الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الفصل الخامس: ملف الوجدان واضطرابات العواطف (1)

الفصل الخامس: ملف الوجدان واضطرابات العواطف (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد6-7-2014

السنة السابعة

العدد:  2501

الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية

الفصل الخامس:

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (1)

الاستهلال:

مع تتابع المفاجآت التى لم تعد مفاجآت، نفتح ملف الوجدان، المفروض أنه “فصل الوجدان” فى كتاب “الأساس فى الطب النفسى” الذى يبدو أنه لن ينتهى أبدا، ولماذا ينتهى ما دامت هناك أمانة لا بد أن تصل إلى أصحابها ، وما دام هناك ما يسمى “الحاسوب” وهو لا يرفض أو يعتذر أو يضيق بما يصله، مع أملى الشديد أن يكون فى كل ذلك  ما يفيد وينفع الناس ويمكث فى الأرض.

علاقتى بإشكالة الوجدان (العواطف، الانفعال، الشعور،……..الخ) علاقة قديمة جدا، وتنظيرى فيها سبق تنظيرى فى “التفكير”، وفى “الإدراك”، بل وفى “الإبداع” وفى “الأحلام”، وقد أثبتها على مراحل متتالية، لكننى أعايشها منذ وعيت طفلا (طبعا) ، وأواجهها تعريفا وحضورا وأعراضا وعلاجا منذ امتهنت هذه المهنة الرائعة، وقد بدأت إثبات بعض أفكارى وفروضى سنة 1974 ثم بدات نشرها فى ما يعتبر مجرد مسودة ‏لكنها كانت شبه كاملة، ثم‏ أنها ‏نشرت‏ ‏بعد التعديل والتطوير‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏الإنسان‏ ‏والتطور (1) ( ‏سنة‏ 1984)‏، ثم‏ ‏أجرى عليها ‏تعديل‏ ‏طفيف فى نشرات متفرقة سنة 2007 (2)، وأخيرا‏ ها هى تعاود الظهور الآن كأساس لتصورى عن ماهية الوجدان وتطوره، ومن ثم اضطراباته وبعض الإشارة إلى علاجه، وقد كان عنوانها “‏النظرية‏ ‏التطورية‏ ‏للإنفعال‏ ‏والعواطف‏”، إلا أننى وجدت أنها لم تكن ترقى حينذاك إلى ما يمكن أن يعتبر “نظرية”، فغيرت العنوان، وأيضا قمت بتحديث ليس قليلا فى المحتوى بما يتفق مع ما تطورت إليه خبراتى، ووصلنى من اطلاعاتى.

أهم ما وصلت إليه حالا هو هذا التداخل الشديد بين ما هو “وجدان”، ما هو “إدراك” شامل، وما هو “وعى” مشتمل وما هو “لغة بناء”، هذا التداخل المهم لم يكن ظاهرا لى فى فترة التنظير الأولى، وبالرغم من أن هذا التداخل هو حقيقة لا يمكن التجاوز عنها إلا بغرض التقسيم والتنظير والتبويب، إلا أنه يلح علىّ – حالاً – إلحاحا يكاد يحول بينى وبين الانطلاق فى تقديم الوجدان فى فصل أو فى ملف مستقل هكذا.

ثم إن أخشى ما أخشاه هو أن أواصل الاستطراد ، كما حدث فى ملف الإدراك، فلا يتم هذا الكتاب الأم أبدا، ومع ذلك، فأنا لا أجد بديلا عن أن أجمع كل ما كتبته فى هذا الصدد لعله يتكامل قبل ان أتطرق إلى الاضطرابات التى هى أساس هذا الفصل (ولو تاريخا).

