الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (96) الحب بالراحة !!!! (1 من 2)

الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (96) الحب بالراحة !!!! (1 من 2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 12-1-2014

السنة السابعة

العدد: 2326 

 الكتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (96)

الحب بالراحة !!!! (1 من 2)

مقدمة:

برغم أن مجموعة المواجهة قد احتلت كتابا بأكمله هو “فقه العلاقات البشرية” كما ذكرنا، إلا أنه يبدو أن كتاب العلاج الجمعى قد وجد فيها مادة أساسية لتقديم جوهر ما يجرى فى هذا العلاج، مع أن هذه المجموعة لا تمثل نموذجا جيدا لما يجرى مع المرضى، لأنها كما ذكرنا كلها من الأصحاء المتطوعين، صحيح أن أغلبهم من المشتغلين بالثقافة النفسية، لكنهم يظلون غير ممثلين لجمهور المرضى.

لعل الأسلوب الذى اتبعناه أخبرا وهو تقديم الشرح منفصلا عن المتن يعطى اختلافا بين الكتابين عن بعضهما البعض، وأيضا أمل أن تكون الإضافات التطبيقية عن العلاج النفسى فيها فائدة تبرر هذا التكرار.

هذه الحالة – التى هى ليست حالة – هى تقمصى لموقف علاقاتى له سمعة طيبة جدا بين من يسمون الرومانسيين إن كانت لهذه التسمية مكانا فى السمات الشخصية والعلاقات البشرية حتى الآن، ومع ذلك فقد اخترت لها اسما من بلدنا لا يعرفه إلا فلاح مثلى “الرىّ بالراحة”.

الرىّ “‏بالراحة”، ‏وهو‏ ‏تعبير‏ ‏من‏ ‏بلدنا‏، هو ‏ذلك‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الرى ‏الذى ‏لا‏ ‏تستعمل‏ ‏فيه‏ ‏أية ‏آلة‏ (‏ولا حتى ‏ ‏ ‏الطنبور‏ أو ‏الشادوف‏). لا يكون الرى بهذه الراحة دون حاجة إلى أية آلة رى لرفع الماء، إلا‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏مستوى ‏الماء‏ ‏فى ‏الترعة‏ ‏أعلى ‏من‏ ‏مستوى ‏الأرض، ‏ ‏ويكفى ‏الفلاح‏ ‏أن‏ “‏يقطع‏” ‏مدخل‏ ‏المياه‏ من الترعة ‏فتنساب المياه ‏ ‏إلى ‏الأرض‏ “‏بالراحة‏”.

كانت هذه اللوحة التشكيلية، لصاحبة هذه العيون التى تملك هذه القدرة التى تسمح بأن ينساب نهر حنانها وحبها وطيبتها إلى كل من يطلب منها “شفطة” مياه، سواء كان عطشانا، أم كان يرى هذه السيدة الكريمة سبيلا من حقه أن يأخذ منه نصيبه “بالراحة”، وكانت هى تكاد لا تمانع بنفس السهولة والكرم، وحين هممت أن أتقمص بعض الجارى، اكتشفت التناقض بين ما دار بخلدى، وبين ما أنبح له صوتى به ليل نهار لأبين صعوبة العلاقات البشرية، وأظهر مدى التناقضات الشائكة والمحيِّرة، التى تحفز إلى المثابرة المستمرة، حتى تتحول أسهم المواجهة المتصادمة فى التواصل البشرى إلى حركية الجدل فالنمو المتجدد.

كنت أتعجب من صاحبة هذه العيون التى لا تضع شروطا ولا مواصفات لمن تغرقه بمياه حنانها وغمر دفئها.

ما هذا الذى تمنحه هذه السيدة الفاضلة؟

هل هو الحب الذى نتحدث عنه أم شىء آخر؟

ملأنى العجب وأنا أصف الجارى (أو المتخيل):

‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الحنان‏ ‏حاجة‏ ‏ملحة‏ ‏وشاملة‏. . ‏وهى ‏تحتد‏ ‏فى ‏الحزين ‏، ‏والوحيد‏، ‏والمنعزل، كما أنها تظهر تلقائيا مثلما تحتاج أى أرض إلى مياه الرى، كما أن هذه الحاجة تحتد أكثر ‏ ‏بعد‏ ‏توالى ‏الإحباط‏. .‏، ‏وعند شدة الاحتياج، كما أن كل هؤلاء، يعمون عادة ‏‏أو ربما يتغاضون قصدا، عن‏ إشكالة ‏طبيعة‏ ‏هذا الحب السهل المنساب بلا حساب. ‏ ‏

فى قريتى أيضا، تترك الأرض مددا طويلة فى فصل الجفاف حتى تتشقق تماما جوعا إلى المياه وتسمى الأرض “الشراقى”، ويفيد هذا الجوع فى أن يعرض باطن الشقوق للهواء والشمس بدرجة تجعلها أكثر خصوبة وإثمارا، وحين يأتى وقت الرى بعد فترة معلومة، يقال إن الفلاح يطفى” الشراقى، وهو تعبير مختلف عن “يروى الأرض”، لأنه فعلا يغمر هذه الأرض المتشققة من الجفاف، الملتهبة من التعرض للشمس المشتاقة إلى المياه، يطفئها غمرا بما يملأ شقوقها حتى تفيض، وتشبع، وهذا الغمر يقوم بوظيفته التخصيبية استعدادا للزراعة المناسبة.

المقابل فى كرم طوفان حنان هذه السيدة – ومن تمثله- وصلنى من ملاحظتى أن الغالبية الغالبة تطلبه، وتسعى إليه، سواء فى الحياة، أو فى مقام العلاج النفسى، ولا بد أن أقر وأعترف أن هذا حقهم من حيث المبدأ، سواء كان طالب الارتواء: قلبا حزينا، أو قلبا وحيدا، أو قلبا جفّ وتقشف، أو قلبا مجروحا “من عمايل الناس”، أو قلبا متهالكا “متمهمطا” من كثرة القهر والتمزيق والإهانة والاستهانة، أو قلبا منبوذا موصوما بالتجاوز أو حتى بالهرطقة لمجرد أنه تجرأ على النظر فى المقدسات، أو نقد السلطة، أو قلبا مبدعا تجرأ فكشف عن جانب من الحقيقة (مش صحّتٌ الأُسطى إمام من غَفْلته، واللى يصحِّى الناسْ يا ناسْ، أكبر غلط) فلم ينل إلا الرفض والنبذ. كل هؤلاء يمثلون جمهور العطاشى الذين يتقبلون الغمر من مصدر المياه “بالراحة” بدون تمييز، وأيضا بلا صعوبة.

لكن هل يا ترى يرتوون بمثل هذا الرى بدون جهد من جانبهم؟، بدون إسهامهم فى السعى إلى الرى؟ ناهيك عن تحمل أن تكون العلاقة متكافئة، والمسئولية مشتركة؟

فى كثير من الأحيان يأتى المريض طلبا للعلاج ليرتاح، ليعتمد، ليجد الحل جاهزا، والتفسير مقنعا، والعقدة لها من يحلها دون أن يشارك هو بالقدر الكافى فى ذلك، وقد تجلى ذلك تماما فى نشرة سابقة (نشرة 5-1-2014 “نيجاتيف” إنسان، وتعرية قاسية صادقة) وقد يتحقق له ذلك، أو بعض ذلك فى بداية رحلة العلاج، أو مع تعاطى بعض المسكنات، أو المريّحات من عقاقير وسماح، لكن العلاج الحقيقى، مثله مثل التربية والنمو فى أى مجال يتطلب غير ذلك، ويسرى فى طريق مختلف.

هؤلاء العطاشى لا يرتوون عادة “بالراحة” لمجرد أن لهم حقهم فى الرى، قد يخدّرون أو يهدأون، لكن الارتواء شىء آخر، مع التأكيد أنهم عطاشى فعلا، بغير ذنب جنوه غالبا!! إذن ماذا؟

فى خبرتى، لاحظت أن هذا الحب السهل الجاهز، حتى عند معالج نفسى طيب، ليس هو الذى يلزم المريض لينمو به ومن خلاله، هو حب اقرب إلى الفيض الذى لا يتوجه تحديدا إلى واحد بذاته، ليس بمعنى القدرة على الحب، ولكن بمعنى أن هذا الغامر بلا تمييز لا يحدد الفروق الفردية فى الذات المعنية (الموضوع)، موضوع الحب، بل إنه يغمر من يجده دون تفرقة: “من يعطش يشرب” (وخلاص)، فهل يا ترى هذا هو الحب الذى يميز الكائن البشرى بما سبق ان أشرنا إليه من أنه اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى، ثم هو يثابر طول الوقت، ليميز الموضوع “كما هو”، كما اشرنا فى اللوحة السابقة.

هل هذا هو الحب الذى يحاول أن ينمو باضطراد حتى يقلب “الموضوع الذاتى” إلى “موضوع حقيقى” يسمح بعلاقة بشرية تليق بالبشر؟ هل لهذا الغمر دون تمييز ودون جهد عمر يسمح بتطوره، لنتغير من خلاله إلى ما هو أكثر مسئولية، وأقوى اقترابا من بعضنا البعض، وأصعب أيضا؟

فى العلاج النفسى، مثلما هو الحال فى التربية والنمو، يكون عامل التوقيت من أهم العوامل، إن لم يكن أهمها فى دفع النمو (والشفاء) فى مساره الطبيعي، فى الأغلب لا يكون التركيز على ماذا “متى نفعل ما تقرر أن نفعله”، أى متى يكون القرار فاعلا، فيكون صوابا، ومتى يكون نفس القرار خطأ فى وقت آخر، وهكذا، أضف إلى ذلك عامل “الوقت” اللازم لسبك عملية النمو مع التذكرة بأن “الوقت” غير التوقيت.

لا يمكن أن يتم نمو بدون وقت، قفزات التغير لها دلالتها الرائعة، لكنها وحدها، بدون أن يتم الإعداد لها فى وقت كاف لإنضاجها، وبدون أن يلحقها بعدها فعل مناسب لاستثمارها، لا تدل على شىء إيجابى بالضرورة.

سنتكلم دائما فى العلاج النفسى والتربية والنمو عن “الجرعة“، إضافة إلى التوقيت، عن أن ضبط جرعات الدعم المباشر، وجرعة المسافة، وجرعة النصح، (نشرة 2 -4-2013 “النقلة من العلاج الفردى إلى العلاج الجمعى” عرض حالة بالتقمص من داخلها)، لا يقل أهمية وحساسية عن ضبط جرعة الدواء،

شعرت من هذه الخبرة أيضا أن فرط غمر الحنان هكذا قد يأتى بعكس الرى، وهو الغرق.

أصول الزراعة، مثل أصول التربية، مثل أصول العلاج النفسى: لابد لها من الإعداد، والتدرج، وضبط جرعة المسافة المتغيرة، وتسميد الأرض مثل تسميد الوعى، ثم خذ عندك تقليب التربة، وتخطيط الخطوط، مثل تعتعة الوعى، ورسم المسار فى التربية والعلاج النفسى (بل والإبداع). إذن فالمسألة ليست غمرا بالحب والحنان والود والإراحة، بقدر ما هى تخطيط مناسب لحركية الوعى بمستوياته “معا”، وتحريك منضبط على مسار معَدّ.

‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى كما أشرنا، ‏يحتاج‏ – ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏عاملى الوقت و‏التوقيت‏ ‏الذى ‏ذكرناهما حالا- ‏إلى ‏خطوات‏ ‏منظمة‏، ‏وإلى ‏ضبط‏ ‏العواطف‏ ‏وأحيانا‏ ‏منعها‏ ‏حتى ‏تجف‏ ‏الأرض‏، ‏ليس‏ ‏بالإهمال‏ ‏ولكن‏ ‏بالحساب‏، ‏ثم‏ ‏إلى ‏جرعات‏ ‏منظمة‏ ‏من‏ ‏الألم‏ ‏والعمل مثل عزيق الأرض وتقليب تربتها‏، ‏‏أو‏ إلى ‏جرعات‏ ‏قاسية‏ ‏من‏ ‏الرؤية‏ ‏العميقة‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏الجوهر‏ مثل ‏ضربة‏ ‏المحراث‏ ألة ‏تشق‏ ‏الأرض أيضا‏.

من المعروف أن سوء فهم العلاج النفسى، يؤدى إلى فرط الاعتمادية، وانتظار الحل السحرى من المعالج، كما أن أغلب الناس، وبعض الأطباء والمعالجين، يتجنبون كل ما يؤلم المريض، ونحن نكرر باستمرار أنه لا يمكن عمل علاقة حقيقية بين البشر بدون صعوبة حقيقية، ولا يوجد نمو بدون ألم، ومع ذلك فإن الإعلام وبعض التربويين يبالغون فى التأكيد على التفويت، والإراحة، ويحتجون احتجاجا قويا على أى ضغط، على طالب النصح، أو المريض، مثلما يحتجون على صعوبة الامتحانات، وعلى صعوبة الالتزام، وعلى صعوبة انضباط المواعيد، كانت هذه السيدة الكريمة تتقطع شفقة كل ما تظر عليه علامات الألم أو الحرمان أو الإحباط أو ما شابه.

استمرارا مع التشبية بتحضير الأرض للزراعة يجدر الانتباه إلى أن غمر المياه، ليس هو الرى المناسب على طول الخط، ثم إنه يحتاج إلى “صرف” سريع لزائد المياه حتى لا تفسد البذور، وقد أحلوا الرى بالتنقيط، أو بالرش، محل الرى بالغمر حتى لا تفسد البذور، وأيضا توفيرا لجهود الصرف الضرورى اللاحق، بل إن الاهتمام بالرى المتدفق، وهو ما يقابل هنا: الحنان والشفقة والمبالغة فى تخفيف الألم على حساب معاناة النمو فى العلاج النفسى، قد يلهينا عن ضرورة وضع البذرة ابتداءَ، لعل البذرة فى العلاج النفسى هى: المعنى، حتم التغير النوعى، إشراقة النقلة الكيفية…، حتى تأتى الإحاطة والرعاية والتنمية والحنان لترعاها بعد غرسها.

‏نفس تجنب‏ ‏الإيلام‏ – ‏هو‏ ‏الشائع‏ ‏فى ‏الكذبة‏ ‏التى ‏كادت‏ ‏تضيع‏ ‏أطفالنا‏ ‏تحت‏ ‏اسم‏ “‏التربية‏ ‏الحديثة‏”، ‏وهى هى التى ‏تشوه‏ ‏معنى ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏البناء‏ ‏وتصور العلاج النفسى عموما وكأنه‏ ‏مجرد‏ ‏نزهة‏ ‏للتبرير‏ ‏والطبطبة‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏قابلت‏ ‏شبابا‏ ‏ونساء‏ ‏كانت‏ ‏ثورتهم‏ ‏الحقيقية‏ ‏فى ‏داخل‏ ‏داخلهم‏ ‏هى ‏أن‏ ‏المسئولين‏ ‏عنهم‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏مراحل‏ ‏عجزهم‏ ‏كانوا‏ ‏أجبن‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يقولوا‏ ‏لهم‏ “‏لا‏”، ‏وأعنى ‏بها‏ “‏اللا‏” ‏المحبة‏ ‏المسئولة‏ ‏مهما‏ ‏بدت‏ ‏قاسية‏ ‏أحيانا.

إن الغمر بالحنان‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يسبقه‏ ‏ويلحقه‏ ‏ويصاحبه‏ ‏تهيئة‏ ‏النظام‏ ‏التربوى ‏الذى ‏يستوعبه‏ ‏ويستفيد‏ ‏منه‏ ‏يصبح‏ ‏إطلاقا‏ ‏للسلبيات‏ ‏تحت‏ ‏عناوين‏ ‏حديثة‏ ‏براقة‏.‏

‏إن الغمر بهذه العواطف المنسابة هكذا دون حساب، هو نوع من التخلى عن مسئولية العلاقة الموضوعية، المميِّزة، وربما يتم ذلك خوفا من هذا المستوى الآخر من الجدل الشائك، والحركة المغامرة الضرورية فى إرساء علاقة بين البشر.

وهكذا رجح عندى فرض يعتبر أن هذا الحب هكذا “بالراحة”، ليس إلا ‏خوف‏ ‏من‏ ‏الألم‏، ‏ونوع‏ ‏من‏ ‏الهرب‏ ‏من‏ ‏المواجهة‏ ‏ومن‏ ‏التناقض‏ ‏اللازم‏ ‏للجدل‏ العلاقاتى ‏التطورى، ‏وأيضا أنه تجنب‏ ‏للجهد‏ ‏والمشقة‏. (‏وتعبير‏ “‏قلة‏ ‏مفيش‏” ‏تعبير‏ ‏سائد‏ ‏عند‏ ‏أولاد‏ ‏البلد‏ عندنا ‏يعنى ‏العدم‏ ‏والفراغ‏).‏

‏وبرغم كل هذا النقد، والمحاذير، فإن العطشان جدا، الوحيد جدا، – حتى لو كان مثلى – حتى لو أدرك أن هذا الغمر بالحنان، والحب “بالراحة” ليس هو حاجته تماما، فإنه من فرط احتياجه (من كتر ما انا عطشان)، يجد نفسه بعد كل تخوفاته، وحساباته (باخاف أشرب كده من غير حساب) يجد نفسه غير قادر على رفض النهل من المتاح، وهو لا يتمنى أكثر من قطرة واحدة مما يجرى أمامه، فلا يستطيع الرفض، مع أنه يعلم أن الهلاك ينتظره فى التمادى فى أى من الاتجاهين، فينتهى المتن بهذه النهاية الواقعية المؤلمة.

 *****

وغدًا نعرض المتن مستقلا،

وآمل ألا يكون قد أفسد هذا الشرح مسبقا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *