نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 5-5-2018
السنة الحادية عشرة
العدد: 3899
رواية “الواقعة”
ثلاثية المشى على الصراط “الجزء الأول”
هذا هو الفصل الثالث (يمامتان) ننشره على ثلاثة أيام: الجزء الأول اليوم، الجزء الثانى باكر ويليه الجزء الثالث والأخير بعد باكر، وطبعا أى جزء لا يقرأ منفصلا، ولا حتى الفصل بأكمله، لكن دعونا نرى كيف يصور الإبداع أعراض المرض وهى تتسحب وتكشف وتنشـِّطُ موقفا نقديا فى عز فشلها الذى لم يعلن تماما بعد.
موجز لما سبق، قد لا يفيد
…عبد السلام المشد (الشخصية الرئيسية فى هذه الرواية) هو رجل فى منتصف العمر أصيب فجأة بتغير جذرى فى رؤيته لنفسه وللعالم من حوله، واكتشف بـُعـْده عن هذا وذاك، وكأنه رحل فجأة إلى كوكبه الخاص، ثم إنه راح ينكر ما أصابه ويواصل ظاهر حياته وكأن شيئا لم يكن حتى اشتدت حالته وبدأ يختلط الخيال بالواقع، وهو يعيد النظر فى علاقاته حتى مع أقرب الأقربين، وخاصة زوجته، هو يتنكر لتاريخ هذه العلاقات ويشك فى صدقها وجدواها، والرواية تكشف أطوار تمادى المرض قبل أن يذهب لاستشارة أى طبيب نفسى، وبعده، وهو ما جرى فى الفصول التالية.
****
الجزء الأول: (تداعيات عبد السلام المشد)
…منذ ذلك اليوم وأنا فى أسوأ حال. أصبحت حذرا من لقاء زوجتى أو مبادلتها الحديث ولم أعد أطيق العيش تحت تهديد الاقتحام، وحتى دورى الآخر (وكأنى أمثل) على خشبة المسرح أصبح يرهقنى حتى كدت أُفـْضح فى بعض المواقف حين أتوقف عن التمثيل وأنا مازلت على خشبة المسرح. هذا الخلط بين التمثيل والفرجة هو الخطر بعينه: إذا ذهبت لأقابل المدير فى عمل جاد نسيت ما ذهبت إليه وجعلت أتفرج عليه، وأعجب من هذا الإنسان اللامع، وأحاول أن أتتبع حركة يده وهى تقترب من شعره دون أن تلمسه، أو حركة أصابعه وهى تمر على رباط عنقه، وأتساءل عن الوقت والجهد الذين أنفقهما لينتقى هذا الرباط النادر، وأكتشف السبب فى أن الناس تحب اقتناء الاشياء النادرة جدا مهما بهظت أثمانها حتى لا يشاركهم فى اقتنائها إلا القليلون. أفسر ذلك بأنهم عجزوا أن يكونوا من كوكب خاص مثلى، فعوضوا عجزهم بهذه الأشياء الخاصة. ضبطنى المدير غائبا عما يقوله، فعلا صوته:
- مالك يا أستاذ عبد السلام.
- تحت أمرك يا افندم.
- هل أنت معى أو أن هناك ما يشغلك؟.
- آسف، أنا مصاب بحمى لم يعرف الأطباء تشخيصها، وأنا محتار بها بينهم، والحالة تزداد سوءا.
(هذا من مزايا المرحلة، الكذب التلقائى الفلسفى، حلوة حكاية الفلسفى هذا).
- لا بأس عليك… ولكن هل الحرارة لا تزال مرتفعة؟.
- لا حرارة ولا يحزنون.
- ماذا تقول يا عبد السلام افندى؟. حمى دون حرارة.
- هذه هى المصيبة يا افندم.
(أين تذهب بى ألفاظى؟ كدت أصرح له بكل شئ. ولم يبق إلا أن أكلمه عن مسرحى الخاص وعن طاقية الإخفاء).