إشكالات وتحديات:

الإشكالات التى قابلتها فى تنظيرى السابق والحالى يمكن تقديمها فى إشارات موجزة كالتالى:

أولاً: إشكالات منهجية: بالإضافة إلى الإشكالات العامة المتحدية فى دراسة العلوم الإنسانية عامة، والعلوم النفسية خاصة، سوف نواجه إشكالات التقييم الكمى، والتعريف الإجرائى بشكل حاد ولحوح يكاد لا يجد حلا فى كثير من الأحيان

ثانياً: إشكالات اللغة: الوجدان يوصف غالبا بالألفاظ: بالكلمات، والكلمات غير قادرة فى كثير من الأحوال على الإحاطة بالظاهرة الوجدانية فى سوائها ومرضها على حد سواء، وهنا يتعلق الأمر بوصاية المعاجم من جهة، وباختلاف اللغة المستعملة المعيشة لوصفه من جهة أخرى، ثم اختلافها عن اللغة الفصحى التى نصفها بها ونكتبها بها، وأيضا توجد إشكاله البدء من لغة أجنبية ثم اللجوء إلى الترجمة (3) معظم الوقت.

ثالثاً: إشكالات الباحث: فالباحث الأمين فى هذه الظاهرة يجد نفسه أنه هو اداة البحث فى كثير من الأحيان، خصوصا إذا كان مصدره الأساسى هو الممارسة الإكلينكية، وأنه يتبع المنهج الفينومينولوجى غالبا، فهو يبحث فى الوجدان بالوجدان، وجدانه شخصيا، الأمر الذى يزيد ألامور تحديا ، وثراء فى نفس الوقت

رابعأ: إشكالات التكررا: فإن بعض ما سوف يرد فى هذا الملف، إلا أنه سبق نشر أجزاء منه فى نشرات “الإنسان والتطور” اليومية ومع أنه قليل نسبيا، إلا أننى فضلت الاعتذار عنه، وإن كنت لا أرى بأسا فى ذلك، فضلا عن أننى اشك أن هناك متابع مثابر، يمكن أن يضجر من هذا التكرار أو يحتج عليه.

مقدمة:

أبدأ اليوم بالمقدمة الباكرة للأطروحة الأولى التى كانت بعنوان “عن‏ ‏ماهية‏ ‏الوجدان‏ ‏وتطوره: قراءة‏ ‏نقدية‏ ‏فى ‏ظاهرة‏ ‏نفسية‏”‏ حيث طرحت بعض ذلك بتفصيل أكبر قليلا:

تمهيد‏ ‏وتحديد‏:‏

حتى ‏يضع‏ ‏القارئ‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏فى ‏مكانها‏ ‏المناسب‏ ‏بحجمها‏ ‏الموضوعى، ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏أعلن‏ ‏ابتداء‏ ‏طبيعتها‏، ‏وحدودها‏، ‏وتصورى ‏لمتلقيها‏:

أولا‏: ‏إنها‏  ‏ليست‏ ‏معلومات‏ ‏مستقاة‏ ‏مباشرة‏ ‏من‏ ‏التراث‏ ‏العلمى ‏المنشور‏، ‏أو‏ ‏مترجمة‏ ‏من‏ ‏الشائع‏ ‏الخاص‏ ‏المقرر‏، ‏كما‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏مراجعة‏ ‏وتعداد‏ ‏ثم‏ ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏تناقش‏ ‏التراث‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏المراحل‏- ‏وخاصة‏ ‏التمهيدية‏- ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏تفعل‏ ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏موقف‏ ‏نقدى، ‏وبالتالى ‏فسوف‏ ‏لا‏ ‏أشغل‏ ‏نفسى ‏أو‏ ‏القارئ‏ ‏بمراجعات‏ ‏موسوعية إلا قليلا‏، ‏معتمدا‏ ‏على ‏بضعة‏ ‏مصادر‏ ‏شاملة‏، ‏كما‏ ‏أننى ‏لا‏ ‏ألزم‏ ‏نفسى ‏بما‏ ‏ألزم‏ ‏به‏ ‏طلبتى ‏ممن‏ ‏أشرف‏ ‏عليهم‏ ‏فى ‏رسائل‏ ‏الدكتوراه‏ ‏وغيرها‏ ‏من توثيق‏ بأبحاث وآراء سابقة ‏، ‏تاركا‏ ‏هذه‏ ‏المرحلة‏: ‏مرحلة‏ ‏التوثيق‏. ‏لهم‏ ‏أمانة‏ ‏وعهدا‏، ‏حيث‏ ‏أوصيتهم‏ ‏أن‏ ‏يقوموا‏ ‏بها‏ ‏فى ‏حياتى ‏أو‏ ‏بعد‏ ‏موتى، ‏إن‏ ‏كان‏ ‏لى ‏فى ‏عنقهم‏ ‏دين‏، ‏وبهذا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أنطلق‏ ‏الى ‏صلب‏ ‏الموضوع‏ ‏دون‏ ‏شعور‏ ‏بالتقصير‏، ‏أو‏ ‏اضطرار‏ ‏للمبالغة‏ ‏فى ‏التبرير‏ ‏النظرى ‏المعيق‏ ‏لاندفاع‏ ‏السياق‏.‏

