الرئيسية / الأعمال العلمية / كتب علمية / الفصام (2) تجليات الفصام فى أسرة مصرية طيبة مُمَـزَّقــَــة

الفصام (2) تجليات الفصام فى أسرة مصرية طيبة مُمَـزَّقــَــة

الفصام (2)

تجليات الفصام

فى أسرة مصرية طيبة مُمَـزَّقــَــة

(1960 -1980)

أ.د. يحيى الرخاوى

2020

 

الأهداء

الأهداء

الإهـداء‏:

إليهم‏: ‏فى ‏معاناتهم‏ ‏وصراعهم‏، هـم‏: ‏

الإخوة‏ ‏الأربعة (وأختهم الفاضلة)

مقدمة

مقدمة

كلمة موجزة قبل المقدمة:

منذ أول عام لصدور مجلة “الإنسان والتطور” الفصلية، ومن – عدد أكتوبر 1980 إلى (إبريل/ يوليو) عام 2000/2001 – ظهر هذا الباب منتظماً بعنوان”حالات وأحوال“، ثم حين قررت جمع ما تيسر من أعمالى فى هذه المرحلة من العمر (مارس 20 20)، قررت العودة لإعادة نشر هذه السلسلة القديمة/الجديدة، من “الحالات والأحوال” للتأكيد على أصالة هذا المشوار وضرورته، ولو للتسجيل التاريخى لتطور فكرى، وربما تطور مفهوم وعلاج المرض النفسى!.

مقدمة الطبعة الحالية:

المقاومة التى لقيتـُها من نفسى وأنا أعد هذا العمل للطبع كادت تحول دون ظهوره، فهو كتاب شخصىّ قديم، يكاد يرصد بدايات رحلتى الطويلة منذ كنت طبيبا مقيماً (سنة 1958ـ1960) فى قسم الطب النفسى كلية الطب قصر العينى، فهو تسجيل تاريخى أكثر منه ضمن ما أحاول توصيله حاليا إلى كل من يهمه الأمر بعد ما يربو على ستة عقود من الممارسة، والنشر، والنقد، والمراجعة.

أسباب المقاومة كانت متعددة ومنها:

أولاً: أنه يقدم   هذه الحالات الأربعة بطريقة تقليدية تتفق مع بدايات خبرتى وأنا أتحسس الطريق إلى تخصصى.

ثانياً: أننى وجدت أنه بذلك قد يكون بعيداً عن ما انتهيت إليه مؤخراً فيما يسمىّ “الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى” برغم ظهور ملامح لا تخفى لإرهاصات هذا الفكر منذ ذلك التاريخ.

ثالثاً: أننى قررت ألا أضيف إليه هوامش تفسر وظيفته التأريخية والتقليدية التى اعتبرها ضرورية لمن يلزم نفسه بالتكلم باللغة السائدة: لغة “طب نفسى” التيار الغالب Mainstream psychiatry، فكنت أشطب – غالبا – الهامش التوضيحى أو التكميلى أولاً بأول.

رابعاً: أننى كنت انتهيت من قراءة كتابىّ الأحدث نشرا أعرض فيهما حالتين قريبتين منى بما أريد توصيله حالياً وهو بعنوان: “الفهد الأعرج والكهلُ النَّمِرْ”([1])، والأهم أننى أيضا كنت فى نفس التوقيت أتمم كتابا أحدث جدا يعرض حالة واحدة على مدار بضعة أشهر، بلغت مئتا صفحة من الحجم المتوسط، وهى تعرض لقاءاتى التدريبية، ومع المريض، وتفسيرى للعملية الذهانية التى بدأت ولم تتم، والتى تعلمتُ منها، وحاولت أن أعلـّم، ما كاد يكمل خبرتى عن فن الطب النفسى، وحركية النفسمراضية بطريقة تكاد تكون عكس ما أعرض فى العمل الحالى، لكنها تكمله بشكل أو بآخر، ذلك لأن الفرق كان دالاًّ والمقارنة مزعجة، لكننى شعرت أنها مقارنة لازمة، ولعلها مفيدة، مع أنى لم أشر إليها تفصيلا، الكتاب بعنوان: “فصامى يعلمنا الفصام، دون أن ينفصم([2])، وقد تعمدت صدوره مع هذا الكتاب لبيان بعض معالم تطورى بالنسبة لهذا المرض، وهذه المهنة عامة.

هكذا تغلبت على هذه المقاومة بإرادة كاملة وصعوبة بالغة، حتى خرج هذا العمل فلعل ذلك يرجع إلى علاقتى التاريخية به، وأيضا إلى حرصى على احترام كل محاولاتى دون استثناء، فضلا عن أننى:

I: وجدت أنه من الأمانة، خاصة بالنسبة للجيل الأصغر، أن أواصل الكتابة باللغة العلمية السائدة بشكل أو بآخر.

II: وجدت أن محتواه يمكن أن يوفى بأغراض تقليدية لا تحققها الأعمال المتوارية فى موقعى أو العينات المنتقاه لأغراض محددة فى حدود أهداف بذاتها.

III: وجدت أنه يرصد تاريخا لنفس الحالات عبر حوالى عقدين من الزمان مع اختلاف الظروف، واختلاف الفاحصين واختلاف المآل.

IV: وجدت أن بداياته قد واكـَـبت أنواعا رائعة من العلاج مازلتُ انتمى إليها، وأجزع لوصفها مؤخرا بما ينفرّنا منها برغم وجاهة أسسها وفاعلية أثرها، وذلك مثل: العلاج بغيبوبة الأنسولين (لمدة خمسين جلسة متتالية) وهو علاج ارتبط عندى مؤخراً بفروض جوهرية عن إعادة الولادة باستمرار، وعن كيف أن المخ يعيد بناء نفسه …الخ.

V: وجدت أننى اكتشفت أن نقدى للتحليل النفسى التقليدى كان حاضرا منذ مدة طويلة، برغم ما يبدو من قبولى لأصول هذا الفكر من حيث المبدأ دون تفاصيله.

 VI: انتبهت من خلال هذه المحاولة أيضا إلى جذور فكرى فيما هو نفسمراضية/تركيبية Structural Psychopathology.

VII: ربما أردت من خلال هذا النشر ـ بأقل قدر من التدخل ـ أن أنبه كل الزملاء، خاصة الأصغر، أنه لا يمكن احترام اللغة العلمية/الفنية الأحدث إلا بقدر إتقان اللغة العلمية التقليدية.

ملاحظات عامة إضافية:

‏ثم أوجز‏ ‏بعض‏ ‏المغزى ‏العام‏ ‏الذى ‏حاولت ‏ ‏تحديده‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏عرض‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ الأربع التى يحتويها هذا العمل، ‏‏على ‏الوجه ‏التالى‏:‏

(1) ‏فى ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏الواحدة‏ ‏تنوّعت‏ ‏أشكال‏ ‏المرض‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏تفاصيل‏ ‏المحتوى ‏والتركي، ‏من‏ ‏فرد‏ ‏لآخر‏ ‏حتى ‏فيما‏ ‏بين‏ ‏التوأمين‏ ‏المتماثلين‏.‏

(2) تحدد‏ ‏هذا‏ ‏التنوّع ‏رغم‏ ‏وحدة‏ ‏الاستعداد‏ ‏الوراثى ‏- ‏بعوامل‏ ‏متداخلة‏ – ‏لا يمكن‏ ‏فصلها‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏ترتيب‏ ‏أهميتها.

(3) تبين تأثير سمات ‏الشخصية‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏ ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏أساليب‏ ‏التعويض‏ ‏الناجحة ولو‏ ‏مؤقتا‏ لضبط‏ ‏أو‏ ‏تاجيل‏ ‏المرض‏ أو إعطاء طعم مختلف لبعض معالمه.

(4) ظهرت ملامح اختلاف موقف أفراد الأسرة، مرضى وأسوياء من هذه المحنة المشتركة‏.

‏(5) ‏اختلف‏ ‏التشخيص‏ ‏على ‏مستوى ‏الفئة‏ ‏الرئيسية‏: ‏ففى ‏حين‏ ‏شخص‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ “مختار” ‏على ‏أنه‏ ‏اضطراب‏ ‏وجدانى ‏جسيم‏ (مع تشخيص فارقى: فصام وجدانى هوسى مختلط)، ‏كان‏ ‏تشخيص‏ ‏التوأمين‏ ‏والأخ‏ ‏الاصغر‏ ‏هو‏ ‏”الفصام”‏، ولعل هذا‏ ‏الاختلاف يرجع‏ ‏ ‏إلى ‏أنه‏ -‏ حتى ‏فى ‏التوائم‏ ‏المتماثلة‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الظروف‏-‏ تتحدد‏ ‏درجة‏ ‏التفكك‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏التماسك‏ ‏الوجدانى (‏وهو‏ ‏العامل‏ ‏المؤثر‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏التشخيصات‏ ‏السابقه‏) ‏بمؤثرات‏ ‏مختلفة‏ ‏رغم‏ ‏توحد‏ ‏الاستعداد‏ ‏الوراثى‏.

‏ (6) مع‏ ‏تطور‏ ‏المرض‏ ‏فى ‏كل‏ ‏حالة‏ ‏تغير‏ ‏التشخيص الفرعى (نقلة الزملة) ‏عدة‏ ‏مرات‏ ‏وهذا‏ ‏إنما‏ ‏يشير‏ ‏الى ‏عدة‏ ‏إحتمالات‏ ‏منها:

‏(‏أ‏) ‏أن‏ ‏كل‏ ‏نوبة‏ ‏تحدث‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏مختلفة. ‏

‏(‏ب‏) ‏وأن‏ ‏النوبة‏ ‏السابقة‏ ‏تؤثر‏ ‏على ‏النوبه‏ ‏اللاحقة

‏(‏ج‏) ‏وأنه‏ ‏يمكن‏ ‏التدخل‏ ‏العلاجى ‏والتأهيلى ‏لتحوير‏ ‏النوبة‏ ‏التالية‏ ‏إلى ‏نوع‏ ‏أفضل‏ ‏وأكثر‏ ‏قابلية‏ ‏للتناول‏ ‏العلاجي‏. ‏

‏(‏د‏) ‏وأنه‏ ‏لا يمكن‏ ‏الجزم‏ ‏بنوع‏ ‏النوبة‏ ‏التالية‏ بيقين علمى موضوعى.‏

‏(‏هـ‏) ‏وأخيرا‏ ‏أن هذا العرْض الممتد على سنوات، والمتعدد التشكيلات، يمكن أن يدعم الفرض المبدئى الذى يرجح‏ “‏وحدة‏ ‏أصل‏ المرض‏ ‏النفسى/ ‏العقلى” ‏مع‏ ‏تعدد‏ ‏صوره‏ ‏الخارجية‏. ‏

‏(7) فى ‏كل‏ ‏حالات‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏، ‏ورغم‏ ‏اختلاف‏ ‏التشخيصات‏ الفرعية ‏تكررت‏ ‏نوبات‏ ‏المرض‏ ‏بصورة‏ ‏نوابية Periodical‏ (مختار‏-‏الأخ‏ ‏الأكبر‏) ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏: ‏فتحى ‏(‏توأم‏”2″)، ‏وبصوره‏ ‏متفترة Intermittent ‏فهمى (‏توأم‏ “1”) ثم وائل (‏الأخ‏ ‏الأصغر‏).

الفرق‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏”النوابية”‏ ‏وذاك‏ “‏التفتر”‏ ‏هو‏ ‏مدى ‏السلامة‏ ‏والفاعلية‏ ‏وتماسك‏ ‏الشخصيه‏ ‏بين‏ ‏النوبات‏، ‏حيث‏ ‏تبلغ‏ ‏درجة‏ ‏السلامه‏‏ ‏مبلغا‏ ‏حسنا‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏النوابية‏ ‏دون‏ ‏التفتر‏.

‏(8)  ‏إن‏ ‏حالات‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ – ‏مجتمعة‏ – ‏هى ‏حالات‏ ‏شديدة‏ ‏الخطورة‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏موقعها‏ ‏فى ‏متدرج‏ ‏التشخيصات‏ ‏العقلية‏، ‏وقد‏ ‏دخل‏ ‏كل‏ ‏أفرادها‏ ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏المستشفيات‏ ‏المتاحة‏ (‏عام‏/ ‏خاص‏/ ‏جامعى‏/ ‏عقلى‏/ ‏نفسى‏…) ‏وعولجوا‏ ‏بمعظم‏ ‏أنواع‏ ‏العلاجات‏ ‏ولم‏ ‏يحُلْ‏ ‏ذلك‏ ‏دون‏ ‏تكرار‏ ‏النوبات‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لم‏ ‏تتدهور‏ ‏حالة‏ ‏أحدهم‏ ‏الى العجز‏ ‏التام‏، ‏أو‏ ‏الانسحاب‏ ‏المنغلق‏ ‏أو‏ ‏التفسخ‏ ‏المتدهور‏ ‏باضطراد‏، ‏وإنما‏ ‏مارس‏ ‏الجميع‏ ‏عملاً‏ ‏ما‏، ‏وحققوا‏ ‏درجة‏ ‏من‏ ‏التكيف‏ ‏الأسرى ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏إنكارها‏، ومن‏ ‏هنا‏ ‏نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نقول‏: ‏إن‏ ‏حدة‏ ‏النوبات‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏وتكرار‏ ‏معاودتها‏، ‏وعنف‏ ‏محتواها‏ ‏وشدة ‏العامل‏ ‏الوراثى ‏فيها‏: ‏ليست‏ ‏هى ‏العوامل‏ ‏الوحيدة‏ ‏الدالة‏ ‏على ‏خطورة‏ ‏وحتمية‏ ‏التدهور‏، ‏وأن‏ ‏ما‏ ‏حافظ‏ ‏على ‏أفراد‏ ‏هذه‏ ‏الأسره‏ ‏من‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏التدهور‏ ‏المرعب‏ – ‏فى ‏رأينا‏- ‏هو‏:‏

‏(‏أ‏) ‏قوة‏ ‏عامل‏ ‏التماسك‏ ‏الثقافى ‏الخاص‏ ‏ ‏والظاهر‏ ‏فى ‏معظم‏ ‏الحالات‏ بدرجات وتنويعات متباينة ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر.‏

‏(‏ب‏) ‏درجة‏ ‏ما من‏ ‏الترابط‏ ‏الأسرى ‏الحى: ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏بمعنى ‏الدعم‏ ‏الأسرى ‏والاعتمادية المتبادلة، ‏وإنما‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏بمعنى‏: حيوية ‏العراك‏ ‏الأسرى ‏والصدام‏ ‏ ‏الإيجابى الذى ‏ربما حافظ‏ ‏على ‏حيوية‏ ‏الأسرة‏ ‏ككل‏ ‏وأغناها عن اللجوء إلى ‏الحنان الماسخ‏ ‏والدعم‏ ‏العاطفى ‏السطحى.‏

‏(9) ‏إن‏ ‏ما‏ ‏لاحظناه‏ ‏من‏ ‏ربط‏ ‏سببى ‏سطحى ‏بما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أسبابا‏ ‏ظاهره‏ ‏تصلح‏ ‏لدراما‏ ‏مسطحة‏ ‏هو‏ ‏أمر‏ ‏يختزل‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏إلى ‏مستوى ‏تصورنا‏ ‏عنه‏، ‏وهذا‏ ‏خطر‏ يحول‏ ‏دون‏ ‏عمق‏ ‏فهمنا‏ ‏لتعقد‏ ‏التركيب‏ ‏البشرى ‏وغائية‏ ‏وجود‏ ‏الانسان‏، ‏ودلالة‏ ‏الخبرات‏ ‏فى ‏معناها‏ ‏ولغتها‏ ‏الخاصة‏. ‏وبالتالى ‏فالشائع‏ ‏من‏ ‏أفكار‏ ‏تحليلية‏ ‏عابرة‏ ‏أو‏ ‏تبريرات‏ ‏إجتماعية‏ ‏إقتصادية‏ ‏فى ‏مختلف‏ ‏الأشكال‏ ‏الفنية‏ ‏والأدبية‏ ‏هو‏ – ‏على ‏الأكثر‏- ‏مستوى ‏واحد‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏لعله‏ ‏أقل‏ ‏المستويات‏ ‏أهمية‏.‏

‏(10) ‏إن‏ ‏صراع‏ ‏أفراد‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏مع‏ ‏الحتمية‏ ‏الوراثية‏ ‏للمرض‏ ‏هو‏ ‏صراع‏ ‏بطولى ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏فرد‏ ‏على ‏حدة‏، ‏ومن‏ ‏الأسرة‏ ‏مجتمعة‏. ‏

(11) إن‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏الطفولة‏ ‏الباكرة‏، ‏والمراهقة‏ ‏المنطلقة‏ ‏وبين‏ ‏التفكيك‏ ‏المرضى، ‏والانسحاب‏ ‏المتردى ‏هى ‏علاقات‏ ‏غير‏ ‏مباشره‏ ‏تماما‏ ‏رغم‏ ‏قوة‏ و‏عمق‏ ‏الترابط‏.

