الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الفصل الأول الصحة النفسية (4) الحركة، والوعى، والعقل، والمعلومات

الفصل الأول الصحة النفسية (4) الحركة، والوعى، والعقل، والمعلومات

نشرة “الإنسان والتطور”

9-11-2010

السنة الرابعةmental health

العدد:  1166

 

الفصل الأول

الصحة النفسية (4)

الحركة، والوعى، والعقل، والمعلومات

(هوامش على متنٍ أوسط: تصحيح وإكمال)

مقدمة:

حين راجعت نشرة الثلاثاء الماضى، وجدت أن ما جاء بها من نقد “يوتوبيا الصحة النفسية فى عصر المعلومات”، لا يصلح أن ينفصل عن ما سأكمل به هذه النشرة، كما وجدت أن ما نشر يحتاج إلى تصحيح بسيط هنا وهناك، لكنها تصويبات هامة، وأحيانا ضرورية، فقررت آسفا أن أعيد نشر أغلب ما سبق نشره بعد التصحيح، مع هذه النشرة، لعل النقد والتصحيح يصلان مكتملان معا، مع أسفى للتكرار، لكننا اتفقنا أن “نؤلف هذا العمل الجديد معا”.

ملحوظة:

ما حفزنى أكثر على التكرار هو أنه لم يصلنى أى تعقيب على الجزء الأول حتى من تلاميذى وزملائى المضطريين لذلك، ربما نظرا لصعوبة التناول، أو لانتظار التكملة، فها هى مكتملة، وسوف نرى!!!

 (لم أكرر نشر المقدمة التى تؤرخ لتطور فكرى فى هذه المرحلة، إذ لم يحدث فيها تعديل، وسوف أبدأ بإعادة نشر ما احتاج إلى تصحيح أو تعديل)

……. خرجتُ بالانطباعات  التالية:

1-    إن الحديث عن الصحة النفسية لا لزوم له اصلا

2-    إن استمرار الحياة لأفراد نوع بذاته، ومن ثمًَّ النوع كله، هو دليل ضمنى على سلامة المسيرة، ومن ثم على توفر ما هو صحة نفسية (وغير نفسية)

3-    إن كل ما على الإنسان أن يفعله “ليبقى” (صحيحا) هو أن يحول دون أن تتشوه مسيرة تطوره أو تنحرف أو تجهض، وهذا فى ذاته هو أنجح الدعائم لما يصلح أن نسميه صحة، نفسية أو غير نفسية

4-    إن الوعى بأبعاد ما يجرى فى عالمنا الآن، ومحاولة استيعاب التأثير السلبى أو الإيجابى للمعرفة الجديدة، والأدوات الأحدث، والتقنية المتطورة،  يزيد من مسئوليتنا للعمل على الحيلولة دون انحراف مسيرة الجنس البشرى أو تشويهها أو إجهاضها

5-    إن أى إنجاز، أو تنظير، إنما تقاس إيجابيته على المدى الطويل بمدى إسهامه فى إنجاح بقاء النوع وتطوره

6-    إنه يمكن قراءة هذا المقال من جديد فى ضوء كل ذلك، جنبا إلى جنب مع التذكرة بحقى فى تطور فكرى من واقع الممارسة، ومن ثمَّ: النقد المناسب

. . . . . . .

وفيما يلى بعض ذلك، مع مراعاة أن ما سُوِّد  بالبنط الأسود الثقيل  هو ما سوف يأخذ نصيبا أكبر فى مناقشته فى الهوامش  :

نص المتن (مجلة شموع عدد يونيو 1997)

“… ماذا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يقال‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏العصر‏ ‏الجديدة‏، ‏لقد‏ ‏شبعنا‏ ‏حديثا‏ ‏عن‏ ‏مسائل‏ ‏التوتر‏، ‏والقلق‏، ‏والسرعة‏، ‏والضغوط‏، ‏كلام‏ ‏كثير‏ ‏معاد‏، ‏وصحيحٌ بعضه‏ (‏للأسف‏)، ‏لكنه‏ ‏أبدا‏ ‏لا‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏مستوى‏ ‏المواجهة‏ ‏التى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتحمل‏ ‏مسئوليتها‏ ‏أمام‏ ‏ضمائرنا‏ ‏باعتبارنا‏ ‏بشرا‏ ‏نعيش‏ ‏معا‏ ‏سنة‏ 1997، ‏ومطلوب‏ ‏منا‏ ‏الآن‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أى‏ ‏وقت‏ ‏مضى‏ ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏فى‏ ‏صناعة‏ ‏التاريخ‏ ‏بوعى ‏قادر‏ ‏وإلا‏ ….‏”

السؤال‏ ‏الصدمة‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يغيب‏ ‏عنا‏ ‏أبدا‏ ‏يقول‏:‏

هل‏ ‏الإنسان‏ ‏معرض‏ ‏للانقراض؟

والاجابة‏ ‏المسئولة‏ ‏هى:‏نعم‏ !!‏

هذه‏ ‏هى ‏الصيحة‏ ‏الحقيقية‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏موضوع‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏، ‏وهى ‏الصيحة‏ ‏المختصرة‏ ‏والخطيرة‏ ‏فى ‏آن‏، ‏وهى ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تساهم‏ ‏فى ‏المسيرة‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ – ‏وقد‏ ‏تعمدت‏ ‏أن‏ ‏أستعمل‏ ‏لفظ‏ ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏وليس‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏، ‏لأن‏ ‏مسألة‏ ‏صحة‏ ‏العقل‏ ‏هى ‏محور‏ ‏الوجود‏ ‏البشري‏، ‏والعقل‏ ‏ليس‏ ‏عضوا‏ ‏جسديا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏وعى ‏كلى‏، ‏صحيح‏ ‏أن‏ ‏محور‏ ‏نشاطه‏ ‏هو‏ ‏الدماغ‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏كلية‏ ‏حضوره‏ ‏تشمل‏ ‏كل‏ ‏الجسد‏، ‏وتمتد‏ ‏إلى ‏دوائر‏ ‏التواصل‏ ‏حوله‏، ‏أقول‏ ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏وقد‏ ‏غمره‏ ‏فيضان‏ ‏المعلومات‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏صياغة‏ ‏وجوده‏ ‏من‏ ‏الأساس‏.‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏مسألة‏ ‏توازن‏ ‏داخلي‏، ‏وتكيف‏ ‏خارجى. ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏إنجاز‏ ‏عمل‏ ‏أو‏ ‏تحقيق‏ ‏منفعه‏.‏ لم‏ ‏تعد‏ ‏المسألة‏ ‏شكوى ‏من‏ ‏ألم‏ ‏نفسى‏ ‏أو‏ ‏قلة‏ ‏فى ‏راحة‏ ‏البال‏، ‏تصل‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏الرخاوة‏ ‏المسماة‏ ‏الرفاهية‏.‏