ثانيا‏: ‏إنه‏ ‏ليس‏ ‏رأيا‏ ‏شخصيا‏ ‏أطرحه‏، ‏ولا‏ ‏استنباطا‏ ‏ذاتيا‏ ‏أعلنه‏، ‏إنما‏ ‏هى ‏رؤية‏ ‏متراكمة‏ ‏أعلنها‏، ‏بما‏ ‏تيسر‏ ‏لها‏ ‏من‏ ‏أسلوب‏: ‏وهى ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏تأمل‏ ‏أو‏ ‏نظرة‏ ‏أكشف‏ ‏بها‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏داخلى ‏أو‏ ‏حتى ‏داخل‏ ‏مرضاى، ‏وإنما‏ ‏هى ‏إعلان‏ ‏موضوعى ‏لمعايشة‏ ‏مكثفة‏ ‏استمرت‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ربع‏ ‏قرن‏ (‏وقت‏ ‏كتابة‏ ‏الجزء‏ ‏الأول‏ – ‏الآن‏ ‏قاربنا‏ ‏على ‏نصف‏ ‏قرن‏) ‏بما‏ ‏قد‏ ‏يسمح‏ ‏لى ‏(‏أو‏ ‏يلزمنى) ‏بأن‏ ‏أطرح‏ ‏نتائجها‏ ‏بما‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏معالم‏ ‏بيئتى، ‏وبنفس‏ ‏لغتى، ‏وما‏ ‏عايشته‏ ‏من‏ ‏تعرى ‏ناسى، ‏وذاتى، ‏فى ‏خبرتى ‏الاكلينيكية‏، ‏وخبرتى ‏النقد‏ ‏أدبية‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏‏، ‏حيث‏ ‏تعرفت‏ ‏وأتعرف‏ ‏أبدا‏ ‏على ‏ما‏ ‏يضئ‏ ‏جوانب‏ ‏جهلى، ‏مما‏ ‏لاأقبل‏ ‏معه‏ ‏وصاية‏ ‏مسبقة‏، ‏ولا‏ ‏أرفض‏ ‏معه‏ ‏تعلم‏ ‏دائم‏، ‏ومراجعة‏ ‏مؤلمة‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏.‏

ثالثا‏: ‏إن‏ ‏ما‏ ‏أقدمه‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏وسطا‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏الفرض‏ ‏العامل‏ ‏والنظرية‏، ‏ولكنه‏ ‏أبدا‏ ‏ليس‏ ‏يقينا‏ ‏منتهيا‏، ‏أو‏ ‏حقيقة‏ ‏مغلقة‏. ‏إن‏ ‏مرحلة‏ ‏أخرى ‏تالية‏ ‏لازمة‏، ‏وهى ‏التى ‏فى ‏عنق‏ ‏طلبتى ‏أيضا‏ ‏وأساسا‏، ‏مرحلة‏ ‏التحقيق‏، ‏ولكننى ‏أنبه‏ ‏ابتداء‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التحقيق‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يتحرى ‏المنهج‏ ‏الذى ‏سيختاره‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يظلم‏ ‏الفرض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏ولا‏ ‏يشوه‏ ‏المنهج‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى.‏