‏(12)  ‏إن‏ ‏بعض الافراد‏ ‏الذين‏ ‏لم‏ ‏يمرضوا‏ ‏، ‏ـ‏(‏لم‏ ‏يعالجوا‏، ‏لم‏ ‏يشكوا‏، ‏لم‏ ‏يعلن‏ ‏مرضهم‏، ‏مثل الأخت‏‏: ‏جمالات) ‏يحملون‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏حالتهم‏ ‏ليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏هى السلامة المرجَوَّة مقارنةً بالذين‏ ‏مرضوا‏، ‏وعدم‏ ‏زواج‏ ‏جمالات – مثلا –  يمكن‏ ‏أن‏ ‏يشير‏ ‏ضمنا‏ ‏إلى ‏أنها‏ “‏لم‏ ‏تُخْتَبر”: بمعنى ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تدخل‏ ‏تحديات‏ ‏العلاقة‏ ‏بالآخر‏ ‏على ‏مستوى ‏موضوعى ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏ولم تواجه مسئولية الاستقلال‏ ‏الاقتصادى ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى‏، فلا يمكن الجزم بأن حالتها  أخف من الذين مرضوا.

تمهيد:

عن المهنج وطبيعة العمل

يتناول‏ ‏هذا‏ ‏العمل‏ دراسة وتتبع أربع حالات من ‏أسرة‏ ‏واحدة‏ ‏يتم‏ ‏عرضها‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى‏:‏

‏1 – ‏حَكْى ‏موجز‏ ‏الحالة‏ ‏بتسلسل‏ ‏منهجى ‏عادى ‏كما‏ ‏يتبع‏ ‏فى ‏تسجيل‏ ‏المشاهدة‏ الإكلينيكية ‏بطريقة‏ ‏تقليدية‏، وذلك جزءًا جزءًا.

‏2 – ‏محاولة‏ ‏التعليق‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الجزء‏، ‏مع‏ ‏عرض‏ “‏الحال‏” (‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏الحالة‏) ‏التى ‏شملت‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الفاحص‏ ‏والمفحوص، ما أمكن ذلك.

‏3 – ‏قراءة‏ ‏نقدية‏ ‏لكل‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏كلما‏ ‏أتيحت‏ ‏الفرصة‏ ‏لذلك‏.‏

‏4 – ‏استطرادات‏ ‏وتوصيات‏ ‏نابعة‏ ‏من‏ ‏الخطوات‏ ‏السابقة‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏.‏

‏5 – ‏إشارات‏ ‏إلى ‏هوامش‏ ‏تعرض‏ ‏فيها‏ ‏وجهة‏ ‏النظر‏ مكملة ‏لبعض‏ ‏النقط‏ ‏المثارة‏.‏

هذا‏، ‏مع‏ ‏التنبيه‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الخطوات‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏ليست‏ ‏ملزمة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏بنفس‏ ‏الترتيب‏ ‏ولا‏ ‏بحضورها‏ ‏جميعا‏ ‏عقب‏ ‏كل‏ ‏فقرة‏، ‏وإنما‏ ‏ ‏يـٌنتقى ‏منها‏ ‏المناسب لكل‏ ‏حالة ‏ ‏أولا‏ ‏بأول‏.‏

فى حدود علمى: منذ‏ ‏كتب‏ ‏سيجموند فرويد‏ ‏خمس‏ ‏حالات‏ ‏فى ‏التحليل‏ ‏النفسي([3])،‏ لم‏ ‏تظهر‏ ‏تقارير‏ ‏حالات‏ ‏كاملة‏ ‏لتكون‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏وعى عامة ‏الناس،‏ ‏أو حتى المختصين، بالحضور‏ ‏المناسب‏،‏ كما أن فرويد لم ينشر حالات ذهانية باشر علاجها شخصيا، حتى حالة “دكتور شريبر” (فصام بارنوى) جاء تحليله لها من خلال ما كتبه المريض (السابق) دكتور شريبر مما هو بمثابة السيرة الذاتية.

تعرُّف: التعرف على ‏شخوص‏ ‏هذه‏ ‏العائلة‏ ‏ ‏ومسوغات‏ ‏تقديمها‏:‏

أولا‏: ‏ جاءت البداية من مباشرتى سنة  1958 علاج حالتـَىْ توأم (‏فتحى‏ ‏وفهمى‏) ‏وأخ‏ ‏أكبر (مختار)‏ معا فى نفس التاريخ تقريبا، ‏ثم‏ ما بلغنى عن أخيهم الأصغر (وائل) بعد ذلك بسنوات، ‏وقد‏ ‏أصيب‏ ‏التوأمان‏ ‏بمرض‏ ‏ عقلى ‏من‏ ‏نوع‏ ‏الذهان‏ ‏الفصامى… ‏فى ‏حين‏ ‏أصيب‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏بنوبات‏ ‏دورية‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الهوس‏ ‏والاكتئاب‏، ثم أصيب الأصغر بعد سنوات طوال بفصام تفسخى وجدانى أيضا، ‏وهذه‏ ‏التجميعة‏ ‏ليست‏ ‏مألوفة‏ ‏عادة (التشخيصات هنا – وتقريبا فى كل الحالات فى هذه السلسلة-  ليست لها الأهمية الأولى كما يتبادر إلى الذهن حسب ما اعتدنا).   

ثانيا‏: ‏أمكن‏ ‏بحث‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏على ‏فترات‏ ‏كانت عبر عقدين كاملين تقريبا‏، ‏ونحن‏ ‏فى ‏مصر‏ ‏نفتقر‏ ‏إلى ‏التتبع‏ ‏‏ ‏لأغلب‏ ‏الحالات‏ (‏على ‏مستوى ‏النشر‏ ‏على ‏الأقل‏).‏

ثالثا‏: ‏إنه‏ ‏رغم‏ ‏العامل‏ ‏الوراثى ‏وأثره‏،‏ الذى ‏سيبدو‏ ‏واضحا‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الجو‏ ‏الأسرى ‏البيئى ‏كان‏ ‏شديد‏ ‏الدلالة ‏كذلك، ‏مما‏ ‏يبين‏ ‏لنا‏ ‏بطريقة‏ ‏جلية‏ ‏كيف‏ ‏تتفاعل‏ ‏الوراثة‏ ‏مع‏ ‏البيئة‏ ‏بشكل‏ ‏متداخل‏ ‏شديد‏ ‏التعقيد ‏.‏

رابعا‏: ‏إن‏ ‏الفحص‏ ‏الأول لكتابة المشاهدة العادية‏ ‏لثلاثة‏ ‏من‏ ‏الأخوة‏ ‏تم‏ (‏عام‏ 1959) ‏بواسطة‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏د‏. ‏حسن‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏([4]) ‏وشخصى (يحيى ‏الرخاوى)، ‏وهما‏ ‏بعد‏ ‏طبيبان صغيران فى طريقهما‏ ‏إلى ‏التخصص‏ ‏الأكبر،‏ ‏فى ‏حين‏ ‏تم‏ ‏الفحص‏ ‏الثانى ‏بواسطة‏ ‏زميل‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏باكرة‏ ‏من‏ ‏تطوره‏ (‏د‏. ‏مجدى ‏عرفة ‏عام‏  1978)([5]) ثم جاء الفحص الأخير ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بسنوات عديدة بواسطة‏ ‏د‏. ‏أمانى ‏الرشيدى([6]) ‏للأخ‏ ‏الأصغر‏، ولعل هذا‏ ‏التنوع‏ ‏والرصد‏ ‏الباكر‏ ‏‏يجعل‏ ‏من‏ ‏تعدد‏ ‏الفاحصين‏ ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏بعد‏ ‏الزمن‏ ‏أهمية‏ ‏خاصة‏.‏

خامسا‏: إن ‏الاختبارات النفسية كانت عاملا مساعداً محدوداً، ولكن لم يعوّل عليها كثيرا اللهم إلا بقدر ما تضيف أو تحاوِر الأبعاد الإكلينيكية الأساس.

تنبيه هام:

 (من البديهى ‏أن‏ ‏الأسماء‏ ‏التى ‏ستستعمل‏ ‏فى ‏العرض‏ ‏ليست‏ ‏هى ‏الأسماء‏ ‏الحقيقية‏، ‏وكذلك‏ ‏العناوين‏، ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يخل‏ ‏بالغرض‏ الأساسى ‏للدراسة والنشر‏.)

[1] – يحيى الرخاوى “دروس من قعر الحياة!! الفهد الأعرج والكهلُ النَّمِرْ” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى، سنة 2018.

[2] – يحيى الرخاوى “فصامى يعلمنا الفصام، دون أن ينفصم” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، الطبعة الأولى، سنة 2020.

[3] –  سيجموند فرويد‏ “‏خمس‏ ‏حالات‏ ‏من التحليل‏ ‏النفسى“، ‏ترجمة‏: ‏صلاح‏ ‏مخيمر، (ص 462) سنة 1979 مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

[4] – هو‏ ‏الصديق‏ “‏الطبيب‏ ‏المقيم” (آنذاك)، الذى أصبح طبيبا إستشاريا ومحللا نفسياً حاذقا فى كندا منذ سنة 1962، وحتى تاريخه، وهو ‏الذى ‏كنت‏ ‏أعمل‏ ‏معه‏ ‏طبيب‏ ‏امتياز‏ ‏سنه‏ 1957 ‏ثم زميلا طبيبا مقيما، ثم‏ ‏ظللنا‏ ‏معا‏ ‏حتى ‏هاجر‏‏. ‏

[5] – أستاذ بكلية طب قصر العينى حالياً.

[6] – إستشارى فى فرنسا منذ سنوات، وأستاذ متفرغ، كلية الطب قصر العينى

الفصل الأول تطور تاريخ الدراسة

الفصل الأول تطور تاريخ الدراسة

الفصل الأول

تطور تاريخ الدراسة

 فى ‏هذا‏ ‏الفصل‏ ‏نقدم‏ ‏الجو‏ ‏الأسرى ‏والتاريخ‏ ‏العائلى ‏الذى ‏ظهرت‏ ‏فيه‏ ‏حالات‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأخوة‏ ‏الأربعة‏، ‏ونتناول‏ ‏ضرورة‏ ‏الحذر‏ ‏من‏ ‏المبالغة‏ ‏فى ‏تقويم‏ ‏مدى ‏صحة‏ ‏المعلومات‏ ‏المستقاة‏ ‏من‏ ‏مصدر‏ ‏واحد‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏منهج‏ ‏جامد‏، ‏كما‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نجرب‏ ‏طريقة‏ ‏محوَّرة‏ ‏فى ‏تناول‏ ‏منهج‏ “‏دراسة‏ ‏الحالة‏” ‏تؤكد‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏تسجيل‏ ‏انطباع‏ ‏الفاحص‏ ‏ورأيه‏ ‏ومناقشته‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏نسجل‏ ‏فيه‏ ‏المعلومات‏ ‏المتاحة‏.‏

أخبرتنى ‏الزميلة‏ ‏د‏. ‏أمانى ‏الرشيدى (‏طبيب‏ ‏مقيم‏ ‏بالقصر‏ ‏العينى ‏سنة‏1980) ‏أنها‏ ‏أدخلت‏ ‏القسم‏ ‏الداخلى ‏بقصر‏ ‏العينى (‏فى نفس السنة‏ 1980) ‏حالة‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏لها‏ ‏علاقة‏ ‏بالحالات‏ ‏الجارى ‏نشرها‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏الإنسان‏ ‏والتطور الفصلية‏([1]). ‏وبالفعل‏ ‏ثبت‏ ‏أنه‏ ‏الأخ‏ ‏الأصغر‏ ‏وقد‏ ‏”أصابه‏ ‏الدور‏”!!، ‏و‏كان‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأصغر‏ ‏يبلغ‏ ‏من‏ ‏العمر‏ 8 ‏سنوا‏ت، ‏حين‏ ‏قمت‏ ‏بفحص وعلاج‏ ‏إخوانه‏ (‏سنة‏ 1959/1960)، وصلتنى رسالة تقول: إننا بعرض هذه الحالات الأربعة ربما ‏ ‏تكتمل‏ ‏الحلقة‏ ‏بشكل‏ ‏يندر‏ ‏تكراره‏، ‏وسوف‏ ‏نقدم‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الفصل‏ ‏الجو‏ ‏العام‏ ‏للأسرة‏ ‏أثناء‏ ‏الفحص‏ ‏الأول‏ (‏سنة‏ 1959) ‏مع‏ ‏النظر‏ ‏فيما ‏طرأ‏ ‏عليه‏ ‏فى ‏الأعوام‏ ‏التالية‏:‏

نبدأ‏ ‏بإثارة‏ ‏مشكلة‏ ‏الحصول‏ ‏على ‏المعلومات‏، ‏ومدى ‏إمكان‏ ‏الاعتماد‏ ‏على ‏مصادرها‏ ‏ونحن‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نتبين‏ ‏ظلال‏ ‏الأرضية‏ ‏التى ‏أنبتت‏ ‏هؤلاء‏ ‏الإخوة.

التاريخ‏ ‏العائلى:

اختلفت‏ ‏البيانات‏ ‏المسجلة‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏مختلف‏ ‏أفراد‏ ‏الأسرة‏ ‏بهذا‏ ‏الشأن‏: ‏ففى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الفحوص‏ ‏للإخوة‏ ‏الثلاث‏ ‏الأكبر‏ التى ‏تمت‏ ‏فى ‏حياة‏ ‏الوالدين‏ ‏وبحضورهم‏ (‏فتحى‏: ‏توأم‏1)، ‏فحص‏ ‏د‏. ‏حسن‏ ‏عبد‏ ‏العظيم‏ (‏سنة‏ 1960)، ‏فهمى‏: (‏توأم‏ 2)، ‏فحص‏ د. يحيى ‏الرخاوى (‏سنة‏ 1959)، ‏ثم‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏: ‏فحص‏ ‏د‏. ‏يحيى ‏الرخاوى (‏سنة‏1960) أثبتت ‏أن‏ ‏تاريخ‏ ‏الأسرة‏ ‏سلبى تماما ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بكل‏ ‏الأمراض‏ ‏العصبية‏ ‏والنفسية‏ ‏فقد تبين‏ ‏أن‏ ‏الأوراق‏ ‏التالية‏ ‏لوفاة‏ ‏الوالدين‏ (‏سنة‏ 1978-1980) ‏قد‏ ‏أثبتت‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏.‏

ففى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ ‏فحص د. مجدى‏ ‏عرفة (‏سنة‏ 1978) ‏جاء‏ ‏أن‏ ‏إبن‏ ‏عم‏ ‏الوالد‏ “‏كان‏ ‏عنده‏ ‏جنون‏ ‏صريح أدخل بسببه مستشفى‏ ‏العباسية‏ للأمراض العقلية”، وإبنه‏ ‏”برضه‏” (‏ابن‏ ‏ابن‏ ‏العم‏ ‏هذا‏) “‏كانوا‏ ‏بيقولوا‏ ‏عنده‏ ‏نفس‏ ‏الحالة‏”، ‏كما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏الأخ‏ ‏الأصغر‏ (‏وائل‏) ‏فحص‏ ‏د‏. ‏أمانى ‏الرشيدى (‏سنة‏ 1980)( [2]): أن‏ ‏الجد‏ ‏للوالد‏ ‏مات‏ ‏فى ‏مستشفى ‏العباسية‏ ‏للأمراض‏ ‏العقلية‏، ‏وأن‏ ‏بعض‏ ‏الأعمام‏ ‏يتعاطون‏ ‏الحشيش‏ ‏وأن‏ ‏هناك‏ ‏إبن‏ ‏عم‏ ‏كان‏ ‏عنده‏ ‏صرع‏ ‏ومات‏ ‏فى ‏مستشفى ‏العباسية‏ أيضا، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏اشتباه‏ ‏فى ‏اضطراب‏ ‏نفسى ‏أصاب‏ ‏أحد‏ ‏الأخوال‏.‏

المناقشة‏:‏

أولا‏:‏

‏(1) ‏تثير‏ ‏هذه‏ ‏المراجعة‏ ‏أهمية‏ ‏الحذر‏ ‏فى ‏أخذ‏ ‏المعلومات‏ ‏من‏ ‏المرضى ‏أو‏ ‏من‏ ‏الأقرباء‏ ‏دون‏ ‏تدقيق‏ ‏كاف‏ ‏أو‏ ‏فحص‏ ‏مباشر‏، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏الهدف‏ ‏هو‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏الذى ‏قد‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏ما يترتب على أى معلومات تصدر عن ما يسمى “البحث العلمى”‏.