الهامش (1)

الإشارة هنا إلى أن العقل ليس عضوا جسديا، بقدر ما هو وعى كلى تذكرنا بأطروحة دينيث العظيمة عن أنواع العقول، والتى سبق أن ناقشتها هنا فى النشرات، وأنا أؤكد أنه يعنى بكلمة “العقل”، مستوى من مستويات “البرنامج البقائى الذى أبقى الأنواع الواحد تلو اللآخر، وكلها مستويات كامنة فينا حتى الآن، وهى التى يطلق الكاتب عليها عادة “منظومة مستوى الوعى الآخر”.

الهامش (2)

الإشارة إلى أن  نشاط هذا العقل – بهذا المعنى- برغم أن محور نشاطه الدماغ “.. ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏كلية‏ ‏حضوره‏ ‏تشمل‏ ‏كل‏ ‏الجسد‏ ‏وتمتد‏ ‏إلى ‏دوائر‏ ‏التواصل‏ ‏حوله‏”، هذا التعبير الذى لا أذكر كيف كتبته هكذا، يجعل مفهوم كلمة العقل، وبالتالى “الصحة العقلية” صالح هو هو للأمّى الذى لا يفك الخط، فى عصر المعلومات، بل وللنمل والنحل والصراير (من منطلق أنواع العقول: للبقاء)، وهو تعبير لا يُدخل الجسد فقط فى تكوين هذا العقل/الوعى، بل يضيف إليه “امتداد دوائر التواصل حوله”

إن هذا الاتساع فى مفهوم “العقل” هو بعض ما تعلمته من العلاج الجمعى فى قصر العينى، وهو ما دفعنى إلى أن أعتبر أن ثمَّ وعيا جمعيا Group consciousness يتشكل وهو الذى يجمعنا، ويصّاعد بنا إلى الوعى الجماعى Collective consciousness فأعلى فأعلى، وأعتقد أن نفس هذه العملية الجمعية التى تخلق منها هذا الوعى الجمعى، فالجماعى، قد جرت على مستويات مختلفة، وبآليات مختلفة، لدى كل الأنواع، حتى وصلت إلى مرحلة الإنسان فتميزت نفس العملية بدرجة من “الدراية” Awareness وهى ما أسميته أحيانا “الوعى بالوعى” لكن للأسف: إن أيا من الإرادة أو الدراية (الوعى بالوعى) لم تكن دائما فى صالح بقاء هذا النوع البشرى، بمعنى أنه لم يثبت  باستمرار أن الإنسان المعاصر قد أحسن – أو هو يحسن–  استعمال ما وصل إليه بكفاءة أكثر من أسلافه.

 النص (بقية المقدمة 1997)

“……الإشكالة‏ ‏الحديثة‏ ‏التى ‏تواجه‏ ‏إنسان‏ ‏العصر‏ ‏لتحقيق‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏هى ‏إشكالة‏ ‏جوهرية‏ ‏تبدأ‏ ‏بحاجته‏ ‏لتعريف‏ ‏معنى ‏لوجود‏ ‏الفرد‏ ‏البشرى ‏فى ‏الظروف‏ ‏الجديدة‏، ‏وكذلك‏ ‏للتعرف على هدفٍ‏ ‏لاستمراره‏، ‏وسبل‏ ‏بقائه‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏أصبح‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏شكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الوعى‏، ‏وشكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏العلاقات‏، ‏وشكل‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الانتاج‏،

 ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏بمقياس‏ ‏الذى ‏يجرى ‏الآن‏ ‏إنما‏ ‏تتحقق‏:‏  ‏ليس‏ ‏بدرجة‏ ‏التوازن‏‏، ‏وإنما‏ ‏بدرجة‏ ‏التناسق‏ ‏الحركى ‏المناسب‏،‏  وهى ‏لا‏ ‏تتحقق‏ ‏بالخلو‏ ‏من‏ ‏الأعراض‏، ‏وإنما‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏استيعاب‏ ‏معنى ‏الأعراض‏ (خاصة إذا ظهرت فى صورة ما يسمى المرض)(1)لإعادة‏ ‏تشكيلها‏ ‏فى ‏قوة‏ ‏دفع‏ ‏جديدة‏.‏  وهى‏ ‏لا‏ ‏تتحقق‏ ‏بالسكون‏ ‏الآمن‏، ‏وإنما‏ ‏بالحركة‏ ‏المتعددة‏ ‏التوجه‏. ‏

الهامش (3)

أعتقد أن المقصود هو “التعرف على”، وليس “تعريف” معنى لوجود الفرد البشرى، ومن ثم احتمال تحديد هدف لوجوده بتجاوز هدف البقاء التلقائى، الذى تم العبث به بالخطأ أو بالصدفة، فأصبحت مهمة العقل البشرى مع هذا الاحتمال، هى :

  • تجنب الاختزال والتشويه (من خلال وصاية  العقل الظاهر منفردا)
  • والقدرة على حسابات أعمق من الصدفة
  • الإلمام بدراية أدق بمسار نوعه البشرى، وليس فقط، بمتطلبات “الفرد الآنِى” حتى لو كان ذلك تحت عنوان ما يسمى “الصحة النفسية”.

الهامش (4)

 التفرقة بين التوازن، وبين التناسق الحركى المناسب، بدت لى أثناء هذه القراءة تفرقة ضرورية وجوهرية، ذلك أن التوازن قد يحمل معنى الثبات والتعادل، وهو ما يقابل كلمة Homeostasis  بالإنجليزية، وقد اعتدنا فيما مضى أن نعلى من شأن هذه الظاهرة كأنها هى المطلوبة دائما لحفظ حيوية الوجود البيولوجى واستمراره، لكن بعد انتمائى إلى الإيقاع الحيوى، تبينت، مدعما بنظريات كثيرة، أن هذا الهميوستازس لا ينبغى أن يكون غاية المراد، وأن دوره يكون أوضح فى تحقيق التوازن فى “طور الملء” Filling  من مراحل نبضة الإيقاع الحيوى، فعلينا ألا نفرح كثيرا بهذا الثبات التوازنى (الهميوستازس)  إلا تحضيرا لما يَعِد به ويعدّ له من “بسط” Unfolding تشكيلى مناسب وهو ما أسميناه مؤقتا: “التناسب الحركى المناسب”، إن إضافة لفظ الحركى، ينبهنا إلى حركية النقلة المحتملة، لما جاء تاليا: “إعادة التشكيل” وهو ما لا يتنافى مع التناسب الحركى، بل يتداخل معه، وقد لاحظت فى كثير من المحكات التى وردت فى هذه الأطروحة تركيزا بدرجات مختلفة على حتم الحركية كأساس للتوازن النشط (كما سيرد حالا).

النص:

هذه‏ ‏مقدمة‏ ‏لابد‏ ‏بعدها‏ ‏من‏ ‏بعض‏ ‏التفصيل‏ ‏أو‏ ‏التحديد‏، ‏وإن‏ ‏كنت‏ ‏أشعر‏ ‏أن‏ ‏المقال‏ ‏كله‏ ‏لا‏ ‏يعدو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مقدمة‏.‏ وفيما‏ ‏يلى ‏رؤوس‏ ‏مواضيع‏ ‏تمثل‏ ‏المواقف‏، ‏والقيم‏ ‏والقياسات‏ ‏التى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نعيد‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏الصحة‏ ‏العقلية‏ ‏لإنسان‏ ‏عصر‏ ‏المعلومات‏.‏

أولا‏:

‏يكون‏ ‏الانسان‏  ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يوفق‏ ‏بين‏ ‏تلقى ‏المعلومات‏ ‏على ‏وفرتها‏ ‏الآن‏ ‏وبين‏ ‏تأجيل‏ ‏القفز‏ ‏إلى ‏تسطيح‏ ‏العلاقات‏ ‏بينها‏، ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏مناسبا‏ ‏أن‏ ‏نفكر‏ ‏بالطريقة‏ ‏الخطية‏ ‏السببية‏: هذا ‏السبب‏ (‏تحديدا‏) ‏يؤدى ‏إلى تلك ‏النتيجة‏ ‏(تماما) – ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يحقق‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏لأى وجود بشرى مناسب‏، ‏وإنما‏ ‏تتحقق‏ ‏الصحة‏ ‏الآن‏ ‏بالقدرة‏ ‏على ‏تلقى ‏عشرات‏ ‏المتغيرات‏ ‏المرتبطة‏ ‏بعشرات‏ ‏النتائج‏، ‏ثم‏ ‏يتحمل‏ ‏الإنسان‏ ‏العادى – ‏بقدراته‏ ‏الجديدة‏ – ضرورة ‏استيعاب‏ ‏حركية‏ ‏هذه‏ ‏العلاقات‏ ‏معا‏،  وهى العلاقات ‏اللازمة‏ لاستمرار‏ ‏الفعل‏ ‏المنتج‏ ‏اليومى ‏البسيط‏!‏

الهامش (5)

 ليس المقصود هنا بتعبير “استيعاب حركية هذه العلاقات أية درجة من الوعى الظاهر، أو العمل العقلى بالمعنى الشائع، وإنما المقصود هو التمثل والتفعيل الذى يظهر ناتجه إمبريقيا فى “الفعل المنتج اليومى البسيط”، وهو قريب مما أشرنا إليه فى بداية هذا الفصل: أن “نعمل”، و”نحب” و”نرضى”، ثم إن التنبيه هنا على رفض الربط السببى الخطى المباشر، يذكرنا أيضا بالنقلة الجارية من خلال استيعاب القوانين الأحدث للتربيطات والتفاعل فى العلوم الكمويةQuantum  الحديثة (الرياضة والطبيعة)، وأيضا فى العلوم التركيبية الأحدث (علم الشواش وعلم التركيبية Chaos & Complexity))

النص ثانيا‏:

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتعلم‏ ‏أن‏ ‏يحب‏ ‏نفسه‏ ‏بالمعنى ‏الجديد‏ ‏للحب‏، ‏الذى ‏يشمل‏ ‏الوعى ‏والمسئولية‏، ‏وأن‏ ‏يصب‏ ‏هذا‏ ‏الحب‏ ‏لنفسه‏ ‏فى ‏خير‏ ‏الناس‏ ‏دون‏ ‏إدعاء‏ ‏فروسية‏ ‏العطاء‏ ‏أو‏ ‏زعم‏ ‏التضحية‏، ‏إنه‏ ‏الذكاء‏ ‏الجديد‏ ‏الذى ‏يجعل‏ ‏المصلحة‏ ‏البادئة‏ ‏بالذات‏ ‏هى ‏هى ‏المصلحة‏ ‏التى ‏تعود‏ ‏على ‏المجموع‏.‏

 الهامش (6)

 بل هى هى المصلحة التى تعود على النوع.

التفرقة بين حب النفس Self Love  وبين ما يسمى الأنانية Selfishness هى تفرقة هامة، وأيضا تحديد المعنى الأنضج لما هو “حب” يعطى لمقولة فرويد الأساسية التى بدأنا بها هذا الفرض قيمة عملية وموضوعية أكبر، الحب بمعنى الوعى والمسئولية، هو الذى يتجاوز الاحتياج حتى لو كان متبادلا، ووصف هذا التعرف على هذا المعنى للحب بصفة “الجديد”، قد يعطى إيضاحا مناسبا لوصف الذكاء بأنه أيضا “الذكاء الجديد“، مرة أخرى أنبه إلى أن هذا ليس تحديثا أخلاقيا بقدر ما هو أقرب إلى تخليق برامج بقائية أكثر كفاءة وتناسبا مع مرحلة الإنسان المعاصر إن كان لها أن تواصل إيجابياتها أكثر كفاءة وأنجح تطورا.

لعلنا نلاحظ أيضا أن ماورد فى هذا المتن لم يتوقف طويلا على، كما لم يتناول عميقا، صعوبة وطبيعة العلاقات البشرية ، التى ربما كان الحب الذى قصد إليه فرويد من أهمها، لكنه ليس كلها. إن صعوبة هذه العلاقات، جنبا إلى جنب مع الوعى بالوعى، ربما هى ما تميز الكائن البشرى أكثر من أى شىء آخر، ولعل كتابى الذى نشر على مدى سنة وثلاثة أشهر (من: 9-6-2009 إلى 15-9-2010) بعنوان: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى“، الكتاب الثانى، فقه العلاقات البشرية، قد تناول هذا البعد ليس فقط بمعنى الحب الذى أشار إليه فرويد، ولا هو اكتفى بمعنى “التكيف” الذى اعتبرناه أحد شروط أو محكات الصحة النفسية، ولكنه تناوله بكل أبعاده التى شغلت فى عشرات النشرات هنا خلال أكثر من (17) شهر.

لا توجد صحة نفسية لكائن فرد فى حجرة مغلقة، أو نفس مصمتة، ولا توجد علاقات بشرية تعلى من شأن وجدان على حساب آخر، وإنما الصحة النفسية هى القدرة على قبول كل ما خلقنا به، ثم استيعابه ليتوجه إلى ما خلق له، وهو كل ما سبق وما سيأتى بعد.

النص ثالثا‏:

يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏مرونة‏ ‏الحركة‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏الناس‏، ‏وبينه‏ ‏وبين‏ ‏الموضوع‏، ‏وليس‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يقترب‏ ‏من‏ ‏الآخرين‏ ‏بزعم‏ ‏التفانى ‏فيهم‏ ‏أو‏ ‏حبهم‏ ‏أو‏ ‏الحاجة‏ ‏إليهم‏، ‏ومرونة‏ ‏الحركة‏ ‏تفرضها‏ ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏ ‏الحديثة‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏الإنسان‏ ‏أن‏ ‏يحيط‏ ‏بهذه‏ ‏المعلومات‏ – ‏باعتبارها‏ ‏مثيرات‏ ‏موضوعية‏ – ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‘‏المرونة‏’ (التشكيلية) ‏وليس (مجرد)‏ ‏الاقتراب‏ ‏هى ‏القيمة‏ ‏التى ‏تحدد‏ ‏نوع‏ ‏الإدراك‏ ‏وحيوية‏ ‏المسافة‏.‏

 الهامش (7)

أعتقد أن من المناسب هنا أن نضيف إلى أن المسألة ليست مسألة مرونة بسيطة فى مقابل تصلب أو جمود، بقدر ما هى إشارة إلى حركية تشكيلية فى مقابل سكون أو انغلاق،  وقد سبق أن اشرت فى نشرة  سابقة أن الفطرة التى هى جُماع برامج البقاء هى حركة أكثر منها “شيئا محددا”: “… ليست “شيئا محددا” أو “مفهوما ساكنا”………”… هى “حركة فى اتجاه…”، (13 يناير 2008) وتشمل : 

  • الحركة  “الذاهبة العائدة – الدخول الخروج“، (To-and-Fro & In-and-out Movement)  
  • الحركة “الاستقطابية التكاملية  المحيطة“(Containment Polarization Integrative Movement)
  • الحركة  “الإيقاعية الحيوى” (Biorhythmic  Movement)
  • الحركة “الجدلية التكاملية” Integrative Synthetic Movement

(وهو ما سنعود إليه تفصيلا فى ثنايا هذا الكتاب غالبا)

إن الحديث عن “تناغم المسافة” أيضا (وهو تعبير لا أعرف كيف صيغ منى) ربما هو تأكيدا لتداخل أنواع الحركة المختلفة، وكل هذه الحركات تجرى أيضا ببرامج تلقائية عند سائر الأحياء، وأعتقد أنها هى التى حفظت البقاء لها جميعا، والوعى بها من جانب الإنسان ليس له فضل إنشائها بل عليه مسئولية الحفاظ عليها إن أمكنه فك شفرتها، فإن لم يتمكن من ذلك فلا أقل من ألا يحول دون تفعيلها إلى ما تعد به.

النص رابعا:

…… ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏المساحة‏ ‏التى ‏يتحرك‏ ‏فيها‏، ‏وليس‏ ‏بقدر‏ ‏الإنجاز‏ ‏الذى ‏يحققه‏ ‏منفصلا‏ ‏عنه‏، ‏وهذه‏ ‏المساحة‏ ‏متصلة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏بمرونة‏ ‏الحركة‏، ‏ومتصلة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏بتحمل‏ ‏وفرة‏ ‏المعلومات‏ ‏لدرجة‏ ‏تسمح‏ ‏بالحركة‏ ‏منها‏ ‏وبها‏، ‏لا‏ ‏بالغرق‏ ‏تحتها‏ ‏أو‏ ‏بإنكارها‏.‏ وهذا‏ ‏كله‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تغيير‏ ‏جذرى ‏فى ‏طرق‏ ‏التعليم‏، ‏وتنمية‏ ‏الخيال‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏اليومي‏، ‏وتنظيم‏ ‏العلاقات‏ ‏بشكل‏ ‏حيوى ‏متجدد‏.‏

الهامش (8)

مرونة الحركة، وحركية المسافة، يحتاجان إلى مساحة، والمساحة ليست فقط مكانا بل هى زمن مكانىّ متسع، ومتنفس قادر على النتح والتلقى، وأعتقد أن التأكيد المتكرر على هذه الأبعاد يؤكد ضرورة أن تظل الحركة، والمسافة، والمساحة وما إليها تربطنا باستمرار بالإيقاع الحيوى كأساس لأى صحة نفسية (لا تحتاج أن تسمى كذلك).

النص خامسا:

…… يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ مادام قادرا‏ ‏على ‏مواجهة‏ ‏قضايا‏ ‏التلوث‏، ‏والحديث‏ ‏الجارى ‏الآن‏ عن التلوث ‏يغلب‏ ‏عليه‏ ‏مفهوم‏ ‏تلوث‏ ‏البيئة‏، ‏بالمخلفات‏، ‏والعادم‏ ‏وما‏ ‏شابه‏، ‏ولا‏ ‏يجرى ‏الحديث‏ ‏بقدر‏ ‏مناسب‏ ‏أو‏ ‏كاف‏ ‏عن‏ ‏تلوث‏ ‏الوعي‏، ‏مع‏ ‏أن‏ ‏ملوثات‏ ‏الوعى ‏الحديث‏ ‏كثيرة‏، ‏ومرعبة‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏أية ‏معلومة‏ ‏تقتصر‏ ‏على ‏مخاطبة‏ ‏مستوى ‏من‏ ‏الوعى ‏دون‏ ‏الآخر‏، ‏هى ‏معلومة‏ ‏كالجسم‏ ‏الغريب‏، ‏وهى ‏ملوثة‏ ‏لأنها‏ ‏معوقة‏ ‏للتناغم‏، ‏أو‏ ‏مخدرة‏ ‏وليست‏ ‏مفجِّرة، (لإعادة التشكيل)‏.‏

الهامش (9)

هذا الاستعمال الخاص لمعنى التلوث يقربنا من الانتباه إلى أن إطلاق حركية التناغم فى نبضات الإيقاع الحيوى، يتعارض جذريا مع حشر هذه النغمات النشاز منفصلة عن كلية اللحن، والتركيز هنا على عمل مستويات الوعى معا، دون التسليم لغلبة مستوى على الآخر، مهما كان هذا المستوى هو الأحدث، أو مهما سمى باسم محترم له سمعة طيبة مثل لفظ “العقل“، أقول إن هذا المعنى للتلوث يؤكد أن غلبة مستوى ما حتى لو سمى “عقلا” إنما يحمل مخاطر الاغتراب فى آليات الدفاع المعقلنة، أما غلبة العقول الأقدم فهو يعرضنا لبدائية  النكوص، أو حتى لعشوائية الجنون ونشاز البدائية.

النص سادسا‏: ‏

يكون‏ ‏الإنسان‏  ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏حركته‏ ‏فى ‘‏الزمن‏’ ‏بالمعنى ‏الآنى ‏والموضوعى ‏والممتد‏ ‘‏معا‏’، ‏والامتداد‏ ‏هنا‏ ‏ليس‏ ‏بمعنى ‏التأجيل‏ ‏الآمـِل‏، ‏أو‏ ‏الخيال‏ ‏المحتمل‏، ‏وإنما‏ ‏بمعنى ‏حرية‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏ذهابا‏ ‏وجيئة‏، ‏وعلى ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏، ‏وهذه‏ ‏قيمة‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏خاصة‏ ‏بموجة‏ ‏حديثة‏ ‏فى ‏الأدب‏ ‏أو‏ ‏الإبداع‏ ‏وإنما‏ ‏هى ‏قيمة‏ ‏تصف‏ – ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تصف‏ – ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏الذى ‏أصبح‏ ‏قادرا‏ ‏على ‏أن‏ ‏يرصد‏ ‏ويتحرك‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏الأبعد‏، ‏فيرحل‏ ‏إلى ‏القمر‏ ‏ويخاطب‏ ‏المريخ‏ ‏ويرصد‏ ‏المشتريى، ‏وبالتالى ‏فلابد‏ ‏أن‏ ‏يتناسب‏ ‏ذلك‏ – ‏ ‏مع‏ ‏قدرة‏ ‏مماثلة‏ ‏للتحرك‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى (‏دون‏ ‏حاجة إلى تحليل‏ ‏تفسيرى ‏أو‏ ‏فك‏ ‏عقلانى ‏للرموز‏) ‏وهذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى ‏هى ‏البعد‏ ‏العرضى ‏لطبقات‏ ‏الزمن‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏ماض‏ ‏وحاضر‏ ‏ومستقبل‏، ‏ثم‏ ‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏بعد‏ ‏المسافة‏ ‏والمساحة‏.‏

الهامش (10)

تحتاج هذه الفقرة إلى هامش قد يصل إلى كتاب بأكمله، علما بأن ما جاء بها من خطوط عريضه، قد وصلنى أساسا من العلاج الجمعى (فى قصر العينى خاصة) من خلال نقلات الوعى “معا”، مع مجموعات من المرضى متوسطى التعليم كما ذكرت، بل إن كثيرا من أفراد المجموعة  “لا يفكون  الخط”.

مسألة بعد الزمن كبعد جوهرى للوجود، وعلاقتنا به، وامتلاكنا إياه، وتحركنا فيه، ليست مسألة رياضية بحته، ولا هى فلسفية أصلا، ولكنها واقع ماثل، ومسئولية متجددة، دون أن تسمى كذلك، وقد تناولت هذا البعد من قديم فى مناقشتى ندوة جمعية الطب النفسى التطورى لكتاب “حدس اللحظة” لجاستون بشلار (الإنسان والتطور “إشكالة الزمن” عدد ابريل – سبتمبر 1988سنة ثم عدت وتناولته فى نقد حديث بعنوان “تشكيل الزمن وإحياء التاريخ، إطلالة من وحى إبداع محفوظ” (وهو قيد النشر فى العدد الثالث من دورية نقد نجيب محفوظ 2011، وكلاهما متاح بالموقع (العدد الأول ديسمبر2008، العدد الثانى ديسمبر 2009)، وقد أشرت فى عملى الباكر هذا، “إشكالة الزمن“، إلى دور العلاج الجمعى فى تعرفى على اللحظة تلو اللحظة، وحركتنا فيها من خلال “الهنا والآن”، طول الوقت، مما قد أعود إليه فى فصل الزمن فى هذا العمل. أكتفى هنا بتعقيبات محدودة عن هذا البعد برغم صعوبة التنظير فيه، إلا أنه بعد حياتى عادى يتشكل فيه وبه الإنسان العادى، ومن ثم فحين يتحدث المتن عن”‏ ‏حرية‏ ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الزمن‏ ‏ذهابا‏ ‏وجيئة‏، ‏وعلى ‏مستويات‏ ‏مختلفة‏”، لا يقصد به إلا ما يجرى فعلا فى النوم والحلم كذلك اليقظة، والمقصود هنا بالحرية، يتعلق ببعدين سبق الحديث عنهما حالا وهما بعد “الحركة”، و “المساحة”، أساسا.