- لا عليك، إن الأمراض هذه الأيام تغيرت عن الأمراض زمان، حمى بدون حمى، وفقر دم بدون دم، وحساسية بلا إحساس. وكل هذا يسمونه اضطرابا فى الأعصاب. أنصحك أن تستشير أحد المختصين فى الأعصاب.
- أطال الله عمركم يا أفندم إن شاء الله، ربنا يبعد عنكم الشر
- ربنا يطمئننا عليك يا عبد السلام افندى، هموم الدنيا أكبر من احتمال الناس!!.
جاءت سليمة!!.
منذ ذلك اليوم وأنا أمضى أكثر حذرا، ولكن كلما تذكرت احتمال عودة الروح إلى زوجتى اختل توازنى، بالإضافة إلى الذهول الذى كان يصيبنى بين الحين والحين، رجع إلىّ الصداع بطريقة بشعة، ورجعت الوحوش والهوام تشاركنى مخدعى، والصقور تنهش جثتى، وزادت نوبات فزعى الليلى وصراخى المكتوم، وقد لاحظت أن زوجتى تستيقظ إثر هذه النوبات ولكنها لا تحاول إحراجى بأن تعلق على ما سمعت. ما أقسى هذا الشعور البشع، أن تخفى شيئا عن شخص يعلمه، أو يمكن أن يعلمه. هى السبب فى كل ما جدّّ على حالتى. كنت قد استرحت إلى وحدتى وفرجتى بعد فض الاشتباك بين أجزائى، ثم جاءت هى لتشعر بى. لماذا تشعر بى؟. إنى أعلم أنها غير قادرة على شئ. لا هى ولا غيرها، أحيانا أرتاح لاحتمال أن تكون هناك رائحة بشر على بعد آلاف الأميال، واحد فقط يكفى، لو سقطت لعبة التمثيل والفـرجة فقد يسمح وجود مثل هذا الشخص أن ألتقط أنفاسى قبل أن أجن. الوحدة محتملة إذا أتقنت الدور وأخذت تقفز بين الكواليس تسجل الملاحظات، وتندس وراء الستائر، تداعب الأطفال وتشاهد الممثلين وهم يحفظون أدوارهم فى حماس أقرب إلى تبلد الشعور. يمكنك أن تلعب أيضا بعض أدوار الكومبارس دون أن يميزك أحد. حل فنى رائع.
ماذا لو فشلتُ؟.
سوف أدفع حياتى ثمنا لهذا الفشل، سوف أرفض أن أفقد سيطرتى على الموقف بكل وسيلة، إن هذا الإغراء الذى تلوح لى به روح خطيبتى التى تخايلنى وراء ملامح زوجتى وهى نائمة هو الخطر الأكبر. سوف أقتلها قبل أن تهددنى بالفشل وتشككنى فى قدرتى على أن أستمر وحيدا فى لعبتى الجديدة الرائعة.
فى البدء قتلتْ زوجتى خطيبتى، واستولت على شكلها وجسدها، والآن علىّ أن أقتل أنا روحها التى تهدد أمن وحدتى الرائعة، ليس علىّ الآن إلا أن أذهب أبعد من متناول يدها، سوف أقتل احتياجى لها، سوف أخفى هذه الخطابات بين قمامة الذكريات، سوف أطرق كل الأبواب التى أتأكد مسبقا أنها لن تـُفتح لى، سوف أبحث عن بديل لهذا الخطر المحدق بى، على شرط أن أمسك كل الخيوط بيدى طول الوقت.
سوف أبدأ بآمال…
……
- صباح الخير يا آمال.
- أهلا عبد السلام.
من أين لى بهذه الشجاعة؟ آمال! هكذا بدون مدام، ولكنها هى أيضا قالت عبد السلام فقط، هل تنوى أن تخترقنى هى الآخرى؟. لا أكاد أذكر أن امرأة نادتنى باسمى منذ سنوات طوال، بل منذ الأبد، حتى أمى لم تنادنى باسمى أبدا، كنت “الولد” أو “المغدور” أو “اللى ينخفي” أو “اللى ينحش فى وسطه”، أما زوجتى – فبعد فترة الخطوبة التى تكاد تنمحى من ذاكرتى – لا أعرف بم تنادينى إن كانت تنادينى أصلا.
(إننى أهرب إليكِ يا آمال من روح خطيبتى التى تطل من وراء وجه زوجتى وهى نائمة، هل ستهدديننى أنت الأخرى بأن تطرقى كوكبى الخاص وتقلبين المسألة جدا؟. سوف لا أطمئن إلى وحدتى إلا إذا غامرت بفشلى معك، وساعتها سأتأكد من أن كوكبى هو لى وحدى، ومع ذلك فأنا أحبك.، ربما!)
- آمال.
- نعم.
- الله ينعم عليكى.
عيناها تلمعان. هل ترانى هذه المرأة كما أنا؟. هل ترانى كما لا أعرف نفسى؟. لماذا كل هذه الطمأنينة فى عينيها وهذه اللمعة السحرية من حولهما؟. هل هو إشعاع خاص بى وحدى أم أنها هى هكذا، أنا ألمحها تفيض على كل الناس، كل الناس من أول عم جمعه… حتى سيادة المدير، من هذه المرأة هى الأخرى؟. هل هى من فصيلة عم محفوظ السباك أو من قبيلة الأستاذ غريب؟. هى امرأة. إن أحاسيسى تجاهها مختلفة، لا أستطيع – أيضا – أن أستبعد منها الجنس، ولكنى لا أستطيع أن أقول إنها جنسية. أريد أن أقترب منها إلى آخر خلية فى جوفها، أريد أن أرانى طفلا فى أحشائها. هل هذا هو الجنس؟. ليس تماما، ليس هو الشئ القبيح الذى أتذكره إذ نتبادل قفشات المباهاة بالفحولة ولا هو ما يذكر فى النكات البذيئة. هو شئ آخر لم يسبق لى أن عرفته فى حياتى، ماذا لو قرأت هذه المرأة أفكارى؟. أكاد أحس أن الموقف لن يتغير، أكاد أموت غيظا من ترحيبها الجرئ غير المشروط، أحس أن شيئا مطلوبا منى، كيف أطلب أنا ما أريد؟. أنا لست فى محل بقالة أو صيدلية. أحس أننى أركب قاربا يتماوج فى نهرها العذب، أميل على جانب من جوانب القارب حتى تلمس شفتاى الماء، أعب منه مباشرة دون حاجة إلى أن أصطنع وعاء بكفى، ولكن الغريب أن بقية الناس حولى بالمكتب يشربون من هذا الماء العذب، ربما يشربون بطريقة أخرى غير هذه الطريقة الطفلية الخطرة، وهى لا تبخل على أحد مهما كانت الطريقة.
أفقت من كل هذا على صوتها العذب.
- خيرا يا أستاذ عبد السلام.
الحمد لله دخلت “أستاذ” فى الموضوع، وعلىّ أن أقفز إلى الشاطئ، إلى الأرض، وكأن لفظ “الأستاذ”، هو السقالة التى أخطو عليها من القارب. لو أسعفتنى قدماى لأخذت أجرى بعيدا عن النهر، وعن القارب، وحتى عن الشاطئ ذاته خوفا من الغرق.
- كنت أريد الاستفسار عن الملفات التى لم أستطع أن أكملها أمس.
- لا عليك، أنا أعرف ظروفك هذه الأيام وسوف أقوم باللازم.
يثور فى نفسى نمر مفترس. ماذا تعرفين عن ظروفى فى هذه الأيام؟. من أنت أيتها الحسناء المغرورة حتى تتصورى أنك تعرفين الظروف التى لا يعرفها أحد حتى أنا.
- أريد أن أراكِ بعد العمل…
هكذا… قلتـُها دون تفكير، وبصوت مثل طلقات المسدس الصامت.
- وأنا أيضا أريد أن أراك على انفراد..، إنتظرنى على الناصية.
- أنا أحبك.
- أنا أعرف.
- ولكنى أحب أخريات.
- أنا أحبك.
- سأنتظرك.
- سأحضر.
الجزء الثانى غدًا
(والجزء الثالث والأخير بعد غد)
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” ثلاثية المشى على الصراط: الجزء الأول. الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.