‏(2) ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏سبب‏ ‏اختفاء‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏فى ‏الأوراق‏ ‏الباكرة‏ ‏هو‏ ‏أنها‏ ‏أخذت‏ ‏من‏ ‏الوالد‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏حياته‏، ‏وقد‏ ‏تحرج‏ ‏أو‏ ‏أنكر‏ ‏أو‏ ‏أغفل‏ ‏أو‏ ‏تناسى ‏أو‏ ‏قصد إنكارها، خاصة وأنه كان يشغل منصباً أمنيا رسمياً (متوسطا جداً)، ‏أما‏ ‏بعد‏ ‏وفاته‏ ‏فقد‏ ‏تكلم‏ ‏عنها‏ ‏الأبناء‏ ‏و‏” ‏الأخت‏ ‏الراعية‏” (‏جمالات‏) ‏بدرجة‏ ‏أقل‏ ‏حرجا‏.‏

‏(3) ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏الأمراض‏ ‏قد‏ ‏حدثت‏ ‏بين‏ ‏الفحص‏ ‏الأول‏ ‏والثانى ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏مستبعد‏ ‏بالنسبة‏ ‏للجد‏ ‏والأعمام‏، ‏ثم‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏التذكرة‏ ‏بأن‏ ‏أغلب‏ ‏هذه‏ ‏الأمراض‏ ‏هى ‏أمراض‏ ‏مزمنة‏، ‏وتظهر‏ ‏عادة‏ ‏فى ‏سن‏ ‏مبكرة‏، ولا يمكن إغفالها أو نسيانها بهذه السهولة.

‏(4) ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏أدلت‏ ‏بها‏ ‏الأخت‏ ‏قد‏ ‏وصلت‏ ‏إليها‏ ‏مؤخرا‏، ‏ما‏ ‏بين‏ ‏الفحصين‏، ‏وهذا‏ ‏مستبعد‏.

ثانيا‏:

‏1- ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏التاريخ‏ ‏الأسرى ‏يشير‏ ‏إلى ‏أهمية‏ ‏عامل‏ ‏الوراثة‏ ‏فى ‏الإعداد‏ ‏للاستهداف‏ ‏لأمراض‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأخوة‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏ليس‏ ‏واضحا‏ ‏وضوحا‏ ‏صريحا‏، ‏والعلاقة‏ ‏تبدو‏ ‏غير‏ ‏مباشرة‏ ‏على ‏الأقل‏، ‏وهى ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏عن‏ ‏العلاقة‏ ‏السببية‏، ‏ثم‏ ‏لاحظ‏ ‏أن‏ ‏الاستعداد‏ ‏الوراثى ‏كان‏ ‏مبنيا على فرض علمى يقول: إن‏ “‏أمراضا‏ ‏نفسية مختلفة‏” ‏تهيىء‏ ‏لظهور‏ “‏أمراض‏ نفسية ‏مختلفة‏”)، بمعنى أن الوراثة لا تقتصر على أن مرضا بذاته (الفصام مثلاً) يورث نفس المرض (الفصام) عند الجيل التالى، وإنما يعمم الاستهداف لأى مرض إذا ما رصد تاريخ ظهور أى مرض نفسى فى العائلة عموما.

‏2- ‏إن‏ ‏الوالدين‏ ‏كانا‏ ‏فى ‏صحة‏ ‏سوية،‏ ‏على ‏ما‏ ‏يبدو‏، ‏أى ‏ليس‏ ‏بأحدهما‏ ‏مظاهر‏ ‏أى ‏من‏ ‏الأمراض‏ ‏المشابهة‏ أ‏والجسيمة‏، وليس بينهما قرابة دم، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏تبين ‏- ‏كما‏ ‏سيرد‏- ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏ذلك (أنظر بعد)‏.‏ 

3- ‏إن‏ ‏تنوع‏ ‏الأمراض‏ ‏فى ‏الأسرة‏ (‏جنون‏ – ذهان: ‏مزمن غير متميز‏-‏ جنون‏ – ذهان: ‏متكرر‏- ‏صرع‏- ‏اعتماد‏ ‏على ‏العقاقير‏- ‏اضطرابات‏ ‏نفسية‏ ‏غير‏ ‏محددة‏) ‏قد‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏طبيعة‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏الموحدة‏([3]) (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏بعض‏ ‏أنواع‏ ‏الصرع‏)([4]) ‏والتى ‏تتغير‏ ‏مظاهرها‏ ‏السلوكية‏ ‏باختلاف‏ ‏المتغيرات‏ ‏الأخرى‏- ‏داخليا‏ ‏وخارجيا‏- ‏أثناء‏ ‏ظهورها‏، على أن ثراء التاريخ الأسرى بأمراض متنوعة ليس دليلا على وراثة الأمراض النفسية والعقلية، وإنما على وراثة استعدادٍ ما، أحد مظاهره هو هذه الأمراض النفسية([5]) أو تلك.

4- ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏البيئة‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏مباشرة‏ ‏إلى ‏أى ‏عامل‏ ‏بيئى ‏محدد‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعد‏ ‏مسئولا‏ ‏عن‏ ‏مرض‏ ‏بذاته‏، ‏مما‏ ‏يزيد‏ ‏من‏ ‏الحيرة‏ ‏حول‏ ‏طبيعة‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ ‏البيئة‏ ‏والوراثة‏، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بفكرة‏ “‏الأم‏ ‏المـُـحـْـدثة‏ ‏للفصام‏”([6]).‏

5- ‏لا‏ ‏يكاد‏ ‏يعرف‏ ‏عن‏ ‏الحالات‏ ‏التى ‏عرضها‏ ‏التراث‏ ‏بلغة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏إشارة‏ ‏واضحة‏ ‏للعلاقة‏ ‏بين‏ ‏الوراثة‏ ‏والمرض‏ ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏حالات‏ ‏فرويد‏ ‏المنشورة‏، (‏ورغم‏ ‏القول‏ ‏بأن أغلبها  ‏كانت‏ ‏حالات‏ ‏عصابية‏ ‏وبالتالى ‏تقل‏ ‏أهمية‏ ‏الوراثة‏، ‏فقد‏ ‏ثبت‏ ‏عدم‏ ‏صحة‏ ‏هذا‏ ‏التشخيص‏ ‏بالمراجعة‏)([7]).

وبعد‏:‏

إذا‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏الأرضية‏ ‏الوراثية‏ الإيجابية غامضة‏ ‏غير‏ ‏متجانسة‏ بهذه الدرجة، ‏فما‏ ‏الذى ‏حدث‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏لتخرج‏ ‏هؤلاء‏ ‏الإخوة‏ ‏الأربعة‏ ‏الذين‏ ‏يعانون‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الأمراض الجسيمة‏ المتداخلة ‏بهذه‏ ‏الصورة؟

لنتقدم‏ ‏خطوة‏ ‏لنتعرف‏ ‏على ‏الوالد‏ ‏رحمه‏ ‏الله‏‏:

ولكن‏ ‏كيف‏ ‏نتعرف‏ ‏عليه‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏السنين‏ ‏وليس‏ ‏أمامنا‏ ‏إلا‏ ‏الأوراق‏، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏ذاكرة‏ ‏المؤلف‏ ‏مثارة‏ ‏بما‏ ‏ثبت‏ ‏فى ‏الأوراق؟

هذا‏ ‏هو‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏قصدناه‏ ‏من‏ ‏نشر‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏بهذا‏ ‏المنهج‏ ‏لنثير‏ ‏فى ‏القارئ‏ ‏موقفا‏ ‏نقديا‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏نفرض‏ ‏عليه‏ ‏معلومات‏ ‏جاهزة‏ ‏وكأنها‏ ‏الحق‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏.

الوالد‏:‏

‏(1) ‏ورد‏ عن الوالد (و‏كان‏ ‏عمره‏ ‏حينذاك‏ 56‏ سنة‏) ‏فى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ (‏ديسمبر‏ 1959) أن‏ ‏الناس‏ ‏تقول‏ ‏عنه‏ ‏أنه‏”:

“عظيم‏ ‏جدا‏ ‏ومتواضع‏ ‏وما‏ ‏بيستغلش‏ ‏سلطته‏”‏

و‏ ‏قد‏ ‏كان‏ ‏يعمل‏ ‏مـفـتش‏ ‏ضـبـط‏ (‏ضابط‏ ‏شرف‏، ‏ترقى‏ ‏إلى ‏ملازم‏ ‏أول‏)، ‏أما‏ ‏رأى ‏فهمى‏ (15 ‏سنة‏)” ‏فيه‏ ‏حينذاك‏ ‏فهو‏ ‏أنه‏:

“رزين‏ ‏وهادىء‏”‏

وقد‏ ‏علق‏ ‏على ‏علاقة‏ ‏أبيه‏ ‏بأمه‏ ‏بأنها:

‏”‏علاقة‏ ‏معتدلة‏، ‏بيتخانقوا‏ ‏بسبب‏ ‏عمتى‏”.

‏(2) ‏لكن ورد‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏فتحى (‏التوأم‏) ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تقريبا‏ (1960) بواسطة ‏فاحص‏ ‏آخر‏ ‏ورد‏ ‏أن‏ ‏الوالد‏:

‏”‏…‏‏، ‏ضابط‏ ‏بوليس‏، ‏رجل‏ ‏قاسى‏، ‏أب‏ ‏شديد‏، ‏وطاغ‏ ‏ويضرب‏ ‏زوجته‏”.‏

‏(3) ‏أما‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بتسعة‏ ‏عشر‏ ‏عاما‏ ‏وبعد‏ ‏وفاة‏ ‏الوالد‏ ‏بعشر‏ ‏سنوات‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ لاحقا (1978) فهو ‏أنه‏:‏

‏”‏كان‏ ‏طبعه‏ ‏هادىء‏، ‏لما‏ ‏بيغضب‏ ‏كان‏ ‏يضرب‏ ‏ماما‏‏، ‏ ‏كان‏ ‏ماسك‏ ‏فى ‏الصدق‏، ‏ما‏ ‏بيزعقش‏!!، ‏كان‏ ‏منطوى ‏ما‏ ‏بيحبش‏ ‏الناس، ‏ولا‏ ‏يختلط‏ ‏بيهم‏، ‏كان‏ ‏شكاك‏، ‏يغير‏ ‏على ‏والدتى‏”.

‏(4) ‏أما‏ فى ‏أوراق‏ ‏الأخ‏ ‏الأصغر‏ (1980) ‏فقد‏ ‏جاء‏ ‏فيها‏ ‏أنه:

‏”‏كان‏ ‏طيب‏، ‏كان‏ ‏بيحاول‏ ‏يوفر‏ ‏لنا‏ ‏حياة‏ ‏سعيدة‏”.

المناقشة‏: ‏

مرة‏ ‏أخرى ‏نتوقف‏ ‏لنتساءل‏: “‏من‏ ‏هو‏ ‏هذا‏ ‏الوالد‏‏” ‏وكيف‏ ‏نتعرف‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذه‏ ‏المعلومات‏ ‏المتباعدة‏ ‏أحيانا‏، ‏المتناقضة‏ ‏أحيانا‏؟

قد‏ ‏يفيد‏ ‏أن‏ ‏أذكر‏ ‏انطباعى ‏الشخصى ‏عنه‏ ‏إذ‏ ‏أتذكره‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى‏:‏

‏”‏كان‏ ‏مصريا مكافحاً ترقـَّـى حتى أصبح ضابطاً‏ ‏ذو‏” ‏كرش‏” ‏صغير‏ ‏محترم‏، ‏و‏”‏لغد‏” ‏متوسط‏، أقرب‏ ‏إلى السمنة‏، ‏قليل‏ ‏الانفعال‏ ‏بشكل‏ ‏ظاهر‏، ‏كنت‏ ‏أتعجب‏ ‏وهو‏ ‏يُحْضر‏ ‏لى ‏الولد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏ ‏وعنده‏ ‏ما‏ ‏عنده‏ ‏مما‏ ‏يزعج‏ ‏أى شخص، ناهيك عن والد أصيب فى أولاده هكذا‏، ‏لكنه‏ كان ‏يحكى ‏عن‏ ‏أعراض أولاده‏، على التوالى: ‏ ‏بهدوء‏ ‏عجيب‏، ‏هل‏ ‏كان‏ ‏يتألم؟ ‏نعم‏ ‏بكل‏ ‏تأكيد. تـُرى لماذا ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يـُـظهر‏ ‏ألمه؟‏ ‏هل‏ ‏هى ‏بطولة‏ ‏الأب‏ ‏المصرى ‏البرجوازى ‏الصغير‏ ‏الشجاع‏؟ ‏هل‏ ‏كانت‏ ‏جرعة‏ ‏الألم‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏قدرة‏ ‏التعبير؟‏ ‏هل‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏ارتاح‏ ‏لأن‏ ‏الذى ‏يَحْذَرُه ‏قد‏ ‏وقع([8])‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏حاصلا‏ ‏فعلا‏، ‏ولكن‏ ‏أين‏ ‏الحقيقة‏ “‏العلمية‏”‏؟

أذكر‏ ‏أنى ‏لم‏ ‏أحبه‏ ‏ولم‏ ‏أكرهه‏، ‏كنت‏ ‏أحترمه‏ ‏وأعجب‏ ‏منه‏.

تعجبت‏ ‏حين‏ ‏أحضر‏ ‏لى ‏فهمى‏، ‏وكان‏ ‏فتحى ‏توأمه‏ ‏قد‏ ‏دخل‏ ‏المستشفى ‏قبله، ‏وسألته‏:

عن سبب الاستشارة وطلب الدخول،

فأجاب‏: ‏من‏ ‏نص‏ ‏الأوراق‏ ‏الباكرة‏ (‏سنة‏ 1959):‏

‏(1) ‏الولد‏ ‏وَحَشُه‏ ‏أخوه‏ ‏قال‏ ‏ييجى ‏يشوفه‏. ‏ثم‏: ‏الولد‏ ‏مش‏ ‏بيذاكر‏، ‏كان‏ ‏جاله‏ ‏الدور‏ ‏وخد‏ ‏كهرباء‏ ‏إنما‏ ‏الظاهر‏ ‏ماتحسنش قوى ‏عشان‏ ‏ماكملش‏ ‏العلاج‏…”.‏

ثم‏ ‏يطلب‏ ‏أن‏ ‏يمكث‏ ‏الولد‏ ‏مع‏ ‏أخيه (‏التوأم‏) “فى المستشفى: ‏يتعالج‏ “‏بالمرة‏” ‏لأنهما‏ ‏لا‏ ‏يفترقان‏ ‏فى ‏العادة‏. (لاحظ تعبيره: “يتعالج بالمرّة!”)‏  لم‏ ‏ألاحظ‏ ‏فيه‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏والدا‏ ‏طاغيا‏ ‏أو‏ ‏انطوائيا‏، ‏كما‏ ‏وصفه‏ ‏أغلب‏ ‏أبنائه‏، ‏لم‏ ‏أستشعر‏ ‏قسوته‏ ‏أبدا‏، ‏لكننى ‏أشفقت‏ ‏على ‏الأم‏، ‏ليس‏ ‏منه‏ ‏بالضرورة‏ ‏ولكن‏ ‏ربما‏ ‏من‏ “‏كل‏ ‏شىء‏” ‏مجتمِعا‏، ‏أحسست‏ ‏أن‏ ‏علاقة ‏هذا‏ ‏الوالد‏ ‏بأخته‏ ‏المـُـطـَـلـَّـقة‏ (‏العمة‏ – ‏وهى علاقة‏ ‏مشهورة‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏المصرى‏) ‏هى ‏أساس‏ ‏ما‏ ‏وصفه‏ ‏التوأم‏ ‏الأول‏، ‏حين‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏ظلم‏ ‏أبيه‏ ‏لأمه‏، ‏أى ‏أن‏ ‏الظلم‏ ‏الواقع‏ ‏نابع‏ ‏من‏ ‏العلاقة‏ ‏الخاصة‏ ‏بين‏ ‏الأب‏ ‏وأخته‏، ‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏بسبب‏ ‏تدخل‏ ‏الأخت‏ ‏مباشرة‏، ‏وقد‏ ‏افترضت‏ ‏أن‏ ‏قدر‏ ‏العواطف‏ ‏الطليقة المتاحة للممارسة بين‏ ‏أفراد‏ ‏الأسر‏ ‏البرجوازية‏ ‏المتوسطة‏ ‏هو‏ ‏قدر‏ ‏كمى ‏محدود‏، ‏وهو‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏عدد‏ ‏محدد‏ ‏من‏ ‏الوحدات‏ ‏البشرية‏ (!!)، ‏وكأنه‏ ‏يتحتم‏ ‏أن‏ ‏يتم‏ ‏حب‏ ‏أحد‏ ‏الناس‏ ‏على ‏حساب‏ ‏حب‏ ‏الآخر‏، ‏‏ماذا‏ ‏كان‏ ‏يمكن أن يعمل‏ هذا ‏الأب أكثر مما عمل‏ ‏وكم‏ ‏العواطف‏ ‏محدود‏ ‏ومحجور‏ ‏عليه‏ ‏مسبقا‏، ‏والاختيار‏ ‏صعب‏، ‏والتركيب‏ ‏البرجوازى ‏متجمد‏ ‏من‏ ‏الخوف‏؟‏.