كل ذلك يجعلنا نراجع النص الذى جاء فى المتن، فنتحفظ على قياس حركية الزمن فى الإيقاع اليومى العادى، بقدرة الإنسان المعاصر “أن‏ ‏يرصد‏ ‏ويتحرك‏ ‏فى ‏الكون‏ ‏الأبعد ‏فيرحل‏ ‏إلى ‏القمر‏ ‏ويخاطب‏ ‏المريخ‏ ‏ويرصد‏ ‏المشتري‏..إلخ” ، أقول إنه قد آن الأوان أن أتراجع عن هذا القياس، لأن حرية التحرك فى الزمن وبالزمن، ليس لها علاقة مباشرة أو قياسية بهذه الإنجازات التقنية المهمة، فى نفس الوقت أؤكد على فرحتى بما جاء فى المتن تأكيدا لارتباط الصحة النفسية بالقدرة على التحرك ‏ ‏”…. فى ‏طبقات‏ ‏الوعى (‏دون‏ ‏حاجة إلى تحليل‏ ‏تفسيرى ‏أو‏ ‏فك‏ ‏عقلانى ‏للرموز‏)، ‏إن هذه‏ ‏الحركة‏ ‏فى ‏طبقات‏ ‏الوعى ‏هى ‏البعد‏ ‏العرضى ‏لطبقات‏ ‏الزمن‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نتصور‏ ‏أنها‏ ‏ماض‏ ‏وحاضر‏ ‏ومستقبل‏، ‏ثم‏ ‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏بعد‏ ‏المسافة‏ ‏والمساحة‏” هذه الجملة التى وردت حدسا قد تكون مفتاحا لإدراك معنى الزمن/المكان، ومعنى الزمن الحركة، فى علاقة هذا وذاك بمستويات الوعى (التاريخ الحاضر بيولوجيا)، وأعتقد أن تعبير “..‏ها‏ ‏نحن‏ ‏نستقبلها‏ ‏جميعا‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال”  إنما يشير إلى فضل الممارسة “هنا والأن” فى الكشف عن هذا الحضور للزمن ، وعلاقة الصحة النفسية به.

النص سابعا:‏  

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يصبح‏ ‏الجنون‏ ‏جزءا‏ ‏من‏ ‏وجوده‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏ينفصل‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏الوجود‏ ‏ليقوده‏ ‏إلى ‏التناثر‏ ‏أو‏ ‏التدهور‏، ‏حين‏ ‏يحدث‏ ‏ذلك‏ ‏نكتمل‏ ‏به‏ – ‏بجنوننا‏ – ‏فى ‏نفس‏ ‏اللحظة‏  ‏التى ‏ننتصر‏ ‏فيها‏ ‏عليه‏، ‏وهكذا‏ ‏فإن‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏الصحيح‏ ‏إنما‏ ‏يكون‏ ‏صحيحا‏ ‏ليس‏ ‏بفرط‏ ‏التعقل‏ ‏وإحكام‏ ‏ضبط‏ ‏الداخل‏، ‏وإنما‏ ‏بحجم‏ ‏التكامل‏ ‏والسماح‏ ‏والتناوب‏ ‏المرن‏ ‏والامتداد‏ ‏المتعدد

الهامش (11)

بدأت هذه الفكرة تلوح لى باكرا بغموض عام، ثم تبلورت فى عمل سابق هو “جدلية الجنون والإبداع“، والذى نشر باكرا فى مجلة فصول “المجلد الثالث، العدد الرابع 1986 ثم أعيد نشره وتحديثه فى كتاب“حركية الوجود وتجليات الإبداع: المجلس الاعلى للثقافة 2007) ـ والأرجح أنها ستكون موضوع نشرة الغد، وربما تمتد إلى الأسبوع القادم أو بعده، فقط أنبه الآن إلى أن استعمال لفظ الجنون هنا باعتباره “جزءا من وجود (الإنسان)، وفى نفس الوقت لا ينفصل عن كل الوجود” هو مفتاح التعامل مع هذا اللفظ (الجنون) بحضوره الحيوى الحركى، أكثر من حضوره المرضى التفسخى أو الشاطح، كذلك سوف نعود غالبا إلى شرح هذه الجملة التى تبدو معقدة ، وهى غير ذلك ، وهى الجملة التى تقول “ليس‏ ‏بفرط‏ ‏التعقل‏ ‏وإحكام‏ ‏ضبط‏ ‏الداخل‏، ‏وإنما‏ ‏بحجم‏ ‏التكامل‏ ‏والسماح‏ ‏والتناوب‏ ‏المرن‏ ‏والامتداد‏ ‏المتعدد“، لأن كل لفظ فيها قد يحتاج إلى شرح تفصيلى قد تتاح له الفرصة غدا أو بعد ذلك.

النص ثامنا‏:

يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يصاحب‏ ‏الموت‏ ‏الواقع‏ ‏حالا‏ ‏فى ‏داخله‏، ‏فالموت‏  – ‏بالمفهوم‏ ‏الأحدث‏ – ‏ليس‏ ‏سلبا‏ ‏كله‏، ‏وليس‏ ‏نهاية‏ ‏مغلقة‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏حقيقة‏ ‏موضوعية‏ ‏آنية‏، ‏وحتمية‏، ‏وحين‏ ‏تتضح‏ ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏فى ‏وعى ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏بنفس‏ ‏درجة‏  ‏وضوح‏ ‏الحياة‏، ‏ووضوح‏ ‏الإنجاز‏ ‏المادى ‏المحدد‏، ‏ووضوح‏ ‏القوة‏ ‏السلطة‏، ‏حين‏ ‏يحدث‏ ‏ذلك‏، ‏تحضر‏ ‏ظاهرة‏ ‏الموت‏ ‏فى ‏حجمها‏ ‏الموضوعى ‏فى ‏بؤرة‏ ‏الوعى ‏مما‏ ‏يعطى ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏القيم‏ ‏معنى ‏آخر‏ ‏أقوى ‏وأبقى‏، ‏مما‏ ‏يجعل‏ ‏قوة‏ ‏الحياة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏الانتصار‏ ‏المتكامل‏ ‏ما‏ ‏استمرت‏ ‏الحركة‏ ‏المبدعة‏.‏

فالإنسان‏ – ‏المعاصر‏ – ‏ومع‏ ‏تحقيق‏ ‏وجوده‏ ‏بقدرته‏ ‏على ‏الإحاطة‏ ‏بالمعلومات‏ ‏الموضوعية‏ ‏المعاصرة‏ – ‏لا‏ ‏يكتمل‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏أدرك‏ ‏وعايش‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الموت‏ ‏الشخصي‏، ‏والموت‏ ‏الحتمى ‏لأفراد‏ ‏النوع‏، ‏بحجمه‏ ‏الموضوعى ‏فى ‏مكانه‏ ‏المناسب‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏الآنى.‏

الهامش (12)

هنا مبالغة قد تضر، حين نطلب من الصحيح نفسيا أن يضع الموت كـ “حقيقة موضوعية أنية، وحتمية” …” فى بؤرة الوعى” قد نبدو بعيدا عن الواقع تماما، بل إن الفقرة وهى تحاول أن تعلى من قيمة هذا التأكيد قارنت ذلك بوضع الإنسان السليم وكأنه يعامل “الحياة” كحقيقة موضوعية فى بؤرة الوعى، وهو أمر لا يمكن الجزم به طول الوقت، فالأرجح أنه لا الموت، ولا الحياة يقعان فى بؤرة الوعى كما تزعم الفقرة.

 قد يكون الإنسان صحيحا نفسيا وهو يعيش الحياة بالقصور الذاتى، وأيضا وهو يعيش الموت باعتباره صدفة حتمية واردة، ليست “الآن” بالضرورة، أما أن نتصور، أو نصوِّر، أن السلامة تقتضى غير ذلك فهذه مبالغة قد تبعدنا عن واقعنا البسيط القادر على تحقيق الصحة بغير كل ذلك. ثم إن الزعم بأن معايشة الموت (للفرد والنوع) بحجمه المضوعى هو الذى “…. ‏ ‏يجعل‏ ‏قوة‏ ‏الحياة‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏الانتصار‏ ‏المتكامل‏ ‏ما‏ ‏استمرت‏ ‏الحركة‏ ‏المبدعة‏” هو أيضا مقولة تبعدنا عن الواقع الضرورى للاستمرار دون الحاجة إلى أن تتصف الحياة بالقدرة “على الانتصار الكامل ما استمرت الحركة المبدعة” (ما هذا؟ كدت أقول: يا صلاة النبى!!!)

ومع ذلك فسوف أعود ، ربما فى فصل كامل فى هذا العمل غالبا، لتقديم ما وصلنى  عن موقع الموت، وحركيته، وإيقاعه، وأكتفى الآن بالإشارة لمن يريد، إلى بعض ما جاء عن الموت أساسا فى هذه النشرة طوال ثلاث سنوات ( 7-11-2007 ، 21-11-2007، 5-1-2008، 10-2-2008، 23-9-2008، 20-4-2009، 23-9-2009، 10-3-2010، 17-3-2010، 4-9-2010) وأيضا فى نقد ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ ، والموت للأطفال: هانز كريستيان أندرسون.

النص تاسعا‏:

‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتمكن‏ ‏من‏ ‏الحفاظ‏ ‏على ‏نشاطه‏ ‏الذهنى ‏ليتحمل‏ ‏مسئولية‏ ‏موسوعية‏ ‏المعرفة‏، ‏التى ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏إلى أن‏ ‏نزحم‏ ‏بها‏ ‏أدمغتنا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏وجدت‏ ‏لها‏ ‏مكانا‏ ‏فى ‏الأشرطة‏ ‏والاسطوانات‏ ‏المضغوطة‏ ‏والممغنطة‏  ‏بما‏ ‏يتيح‏ ‏فرصة‏ ‏حقيقية‏ ‏للعقل‏ ‏البشرى ‏أن‏ ‏يتفرغ‏ ‏لإعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏دفعا‏ ‏إلى ‏التوازن‏ ‏الخلاق‏.‏

الهامش (13)

بالله عليكم هل أجرؤ أن أعيد كتابة هذه الفقرة الآن بعد ما حكيته عن الصحة النفسية التى أمارس محاولة العودة إليها، أو التصعيد بها فى جلسات العلاج الجمعى فى قصر العينى ؟؟ موسوعية ماذا وتوازن خلاق ماذا؟

مرة أخرى أذكركم أن النمل والصراصير وأسماك القرش والنوارس والكلاب الجبلية لا تحتاج إلى الموسوعية ولا إلى التخلص من وصايتها حتى تبقى وتستمر، وهل غالبا تتمتع بصحة نفسية بنسب مئوية أعلى مما يتمتع به النوع البشرى، دون أن تسميها كذلك، ثم إنه يحق لى أن أنبه الآن إلى أن التوازن فى حد ذاته احتاج فى المتن هنا إلى إضافة صفة “الخلاق” ربما ليبتعد عن التوازن الاستاتيكى الهادئ (الهوميوستازس)، الذى سبق أن أشرنا إلى احتمال سكونه  حالا فى الهامش رقم (4)، التوازن الخلاق ليس له علاقة بالموسوعية من عدمها، بقدر ما له علاقة بكفاءة برامج التطور، وتحديات البقاء، بل إن الموسوعية المعطلة، وحتى التوازن الذى نسميه الخلاق من باب الحذر، إذا ما انتقل من برنامج الفعل التلقائى إلى التظير المعقلن، قد يثبت أنه ليس هو البرنامج البقائى الذى يحافظ على الحياة ويدفع بها، بل إنه قد يعطلها برغم صحة معطياته فى ذاتها.

إذن: ليس مطلوبا جدا من “العقل ‏البشرى“… ‏أن‏ ‏يتفرغ‏ ‏لإعادة‏ ‏ترتيب‏ ‏المعلومات‏ ‏دفعا‏ ‏إلى ‏التوازن‏ ‏الخلاق‏.” بالمعنى الإرادى الذى توحى به الجملة، فالنشاط الحالم –مثلا-  يقوم بالواجب تلقائيا من وراء ظهورنا ، المأمول لكى نصحّ أو نبقى ألا تحولُ الموسوعية دون تلقائية هذا التوازن الخلاق، ألا تقف موسوعية سيجموند فرويد عن الأساطير وعلم المصريات والتاريخ والترميز وغير ذلك، حائلا دون أن يستوعب، و(نستوعب) إبداع حركية الحلم بغض النظر عن محتواه، وهكذا.

النص عاشرا‏:

 ‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يرعى ‏ما‏ ‏وصله‏ ‏من‏ ‏معارف‏  ‏كقاعدة‏ ‏إنطلاق‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ (‏الذين‏ ‏يؤمنون‏ ‏بالغيب‏).‏

الهامش (14)

إذا كنا قد انتبهنا بقدر كاف لما جاء فى الهامش السابق، فغنى عن البيان أن نفهم ابتعاد هذا الشرط أيضا عن واقع ما نريد توصيله، بمعنى أن رعاية المعارف التى تصلنا تتم تلقائيا بقوانين البقاء، وليس معنى ذلك الا نتعهد المعارف التى تصلنا كما يقول النص، لأننا لو لم نفعل لاصبحت عبئا على وجودنا، وإعاقة ليس فقط للصحة النفسية، وإنما للبقاء والتطور.

أما مسألة أن “تصبح المعارف نقطة انطلاق“، فهذا يتطلب فتح ملف مستويات التفكير، ومدى فاعلية وإسهام “العقول الأخرى” فى حركية المعرفة، ومنها: فائدة اللافهم تكاملا مع الفهم، وكل ذك تناولته وسوف أتناوله فى شرح قضية “الإيمان بالغيب” الذى هو الباب الإبداعى المفتوح، بل الداعى، لكل الناس، للاغتراف مما  هو “ليس كذلك”، واستيعابه مع ما هو “كذلك”. إن اعتبار ما يصلنا من معارف مجرد نقطة انطلاق إلى ما يمكن أن نصل إليه، هو كلمة السر لما هو “إيمان بالغيب”.

النص حادى ‏عشر‏:

‏يكون‏ ‏الإنسان‏ ‏المعاصر‏ ‏صحيحا‏ ‏نفسيا‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتمتع‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏حرية‏ ‏واعية‏، ‏وذلك‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أتاحت‏ ‏وسائل‏ ‏الاتصال‏ ‏فرصا‏ ‏أكبر‏ ‏لحرية‏ ‏أصدق‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏أصبح‏ ‏تحديا‏ ‏حقيقيا‏ ‏إذ‏ ‏أنه‏ ‏يتيح‏ ‏الفرصة‏ ‏للإنسان‏ ‏العادى ‏أن‏ ‏ينتقل‏ ‏عبر‏ ‏عشرات‏ ‏الآلاف‏ ‏من‏ ‏الأميال‏ ‏باللعب‏ ‏فى ‏زر‏ ‏عن‏ ‏بعد‏، ‏فالحرية‏ ‏هنا‏ ‏أصبحت‏ ‏فرصة‏ ‏رائعة‏ ‏للتوازن‏، ‏وهى ‏أيضا‏ ‏امتحان‏ ‏خطير‏ ‏للاختيار‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تحد‏ ‏مرعب‏ ‏لما‏ ‏يصاحبها‏ ‏من‏  ‏مسئولية‏.‏

الهامش (15)

يشمل هذا النص  ثلاثة علامات لما يسمى حرية لها علاقة إيجابية بالصحة النفسية، وهى أن تكون:

‏فرصة‏ ‏رائعة‏ ‏للتوازن

‏امتحان‏ ‏خطير‏ ‏للاختيار

‏تحد‏ ‏مرعب‏ ‏لما‏ ‏يصاحبها‏ ‏من‏  ‏مسئولية‏.‏

لكن المسألة تتجاوز ذلك طبعا، وقد يكفى الآن، حتى نعود إلى الفصل المستقل الخاص بذلك، أن نشير إلى الأطروحة السابق نشرها بواسطة المؤلف عن “الحرية والجنون والإبداع” (مجلة فصول، العدد الرابع 1986، وتم تحديثه فى كتاب : حركية الوجود وتجليات الإبداع” 2007) . الحرية التى يمكن أن نتكلم عنها هنا فيما يتعلق بالصحة النفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بأبعاد المساحة، والحركة، والزمن، كما ترتطبت تماما بما يسمى العلاقة بالأخر (الآخرين)، ليس بمعنى أن حريتك تنتهى عند بداية حرية الآخر، بل لعل العكس هو صحيح، بمعنى أن الحرية نستحق هذا الاسم حين يتحقق الجدل ويحتد الصراع مع حرية الآخر، ناهيك عن حرية العقول كل على حدة، ثم معا، ثم كل على حدة، على مدى مستويات الوعى المختلفة

(ولنا عودة)

وبعد

أكرر اعتذارى لما جاء من تكرار، ولو أننى بعد أن أعدت قراءة النشرة كلها، وجدت أن الأمر يستأهل

وغدا قد نتناول تبادل حالات الوجود الثلاثة كبعد مواز للإيقاع الحيوى من ناحية، وكنوع من توضيح المعنى الخاص للجنون من ناحية، وللإبداع من ناحية أخرى، ناهيك عن العادية التى نتصور أننا نعرفها.

[1] – ما يأتى بين قوسين فى “المتن” هو إضافة توضيحية حالية ، لا تؤثر فى مضمون المتن نهائيا، وهى ليست نقدا أصلا، فالنقد فى الهوامش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *