نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 26-10-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4438
الكتاب الثالث:
“عن الحرية والجنون والإبداع” (1) (الحلقة الثامنة)
مقدمة
حين قرأت حلقة اليوم وجدتها شديدة الصعوبة إن لم ترتبط بنشرة الأسبوع الماضى (يوم السبت 19/10/2019 لنفس الموضوع) ونظرا لأنه لم يصلنى فى بريد الجمعة أى تعليق عليها فقد رجعت أقرأها من جديد فوجدت بها صعوبة أقل، لكنها صعبة وجديدة ومزعجة، فقررت أن أعيد نشرها اليوم، فإن لم يصلنى تعليق مرة أخرى فسوف أتوقف عن نشر بقية الموضو برغم شدة أهميته
عذرا
يحيى
…………
…………
عن الجسد والجسم
1) الجسد: عائق أم مجال؟
يجرنا الحديث عن الحرية من منطلق حركية البيولوجى ووراثة المرونة إلى الحديث عن الجسد وعلاقته بالفكر. نحن نقدم الجسد هنا بمفهومين متداخلين، لا ينفصلان (ليس كما حاولت الفلسفة الوجودية أن تفعل) ، فمن ناحية: هو الجسد الفيزيائى الذى يشغل حيزا حقيقيا فى الوجود، وهذا ما نفضل أن نقصـر لفظ الجسد عليه، ومن ناحية أخرى هو الحضور الحركى المتجسد للوعى سواء لَبِسَ الجسد الفيزيائى أم لا، وهذا ما نميل إلى تسميته الجسم (2). والعلاقة بين الاثنين وثيقة، فالمفروض طبيعيا ألا يكون ثم فرق بين هذا وذاك، إلا أن ظروف ما آل إليه تطور الإنسان، قد جعلته يتنازل جزئيا عن فاعلية النشاط الحركى الفعلى كلغة أساسية وحضور ضرورى لتعميق الوجود، مما أدى إلى تنويعات من الانفصال جعلت الوعى الحركى المتعين (الجسم) يحل محل الجسد العيانى فى بعض الأحيان، دون أن يلغيه، غالبا.
من هذا المنطلق يمكن أن ننتبه إلى أن مشاركة الجسد(الفيزيقى) فى حركية الحرية تعتمد على مدى مطابقته للجسم (الوعى المتعين فى الجسد)، فإن كانت المطابقة كاملة – نظريا – فإن ما يسرى على الجسد يسرى على الجسم، إلا أن واقع الحال يشير إلى ان المطابقة دائما نسبية، وهى-المطابقة- تزيد فى حالة الإبداع وتقل فى حالة العادية، أما فى حالة الجنون فهى تختلف بحسب نوع الجنون ومرحلته، فقد ينفصلان تماما وهذا أقرب إلى ما أسماه هـ. لانج (3) “النفس المنتزعة من جسدها” (4)، وقد يظهر فى صورة بعض الأعراض التى تشمل تشويه أو تقطيع الجسد مع أو بدون إحساس بالألم، كما قد تشمل بعض أنواع الانتحار.
على النقيض من ذلك فإنه قد يلتحم الجسد (الفيزيقى) بالجسم (الوعى المتعين) Concretized Consciousness بتطابق فجائى وحاسم دون تمهيد أو إبداع أو استيعاب، بما يتريب عليه نقلة زائفة تلغى أحدهما من أول إنكار الجسد الفيزيقى (ضلالات العدمية الجسدية) حتى ضلالات التسامى والسمو بالجسد بعد احتوائه إنكارا (فى بعض حالات الهوس مثلا).
فى تناولنا لمسألة الموت (مما سنرجع إليه تفصيلا فى موقع آخر) يمكن الاكتفاء بالإشارة هنا إلى أن اختفاء الجسد أعضاء وخلايا قد يصحبه اختفاء الجسم وعيا متعينا، إذا لم يكن صاحبهما قد تحرك حرَّا مبدعاً متجادلا مع الوعى الكونى بدرجة كافية (مساحة الحالة الإبداعية)، أما إذا كانت حالة العادية هى الغالبة فقد يكون اختفاء الجسد نذيرا باختفاء الجسم معه كله أو باستثناء بقايا متناثرة تمثل نشازا عابرا أو دائما فى علاقتها بهارمونية الوعى الكونى (إلى وجه الله).