رابعا‏: ‏إنى ‏أكتب‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ‏للناس، كل الناس، وإن كنت أوجهها أساسا لأصحاب ‏‏المصلحة‏ ‏أساسا‏: ‏‏وكلمة‏ “‏الناس‏” ‏هنا‏ ‏هى ‏أقرب‏ ‏كلمة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تعبر‏ ‏عن‏ ‏توجهى ‏وطموحى ‏معا‏، ‏فلست‏ ‏ملتزما‏ ‏بتوجيه‏ ‏الحديث‏ ‏الى ‏متخصص‏، ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏المتخصص‏ ‏يتمثل‏ ‏لى ‏دائما‏ ‏على ‏رأس‏” ‏الحضور‏” ‏فأواجهه‏ ‏باحترام‏ ‏ومسئولية‏ … ‏لكن‏ ‏دون‏ ‏تردد‏. ‏وليس‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏أنى ‏سأتعمد‏ ‏تبسيطا‏ ‏يحمل‏ ‏خطورة‏ ‏التسطيح‏، ‏ولكننى ‏سأحاول‏ ‏أن‏ ‏أخاطب‏ “‏أصحاب‏ ‏المصلحة‏” ‏جميعا‏،  ‏محاولا‏ ‏تجاوز‏ ‏المحنة‏ ‏التى ‏نمر‏ ‏بها‏ ‏نتيجة‏ ‏فرط‏ ‏التخصص‏ ‏وقصور‏ ‏المنهج‏.‏

المشكلة‏… ‏والأسئلة‏:‏

موضوع‏ ‏هذه‏ ‏الدراسة‏ ” ‏الوجدان‏” ‏يمثل‏ ‏تحديا‏ ‏دائما‏، ‏وهو‏ ‏من‏ ‏أشكل‏ ‏ما‏ ‏صادفنى ‏فى ‏رحلتى ‏المعرفية‏، ‏ذلك‏ ‏أنه‏:‏

‏(1) ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏يحدد‏ ‏مسار‏ ‏حياتنا‏ ‏وأبعاد‏ ‏وجودنا‏ ‏وطبيعة‏ ‏تركيبنا

‏ (2) ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏من‏ ‏أكثر‏ ‏ما‏ ‏نتحدث‏ ‏فيه‏، ‏ونتحدث‏ ‏به‏ ‏فى ‏لغتنا‏ ‏اليومية‏، ‏فى ‏الحب‏ ‏والحرب‏، ‏بله‏ ‏الاقتصاد‏ ‏والسياسة‏ (‏مؤخرا‏ !!) ‏

‏(3) ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهو‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏أغمض‏ ‏النشاطات‏ ‏العقلية‏ ‏جميعا‏.‏

‏ ‏ونحن‏ ‏نلجأ‏ ‏للتعرف‏ ‏عليه‏ ‏بأحد‏ ‏سبيلين‏: ‏

الأول:‏ ‏أن‏ ‏ننطلق‏ ‏من‏ ‏اجتهادات‏ ‏لفظية‏ ‏توحى ‏لنا‏ ‏أننا‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏أشياء‏ ‏نعرفها‏، ‏ولم‏ ‏يبق‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ننطلق‏ ‏منها‏ أو ننطق بها (‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏الى ‏مراجعة‏) – ‏فمن‏ ‏ذا‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يعرف‏ “‏الحب‏”، ‏أو‏ ‏الحزن‏ (‏يسمى – للأسف حاليا – ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏بالإكتئاب‏) ‏أو‏ ‏الكره‏ ‏أو‏ ‏الغضب؟‏ ‏وهل‏ ‏يجرؤ‏ ‏أحد‏ ‏الناس‏ ‏أن‏ ‏ينكر‏ ‏دور‏ ‏الحب‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏حين‏ ‏يتعرض‏ ‏للتعرف‏ ‏على ‏احتمال‏ ‏عدم‏ ‏وجود‏ ‏شئ‏ ‏اسمه‏ ‏الحب‏ ‏أصلا؟‏ (‏هذا‏ ‏جائز‏ ‏كما‏ ‏سنرى ‏فى ‏تطور‏ ‏الدراسة‏)- ‏بل‏ ‏إن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏المختصين‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينزعج‏ (‏انزعاجا‏ ‏غير‏ ‏علمى) ‏اذا‏ ‏ما‏ ‏تعرض‏ ‏لإنكار‏ ‏وجود‏ ‏شئ‏ ‏اسمه‏ ‏العواطف‏ ‏أصلا‏ (‏وهذا‏ ‏جائز‏ ‏أيضا‏ ‏ووارد‏ ‏بعد‏ ‏قليل‏)‏

‏ ‏أما‏ ‏السبيل‏ ‏الثانى: ‏لمحاولة‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏الغامضة‏ ‏المترامية‏: ‏فهو‏ ‏الاختزال‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏تطبيق‏ ‏منهج‏ ‏محدود‏، ‏بحيث‏ ‏تصبح‏ ‏الظاهرة‏: ‏هى ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يدرسه‏ ‏منهج‏ ‏بذاته‏ ‏تصور‏ ‏الذى ‏انتقاه‏ ‏أنه‏ ‏الأنسب‏ ‏لذلك‏، ‏أما‏ ‏الظاهرة‏ ‏نفسها‏، ‏فيما‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏هذا‏ ‏المنهج‏ ‏المختار‏،  ‏فخير‏ ‏طريق‏ ‏للتخاص‏ ‏من‏ ‏إلحاحها‏ ‏هو‏ ‏إنكارها‏ (‏أو‏ ‏بتعبير‏ ‏أدق‏: ‏إنكار‏ ‏ما‏ “‏فاض‏” ‏عن‏ ‏المنهج‏ “‏منها‏”)،  ‏وهذا‏ ‏السبيل‏ ‏الاختزالى ‏هو‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏تنتهى ‏دراسة‏ ‏الانفعال‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏مجالات‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏إلى ‏عد‏ ‏النبض‏، ‏وكم‏ ‏العرق‏، ‏وسرعة‏ ‏رد‏ ‏الفعل‏… ‏الخ‏، ‏مبتعدين‏  ‏عن‏ ‏دراسة‏ ‏ظواهر‏ ‏تدرج‏ ‏مثلا تحت تعبير: “‏معايشة‏ ‏الألم‏” أ‏و ‏”‏نبض‏ ‏الحرمان‏” أ‏و ‏”‏إبداع‏ ‏الفرح‏”، ‏وينتهى ‏بنا‏ ‏الأمر‏: ‏بالتعود‏ ‏والإغفال‏ ‏إلى الاكتفاء‏ ‏برصد ‏”‏الوحدة‏ ‏القابلة‏ ‏للقياس‏”، ‏حتى ‏تضيع‏  ‏المعالم‏ ‏الكلية‏، ‏أو‏ ‏تترك‏ ‏لتخصصات‏ ‏أخرى، ‏أو‏ ‏مجالات‏ ‏أخرى ‏هى ‏إلى ‏الفن‏ ‏أقرب‏.‏

أعتقد‏ ‏أن‏ ‏الأوان‏ ‏قد‏ ‏آن‏ ‏لمواجهة‏ ‏المشكلة‏ ‏بكليتها‏ ‏مواجهة‏ ‏أمينة‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏قاصرة‏ ‏أو صعبة‏، ‏وفى ‏سبيل‏ ‏ذلك‏، ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نحاول‏ ‏الإجابة‏ ‏على ‏بعض‏ ‏الأسئلة‏ ‏التى ‏تطرح‏ ‏نفسها‏  ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏، ‏شريطة‏ ‏ألا‏ ‏نلزم‏ ‏أنفسنا‏- ‏تعسفا‏- ‏بالإجابة‏ ‏عليها‏ ‏جميعا‏.‏

‏1- ‏هل‏ ‏يوجد‏- ‏أصلا‏-‏ نشاط‏ ‏عقلى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يطلق‏ ‏عليه‏ ‏هذا‏ ‏الاسم‏: ‏الوجدان‏ ‏؟‏ ‏أو‏ ‏أى ‏من‏ ‏الأسماء‏ ‏القريبة‏: ‏العواطف؟‏ ‏الانفعال؟‏ …‏الخ‏.‏

‏2-‏هل‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏العقلى ‏نشاط‏ ‏واحد‏، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏عدة‏ ‏نشاطات‏ ‏تـستقبل‏ “‏معا‏” ‏على ‏سبيل‏ ‏الخطأ‏ ‏والتقريب‏. ‏

‏3-‏هل‏ ‏هذه‏ ‏النشاطات‏ ‏هى ‏هى ‏ذاتها‏ ‏فى ‏أطوار‏ ‏النمو‏ ‏المختلفة؟‏ ‏أم‏ ‏أنها‏ ‏تتغير‏ ‏وتتداخل‏ ‏وتترابط‏ ‏حتى ‏تصبح‏ ‏فى ‏كيفيتها‏ ‏الجديدة‏ ‏مختلفة‏ ‏عن‏ ‏سابق‏ ‏مرحلتها‏ ‏بدرجة‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏نطلق‏ ‏عليها‏ ‏نفس‏ ‏الاسم‏ ‏رغم‏ ‏اختلاف‏ ‏أطوار‏ ‏النمو؟

‏4-‏ كيف‏ ‏نطمئن‏ ‏إلى ‏حشر‏ ‏نشاط‏ ‏بهذا‏ ‏الغموض‏ ‏والتنوع‏ ‏داخل‏ ‏قالب‏ ‏لفظى ‏ساكن‏ ‏بالضرورة‏ (‏ولو‏ ‏مرحليا‏)، ‏وهو‏ ‏اللغة‏ ‏الرمزية؟‏ ‏وبالتالى‏:‏

‏5- ‏ما‏ ‏هى ‏وظيفة‏ ‏اللغة‏ ‏الرمزية‏ ‏وهى ‏تحتوى ‏هذا‏ ‏النشاط؟‏ ‏أهى ‏وظيفة‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏طبيعة‏ ‏الظاهرة‏  ‏أو‏ ‏مختلف‏ ‏أنواعها؟‏ ‏أم‏ ‏هى ‏وظيفة‏ ‏تعوق‏ ‏فهمنا‏ ‏لها‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏نقف‏ ‏منها‏ ‏موقفا‏ ‏نقديا‏ ‏متجددا‏.‏

أكتفى ‏هنا‏ ‏بطرح‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏الجديدة‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏أعد‏ ‏القارئ‏ ‏بالإجابة‏ ‏عليها‏ ‏جميعا‏، ‏حيث‏ ‏لا‏ ‏أستطيع‏، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏مهمتنا‏” ‏معا‏”، ‏ولكنى ‏أذكر‏ ‏القارئ‏ ‏بأن‏ ‏ثمة‏ ‏أسئلة‏”‏قديمة‏” ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏ننساها‏ ‏ونحن‏ ‏نواجه‏ ‏بهذا‏ ‏التحدى ، ‏ومن‏ ‏ذلك‏:‏

‏1- ‏هل‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ (‏الانفعال‏/ ‏العواطف‏/ ‏الوجدان‏) ‏هو‏ ‏نتاج‏ ‏مراكز‏ ‏بذاتها‏ ‏فى ‏المخ‏ ‏البشري؟‏  (‏كما‏ ‏حاول‏ ‏أن‏ ‏يؤكد‏ ‏ذلك‏ ‏التشريحيون‏ ‏الميكانيكيون‏)؟

‏2- ‏هل‏ ‏هو‏ ‏دافع‏ ‏حيوى، ‏له‏ ‏مظاهر‏ “‏بقائية‏”، ‏يسهم‏ ‏فى ‏الحفاظ‏ ‏على ‏الحياة‏ ‏عبر‏ ‏التطور؟‏ (‏كما‏ ‏قال‏ ‏داروين‏).‏

‏3- ‏هل‏ ‏هو‏ ‏غريزة‏ ‏مطورة‏، ‏لها‏ ‏قوة‏ ‏دافعية‏ ‏عامة‏، تتشكل إلى نوعيات مختلفة متعددة‏ ‏بحسب‏ ‏الموقف‏ ‏الخارجى ‏أو‏ ‏الداخلي؟

‏4- ‏هل‏ ‏هو‏ ‏طاقة‏ ‏كامنة‏ ‏جاهزة‏ ‏للبسط‏ Unfolding ‏اذا‏ ‏ما‏ ‏أطلق‏ ‏سراحها‏ ‏بالمثير‏ ‏المناسب‏ (‏المُطْلِقْ‏: Releaser) ….. ‏الخ‏

لا‏‏بد‏ ‏أن‏ ‏أكرر‏ ‏للقارئ‏ ‏ابتداء‏ ‏أن‏ ‏المغامرة‏ ‏التى ‏يصاحبنى ‏فى ‏محاولة‏ ‏اجتيازها‏ ‏هى ‏محفوفة‏  ‏بخطر‏ ‏اهتزاز‏ ‏القيم‏ ‏الثابتة‏، ‏حيث‏ ‏من‏ ‏مشاكل‏ ‏تناول‏ ‏هذا‏ ‏الموضوع‏ ‏بالدراسة‏، ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ألفاظه‏ ‏محملة‏ ‏بشحنات‏ ‏دفاعية‏ ‏تمنع‏ ‏البحث‏ ‏الحقيقى، ‏كما تحول دون تقبل التعرية والاقتحام الجديدين‏، ‏وأن‏ ‏كثيرا‏ ‏مما‏ ‏يندرج‏ ‏تحت‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالقيم‏، ‏والأخلاق‏، ‏بل‏ ‏والدين‏، ‏إنما‏ ‏يرتبط‏ ‏بهذه‏ ‏الظاهرة‏ (‏الانفعالية‏!!) ‏ارتباطا‏ ‏وثيقا‏ ‏يعوق‏ ‏الفهم‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏، ‏ولا‏ ‏أستثنى ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏يسمى “‏بالقيم‏ ‏العلمية‏” (الجاهزة) ‏التى ‏تحدد‏- ‏ضمنا‏- ‏اختيار‏ ‏منهج‏ ‏بحث‏ ‏دون‏ ‏سواه‏.‏

وما‏ ‏دمنا‏ ‏لا‏ ‏نملك‏ ‏إلا‏ ‏المحاولة‏، ‏فلا‏ ‏سبيل‏ ‏إلا‏ ‏المحاولة‏: ‏معا.

ونلتقى غدًا.

[1] – ‏مجلة‏ ‏الإنسان‏ ‏والتطور العدد‏ ‏الثامن‏ ‏عشر‏ – ‏المجلد‏ ‏الخامس‏ “عن‏ ‏ماهية‏ ‏الوجدان‏ ‏وتطوره”   ‏ص‏ 108 – 150 ( ‏سنة‏ 1984)‏.

[2] – نشرة 14-11-2007 “عن ماهية الوجدان وتطوره!”

   –  نشرة 17-11-2007 عن ماهية الوجدان وتطوره (2) كيف لا نحبس الظاهرة فى لفظها؟

 – نشرة 18-11-2007 ماهية الوجدان وتطوره (3) مقدمة: “عن الوجدان، والحزن

[3] –  مخاطر الترجمة البدء‏ ‏من‏ ‏العربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *