، يصرفنى الناظر وهو يضحك دون سخرية، أسأل الفراش لماذا كان يضحك حضرة الناظر، فيخبرنى بإجابتين، الأولى : لأن اللعب لا يتطلب إذنا، والثانية: لأنه لا توجد فواصل بين أى وقت وأى وقت.
نحن الذين ابتدعنا الفصل بين أى شيء و أى شيء، كله متصل بكله، ونحن الذين نوقف الحركة اصطناعا لنتأمل، ونأمل،لعل وعسي. من يدري؟
-14-
أدرك التلفاز الصغير القابع فى زاوية الحاسوب الصباح، فسكت عن الاحتفال المباح،. فعاودتنى التساؤلات والمراجعة.
يبدو أننى سرقت مثل غيرى، والذى كان قد كان. أحسن.
-15-
الألفية الثالثة لم تبدأ بعد، والمسألة لا تحتاج إلى مناقشات وإثباتات، لكن للأمر دلالات مطـمــئنة، ذلك أننا أثبتنا نحن البشر (حلوة هذه) أننا حتى لو استدرجنا إلى ما لم نقرره، فإن اتفاق الناس أهم من حسبة الأوصياء.
مرة أخرى، “علينا وعليهم”.
-16-
مدرسة رياض الأطفال بالمعادى، كى جى تو، زفتا، بركة السبع، “سلطانية مهلبية، بابا قال لى عد لمية، عشرة عشرين تلاتين اربعين… سبعين تمانين تسعين مية”، فسنة ألفين ليست هى، فلماذا يعايرونا فى مسألة تحديد رمضان والأعياد؟ لماذا نسوا أن اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة أهم من أى علم للفلك أو الحساب أو المنطق؟
-17-
يرفع لى أرسطو[1] حاجبيه فأنهره وأعايره أن منطقه هذا هو الذى أخر مسيرتنا نحن البشر ألفيتين بالتمام، يـلـعــب لى حواجبه وهو يغمز بإحدى عينيه، فأضطر أن أخرج له لسانى، وأنا استغيث بصديقى فون دوماروس [2] الذى لا يعرفه أحد، مع أن صديقنا المشترك سلفانو أريتي[3] هو الذى أبلغنى وجهة نظره، كان أريتى وقتها يدافع عن منطق المجانين الأعمق مستشهدا بفون دوماروس.
-18-
أقول لشيخ الأزهر التنويرى الطيب: إن الدين يا مولانا لن ينقص أو يزيد إذا نحن صمنا يوما زيادة أو يوما ناقصا، إن المهم هو احترام اتفاق الناس وتوثيق العلاقة بالطبيعة، علينا أن نحافظ على علاقتنا مباشرة بالله سبحانه، وبالطبيعة الأم، بلا وصاية آلات، أو حسابات، ثم ها هو العالم كله يتفق على “أنه: “هو ماله”؟ (يقصدون أرسطو، أو مرصد حلوان ).
يا عم أرسطو، يا سيدنا أرسطو، الله يخرب بيتك.
يا فضيلة المفتى، يا مصطفى يا محمود، إن الناس يا مولانا إذا أجمعوا على خطأ فقد يكون أصوب من أى صواب.
لم لا؟
-19-
تنتهى الاحتفالات فى جزيرة “سماو” فيعاودنى التفكير التآمرى الذى هو ليس تآمريا:
من يا ترى هذا الذى ضحك على العالم هكذا، لتحديد هذا الوقت بالذات؟ أقصد من ذا الذى قرر ميعاد اللعب، ومكان اللعب، وطريقة اللعب؟ ليس مهما أن نجد إجابة، وليس لائقا أن نتهم أمريكا مثلا ـ كما اعتدنا ـ بأنها وراء كل هذا الملعوب، المهم أن هذه الشائعة (أن الألفية الثالثة بدأت)، مهما كان مصدرها، قد سرت بسهولة خطرة بين بقاع العالم لمدة عام أو بعض عام (على الأقل)، حتى صدق الناس أنهم يمكن أن يكونوا “معا”.
يا عم فهمى يا هويدى، يا دكتور عبد الوهاب يا مسيرى، هم يتحيزون لأفكارهم، وتواريخهم، وآثارهم، وأديانهم، ليكن. أليسوا أحق بنا منا، أكثر الله خيرهم أنهم سمحوا لنا أن نفرح معهم.
-20-
تقفز الست مونيكا من الشاشة وجسمها البض يملأ فراغ الحجرة كله، زاد وزنها سبعين كيلو جرام فظهرت معالم الزيادة داخل الملاءة اللف التى لا تعرف كيف تستعملها فتقع منها كل خطوتين وهى تتعثر، فلا أبتسم ولا أشمت، لكنى ألمح سهير البابلى وقد ضربت لخمة فى قسم اللبان [4] حين لم تستطع أن تحكم الملاءة عليها فصاحت فيها ” روحى كتك نيله وأنا مش عارفه وشك من ظهرك” لم أعرف إن كانت تخاطب الملاءة أم تخاطب مونيكا التى رعبت منها رعبا ليس له مبرر، فاختفت رغم حجمها ولزوجتها. يا بنت يا سهير لم فعلت ما فعلت؟ أيرضيك أن تتركى لنا هذه الفيلة تلعق بقايانا الهامدة، وهى إنسانة خاوية مثل طاحونة مهجورة؟
طيب
الله يسامحك يا سهير يا بابلي.
أنت السبب.
فى ماذا؟ لا أعرف.
-21-
ماذا يا سهير لو أنهم استعملوا نفس الأداة لتسويق وترويج أفكارهم الأخرى، فراحت تسرى بين الناس، كل الناس، بهذه السرعة فصدقوها، صدقناها بنصف وعى، أو حتى بدون وعى، حتى أصبحت أى فكرة يروجونها حقيقة أكبر من أى حقيقة موضوعية.
تقولين أن هذا هو الحادث فعلا؟ لا ياشيخة؟
يرقص الناس ويغنون معا فى توقيت ليس هو، “قبل الهنا بسنه”، يمر الحال،
هذه المرة جاءت سليمة، ولعبناها خطأ معا، لكن ما العمل والسائق مجهول، والوقود غير كاف، والأفكار ليست واضحة ولاجيدة، وكيف نحول دون أن يسربوا لنا أفكارا أخرى تخرب بيوتنا وعقولنا معا؟ أنا مالى، ننقرض جـمـعا كما لعبنا جمـعا.
حين تهاجمنى فكرة الانقراض هذه، أتصور أننى أمثل النوع البشرى كله، يا ذى الفضيحة، ألا أخجل؟ لكنها حقيقة، حين أتأمل الأفكار المتسربة عن الرفاهية، وعن الديقراطية، وعن سيدنا العلم الفوقى، وعن الشذوذ الجنسي. أتحسس رأسى، وأهرش فى أجزاء خاصة من جسمى، وأتجرع بعض ما تبقى فى إناء “المخلل” بعد أن اختفت محتوياته الصلبة، وأمنع نفسى عن التعليق.
-22-
أصرخ بالمخرج معتذرا أن سامحنى، وأنها آخر مرة، كومبارس كومبارس، لكننى مهم فى خلفية المشهد، أقسم له أننى لن أفعلها ثانية، يطيب توفيق صالح خاطرى، ويطمئننى أننى لم أخطيء فى اللقطة ولا حاجة، لأنه ليس لى دور أصلا فى هذا الفيلم، يعدنى توفيق صالح أن يبحث لى عن دور مناسب فى الفيلم القادم، وأعلم أنه يكذب رحمة بى، أشعر أكثر يقينا باقتراب نهاية النوع البشرى كله، مع أننا نحن البشر كان دمنا خفيف ولا يصح أن ننقرض هكذا بخطأ ما فى حسبة البقاء.
لو كان عند الديناصور وعيى مستقبلى، ربما كان مازال معنا حتى الآن، أخاف منه مثلما كنت أخاف طفلا أن يلتهمنى “وابور الزلط”.
-23-
مع تسحب هذه السيرة، سيرة الانقراض، ومع هذا الرعب، رعب الفناء بخطأ غبى، يتسرب منى السماح الذى عشته بالرغم منى وأنا أشارك فيما جرى هذه الليلة دون استئذان.
تصورتنا ـ فرحا ـ عبر العالم ونحن نخرج لساننا جماعة لأى رقم فيه رسم تسعة، ثم هأنذا أتراجع عن اعتبارها لعبة فرحت أبحث عن أصل وفصل فاعلها، هل هى فعلا ملعوب وليست لعبة، ملعوب بفعل فاعل، والفاعل قوى ومجهول؟ لا بد أنه فاعل يملك السلاح، والمال، وكل وسائل الإعلام مما نعرف، وما لا نعرف.
-24-
أريد أن أذهب للخواجة الذى عزمنى على الشراب أمس فى المطعم الصينى وأقبل رأسه و أنا أقبل دعوته.
-25-
لو أن أمريكا وإنجلترا وفرنسا، اتفقوا منذ عام أو بعض عام أن يؤجلوا هذه الاحتفالات سنة كاملة حتى يسايروا العلم والموضوعية، هل كان يجرؤ أى واحد غيرهم أن يعملها؟ هل كانت كوريا أو نيجيريا، أو حتى الهند الذرية تجرؤ أن تحتفل وقتما تشاء؟ تنضم مصر أم الدنيا إليهم، مصر جاهزة للانضمام طول الوقت “سـنـتـتـنـضـم” [5] حالا، دقيقة واحدة، هل كان سيستجيب لنا أحد إذا قلنا أننا سنحتفل مبكرا عاما لمجرد أن سنة 2000 دمها أخف، ومنظرها أجمل، وأننا زهقنا جدا من حكاية ألف وتسعمائة وكذا هذه، لو حدث ذلك لفتحوا علينا نار السخرية والاتهام بالجهل والتخلف، واتهمونا بقلة حقوق الإنسان، وقلة العلم، وقلة العولمة، والسفالة لكنهم لا يستطيعون أن يتهمونا بقلة الذرية أو الضعف الجنسي.
-26-
أخرج لهم لسانى ولا أجرؤ على التصريح باتهامهم بالعجز الجنسى مع أنى أعرف الكثير، خل الطابق مستور.
أقفل نافذة العالم التكنولوجية التى فـرضـت على، وأتاحت لى، فرحة المشاركة، وفكر التآمر معا.
-27-
أكتب مقالا للأهرام [6] أقول فيه أن المسألة كانت لعبة طريفة، وأننى كنت مخطئا، وأن من حق الناس فى كل مكان أن تفرح وقتما تريد، حتى لو لم تعرف من ذا الذى يحركها. فقط علينا أن نأخذ الحذر، و أن نتدبر الأمر، وأن نؤكد على هـويتنا المميزة، وكلام ماسخ من هذا، كلام أعلم أنه لا يقدم ولا يؤخر. كلام مثل عدمه، لكننى أكتبه، وهات يا واحد اثنين ثلاثة، إبرة الخـياطة…
-28-
أتساءل عن عدد الذين سوف يقرأون هذا المقال، وعن جدواه، وعن لزومه،
أتجنب التمادى فى التساؤل، كما أتجنب محاولة الإجابة.
أخاف لو أننى صدقت فى الإجابة أن أمزق ما كتبت.
هل أنا أضحك على نفسي؟ أبرر وجودى بمثل هذا الذى أكتبه. فى حماس طفلى لا يهمد، وكأن أحدا ـ يهمه الأمر جدا ـ ينتظره فعلا؟
تصعب على نفسي. أكتشف أنه ليس لى فى الأمر شيء.
أحسن.
تصبحون على خير (ما أمكن ذلك).
[1] – يراجع فكر أرسطو ومنطق أرسطو بصفة خاصة ومدى إعاقته للتفكير البشرى طوال ألفيتين.
[2] – ظهر منطق “فون دوماروس” سنة 1947 ليتناقض مع منطق أرسطو ليثبت أن الشئ يكون نفس الشئ وضده فى آن …. إلخ.
[3] – سيلفانو أريتى طبيب نفسى أمريكى مبدع، صاحب كتاب “تفسير الفصام” والمحرر الأول للكتاب الأمريكى للطب النفسى فى البسعينيات والثمانينيات وهو الذى تبنى منطق فون دوماروس ووظفه فى فهم لغة الفصامى وغائيته ومن ثم فهم “إرادة المجنون واختياراته وموقفه”
[4] – إشارة إلى مسرحية ريا وسكينة .
[5] – إشارة إلى مسرحية مدرسة المشاغبين.
[6] – مقال الأهرام نشر بعنوان : ماذا بعدما لعبنا معاً لعبة الألفية.