أن تناول مسألة الحرية من خلال هذا المنظور لكل من الجسد والجسم يتجلى بشكل متنوع بقدر درجة التطابق، والمرونة، والحركية، مساحة ممارسة حالات الإبداع والجنون والعادية، وتناوبها مع بعضهما البعض.
من هنا يمكن القول إن الجسد اللحم الدم، – من حيث المبدأ – ليس مجرد حامل للرأس المحتوى على المخ، المسئول عن الفكر، لكنه جزء لا يتجزأ من حركية الوجود، وأداة أساسية فى فعل المعرفة. إن المعلومات، وخاصة المعلومات الأساسية الموروثة أو المبصومة (5) لا تتواجد فىالدناDNA الخاص فقط بخلايا المخ، وإنما هى تغوص أيضا فى خلايا الجسد، وبالتالى يمكن أن يمثل هذا الجسد0(العياني/الحسي/الحركي/اللحم/ الدم) سجنا لحركية الفكر (ضد الحرية)، كما يمكن أن يكون هو الوسط المرن الذى يسمح بازدهار خصوبة حركية الفكر (6)، مساهما فعالا فى ذلك.
لقد عايشت هذه القضية من خلال مصادر عملية (خبراتيةExperiential) أثناء ما أسميته معايشة الجنون مع مرضاى: وذلك أثناء تعتعة الضلال وتفكيكه وخاصة فى حالات البارانويا المزمنة وتحت المزمنة (7) وحالات اضطرابات الشخصية، وإلى درجة أقل نجاحا، حالات الوسواس القهرى (8)وذلك باستعمال علاج التنشيط الجسدى (بالعدو أساسا والرقص إلى درجة أقل) وأثناء علاج الحرمان من النوم. ولقد لاحظنا أن البدء بتفكيك الوضع الجسدى من خلال التنشيط غير الراتب، وغير المكرر، وغير المألوف، لو أنه تم فى صحبة “آخر” حقيقى ومتحرك (معالج/معالجين من نوعية خاصة، يمارسون نفس الفعل الجسدى) فإنه قد يؤدى إلى تفكيك فى الضلال الثابت فى حالة البارانويا كما يصاحبه تفكيك فى المنظومة المفهومية الغائرة والمعوقة فى حالة اضطراب الشخصية.
أما فى علاج الحرمان من النوم (9) فقد لاحظنا أن كسر نمطية الإيقاع اليوماوى (اليوماوى/السركادىcircadian) بالسهر المتصل ليلا ونهارا عدة أيام إلى أسبوع فأكثر، كل ذلك إنما يكسر دوائر الإيقاعية الحيوية المنغلقة على نفسها، وبالتالى تنكسر المنظومات الفكرية المنغرسة فيها –فى الجسد- بما يترتب عليه درجة مقابلة من التنشيط، فاستعادة تناول البسط الملء الفعال الذى يساعد على كسر جمود الضلال فاستكمال التأهيل.
وقد خرجنا من كل هذا بطرح فرض يقول:
إن “المفهوم الثابت” و”الضلال الغائر” ينغرسان فى الجسد (الجسم) جنبا إلى جنب مع انغراسهما فى أكثر من موقع ومساحة من خلايا المخ”
وبما أن خلايا المخ ليست دائما فى متناول التحريك النشط المباشر (اللهم إلا بالمذيبات للنفسpsychodelics من المهلوِسات، مثلا) (10) فقد كانت الوسيلة للتعرف على علاقة الجسد بالفكر هى التعامل مع الجسد مباشرة كمدخل إلى الكلمة والمفهوم. وقد واجهنا صعوبات من الزملاء فى تقبل هذه الفروض والعمل من خلالها أكثر مما واجهنا صعوبات من المرضى، لكن مع التدرج والمثابرة استطعنا أن نحقق جانبا من هذه الفروض مما يمكننا من تطبيق نتائجها على هذه الفرضية الجديدة الخاصة بالحرية، ومن ذلك:
1- إن المفهوم الفكرى الثابت حتى الجمود (فالإعاقة) هو منغرس فى الجسد كله بقدر ثباته فى خلايا المخ.
2- إن الحركة المنتظمة فى دورات النوم/الحلم/اليقظة قادرة على تعتعة هذا المفهوم الجامد أثناء النوم، ومن منطلق خلايا المخ أساسا والجسد تال لذلك، لكن جمود الجسد وقبضته قد تكون قادرة – فى الحالات المتجمدة – على الأمر المباشر بعودة الأمور إلى غوصها وثباتها، وذلك فور اليقظة مباشرة (كما كنت!)، الأمر الذى يظهر فيمن ينكر أنه يحلم أصلا، أو ينسى أحلامه تماما فور استيقاظه (علما بأن النشاط الحالم يستغرق ربع ساعات النوم على الأقل، كما ذكرنا فى الفصل الأول).
3- إن التعتعة فى ذاتها ليست هى الغاية العلاجية، ولكن إمكانية تناول نتاجها هو المنطقة التى يتحرك فيها المعالج والمريض بقدر من الوعى (والحرية) بما يتناسب مع التناول الحالى لقضية الحرية “معا”، وذلك من خلال استعادة المرونة والتنشيط، ومن ثم إمكانية التأهيل وإعادة التشكيل.
4- إنه كلما كان التحريك غير منتظم وغير مألوف (مثل الهرولة فى الجرى دون الجرى التنافسى، ودون الجرى الراتب) كانت تعتعة المنظومات الثابتة أكثر احتمالا ووعودا.
بنفس القدر فإن كسر انتظام دورات النوم/ اليقظة الليلنهارية (اليوماوية)، يترتب عليه مثل هذه التعتعة ( كما ذكرنا فى علاج الحرمان من النوم).
لن أمل من توضيح الخلط المحتمل الناشئ من استعمال هذه اللغة الخاصة، فإذا كان للكلمة “جسمٌ” يـُمسَك لو أنها حملت معناها فعلا، فهى أيضا يمكن أن تنغرس فى جسد من لحم ودم، وهذا الاختلاف عن المفهوم الوجودى هو ما أعنيه تماما من احترام الخلايا والجسد العيانى، دون إعطائها استقلالا أو أسبقية، وفى نفس الوقت احترام “الكلمة” جسما ووعيا، وليست مجرد رمز أو تجريد، دون أن تنفصل عن الجسد، وأخيرا احترام الوصلة النشطة والكامنة بينهما، أى بين الكلمة والجسد ([11]).
……………
ونكمل الأسبوع القادم
[1] – هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.
[2] – استعملت هذه التسمية الفارقة قبل أن أطلع على ما يقاربها فى الفكر الوجودى: (فكرة الجسم فى الفلسفة الوجودية ، حبيب الشارونى الطبعة الثانية 1974 القاهرة- مكتبة الأنجلو)، وقد طمأننى ذلك رغم عدم التطابق، ذلك لأننى -على خلاف الفكر الوجودي- ربطت بين الكيانين (الجسم/الجسد) برباط نشط أوكامن يمكن أن يتنشط، رباط بيولوجى وتجريدى فى آن (المتن) ومن المهم أن أؤكد أن بداياتى وعودتى هى إلى الجسد العيانى أساسا. هذا وقد أكد تيسير شيخ الأرض على دور الجسد مستعملا كلمة “البدن” بشكل أساسى وجوهرى وجامع، وذلك فى فلسفته ” الأجدوانية ” التى لم تأخذ حقها أبدا. (دراسات فلسفية. محاولة ثورة فى الفلسفة – دار الأنوار. بيروت 1973).
[3] – النفس المنقسمة D.H. Lrang Folit Self 1950
[4] – Disembadied self
[5] – ظاهرة البصم imprinting هى الظاهرة التى اهتم بدراستها علماء الحيوان لدراسة السلوك الجاهز الذى يطلق من الكائن حديث الولادة ، واعتبروا ذلك نوعا من التعلم الغائر، وقد طورت هذه الظاهرة فى ممارستى الإكلينيكية، لأرصد الظاهرة فى الأوقات الحرجة وهى تتم، وليس وهى تطلق، وخاصة فى العلاج المكثف النشط، وأوقات النمو الحرجة ، وبالنسبة للسلوك ذى الدلالة التطورية.
Hess H.H. : Ethology ،in Freedman A. & Kaplan H. (1967) Comprehensive Text Book of Psychiatry] Williams & Wilkins Company P 180-188،
ثم: يحيى الرخاوى: (دليل الطالب الذكى فى: علمِ النفس انطلاقا من: قصر العينى) – (ص 132) الطبعة الأولى (1980) الطبعة الثانية (2018) – القاهرة.
[6] – كتبت هذه الأطروحة قبل أن يصلنى – منذ ثلاث سنوات – كتاب بعنوان Philosophy in the Flesh Lakkof : a challenge to western thinking “الفلسفة منغرسة فى الجسد : تحديات فى مواجهة الفكر الغربى. وقد اطلعت على الكتاب ووجدت أنه يتفق مع الخبرة المطروحة فى هذا الفصل فى هذا الموضع من حيث المبدا، وكدت أضيف منه ما تيسر إلا أننى وجدت أن أؤجل ذلك لبحث أكثر تركيزا على الجسد كوسيلة للمعرفة، وليس فقط كما هو الحال هنا: مجالا لحركية الحرية.
[7] – حالات البارانويا المزمنة، وتحت المزمنة هى حالات تتصف بوجود اعتقاد وهمى خاطئ (أسميه ضلالا والشائع أن اسمه هذاء وقد رفضت هذه التسمية وبينت أسباب ذلك فى موقعه) وهذا الاعتقاد الثابت يكون من الثبات والعمق والتسلسل بحيث يصعب أو يستحيل تعتعته وتغييره بالاقناع والشرح، وأحيانا أيضا لا بالعقاقير وجلسات تنظيم إيقاع الدماغ فى الأحوال العادية. كذلك الحال فى حالات اضطراب الشخصية من النوع النمطى لها نفس التركيب، وإن كان ما يسمى ضلالا يكون مختفيا بعيدا عن ظاهر الشعور فى حالة اضطراب الشخصية.
[8] – حالات الوسواس القهرى تتصف -تركيبيا- بصفات حالات البارانويا من حيث صلابة المعتقد وخطئه وتماسك الشخصية، إلا أنها تختلف من حيث بصيرة المريض بهذا الخطأ ، ومحاولاته المتكرره للتخلص منه وتصحيحه دون جدوي.
[9] – ثمة خبرات طويلة فى هذا الشأن لم ينشرمنها إلا أقلها أنظر مثلا:
Hamdi، E.، Mahfouz، R. Amin، Y. and Rakhawy، Y.T. (1982) Sleep Deprivation Therapy: A Part of an Integrated Plan in a Special “Milieu”. Egyptian Journal of Psychiatry
[10] – الخبرة التى قدمتها لنا عقاقير الهلوسة مثل الـ LSD (برغم قصر عمرها، وهشاشة نتائجها) تستحق أن ترتبط بهذا المنطلق الحالى للربط بين البيولوجى و الجسد و بين الجسم والوعى جميعا، وهى خبرة تعاطى عقاقير تعوق حركية التوصيل بين خلايا المخ، فيترتب عليها حالة من الهلوسة، نتيجة لتفكك الحواجز بين خلايا المخ، وبالتالى استقبال كل منها للآخر وما يتبع ذلك من خلط وإسقاط وغير ذلك، ومن ناحية أخرى فقد أظهرت هذه التجارب بعض لمحات إشراقات= =الإبداع المجهضة، وأهمية هذه الملاحظات أن المخ، والجسد، والجسم/والوعى، والمنظومات الفكرية تمثل أربع مناطق منظمة ومتماسكة وواحدية، وفى نفس الوقت يتصل كل منها بالآخر وكأنه صورة للآخر لكن بلغته الخاصة، فإذا تعتع تنظيم من هذه التنظيمات كيميائيا، أو مرضيا، أوعلاجيا ، سمّـع عند الآخر، وتتوقف إيجابية أو سلبية الناتج على جرعة التعتعة، والجو المحيط والتأهيل اللاحق بما يحتاج إلى تفصيل آخر.
[11] – عايشت كل ذلك وسجلته قبل تعرفى على المعطيات الأحدث للعلم المعرفى ، ودور الجسد فى التفكير، مما قد يحتاج إلى عودة كما ذكرت.