ولكن‏ ‏دعونا‏ ‏نتعرف‏ ‏على ‏هذه‏ ‏العــَمّة‏ التى كانت تقيم معهم ‏أولا‏: ‏

ورد‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ (1959) ‏وكما‏ ‏سجلت‏ ‏أنا‏ ‏حينذاك:

‏” ‏تزوجتْ‏ ‏مرتين‏ ‏ثلاثة‏ (‏كلام‏ ‏فهمى‏) ‏كانت‏ ‏متجوزة‏ ‏واتطلقت‏ ‏عشان‏ …. (لم يذكر السبب وقال:) ‏الله‏ ‏أعلم‏ ([9])، ‏فكانت‏ ‏عايشة‏ ‏مع‏ ‏بابا‏ ‏فى ‏بيته‏، ‏أخلاقها‏ ‏بطـّـاله‏ ‏وبـْتـِذلّ‏ ‏ماما

‏ ‏”وأنا‏ ‏باكرهها‏ ‏وهيه‏ ‏بنت‏ ‏كلب‏، ‏الناس‏ ‏بيقولوا‏ ‏عنها‏ ‏وحشه‏ (‏يجوز‏ ‏إن‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏هم‏ ‏أمه‏ ‏فقط‏) ‏هيه‏ ‏بتكره‏ ‏بابا‏ (‏من‏ ‏أدراه؟) وبتتصنع‏ ‏إنها‏ ‏بتحبه‏”، ‏‏واحنا‏ ‏صغيرين‏ ‏جت‏ ‏لنا‏ ‏عمتى دى ‏وانكسر‏ ‏الصينى ‏بتاع‏ ‏ماما‏ ‏بسببها ‏ (‏لم‏ ‏يقل‏ ‏كيف؟ ‏ربما‏ ‏كان‏ ‏يقصد‏ ‏الحسد‏ ‏فى ‏الأغلب‏).‏

‏ ‏فى ‏الأسرة‏ ‏المصرية‏ ‏المتوسطة‏ ‏البرجوازية‏ ‏محدودة‏ ‏الوعى، محدودة الدخل ‏تصبح‏ ‏هذه‏ ‏الصورة‏ ‏عادية‏ ‏تقريبا‏، ‏لكن‏ ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏عادى ‏إذا‏ ‏حدث‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏وراثى ‏معين‏، ‏مع‏ ‏جرعة‏ ‏متزايدة‏ ‏من‏ ‏عدم‏ ‏الأمان‏، ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏نضوب‏ ‏معين‏ ‏العواطف‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مصدر‏ ‏حتى ‏ينشأ‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأطفال‏ ‏فى ‏جفاف‏ ‏فلا‏ ‏تلبث‏ ‏أن‏ ‏تتشقق‏ ‏نفوسهم‏ ‏عطشا‏ ‏من‏ ‏جراء‏ ‏القسوة‏ ‏والترك‏ ‏إهمالا‏؟ ‏وعموما، قد كان ‏ ‏يبدو‏ ‏أن عدم‏ ‏الأمان‏ -‏ ‏هو‏ ‏القاسم‏ ‏المشترك‏ ‏الأعظم‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏أفراد‏ هذه ‏الأسرة – ‏أذكر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ هو‏ ‏ما‏ ‏وصلنى ‏منهم فردا فردا: مرضى وأصحاء‏، ‏أما‏ ‏المرضى ‏فكانوا‏ ‏يعلنونه‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الأعراض‏ ‏بالانسحاب‏ ‏أو‏ ‏بالتفكك‏، ‏أما‏ ‏الأصحاء‏ (‏أو‏ ‏ظاهروا‏ ‏الصحة‏: ‏بمعنى ‏أنهم‏ ‏بلا‏ ‏أعراض‏ ‏ظاهرة‏ ‏ولم‏ ‏يستشيروا‏ ‏طبيبا‏) ‏فقد‏ ‏بدا‏ ‏فتور‏ ‏العواطف‏ ‏الذى ‏ظهر‏ ‏على ‏أغلبهم‏ ‏كأنه‏ ‏هو‏ ‏الدرع‏ ‏الواقى ‏ضد‏ ‏إعلان‏ ‏عدم‏ ‏الأمان‏ ‏الذى ‏وصلنى ‏منهم‏، ‏وربما‏ ‏هو الذى ‏أوصلهم‏ ‏وأوصل‏ ‏أولادهم‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏وصلوا‏ ‏إليه‏.

عاد الوالد يقول‏‏ ‏دون‏ ‏انفعال‏ ‏ظاهر‏ ‏وهو‏ ‏يقدم‏ – لاحقا – “الأخ‏ ‏الأكبر‏” (‏مختار‏) ‏ليدخل‏ ‏مع‏ ‏أخويه التوأم‏ ‏إلى ‏القسم‏ ‏الداخلى ‏بعد شهرين يقول: بنفس‏ ‏الهدوء‏ ‏السالف‏ ‏الذكر‏. ‏

‏”‏حالة‏ ‏الولد‏ ‏النفسية‏ ‏زى ‏إخواته‏ ‏وألعن‏، ابتدأ ‏ يضطرب‏ ‏ويختل‏ ‏وعندهْ‏ ‏رغبة‏ ‏إنه‏ ‏ينتقم‏ ‏من‏ ‏أمه‏”.‏

كنتُ‏ ‏أشعر ‏-‏ على ‏قدر‏ ‏ما‏ ‏أذكر‏-  أمام‏ ‏هذا‏ ‏الوالد‏ ‏أننى ‏أمام‏ ‏بطل‏ ‏مهزوم‏، ‏كان‏ ‏مهزوما‏ ‏من‏ ‏الداخل‏ ‏من‏ ‏زمن‏ ‏لا‏ ‏أعلمه‏، (‏تبين‏ ‏فيما‏ ‏بعد ذلك بسنوات!!‏ ‏أن‏ ‏والده‏ ‏مات‏ ‏فى ‏مستشفى ‏للأمراض‏ ‏العقلية‏) ‏ثم‏ ‏أعلنت‏ ‏هزيمته‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏هذه‏ ‏الزهور‏ ‏المتساقطة‏ ‏الأوراق‏: ‏مرض‏ ‏أولاده‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏.‏

كنت‏ ‏أجلس‏ ‏معه‏ ‏فأحترمه‏ ‏احتراما‏ مناسبا ‏برغم‏ ‏تبلده‏ ‏الظاهر‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فلم‏ ‏أكن‏ ‏أدرك‏ ‏لماذا‏ ‏لم‏ ‏أتـّهُمه كما اعتدتُ، ‏وأنا‏ ‏أعرف‏ ‏عن‏ ‏نفسى ‏شبهة‏ ‏سرعة‏ ‏ووضوح‏ ‏رؤيتى لأعماق ‏الوالدين،‏ خاصة أولئك الذين أظن أنهم مِنْ ‏مُسْتَعِمْلى ‏أولادهم‏، ‏كما أعرف احتمالات مبادرتى ‏باتهامهم،‏ ‏داخل‏ ‏نفسى ‏على ‏الأقل‏، وأحاول أن أحول  دون ذلك فى نقسي، ‏لم‏ ‏أشعر‏ ‏منهُ‏ ‏بطموح‏ ‏الوالد‏ ‏البرجوازى‏، ‏ولا‏ ‏بحزنه‏ (‏على ‏مستقبل‏ ‏الأولاد‏ ‏الضائع‏)، ‏لم‏ ‏أسمع‏ “‏عديدا‏” ([10]) ‏على ‏فضائلهم‏ ‏التى ‏أضاعها‏ ‏المرض‏ ‏وأنهم‏ “كانوا‏ ‏وكانوا‏” ‏ثم‏ ‏هاهى ‏العين‏ ” ‏قد‏ ‏صابتهم‏” ‏و‏”‏يا‏ ‏حسرة‏ ‏على ‏البخت‏” ‏و‏”‏إشمعنى ‏أنا‏”، ‏لم‏ ‏يحدث‏ ‏أى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏يحب‏ ‏أن‏ ‏يتصوره‏ ‏الناس‏، ‏وهو ما أعرف‏ ‏عن‏ ‏نفسى ‏أنى ‏كنت‏ – ‏ولمرحلة‏ ‏ليست‏ ‏قصيرة‏ – ‏أميل‏ ‏إلى ‏افتراضه‏، ‏أتصيده‏ ‏فى ‏الوالدين‏ ‏لألقى ‏عليهما‏ ‏اللوم،‏ ‏كما‏ ‏أوحى ‏إلىّ – خطأ –  موقفى الذى غلبنى ‏زمنا‏ ‏من‏ ‏جراء‏ ‏الشائع‏ ‏وأوهام‏ ‏سوء‏ ‏فهم‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏والأفكار‏ ‏شبه‏ ‏التحررية‏، رحمه الله.

‏ثم‏ ‏نتساءل‏:

ما‏ ‏هو‏ ‏دور‏ ‏هذا‏ ‏الوالد‏ ‏فى ‏مرض‏ ‏الأولاد‏، ‏هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أضع‏ ‏صفاته‏ (‏المتناقضة‏ ‏أحيانا‏، ‏المتباعدة‏ ‏أحيانا‏ ‏كما‏ ‏وردت‏ ‏فى ‏الأوراق‏) ‏فى ‏داخل‏ ‏هذا‏ ‏الإطار‏ ‏الذى ‏وصلنى ‏فوصفته‏ ‏كما‏ ‏تذكرته‏: ‏لم‏ ‏لا؟ فلنحاول‏: ‏

طبيعى ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏الناس‏ ‏عنه ‏- من ‏واقع‏ ‏هدوئه‏ ‏البادى ‏- ‏أنه‏ “‏عظيم‏ ‏جدا‏ ‏ومتواضع‏” ربما كما ألمحتُ الآن لتوى.

وأن‏ ‏يقول‏ ‏عنه‏ ‏إبنه‏ ‏فهمى‏ ‏أنه‏ “‏رزين‏ ‏وهادىء” ‏(لعله‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏فتور‏ ‏العواطف‏ ‏السالف‏ ‏الذكر)‏.‏

أما‏ ‏أنه‏ ‏”رجل‏ ‏قاس‏ ‏وأب‏ ‏شديد”‏ (‏كما‏ ‏قال‏ فتحى‏) ‏وأنه‏ ‏طاغ‏ ‏يضرب‏ ‏زوجته، ‏‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الوجه‏ ‏الآخر‏ ‏لهذه‏ ‏الصورة‏ ‏الخارجية‏، ‏حين‏ ‏يفقد‏ ‏تحكمه‏ ‏ويخلع‏ ‏قناع‏ ‏اللامبالاة‏، ‏وينفجر‏.

الطغيان‏ ‏عموما‏ ‏لا‏ ‏يتناقض‏ ‏مع‏ ‏الطبع‏ ‏الهادىء‏ (‏ظاهريا‏) ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏متعارض‏ ‏مع‏ ‏الانطواء‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏الشخص‏ ‏الطاغى ‏هو‏ ‏منعزل‏ ‏بالضرورة‏، ‏بل‏ ‏لعله‏ ‏طاغ‏ ‏لأنه‏ ‏وحيد، ‏وهو‏ ‏أيضا‏ ‏وحيد‏ ‏لأنه‏ ‏طاغ‏.

وقد‏ ‏ينشأ‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏موقف‏ ‏يغلب‏ ‏عليه‏ ‏التحفز‏ ‏الذى ‏يظهر‏ ‏عادة‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏شكوك‏، ‏ثم‏ ‏قد‏ ‏تتطور‏ ‏هذه‏ ‏الشكوك‏ ‏إلى ‏ضلالات‏ ‏صريحة‏، ‏ويبدو أن هذا‏ ‏التوجه‏ هو ‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏سائدا‏ ‏بين‏ ‏معظم‏ ‏أفراد‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏.

أما‏ ‏ذكريات‏ ‏الأخ‏ ‏الأصغر‏ ‏عن‏ “‏طيبة‏” ‏أبيه‏، ‏وعن‏ ‏محاولاته‏ ‏توفير‏ ‏حياة‏ ‏سعيدة‏ ‏للأسرة‏ ‏فلاشك‏ ‏فى ‏صحتها‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏نظره‏، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏أصغرهم‏ ‏قد‏ ‏التقط‏ ‏ما‏ ‏فى ‏داخل‏ ‏أبيه‏ ‏من‏ ‏ضعف‏ ‏إنسانى ‏منهك‏، ‏وما‏ ‏فى ‏خارجه‏ ‏من‏ ‏محاولات‏ ‏الأب‏ ‏المصرى ‏المكافح‏ ‏لإسعاد‏ ‏أولاده‏ فلم‏ ‏يعد‏ ‏ثـَـمَّ‏ ‏تناقض‏ ‏أصلا‏.

يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نحذر‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏أوصاف‏ ‏لفظية‏ ‏محدودة‏ ‏متباعدة‏، ‏إذا ما‏ ‏زادت‏ ‏المسافة‏ ‏بينها‏ ‏بدت‏ ‏وكأنها‏ ‏متناقضة‏‏!!!‏

ثم إنى قد‏ ‏وجدتُ‏ ‏بين‏ ‏الأوراق‏ ‏”بروفيل” للشخصية‏ ‏عليه‏ ‏إسم‏ ‏الوالد،‏ ‏وهو‏ ‏ورقة‏ ‏إجابة‏ ‏لاختبار‏ ‏ ‏للشخصية‏، ‏يقيس‏ ‏أعراضا‏ ‏وسمات‏ ‏متعددة‏ (‏إختبار‏ ‏منيسوتا‏ ‏متعدد‏ ‏الأوجه MMPI)‏، ‏وكان‏ ‏الوالد‏ ‏قد‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يجريه‏ ‏على ‏نفسه بناء على طلبى‏، ‏وقد‏ ‏كنت‏ ‏قد‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أطبق‏ ‏على ‏الوالد‏ (‏سنة‏1960) ‏نفس‏ ‏الاختبارات‏ ‏التى ‏طبقت‏ ‏على أولاده ‏المرضى ‏من‏ ‏الأسرة‏، كما ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أطبقها‏ ‏على ‏كل‏ ‏أفراد‏ ‏الأسرة‏ ‏الـ‏ “‏بلا‏ ‏أعراض‏” ‏ولم‏ ‏يقبل‏ ‏ذلك‏ ‏سوى ‏الوالد‏، ‏وبقيت‏ ‏هذه‏ ‏الورقة‏ ‏وبها‏ ‏هذا البروفيل دون تفسير من جانبى كل هذه السنوات، ‏هل‏ ‏تعلمون‏ ‏ماذا‏ ‏ظهر؟‏ ‏لقد‏ ‏ظهرت‏ ‏الصفحة‏ ‏النفسية‏ ‏أبعد‏ ‏عن‏ ‏السواء‏ ‏من صفحات‏ ‏أولاده‏ ‏ذوى ‏الأعراض‏ ‏الخطيرة‏ (‏فتحى ‏وفهمى‏ ‏بالذات‏)، ‏وتبين‏ ‏أن‏ ‏مقاييس‏ ‏الانطواء‏ و‏الاكتئاب‏ ‏والفصام‏ ‏هى‏ ‏أكثر‏ ‏المقاييس‏ ‏ارتفاعا‏ عند الوالد، ‏هذه المقاييس برغم ما تحمل من اسماء أمراض (اكتئاب – فصام …إلخ)‏ ‏لا‏ ‏تشير‏ ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏إلى ‏التشخيص‏ ‏المسمى ‏به‏ ‏المقياس، ‏إلا‏ ‏أنى ‏أنبه‏ هنا ‏إلى ‏أهمية‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏القياسات‏ (‏رغم‏ ‏التحذير‏ ‏المتكرر‏ ‏من‏ ‏سوء‏ ‏استعمالها‏) ‏فى ‏السماح‏ ‏بإظهار‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏خافٍ‏ ‏عن‏ ‏النظرة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏السريعة‏، ‏وقد‏ ‏كانت مصداقية Validity‏ ‏الصفحة‏ ‏النفسية‏ ‏عالية بمعنى أن نتيجة الاختبار يعوّل عليها‏، ‏ولا‏ ‏مجال‏ ‏هنا‏ ‏لمزيد من التفاصيل‏.

ثم‏ ‏ننتقل‏ ‏إلى ‏الأم‏:‏

‏دعونا‏ ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏نبدأ‏ ‏من‏ ‏الاتجاه‏ ‏الآخر‏، ‏من انطباعى الشخصى مع المقتطفات والتأويل؛ وذلك ‏على ‏قدر‏ ‏ما‏ ‏أذكر‏، ‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بعلاقتها‏ ‏بزوجها‏، ‏ثم‏ ‏أولادها‏ ‏أساسا‏:

لا‏ ‏أكاد‏ ‏أذكرها‏ ‏بنفس‏ ‏الوضوح‏ ‏الذى ‏أذكر‏ ‏به‏ ‏الوالد‏ ‏حاليا‏ (‏وقت‏ ‏كتابة‏ ‏هذا‏ ‏الرأى: ‏سنة‏ 1984)، ‏ولا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏عنها‏ ‏إلا‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏أمرأة‏ ‏مصرية‏ ‏بدينة‏ ‏بيضاء‏، يبدو أنها ‏تنازلت‏ ‏عن‏ ‏جميع‏ ‏حقوقها‏ ‏الإنسانية‏ ‏باستسلام‏ ‏فى ‏غاية‏ ‏القسوة‏ (‏على ‏نفسها‏ ‏وعلى ‏الآخرين‏ ‏معا‏)، ‏ودفعت‏ ‏ثمن‏ ‏ذلك‏ ‏أمراضا‏ ‏جسمية‏ ‏غير‏ ‏واضحة‏.‏

جاء‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏فتحى ‏وصفا‏ ‏لها‏ (1959):

‏ “‏ست‏ ‏مريضة‏ ‏تعبانة‏” ‏

أما‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ (1959):‏

‏”‏عندها‏ ‏مرض‏ ‏فى ‏القلب‏” “‏كويسة‏ ‏بس‏ ‏عصبية‏ ‏بسيط‏” ‏

أما‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بعشرين‏ ‏عاما‏ (‏تقريبا‏) ‏فى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ (1978): ‏

‏”‏كانت‏ ‏تتنرفز‏ ‏وتزعق‏ ‏باستمرار‏ ‏واتعالجت‏ ‏عند‏ ‏فلان‏ (‏أستاذ‏ ‏أمراض‏ ‏عصبية‏)”‏

‏و‏ربما‏ ‏كانت‏ ‏أمراضها‏ ‏الجسمية‏ ‏ليست‏ ‏سوى ‏تعبير‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏الهزيمة‏ ‏التى ‏رضيت‏ ‏بها‏ ‏شبه‏ ‏مختارة‏ (‏ظاهريا‏). ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏فارق‏ ‏السن‏ ‏بينها‏ ‏وبين‏ ‏زوجها‏ (18 ‏سنة‏) ‏غير‏ ‏ظاهر‏، ‏على ‏هيأتهما‏، ‏وكأنها‏ ‏فى ‏استسلامها‏ ‏وإهمالها‏ ‏نفسها‏ ‏قد‏ ‏قررت‏ ‏أن‏ ‏تتنازل‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏سنى ‏عمرها‏ ‏أيضا‏…. ‏أما‏ “‏طيبتها‏” ‏فقد‏ ‏أجمع‏ ‏عليها‏ ‏كل‏ ‏الثابت فى أوراق المشاهدات‏:‏

جاء‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ (1959):‏

“…‏ ‏طيبة‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏أن‏ ‏تصبح‏ ‏عرضة‏: “‏للإستعباط‏” (‏من‏ ‏العمة‏ ‏أساسا‏).‏

حكاية‏ “‏طيبة‏ ‏الأم‏ ‏المصرية‏” ‏هذه‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مراجعة‏ ‏متأنية‏، ‏فطيبة‏ ‏الضعيف‏ ‏المغلوب‏ ‏أمر‏ ‏مشكوك‏ ‏فيه‏، ‏إذ‏ ‏قد‏ ‏تفيد‏ “‏الأم‏ ‏الطيبة‏” ‏مَنْ‏ ‏حولها‏، ‏وقد‏ ‏تـُـستعمل‏ ‏بالشكل‏ ‏الذى ‏يريده‏ ‏أىُّ ‏ممن‏ ‏يتصل‏ ‏بها‏، ‏ولكن‏ ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏ذلك‏ ‏على ‏حسابها ‏وقد‏ ‏تعـلمنا‏ ‏أن‏ ‏نتساءل‏ ‏عند‏ ‏سماع‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏:‏ “‏طيبة‏”!! ‏إذن‏ ‏ماذا؟ هل‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏‏ نحتفل بهذه ‏الطيبة‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يـنتقص‏ ذلك ‏حقها‏ ‏فى ‏الاحترام‏ ‏مثلا؟

مقتطف‏ ‏واحد‏ ‏يدعونا‏ ‏للتأمل‏، ‏فى ‏هذه‏ ‏المسألة‏: ‏جاء‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏فهمى‏ 1959:‏

‏”…‏إنها‏ ‏طيبة‏ ‏جدا‏، ‏والناس‏ ‏بيقولوا‏ ‏عليها‏ ‏طيبة‏ ‏جدا‏، ثم يردف: “وعمتى ‏بتستعبطها‏”؟

لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏ليست‏ ‏كل‏ ‏الحكاية‏، ‏فهى ‏تعانى ‏من‏ ‏معاناة‏ ‏نفسية‏ ‏يمكن‏ ‏إرجاعها‏ -ولو جزئيا-‏إلى ‏إهمال‏ ‏الزوج‏ ‏ومكائد‏ ‏أخته،‏ وهى أيضا تعانى من أعراض نفسية كما‏ ‏جاء‏ ‏فى ‏كلام‏ ‏فهمى‏ (1978)‏، ‏”‏لو‏ ‏قعدت‏ ‏فى ‏بلكونة‏ ‏يتهيأ‏ ‏لها‏ ‏حتقع‏ ‏بيها‏”‏

مرة‏ ‏أخرى ‏نلاحظ‏ ‏أن‏ ‏المعلومات‏ ‏عن‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏قد‏ ‏لا‏ ‏تظهر‏ (أو ‏قل: قد‏ ‏لا‏ ‏يسمح‏ ‏لها‏ ‏أن‏ ‏تظهر، ‏كما‏ ‏حدث‏ ‏هنا‏ ‏بالنسبة‏ ‏للتاريخ‏ ‏العائلى) ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏وفاة‏ ‏من‏ ‏يهمه‏ ‏الأمر‏، ‏ولكن‏ ‏هذا‏ ‏العَرَض ‏بالذات‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏يترجم‏ ‏مباشرة‏ ‏إلى “‏رهاب‏ ‏الأماكن‏ ‏المرتفعة” ‏فهو‏ ‏متواتر‏ ‏عند‏ ‏بعض‏ ‏الأسوياء‏ لكنه، ‏قد‏ ‏يرمز‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏عدم‏ ‏الأمان‏.‏

عدتُ‏ ‏أتساءل‏ (‏ويبدو‏ ‏أنى “‏كنت‏” ‏أتساءل‏ ‏من‏ ‏البداية‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أدرى‏) ‏ما‏ ‏هى ‏طبيعة‏ ‏العلاقة‏ ‏الجنسية‏ ‏بين‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الوالد‏ ‏وهذه‏ ‏الأم؟ ‏حتى ‏افترضت‏ ‏فرضا ‏- عاما- ‏رحت‏ ‏أتحقق منه فيما بعد‏، ‏الفرض‏ ‏يقترح‏ ‏أن‏ ‏الحياة‏ ‏الزوجية‏ ‏الجنسية‏ ‏فى مثل هذه الأحوال تبدأ‏ ‏ببرود‏ ‏الزوجة‏ ‏أول‏ ‏المشوار‏ ‏ثم‏ ‏عـِـنـّـة‏ ‏الزوج‏ ‏بقية‏ ‏المشوار‏، ‏وقد‏ ‏ثبت‏ ‏لى ‏بعض‏ ‏ذلك‏ ‏بعد‏ ‏استقصاء‏ ‏متدرج‏.‏

هل‏ ‏جاء‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأولاد‏ ‏نتيجة‏ ‏لاقتراب‏ ‏اثنين‏ ‏من‏ ‏بعضهما‏ ‏لتكامل‏ ‏شـِـقـّـى ‏الوجود؟ ‏‏أم‏ ‏أن‏ ‏التلقيح‏ ‏تم‏ ‏صناعيا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏أعضاء‏ ‏بشرية‏ ‏تعمل‏ ‏بالصدفة‏ ‏أو‏ ‏بالضغط‏ ‏الميكنى ‏بعض‏ ‏الوقت‏ ‏استجلابا‏ ‏للدفء‏ ‏فى ليالى الشتاء أحيانا‏، ‏وخفضا‏ ‏للتوتر‏ ‏فى أحيان‏ ‏أخرى؟‏

وهل‏ ‏لهذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الاتصال‏ ‏أى ‏آثار‏ ‏على ‏طبيعة‏ ‏ما‏ ‏ينتظر‏ ‏الأولاد‏ ‏من‏ ‏حياة‏ ‏وخاصة‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏مصادر‏ ‏التغذية‏ (‏الوجدانية‏) ‏الإنسانية‏ ‏الخارجية‏ ‏مغلقة‏ ‏بفعل‏ ‏الجدران‏ ‏البرجوازية‏ ‏والعزلة‏ ‏الاجتماعية‏.

إنه‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏يتزوج‏ ‏اثنان‏ ‏ليتقاربا‏، ‏والسؤال‏ ‏عن‏ ‏التاريخ‏ ‏الجنسى ‏للأهل‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مقابلة‏، ‏وعلى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مستوى ‏لا‏ ‏يفيد‏ ‏فقط‏ ‏فى ‏معرفة‏ ‏نجاح هذه الوظيفة عند‏ ‏الوالدين‏ (‏مثلا‏) ‏بل‏ ‏هو‏ ‏يفيد‏ أكثر ‏فى ‏الكشف‏ ‏عن‏ ‏نوع‏ ‏التواصل‏، ‏وما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏جو‏ ‏يحيط‏ ‏بالأولاد‏ ‏حتى ‏قبل‏ ‏ولادتهم.

الأخت‏:‏

لم‏ ‏يبق فى الأسرة‏ (‏من‏ ‏غير‏ ‏المرضى) ‏سوى ‏الأخت‏ ‏الوحيدة‏ ‏التى ‏لم‏ ‏تتزوج‏ (‏حتى ‏كتابة‏ ‏هذه‏ ‏السطور‏1984، ‏وقد‏ ‏قاربت‏ ‏الأربعين‏)، ‏فقد‏ ‏ظلت‏ -‏ كما‏ ‏تقول‏-‏ متفرغة‏ ‏لرعاية‏ “‏نزلاء‏” ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏من‏ ‏المرضى، أنا‏ ‏لا‏ ‏أزال‏ ‏أذكرها‏ ‏بالكاد‏، ‏ولم‏ ‏أقابلها‏ ‏منذ‏ ‏ذلك‏ ‏الحين‏ (59/60). ‏كانت‏ ‏جميلة‏ ‏وديعة‏ (‏بنت‏ ‏سبعة عاما‏ ‏عشر‏ ‏حينذاك‏) ‏تمتليء‏ ‏بشرا‏ ‏وطيبة.

‏”‏أخذت‏ ‏الإعدادية‏ ‏التجارية‏، ‏وقعدت‏ ‏فى ‏البيت‏ ‏السنة‏ ‏دى، ‏وطباعها‏ ‏كويسة‏، ‏وهادية‏(!!) ‏وفى ‏حالها‏ ‏وبتساعد‏ ‏ماما‏ ‏فى ‏البيت‏”

(هذا ما جاء فى ‏أوراق‏ ‏فهمى ‏1959).‏

ويبدو‏ ‏أنها‏ ‏قد‏ ‏عملت‏ ‏فى ‏شركة‏ ‏ما‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏لكنها‏ ‏رجعت‏ ‏إلى ‏المنزل‏ ‏بعد‏ ‏وفاة‏ ‏الوالد‏ ‏لأن‏ ‏المعاش‏ ‏أكبر‏ (!!)،

 ‏تقول‏ ‏عن‏ ‏نفسها‏ (‏أوراق‏ ‏فهمى‏ 1978) ‏

‏”باتأثر‏ ‏باللى ‏حوالىَّ‏، ‏أفضَّل‏ ‏الهدوء‏ ‏والوحدة‏”‏

هذه‏ ‏الأخت‏ ‏هل‏ ‏هى ‏إمتداد‏ ‏للأم‏ ‏بنفس‏ ‏مزايا‏ ‏و‏ ‏مصائب‏ ‏الطيبة ‏(‏المصائب‏: ‏مثل‏ ‏الاستعمال‏ ‏الخبيث‏ ‏من‏ ‏الآخرين‏ ‏تحت‏ ‏مختلف‏ ‏العناوين‏)‏؟

لماذا‏ ‏لم‏ ‏تظهر‏ ‏عليها‏ ‏هى ‏الأخرى ‏أعراض‏ ‏مثل‏ ‏إخوانها؟ ‏هل‏ ‏كان‏ ‏إنسحابها ‏”‏إلى ‏أدنى” ‏بعيدا‏ ‏عن‏ ‏ضغوط‏ ‏المجتمع‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏حافظ‏ ‏على “‏السر‏ ‏فى ‏بئره‏”‏؟

إن‏ ‏حكاية‏ ‏وظيفة‏ “‏ربة‏ ‏المنزل‏” ‏هذه‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏تـُـراجع‏ ‏فى ‏مجتمعنا‏ ‏حاليا‏ ‏بشكل‏ ‏ملـح‏ ‏وخطير‏، ‏فربة‏ ‏المنزل‏ ‏ودور‏ ‏الأم‏ ‏المتفرغة‏ ‏على ‏العين‏ ‏والرأس‏، ‏على ‏شرط‏ ‏ألا‏ ‏يكف‏ ‏عقلها‏ ‏عن‏ ‏العمل‏ ‏الذى ‏خلق‏ ‏من‏ ‏أجله:‏ “‏التجريد‏‏، والنقد،  ‏والمعرفة،‏ ‏والتفكير،‏ ‏والتقرير،‏ – اتخاذ القرار – ‏الإرادة”‏([11])، ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏جلوس‏ ‏المرأة‏ ‏فى ‏البيت‏ ‏على ‏حساب‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏فالأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تشخيص‏ ‏قد‏ ‏يبدو‏ ‏متواضعا‏ ‏رغم‏ ‏عظم‏ ‏خطره‏، ‏وقد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏نبّه إلى مثل‏ ‏هذه‏ ‏الحالة على احتمال أنها فصام منسحب تكيّف على مستوى أدنى، ‏ “‏ إيوجين بلويلر‏” ([12]) ‏منذ‏ ‏سنة‏ 1911 ‏حين‏ ‏تحدث‏ ‏عن‏ “‏زملة‏ ‏ربة‏ ‏المنزل‏” Willy Nilly House-Wife Syndrome باعتبارها‏ تحمل مظنة ‏أحد‏ ‏صور‏ ‏الفصام‏ ‏البسيط‏ (‏دون‏ ‏أعراض‏ ‏ظاهرة‏ ‏ملحة‏).‏

حين‏ ‏ذهبت‏ ‏أناقش‏ ‏مع‏ ‏الزميلة (د.أمانى الرشيدى بعد سنوات طوال)‏ ‏التى ‏التقطت‏ ‏حالة‏ ‏الأخ‏ ‏الأصغر‏ ‏عن‏ ‏كيفية‏ ‏التحقق‏ ‏من‏ ‏مدى ‏صحة‏ ‏المعلومات‏ ‏الواردة‏ ‏فى ‏الأوراق‏ ‏المتعددة‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بعضها‏ ‏ببعض‏ (خاصة إذا‏ ‏تناقضت‏) ‏اقترحت‏ ‏الرجوع‏ ‏إلى هذه ‏الأخت‏ ‏باعتبارها‏ ‏السليمة‏ ‏الوحيدة‏ ‏فى ‏الأسرة‏، ‏فهل‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏أصابت‏ ‏الزميلة‏ ‏فى ‏حكمها؟‏ ‏وهل‏ ‏السلامة‏ ‏هى ‏عدم‏ ‏ظهور‏ ‏أعراض؟‏ ‏وهل‏ ‏لو‏ ‏اضطرت‏ ‏هذه‏ ‏الأخت‏ ‏إلى ‏الخروج‏ ‏إلى ‏المجتمع‏ ‏أو امتـُـحـِـنت فى علاقة اقتراب حقيقى وتزوجت، ‏هل‏ ‏كانت‏ ‏ستظل‏ ‏بلا‏ ‏أعراض‏ (‏ظاهرة‏)‏؟‏

وقفة‏ ‏وتذكرة‏:‏

إلى ‏هنا‏ ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏الأوان‏ ‏قد‏ ‏آن‏ ‏لنكتفى ‏بظلال‏ ‏هذه‏ ‏الأرضية‏ ‏الأسرية‏ ‏وننتقل‏ ‏إلى ‏أصدقائنا‏ ‏الأربعة‏ ‏بشكل‏ ‏لم‏ ‏أحدده‏ ‏بعد‏، ‏وليتبادل‏ ‏الشكل‏ ‏مع‏ ‏الأرضية‏ ‏كلما‏ ‏لزم‏ ‏الأمر‏ ‏أثناء‏ ‏صحبتهم‏.‏

يكفى ‏فى ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏من‏ ‏التقديم‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏نريد‏ ‏إيصاله‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏الطرح‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏فنقترح‏ ‏ما‏ ‏يلى:‏

‏(1) ‏على ‏الباحثين‏ ‏عن‏ ‏أسباب‏ ‏المآسى (‏المرضية‏ ‏وما‏ ‏شابه‏) ‏تبريرا‏ ‏وتعليلا‏ ‏أن‏ ‏يبذلوا‏ ‏جهدا‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏أوهام العلّية‏ ‏الروائية‏، ‏وتصورات‏ ‏العقد‏ ‏النفسية‏ ‏التثبيتية‏، ‏والمبالغة‏ ‏فى ‏اتهام‏ ‏الظروف‏ ‏الخارجية، وذلك بتذكر دور “الجينات” طول الوقت‏.‏

‏(2) ‏على ‏الجامعين‏ ‏للمعلومات‏ ‏العلمية‏ ‏أن‏ ‏يقللوا‏ ‏من‏ ‏تقديسهم‏ ‏لما‏ ‏بين‏ ‏أيديهم‏ ‏من‏ ‏معلومات‏ ‏لاحتمال‏ ‏أنها ليست‏ “‏كل‏ ‏الحقيقة‏” حيث إن ‏المعلومات‏ ‏المخفية – قصداً أو بالصدفة –  ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏أكثر‏ ‏دلالة‏ ‏عدة‏ ‏مرات‏”.‏

‏(3)  ‏يبدو أنه من الأفضل لمن‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏ينقل‏ ‏إلى ‏الناس‏ “حالة‏ ” ‏أو‏ “أحوال‏”‏ عايشها‏ ‏ولاحظها‏، ‏أن‏ ‏يحضر‏ فيما – يحكى –  بنفسه‏ ‏و‏‏رأيه‏”، ‏فيقول‏ ‏لنا‏ ‏موقفه‏ ‏مثلما‏ ‏يقول‏ ‏لنا‏: “ما رآه‏”، ‏يحدثنا‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏خطر له‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يحدثنا‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏سـَـجـَّـله‏، ‏فيتيح‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نحكم‏ ‏أفضل‏… ‏إذ‏ ‏نتحمل‏ ‏مسئولية‏ ‏ما‏ ‏نقرأ‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يتحمـَّـلَ‏ ‏هو‏ ‏مسئولية‏ ‏ما‏ ‏كـتـب‏.‏

[1] – نشرت‏ ‏هذه‏ ‏الكتابات‏ ‏على ‏حلقات‏ ‏فى ‏مجلة‏ ‏الإنسان‏ ‏والتطور‏ الفصلية ‏بدءا‏ ‏من‏ (‏1981‏)، ‏وهى ‏مجلة‏ ‏ربع‏ ‏سنوية‏ كانت ‏تصدرها‏ ‏جمعية‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏التطورى ‏والعمل‏ ‏الجماعى ‏بالقاهرة‏، ‏فى ‏باب‏ ‏مستقل‏ ‏بعنوان‏ “‏حالات‏ ‏وأحوال”.

[2] – استشارى أول في فرنسا حاليا وهى أستاذ متفرغ غالبا 2020 قسم الطب النفسى، كلية الطب قصر العينى.

[3] – هذا‏ ‏الرأى ‏الذى ‏يقول‏ ‏إن‏ ‏المرض‏ ‏النفسي‏/ ‏العقلى ‏هو‏ ‏واحد‏، ‏ولكن‏ ‏له‏ ‏تجليات ‏ومظاهر‏ ‏سلوكية‏ ‏متعددة‏ ‏يرجع‏ ‏تاريخيا‏ ‏إلى ‏كارل‏ ‏مننجر‏ ‏ويسمى ” ‏المفهوم‏ ‏الواحدى”Unitary concept‏، وقد طوره الرخاوى لاحقا www.rakhawy.net بنفس العنوان مع اضافة توضيحية بعنوان “الواحدية فى مقابل التفتيت التصنيفى” Unitary Concept Versus Multiple Nosological Categories

[4]– يحيى الرخاوى: “‏دراسة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى” سنة 1979، (من ص 321 إلى ص 420) (‏الجزء‏ ‏الخاص‏ ‏بالصرع خاصة‏Schizophrenogenic ‏).

[5]– وقد تطورت فروض الوراثة من خلال تطور صقل فروض الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى إلى اعتبار أن الوراثة لا تتعلق بمرض بذاته بقدر ماهى وراثة (أ) زخم الطاقة الحيوية (ب) القابلية للتفكيك (جـ) مدى القدرة على إعادة التشكيل (د) نوابية الظهور، وبالتالى يصبح تحديد نوع ظهور مرض بذاته متوقفا على تفاعل هذه العوامل مجتمعه سلباً وإيجابا، حسب تأثير مختلف العوامل المحيطة بالتنشئة وفرص النمو والتكامل والتفعيل، بما فى ذلك وراثه فرص الإبداع وليس فقط مختلف الأمراض النفسية (بما فى ذلك الصرع واضطرابات الشخصية)

[6] –  فى فترة من فترات تطور دراسة أسباب المرض النفسى، شاع بشكل لحوح أن سلوك الأم وتركيبها النفسى قد يكون سببا مباشرا فاعلا فى “إحداث الفصام” لدى أحد أولادها أو بناتها، حتى سميت هذه الأم باسم “الأم المُحْدثة” للفصام Schizophrenogenic mother ووصفت بسمات خاصة مثل فرط التملك، وعدم الأمان المطلق (أو بدرجة كبيرة) وإرسال رسائل تربوية متناقضة طول الوقت (رسائل مزدوجة الوثاق Double Bind ، مثل أن تقول لابنها “أنت حر” وهى تمارس ضد ذلك طول الوقت)، وغير ذلك، وقد بلغت المبالغة فى هذا الاتجاه أن بعض أمهات الفصاميين أصبحن يعامـَلن بشكل مباشر أو غير مباشر كأنهن متهمات فى جريمة، لكن المراجعة الطويلة لم تثبت هذا الفرض بشكل حاسم اللهم إلا فى حالات قليلة. ‏

[7] – راجع تشخيص‏ ‏”الحالات‏ ‏الخمس فى التحليل النفسى” (هامش 3) ‏ ‏التى ‏نشرها‏ ‏فرويد‏، وثبت‏ ‏أن‏ ‏أغلبها‏ ‏ليست‏ ‏كما‏ ‏تصور‏ ‏فرويد‏ ‏من‏ ‏أنها‏ “‏عصابية” Nerotic ‏وإنما‏ ‏كانت‏ ‏تقع‏ ‏بين‏ ‏اضطراب‏ ‏الشخصية‏، ‏والذهان‏ ‏غير‏ ‏النموذجى‏.

[8] –   “أيتها النفس أجملى جزعا  إن الذى تحذرين قد وقعا”   للشاعر: أوس بن حجر النميمى

[9] – كان‏ ‏ثم ‏تلميح‏ ‏إلى ‏سوء‏ ‏سلوك‏ ‏أو‏ ‏شك‏ ‏ثار‏ ‏حول‏ ‏تصرفات‏ “‏العمة” ‏الأمر‏‏الذى ‏رجحنا‏ ‏أنه‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏الحقيقة‏ ‏تماما

[10] -“‏العديد” ‏كلمة‏ ‏عامية‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏تعداد‏ ‏مناقب‏ ‏الميت‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏سيدة‏ ‏متخصصة‏ ‏عادة‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏يسمونها‏ ‏المعددة‏ (‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏تكون هى‏ ‏هى ‏مطربة الأفراح‏ ‏فى ‏القرية‏).‏

[11] – أصبحت الآن لأ أعزو كل هذه الوظائف لما يسمى “العقل”، فقد انتقلت إلى الاهتمام بما هو تعدد قنوات ولغات المعرفة ومن ثـَـمَّ تعدد العقول، مما لا مجال لتفصيله هنا.

[12] – إيوجين‏ ‏بلويلر Eugen Bleuler‏ ‏أول من صك لفظ الفصام Schizophernia سنة 1911 ليحل محل العته البكر Demetia Precox كان يوصف من قبل، وقد أسمى هذا الفصام الخفى فى ربة المنزل (انتى لم تختبر) بقوله: “زملة ربة المنزل النحلة الدائرة على العمّال على البطّال” Willy Nilly House-Wife Syndrome

الفصل الثانى فهمى

الفصل الثانى فهمى

الفصل‏ ‏الثانى

فهمى ([1])

توقيت‏ ‏ظهور‏ ‏المرض‏، ‏ودور‏ “‏الصنو‏”( [2])

 الدخول‏ ‏الأول‏ (1960) ‏

أحضر‏ ‏الوالد‏ ‏فهمى([3])‏ ‏لأنه‏ ‏لاحظ‏ ‏عليه‏:

“زعيق‏ ‏كثير‏، ‏تأخير‏ ‏فى ‏الدراسة‏، ‏كان‏ ‏نفسه‏ ‏يشوف‏ ‏أخوه‏ ‏اللى ‏ ‏دخل‏ ‏القسم‏ ‏قبله‏ ‏عشان‏ ‏همّا‏ ‏عمرهم‏ ‏ما‏ ‏اتفرقوا‏، ‏الولد‏ ‏وَحشُه ‏ ‏أخوه‏ ‏قال‏ ‏ييجى ‏يشوفه‏، ‏مش‏ ‏بيذاكر‏”.‏

كان‏ ‏عمر‏ ‏فهمى‏ ‏حينذاك‏ ‏خمسة‏ ‏عشر‏ ‏سنة‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏بدأ‏ ‏هذا‏ ‏المرض‏ ‏حتى ‏قبل‏ ‏هذا‏ ‏التاريخ‏ ‏وقبل‏ ‏دخوله‏ ‏المستشفى ‏بعام‏ ‏كامل‏. ‏ يكمل الوالد:

‏” ‏كان‏ ‏جاله‏ ‏الدور‏ ‏وخد‏ ‏كهرباء‏ ‏إنما‏ ‏الظاهر‏ ‏ما‏ ‏تحسنش ‏ ‏قوى ‏عشان‏ ‏ما‏ ‏كملش‏ ‏العلاج‏”.

المناقشة‏:

‏(1) ‏نلاحظ‏ ‏هنا‏ “‏فقر‏ ‏الشكوى‏” ‏وخلوها‏ ‏من‏ ‏دلالات‏ ‏جسيمة‏ ‏تتناسب‏ ‏مع‏ ‏جسامة‏ ‏الحالة‏ ‏وخطورتها‏ (‏كما‏ ‏سيلى)، ‏كذلك‏ ‏فإنى ‏أذكر‏ (‏وقد‏ ‏كنت‏ ‏فاحص‏ ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏سنة‏ 1960) ‏كيف‏ ‏كان‏ ‏يتكلم‏ ‏الوالد‏ ‏ولا‏ ‏يبدو‏ ‏على ‏وجهه‏ ‏التعبير‏ ‏المناسب‏ ‏كما ذكرت، ‏وهو‏ ‏يعلم‏ ‏جزئيا‏ ‏حجم‏ ‏وخطورة‏ ‏العلاج‏ ‏المنتظر‏ (‏كان‏ ‏حينذاك‏ ‏علاج‏ ‏غيبوبة‏ ‏الأنسولين‏) ‏كما‏ ‏أن‏ ‏الوالد‏ ‏يدرك‏ ‏نسبيا‏ (‏وتاريخا‏) ‏احتمال‏ ‏فشل‏ ‏العلاج‏، ‏كما‏ ‏حدث‏ ‏وحكى ‏عن‏ ‏عدم‏ ‏جدوى ‏الجلسات‏ ‏الكهربية‏ فى النوبات السابقة، ‏ولكن‏ ‏تبلده‏  الظاهر ‏ظل‏ ‏كما‏ ‏هو‏.‏

هذا‏ ‏الانفعال‏ ‏الضحل‏ (‏أو‏ ‏لعل‏ ‏التعبير‏ ‏عنه‏ ‏هو‏ ‏الضحل‏) ‏مع‏ ‏خطورة‏ ‏الحالة‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أول‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يلاحظه‏ ‏الفاحص‏ ‏عند‏ ‏سماع‏ ‏شكوى ‏أو‏ ‏رواية‏ ‏الأهل‏، تماما مثلما نلاحظ ‏ ‏الانفعال‏ ‏والتفاعل‏ ‏الشديدين‏ ‏غير‏ ‏المتناسبين‏ ‏مع‏ ‏حجم‏ ‏المرض‏ ‏وخطورته‏ ‏فى كثير من الأحيان.

 ‏ذكرتُ‏ ‏فى ‏الجزء‏ ‏السابق ‏- ‏بالنسبة‏ ‏لهذا‏ ‏الوالد ‏- ‏كيف‏ ‏أنى ” ‏كنت‏ ‏أحترمه‏ ‏وأعجب‏ ‏منه‏”،‏ كما‏ ‏قلت‏ ” ‏كنت‏ ‏أشعر‏- ‏على ‏قدر‏ ‏ما‏ ‏أذكر‏- ‏أمام‏ ‏هذا‏ ‏الوالد‏ ‏أنه‏ “‏بطل‏ ‏مهزوم‏” ‏وأضيف‏ ‏الآن‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏يسلم‏ ‏لى ‏فهمى‏ ‏وكأنه‏ “‏يتمم‏ ‏على ‏العهدة‏” ‏فيرضى ‏ضميره‏ ‏وينصرف‏ ‏بهزيمته‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يزداد‏ ‏حجمها‏.‏

ويستحيل‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أن‏ ‏ولدا‏ ‏عجز‏ ‏عن‏ ‏الاستذكار‏ ‏عاما‏ ‏أو‏ ‏بعض‏ ‏عام‏، ‏رفع‏ ‏صوته‏ ‏فى ‏صياح‏ ‏مزعج‏، ‏هو‏ ‏مريض‏ ‏بما‏ ‏يستدعى ‏دخوله‏ ‏المستشفى، ‏وهنا‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نحذر‏ ‏من‏ ‏الوهم‏ ‏الشائع‏ ‏عند‏ ‏العامة‏ – ‏وبعض‏ ‏المختصين‏- ‏من‏ ‏أن‏ ‏شكوى ‏المريض‏ ‏بألفاظ‏ ‏معينة‏، ‏تعنى ‏نفس‏ ‏الشيء‏ ‏عند‏ ‏مختلف‏ ‏المرضى، ‏فما‏ ‏ألفاظ‏ ‏الشكوى هنا ‏إلا‏ ‏قمة‏ ‏جبل‏ ‏الجليد‏ ‏الراسى ‏فى ‏المحيط‏ ‏المضطرب‏.‏

‏(2) ‏ثم‏ ‏ننتقل‏ ‏للنظر‏ ‏فى ‏العلاقة‏ ‏العاطفية‏ ‏بين‏ ‏التوأم‏ ‏وأخيه‏‏، فنلاحظ‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الموقع‏ ‏قول‏ ‏الوالد‏ ‏بأن‏ “‏الولد‏ ‏وَحـَشـُه‏ ‏أخوه‏” ‏لدرجة‏ ‏أن‏ ‏الوالد‏ ‏قرر‏ ‏دخوله‏ ‏المستشفى ‏معه‏ ‏استجابة‏ ‏لذلك ‏على ‏حد‏ قوله، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏هو‏ ‏رأى ‏الوالد‏ ‏فحسب‏، ‏ولكنه‏ ‏كان‏ ‏أيضا‏ ‏رأى ‏فهمى‏ ‏نفسه‏، ‏قال‏.

‏”عمرى ‏ما‏ ‏ابتعدت‏ ‏عن‏ ‏ فتحى، ‏وحشنى، ‏ما‏ ‏كنتش‏ ‏قادر‏ ‏أعيش‏ ‏بعيد‏ ‏عنه‏”.

وقد‏ ‏اعتاد‏ ‏العلماء‏ ‏أن‏ ‏يهتموا‏ ‏بدراسة‏ ‏التوائم‏ ‏المتشابهة‏ (‏وفتحى ‏وفهمى‏ ‏متشابهان‏ Uniovular ‏ يصعب التمييز بينهما) ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏نادرا‏ ‏ما‏ ‏أعطيت‏ ‏للعلاقة‏ ‏العاطفية‏ ‏الخاصة‏ ‏بين‏ نصـْـفـَـىَ ‏تلك “الفولة التى انقسمت نصفين‏”، ‏أو‏ “‏الوجود‏ ‏المتكرر‏”، ‏أهميتها‏ ‏المناسبة‏، ‏ويبدو‏ ‏أن‏ ‏تعلقا‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏دال‏، ‏أو‏ ‏علاقة‏ ‏لها‏ ‏دور‏ ‏خاص‏ ‏قد‏ ‏تنشآ‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏المشاركة‏ ‏المستمرة‏ ‏المباشرة‏، ‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الوراثة‏ ‏المحتومة‏، ‏ومن‏ ‏يتذكر‏ ‏ذلك‏ ‏الغرام‏ ‏الملتهب‏ ‏الذى ‏ظهر‏ ‏كالطوفان‏ ‏بين‏ “‏نيتوتشكا‏” ‏و‏”‏كاتيا‏” (‏فى ‏رواية‏ ‏ديستويفسكى ‏نيتوتشكانزفانوفا([4]) ‏وهما‏ ‏بعد‏ ‏طفلتان‏ ‏اختلفتا‏ ‏فى ‏كل‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏النشأة‏ ‏والوراثة‏ ‏والطباع‏ ‏والطبقة‏ ‏الإجتماعية‏.‏ لابد‏ ‏ وأن‏ ‏يتبين‏ ‏طبيعة‏ ‏هذا‏ ‏التعلق‏ ‏الخاص‏ ‏بين‏ ‏طفلتين‏ ‏أو‏ ‏مراهقتين‏، ‏وما‏ ‏يترتب‏ ‏على ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏ضرورة‏ ‏تقييم‏ ‏نمو‏ ‏الأطفال‏- ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏التركيز‏ ‏على ‏دور‏ ‏الوراثة‏ ‏أو‏ ‏دور‏ ‏الوالدين‏ (‏وخاصة‏ ‏الأم‏)- ‏بمدى ‏تأثير‏ ‏دور‏” الصنو‏” ‏فى ‏التربية‏، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏أهمية‏ ‏خاصة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مراجعة‏ ‏خاصة‏ ‏ودراسة‏ متعمقة.

أرجو أن ننتبه هنا إلى مغزى تعبير الوالد سببا لدخول فهمى كيف أنه اشتاق إلى ‏فتحى ‏الذى ‏سبقه‏ ‏إلى ‏المستشفى ‏رغم‏ ‏ما سنرى ‏من‏ ‏اختلاف‏ ‏وشقاق‏ ‏وتطور‏ ‏مغاير‏ ‏بينهما‏، ‏فالصنو‏ ‏المثيل‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏مجرد‏ ‏مرآة‏ ‏لصنوه‏، ‏ودور‏ ‏الصنو‏ ‏لا‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏مجرد‏ ‏الألفة‏ ‏والصحبة‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏دوره‏ (‏بعد‏ ‏الدعم‏ ‏والأمان‏) ‏قد‏ ‏يكون‏ “‏خلق‏ ‏مجال‏ ‏الحوار‏ ‏مع‏ ‏الذات‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏الخارجى‏”، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏ذاته‏ ‏شخصيا‏ ‏تتجسد‏ ‏له‏ ‏فى “‏صنوه”‏، ‏وحاجة‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏مـن‏ ‏مثله‏ ‏تشمل‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏نفسه‏ ‏والحوار‏ ‏معها‏. ‏وتأكيدها‏ ‏فى ‏آن‏ ‏واحد‏، ‏كما‏ ‏تشمل‏ ‏مواجهتها‏ ‏والاختلاف‏ ‏والعراك‏ ‏معها‏ ‏جميعا‏.

نظرات‏ ‏الناس‏… ‏و‏ ‏المراقبة‏: ‏

قال‏ ‏فهمى‏ ‏فى ‏شكواه‏ ‏المبدئية‏: ‏

‏(‏أ‏) “‏مش‏ ‏واثق‏ ‏من‏ ‏نفسى، ‏كان‏ ‏يتهيأ‏ ‏لى ‏إن‏ ‏الناس‏ ‏بينظروا‏ ‏لى ‏عشان‏ ‏نقطة‏ ‏ضعف‏ ‏فىّ، ‏وفى ‏المدرسة‏ ‏كان‏ ‏يتهيأ‏ ‏لى ‏إنهم‏ ‏بيضحكوا‏ ‏علىّ…‏عشان‏ ‏فاكرينى ‏بطاّل‏، ‏يعنى، ‏مش‏ ‏متأكد‏..” ‏

ثم‏ ‏يقول‏ ‏بعد‏ ‏ذلك:

‏(‏ب‏) “‏أعتقد‏ ‏إن‏ ‏الكلام‏ ‏الموجه‏ ‏لى ‏مقصود‏ ‏بيه‏ ‏حاجة‏ ‏ثانية،‏ وأقعد‏ ‏أفكر‏ ‏مدة‏ ‏فى ‏الكلام‏ ‏ده‏..”‏

المناقشة‏:‏

‏(1) ‏تأخذ‏ ‏الشكوى ‏أهميتها‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏المرض‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏حين‏ ‏تصف‏ ‏مشاعر‏ ‏وخبرات‏ ‏شائعة‏، ‏ولكنها‏ ‏تتميز‏ ‏عن‏ ‏المشاعر‏ ‏العادية‏ ‏بدرجة‏ ‏من‏ ‏الغموض‏ ‏حيث‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏المريض‏ ‏إلى “‏وجود‏ ‏شيء‏ ‏محدد‏ ‏تماما‏ ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يعرفه‏”، ‏وهذا‏ ‏التناقض‏ ‏الظاهرى ‏هو‏ ‏من‏ ‏أميْز‏ ‏دلائل‏ ‏الوعى ‏الأعمق‏ ‏لخبرات‏ ‏الجنون‏، ‏فالرؤية‏ ‏واضحة‏ ‏مع‏ ‏أن‏ ‏الألفاظ‏، ‏بل‏ ‏والتكييف‏ ‏الفكرى ‏للخبرة،‏ ‏ضعيف‏. ‏يقول‏ ‏فهمى‏  ‏بوضوح:

‏”…‏عشان‏ ‏نقطة‏ ‏ضعف‏ ‏فىّ …” ‏

وكأن‏ ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏الضعيفة‏ ‏بديهية‏ ‏لا‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏إيضاح‏، ‏ولم‏ ‏يزد‏ ‏عليها‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏ولم‏ ‏يقل ‏- رغم إلحاحى فى السؤال- ‏عن‏ ‏أى ‏ضعف‏ ‏يتحدث ‏على ‏وجه‏ ‏التحديد‏، ‏وحتى ‏لو‏ ‏زاد‏ ‏وأشار‏ ‏إلى ‏عيب‏ ‏خـِـلقى ‏معين،‏ ‏أو‏ ‏تطور‏ ‏الحوار‏ ‏حتى ‏اتضح‏ ‏أن‏ ‏نقطة‏ ‏الضعف‏ ‏تلك‏ ‏قد‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏شك‏ ‏حول‏ ‏شذوذ‏ ‏جنسى (‏سلبى ‏فى ‏العادة‏)، ‏وهذا‏ الشك هو ‏أمر‏ ‏متواتر‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ (‏وهو‏ ‏ما‏ ‏يمكن أن يكون قد شغل ‏فهمى‏)، ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏قد‏ ‏يشير‏ ‏إلى، ‏ولا‏ ‏يحدد‏، ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏لديه‏ “‏الضعف‏”. ‏وكلام‏ “‏أدلر‏” عن‏ ‏مركب‏ ‏النقص‏([5]) ‏مناسب‏ ‏لهذا‏ ‏المقام‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏النقص‏ ‏البشرى ‏العام‏ ‏يتحول‏ ‏إلى ‏دلالة‏ ‏شديدة‏ ‏الحساسية‏ ‏لدى مشروع ‏الذهانى (‏والفصامى ‏خاصة‏) إذْ ‏يبدو‏ ‏الأمر‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏نقص‏ ‏محدد‏ ‏فى ‏تركيب‏ ‏عضو‏ ‏أو‏ ‏صورة‏ ‏جسد‏، ‏وكأن‏ ‏المسألة‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الذهان‏ (‏الفصام‏ ‏خاصة‏) ‏ليست‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏نقص‏ ‏بذاته‏، ‏بل‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏المشكلة‏ ‏هى ‏فى “‏إدراك‏ ‏احتمال (ثم يقين)‏ ‏النقص‏ ‏إدراكا‏ ‏خاصا‏ ‏ومكثفا‏ ‏وواضحا‏ ‏ومعـوِّقا‏ ‏معا‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏إسقاط‏ ‏هذا‏ ‏الإدراك‏ ‏الخاص‏ ‏على ‏رأى ‏الآخرين‏ ‏فيه‏ ‏إنما‏ ‏يمثل‏ ‏النواة‏ ‏لما‏ ‏يسمى “‏أفكار‏ ‏الإشارة”([6])‏ ‏أو‏ ‏ضلالات‏ ‏الإشارة([7]) (‏يشاوروا‏ ‏علىّ‏- ‏يضحكوا‏ ‏على) ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏الشعور‏ ‏مرتبطا‏ ‏بما‏ ‏قال‏ ‏به‏ ‏إريك‏ ‏إريكسون‏ ‏عن‏ ‏عجز‏ ‏الطفل‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏مبكرة‏ ‏عن‏ ‏رؤية‏ ‏”خـَـلـْـفِه” Behind([8])‏‏وبالتالى ‏شعوره‏ ‏المفرط‏ ‏بالحساسية‏ ‏إزاء‏ ‏منطقة‏ ‏فى ‏جسده‏ ‏ليست‏ ‏فى ‏متناوله‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏شديدة‏ ‏القرب‏ ‏سهلة‏ ‏التناول‏ ‏لنظرات‏ ‏الآخرين‏، إن‏ ‏ما‏ ‏يهم‏ -من وجهة نظر إريكسون([9])- ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏هذا‏ ‏الجزء‏ ‏الجسدى ‏من‏ ‏وجود‏ ‏نفسى ‏مجهول‏ ‏مُـَراقَـٌب‏ ‏معا‏، ‏لو‏ ‏تعمق‏ ‏الواحد‏ ‏فيه‏ ‏لأصبح‏ ‏موضع‏ ‏المراقبة‏ ‏حين‏ ‏يبدأ‏ ‏الوعى ‏به‏ ‏وبالمراقبة‏ ‏المحتملة‏ ‏التالية‏ ‏لذلك‏، ‏وهنا‏ ‏يجدر‏ ‏تذكر‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏فرويد‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏ضلالات‏ ‏الاضطهاد‏ ‏خاصة‏ (‏التى ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏تبدأ‏ ‏بضلالات‏ ‏الإشارة‏ ‏أو‏ ‏المراقبة‏) ‏وكيف‏ ‏أرجَعَهَا‏ ‏إلى ‏فشل‏ ‏نسبى ‏فى ‏كبت‏ ‏الجنسية‏ ‏المثلية‏، ‏وإذا‏ ‏وضعنا‏ ‏الأمر‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الوجه‏ ‏فما‏ ‏قد‏ ‏يعنيه‏ ‏الفكر‏ ‏التحليلى ‏قد‏ ‏يعاد‏ ‏صياغته‏ ‏بحيث‏ ‏يتسلسل‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى (‏بالنسبة‏ ‏للذّكـَر‏):

أ‏ – (‏سقط‏ ‏الكبت‏ ‏أو كاد فوصلنى‏) ‏أنى ‏أريده‏ ‏أن‏ ‏يفعل‏ ‏بى.. ‏أخشى ‏أن‏ ‏أعترف‏ ‏بذلك‏.‏

ب‏ – (‏لم‏ ‏يسقط‏ ‏الكبت‏ ‏تماما‏ ‏فلتساعده‏ ‏حيلة‏ ‏أخرى)… ‏أريده‏ ‏أن‏ ‏يحبنى..‏ذلك‏ ‏يحمل‏ ‏مظنة‏ ‏الجنس‏ (‏لأن‏ ‏الكبت‏ ‏ساقط‏ ‏جزئيا‏).

ج‏ – ‏لا‏ ‏أريده‏ ‏أن‏ ‏يحبنى (‏تكوين‏ ‏رد‏ ‏الفعل‏) ‏..أريده‏ ‏أن‏ ‏يكرهنى..: ‏هذا‏ ‏أبعد‏ ‏عن‏ ‏مظنة‏ ‏الشذوذ‏.

د‏ – ‏هو‏ ‏يكرهنى.. ‏هو‏ ‏يضطهدنى (‏حتى احتمال تدبير ‏القتل‏).‏

هذا‏ ‏التسلسل‏ ‏لم‏ ‏يقل‏ ‏به‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏الفرويدى ‏بهذه‏ ‏المباشرة‏، ‏إنما‏ ‏هو‏ ‏استقبالى ‏للفكر‏ ‏التحليلى ‏فى ‏ضوء‏ ‏خبرتى ‏الإكلينيكية‏ ‏المباشرة‏، وأنا لست متحمسا له أصلاً!!.‏

أما‏ ‏بالنسبة‏ ‏لضلالات‏ ‏الإشارة‏ ‏فقد‏ ‏تكون‏ ‏مرحلة‏ ‏متفرعة‏ ‏من‏ ‏خطوة‏ ‏متوسطة‏:‏

أ‏ – أريده‏ ‏أن‏ ‏يحبنى..‏

ب‏ -‏هو‏ ‏يحبنى.

ج‏ – ‏هو‏ ‏يرانى ‏إذ‏ ‏يهتم‏ ‏بى..‏

د‏ – ‏هذه الرؤية تربكنى هو‏ ‏يراقبنى.. ‏

هـ‏- ‏هم‏ ‏يراقبوننى.‏

وكل‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏يحمل‏ ‏صبغة‏ ‏جنسية‏، ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يحمل‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الصبغة‏، ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التسلسل‏ ‏وجيه‏ ‏ومحتمل‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏البدائل‏ ‏الأخرى‏ ‏أيضا‏: ‏

فضلالات‏ ‏المراقبة‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏مرتبطة‏ ‏بحاجة‏ ‏تلقائية‏ ‏لعمل‏ ‏علاقة‏ “‏بالآخر‏”، ‏ليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏علاقة‏ ‏جنسية‏، ‏والحرمان‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الحق‏ ‏فى ‏أن‏ ‏يرانا‏ ‏آخر‏ “‏كما‏ ‏نحن‏” ‏قد‏ ‏تكبت‏ ‏مثل‏ ‏الجنس‏ ‏سواء‏ ‏بسواء‏، ‏وحين‏ ‏ينشرخ‏ ‏جدار‏ ‏الكبت‏، ‏قد‏ ‏تصعد‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏مجال‏ ‏الوعى ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏دون‏ ‏حاجة‏ ‏ملحة‏ ‏إلى ‏افتراضات‏ ‏جنسية‏ ‏وراءها‏، ‏فتصبح‏ ‏المسألة‏ ‏أكثر‏ ‏مباشرة‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى‏:‏

أ‏- “‏شرخ‏ ‏فى ‏جدار‏ ‏الكبت‏”..‏

ب‏ – ‏من‏ ‏حقى ‏أن‏ ‏تروننى..‏

ج‏ – ‏أنتم‏ ‏تروننى..‏

د‏ – ‏أنتم‏ ‏تراقبوننى.‏.

ولكن‏ ‏ما‏ ‏يُرى ‏فى ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏هو‏ ‏سطح‏ ‏الشخص‏ ‏الظاهرى ‏وإنما‏ ‏داخله‏، ‏وداخله‏ ‏هذا‏ ‏زاخر‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مكبوت‏ ‏ومن‏ ‏بينه‏ ‏الجنس‏ (‏أو‏ ‏من‏ ‏أقواه‏ ‏الجنس‏) ‏فيشعر‏ ‏المريض‏ ‏مع‏ ‏الحوار‏ ‏العلاجى‏ حتى ‏التداعى ‏الحر([10]) ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يـُـرَى (‏أيضا‏) ‏هو‏ ‏الجانب‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏وجوده‏ ‏الظاهرى، ‏وهو‏ ‏الجانب‏ ‏الأنثوى ‏فى ‏حالة‏ ‏الرجل‏، ‏وقد‏ ‏يترجم‏ ‏هذه‏ ‏الضلالات‏ ‏المراقبية‏ ‏إلى ‏تلميحات‏ غائرة ‏بأنه‏ ‏شاذ‏ ‏جنسيا‏، ‏ويربط‏ ‏المحلل‏ ‏عادة‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الترجمة‏ ” ‏اللاحقة‏” ‏وبين‏ ‏العـرض‏ ‏رباط‏ ‏السبب‏ ‏بالنتيجة‏، ‏ولعله‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏يعكس‏ ‏الآية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏التسلسل‏ ‏الذى ‏نقترحه‏ ‏يمكن أن يصاغ نفسمراضيا (سيكوباثولوجيا) على الوجه التالى‏:‏

أ‏- ‏أنتم‏ ‏تراقبوننى ‏وجدار‏ ‏ذاتى ‏يكاد‏([11]) ‏يشى ‏بما‏ ‏فى ‏داخله‏… ‏

ب‏ – ‏يحتمل‏ ‏أن‏ ‏تروا‏ ‏أنوثتى ‏الكامنة‏..‏وهى ‏مرتبطة‏ ‏بحاجتى ‏إلى ‏الدعم‏ ‏(الذكرى غالبا).

ج‏ -‏ ‏رؤيتكم‏ ‏هذه‏ ‏تكاد تعلن‏ ‏شذوذى. ‏

د‏ – ‏أنتم‏ ‏تتهمونى ‏بالشذوذ‏.. ‏تعيرونى ‏به‏. ‏تتلمزون‏ ‏علىّ ‏بسببه‏.‏

هـ-  هم يقولون عنى شاذا.

يضاف‏ ‏إلى ‏ذلك‏‏ ‏كون‏ “‏العـَجُـْز‏” ‏هو‏ ‏أبعد‏ ‏أجزاء‏ ‏الجسم‏ ‏على ‏التعرف‏، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏عناه‏ ‏إريك‏ ‏إريكسون‏ بالخلف Behind ‏وهو‏ ‏الجزء‏ – عند‏ ‏الذكور‏ – ‏محل‏ ‏الشذوذ‏ ‏السلبى، ‏وهكذا‏ ‏يتأكد‏ ‏فرض‏ ‏إرتباط‏ ‏هذا‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏الرؤية‏ (‏وهو‏ ‏هو‏ ‏الحاجة‏ ‏إليها‏) ‏بالشذوذ‏ ‏الجنسى.‏

إن ما‏ ‏ننبه‏ ‏إليه‏ ‏هنا‏، ‏هو‏ ‏ضرورة‏ ‏التعمق‏ ‏فى ‏تسلسل‏ ‏التركيب‏ ‏الدينامى ‏تاريخيا‏: ‏ماذا‏ ‏قبل‏ ‏ماذا‏، ‏مع‏ ‏محاولة‏ ‏فحص‏ ‏المعنى ‏من‏ ‏العرض‏ ‏غائيا‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏: ‏ماذا‏ “‏يقول‏” ‏العـَــَرض؟ ماذا يريد المريض قوله بهذا العـَـرض؟  ‏وضرورة‏ ‏تذكر‏ ‏أن‏ ‏لغة‏ ‏الجنس‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏بالضرورة‏ ‏الجنس‏، ‏وأن‏ ‏لغة‏ ‏الوجود‏ ‏الأعمق‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏تجد‏ ‏التعبير المناسب‏ (‏فى ‏حالات‏ ‏المرض‏ ‏خاصة‏) ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏أرسخ‏ ‏اللغات‏ ‏كبتا‏، ‏وهى ‏لغة‏ ‏الجنس‏.‏

خطأ‏ ‏التأويل‏: ‏

ثم‏ ‏يأتى ‏التأويل‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏أو‏ ‏مصاحبا‏ ‏لذلك‏.‏

يقول‏ ‏فهمى‏:

‏ ‏” ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏الكلام‏ ‏الموجه‏ ‏لى ‏مقصود‏ ‏به،‏ ‏حاجة‏ ‏تانية‏، ‏وأقعد‏ ‏أفكر‏ ‏مدة‏ ‏فى ‏الكلام‏ ‏ده‏”.‏

قبل‏ ‏أن‏ ‏نقفز‏- كما‏ ‏عودتنا‏ ‏عقولنا‏ ‏العادية‏- ‏إلى ‏البحث‏ ‏عن‏ “‏هذه‏ ‏الحاجة‏ ‏الثانية‏” ‏مما اضطر‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يعبر‏ ‏عنها‏ ‏بما‏ ‏ليس‏ ‏هى ‏تماما‏ ‏وتحديدا‏: ‏مرة‏ ‏بالاضطهاد‏ ‏ومرة‏ ‏بالتحقير‏ ‏ومرة‏ ‏بالمراقبة‏، ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نقف‏ ‏عند‏ ‏حقيقة‏: ‏أن‏ ‏الكلام – فى حالة الفصام هنا–  ‏قد‏ ‏يصبح‏ ‏له‏ ‏معنى ‏آخر‏. ‏وهذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏تقابل‏ ‏أن‏ ‏جهاز‏ “‏الاستقبال‏” ‏والترجمة‏  ‏فى ‏المخ‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏ذا‏ ‏قناتين‏ (أحيانا أكثر)، وأن‏ ‏الكلمة‏ ‏قد‏ ‏أصبحت‏ ‏تحمل‏ ‏معناها‏ ‏المعتاد‏، ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏أنها‏ ‏تحمل‏ ‏معنى ‏آخر‏، ‏هذه‏ ‏الحقيقة‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏هى ‏ما‏ ‏يهم‏ ‏لفهم‏ ‏طبيعة‏ ‏الفصام‏ ‏بالذات‏، ‏وحقيقة‏ ‏الخلل‏ ‏فيه‏، ‏أما‏ ‏محتوى ‏القصد‏، ‏ومدى ‏خطئه‏ ‏وجذور‏ ‏خطئه‏ ‏فهذا‏ ‏أمر‏ ‏آخر‏، ‏هو‏ ‏مرحلة‏ ‏لاحقة،‏ ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏ليست‏ ‏بكل‏ ‏الأهمية‏ ‏التى ‏تُعْطَى ‏لها‏ ‏فى ‏الفكر‏ ‏التحليلى ‏خاصة‏، ‏وينبغى ‏أن‏ ‏نكتفى، ‏أو‏ ‏على ‏الأقل‏ ‏أن‏ ‏نهدأ‏ ‏قليلا‏ ‏أمام‏ ‏تعميمات‏ ‏المريض‏ (‏نقطة‏ ‏ضعف‏ ‏فىَّ – ‏حاجة‏ ‏تانية‏) ‏أى ‏أن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏ندرك‏ ‏أن‏ ‏التعميم‏ ‏إنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏ماهية‏ ‏الظاهرة‏ ‏المرضية‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏وبالتالى ‏فإنه‏ ‏ليس‏ ‏مفيدا‏ ‏أن‏ ‏نسارع‏ (‏ربما‏ ‏هربا‏ ‏من‏ ‏مواجهتها‏) ‏فى ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏التفاصيل‏ ‏فالتأويل‏ ‏الذى ‏يصل‏ ‏إلى ‏حد‏ ‏التعسف‏ ‏فى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏، ‏مما‏ ‏قد‏ ‏يضطر‏ ‏المريض‏ ‏أن‏ ‏يقول‏ ‏تفاصيل‏ ‏موحى ‏بها‏ ‏من السائل، وذلك من‏ ‏فرط‏ ‏حرص ‏السائل‏ ‏على ‏تحقيق‏ ‏فرضٍ‏ ‏بذاته‏.‏

ثم‏ ‏نعود‏ ‏إلى ‏فهمى‏ ‏يكمل‏ ‏شكواه‏:‏ إختلاف‏ ‏المظاهر‏ ‏مع‏ ‏تتالى ‏النوبات‏: ‏

‏(3) “…‏المرة‏ ‏اللى ‏فاتت‏ ‏كان‏ ‏بيجيلى ‏أحلام‏ ‏مزعجة‏ ‏جدا‏ ‏وما‏ ‏بنامش‏، ‏كنت‏ ‏بيتهيأ لى ‏إن‏ ‏مخى ‏بيطلع‏ ‏من‏ ‏رأسى ‏وعينى، ‏كنت‏ ‏دايما، ‏تعبان‏ ‏ما‏ ‏فهمش‏ ‏اللى ‏بيتقال‏. إنما‏ ‏المرة‏ ‏دى ‏كنت‏ ‏مشتاق‏ ‏لفتحى (توأمه)‏، ‏هوه‏ ‏أخلاقه‏ ‏اتغيرت‏ ‏وبـِـعـِـدْ‏ ‏عنى، ‏وما‏ ‏بقتش‏ ‏قادر‏ ‏أتفاهم‏ ‏معاه‏ ‏زى ما‏ ‏يكون‏ ‏بـِعـِدْ‏ ‏عنى ‏خالص‏.‏

المناقشة‏:‏

من‏ ‏هذه‏ ‏العينة‏ ‏يهمنا‏ ‏أن‏ ‏نؤكد‏ ‏عدة‏ ‏ملاحظات‏:

‏(1) ‏قد‏ ‏نجد‏ ‏الاختلاف‏ ‏محددا‏ ‏وعميقا‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏نوبة‏ ‏مرض‏ ‏وأخرى، ‏إن‏ ‏وصف‏ ‏فهمى‏ ‏للنوبة‏ ‏الأولى (‏السابقة‏: منذ‏ ‏عام‏) ‏هو‏ ‏وصف‏ ‏مباشر‏ ‏للتفكك‏، ‏وهذا‏ ‏البعد‏ “‏التركيبى”Structural ‏ النابع‏ ‏من‏ ‏أقوال‏ ‏المرضى‏ ‏هو‏ ‏بـُـعـْـدٌ‏ ‏شديد‏ ‏الأهمية‏، ‏وهو‏ ‏سابق‏ ‏وأساسى ‏لأى ‏تفسير‏ ‏دينامى، ‏أو‏ ‏تعليل‏ ‏لكنه ربما يكون أقرب إلى يقين مجسد للإمراضية كما يقترح سيلفانو أريتى([12]) حين صك مصطلح التعيين النشط Active Concretization ‏مخى ‏بيطلع‏ ‏من‏ ‏رأسى‏ ‏وعينى.‏

‏(2) ‏إن‏ ‏قول‏ ‏فهمى‏ “‏إن‏ ‏مخى ‏يطلع‏ ‏من‏ ‏رأسى ‏وعينى” ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يفسره‏ ‏أغلب‏ ‏الأطباء‏، ‏على ‏النحو‏ ‏التالى (‏مجرد‏ ‏أمثلة‏):‏

‏(‏أ‏) ‏المريض‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يعبر‏ ‏عن‏ ‏تمزقه‏ ‏فيقول‏ “‏أى ‏كلام‏”.

‏(‏ب‏) ‏المريض‏ ‏عنده‏ ‏صداع‏ (‏مثل‏ ‏القول‏ ‏العادى ‏عن‏ ‏الصداع‏ ‏العادى “‏دماغى ‏حينفجر‏”) ‏وربما يكون تعبير‏ ‏المريض‏ ‏عن‏ ‏الصداع‏ ‏بهذه‏ ‏الطريقة‏ ‏يرجع‏ ‏إلى ‏اختلال‏ ‏فكره‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏و‏لا‏ ‏أقل‏.

‏(‏ج‏) ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏رمزى ‏يشير‏ ‏إلى ‏عدم‏ ‏تحكم‏ ‏المريض‏ ‏فى ‏أفكاره‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.

‏(‏د‏) ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏عرض‏ ‏الهيبوكوندريا‏ (‏المـراق‏) ‏ المتصلة‏ ‏بالرأس([13])‏ ‏وهذا‏ ‏كله‏ ‏جائز‏ ‏وصفيا‏.‏

لكن‏ ‏الألزم‏ ‏والأكثر‏ ‏دلالة‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نضع‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الخبرة‏ ‏المباشرة‏، ‏وأن‏ ‏نرى ‏بداية‏:

  • ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏صادق‏‏ ‏فيما‏ ‏يقول‏:
  • ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏مباشرة‏،
  • ‏وأن‏ ‏عجزنا‏ ‏عن‏ ‏تمثل‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ (‏وفهمها‏) ‏يرجع‏ ‏إلى ‏تماسكنا‏ ‏الدفاعى ‏أو‏ ‏العصابى ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يرجع‏ (‏أو‏ ‏كما‏ ‏يرجع‏) ‏إلى ‏عجز‏ ‏المريض‏ ‏عن‏ ‏التعبير‏.

ففى ‏الأحوال‏ ‏السوية‏ ‏إنما‏ ‏يلتحم‏ ‏الجسد‏ (‏يمثله‏ ‏هنا‏ ‏الرأس‏) ‏بالنفس‏ (‏وهى ‏النتاج‏ ‏الكلى ‏لعمل‏ ‏الدماغ‏، ‏وهنا‏ ‏يمثلها‏ ‏لفظ‏ ‏المخ‏ ‏مباشرة) ‏بشكل‏ ‏هادئ‏ ‏وسلس‏ ‏ومتناسق‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏فإذا‏ ‏انفصلا‏ ‏كما‏ ‏قال‏ ‏لانج‏([14]) ‏مع انفصال‏ ‏النفس‏ ‏المفرغة‏ ‏من‏ ‏الجسد([15]) ‏ ‏نشأ‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الشعور‏ ‏بالانفصال‏، ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏مسئولا‏ ‏مباشرة‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏.‏

‏ ‏شغلنى ‏كثيرا‏ ‏موضوع‏ ‏تعبير‏ ‏الفصاميين‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏ما‏ ‏يدور‏ ‏داخل‏ ‏المخ‏ ‏من‏ ‏تغير‏ ‏فى ‏التركيب‏ ‏يناسب‏ ‏تماما‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏النظريات‏ ‏التركيبية‏ ‏الشائعة‏. ‏فمن‏ ‏المعروف‏ ‏أن‏ ‏المخ‏ ‏ليس‏ ‏فيه‏ ‏نهايات‏ ‏حسية‏ ‏وأنه‏ ‏كعضو‏ ‏فى ‏ذاته‏ “لا‏ ‏يشعر‏”، ‏فكيف‏ ‏يشعر‏ ‏المريض‏ ‏بما‏ ‏حدث‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏انشقاق‏ ‏أو‏ ‏انسحاب‏ ‏أو‏ ‏تناثر‏ ‏أو‏ ‏تفريغ‏ ‏أو‏ ‏جمود‏ ‏أو‏ ‏توقف؟ ‏وكيف‏ ‏يوفَّق‏ ‏المريض‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏التوفيق‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏أدق‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏وصفا‏ ‏مباشرا‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الدقة‏ ‏والإتقان؟

لا‏ ‏أملك‏ ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏جوابا‏ ‏شافيا‏ ‏حتى ‏الآن‏، ‏ولكنى ‏لا‏ ‏أرفضها‏ ‏لمجرد‏ ‏أنها‏ ‏بلا‏ ‏إجابة‏ ‏سهلة‏، ‏بل‏ ‏لعل‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الأوْلى ‏بالموقف‏ ‏العلمى، كل‏ ‏ما‏ ‏أقوله‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نحترم‏ ‏ما‏ ‏يقوله‏ ‏المريض‏، ‏وخاصة‏ ‏فى ‏أول‏ ‏المرض‏، ‏وألا‏ ‏يكون‏ ‏عجزنا‏ ‏عن‏ ‏الفهم‏ ‏المباشر‏ ‏هو‏ ‏المبرر‏ ‏لإلغاء‏ ‏ما‏ ‏قال‏، ‏أو‏ ‏اختزاله‏، ‏أو‏ ‏ترميزه‏ ‏أو‏ ‏إغفاله‏، أو ترجمته الفورية إلى ما نعرف([16]).

‏(3) ‏إن‏ ‏وصف‏ ‏فهمى‏ ‏للنوبة‏ ‏الحالية‏ (‏بالمقارنة‏ ‏بالنوبة‏ ‏الأولى) ‏هو‏ ‏وصف‏ ‏فارقى ‏واضح‏ ‏حيث‏ ‏يصف‏ “‏آثار‏ ‏المرض‏” ‏فى ‏النوبة‏ ‏الأخيرة‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏وصفه‏ “‏لحدث‏ ‏المرض‏ ‏ذاته‏” ‏كما‏ ‏فى ‏النوبة‏ ‏الأولى. هذا‏ ‏هو‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏خبرة‏ ‏المرض‏ ‏الباكرة‏ ‏الأولى ‏وبين‏ “‏العودة‏” ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏تسطـَّح‏ ‏الوجدان‏، ‏ففهمى‏ ‏هنا‏ ‏يشكو‏ ‏من‏ ‏نوبة‏ ‏خفية‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏باهتة‏ ‏لا‏ ‏تكاد‏ ‏توحى ‏بخطورة‏ ‏الجارى (‏مشتاق‏ ‏لفتحى، ‏هو‏ ‏أخلاقه‏ ‏اتغيرت، ‏وِبِعد‏ ‏عنى).‏

يجدر‏ ‏بنا‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏نولى ‏ظهور‏ ‏الأحلام‏ ‏مع‏ ‏ظهور‏ ‏المرض‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏من‏ ‏عناية‏، ‏وأن‏ ‏نتذكر‏ ‏أهمية‏ ‏توقيت‏ ‏ظهور‏ ‏الأحلام‏ ‏المزعجة‏ ‏لدرجة‏ ‏الخوف‏ ‏منها‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏النوم‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يحلمها‏، ‏ومن‏ ‏ثـمَّ‏: ‏الأرق‏. ‏إن معنى ‏ظهور‏ ‏الأحلام‏ ‏بهذا‏ ‏التهديد‏ ‏هو‏ ‏إعلان‏ ‏أن‏ ‏الداخل‏ (‏المخ‏ ‏الأقدم‏) ‏قد‏ ‏نشط‏ ‏بدرجة‏ ‏خطرة‏، ‏وأن‏ ‏النوم‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏كافيا‏ ‏لاحتواء‏ هذا التنشيط، ‏وإذ‏ ‏تفشل‏ حركية ‏النوم‏ ‏فى ‏هذ‏ ‏الاحتواء‏ والتشكيل ‏يقترب‏ ‏التهديد‏، ‏ويتضاعف‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏: ‏الأرق‏، ‏والاعراض‏، مع التذكرة بأن الانتباه “لظهور الأحلام وآثارها” غير التركيز على حكيها ثم التعسف فى تفسيرها([17]).‏

أهمية‏ الشكوى هنا هكذا، أنها تعلن‏ ‏مباشرة‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏النوبة‏ ‏الأخيرة‏ ‏وبين‏ ‏النوبة‏ ‏السابقة‏ ‏فى ‏وجود‏ ‏الأحلام‏ ‏المزعجة‏ ‏و‏الأرق‏، ‏ثم‏ ‏نلاحظ ‏اختلاف‏ ‏الأعراض‏ ‏وطريقة‏ ‏حدوثها‏ ‏وقدرة المريض‏ ‏على ‏وصفها‏ ‏فى ‏النوبة‏ ‏الأخيرة‏ ‏وأهمية‏ ‏رصد‏ ‏الحلم‏ ‏وتوقيت‏ ‏ظهوره‏ ‏ونوعه‏ ‏دون‏ ‏الدخول‏ ‏فى ‏تفاصيل محتواه أو تحليلها.‏ ‏ إن رصد ظهور، وحدة، وأثر، واختفاء، ثم ظهور الأحلام، هو أهم مما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏من‏ ‏التركيز‏ ‏علي‏”‏تفسير محتوى‏ ‏الأحلام‏” كما ذكرنا، إن التركيز على تأويل الأحلام وفك رموزها قد جعل التحليل النفسى يتخطى:

‏(‏أ‏) ‏أهمية‏ ‏وجود‏ ‏الحلم‏ ‏فى ‏ذاته

‏(‏ب‏) ‏ظهور‏ آثار حدث ‏الحلم‏ ‏على ‏السطح‏ ‏ حين‏ ‏يستيقظ‏ ‏ليحكيه‏، أو يحكى ما حل محله مما تشكل قبيل اليقظة، ثم:

‏(‏جـ‏) ‏مغزى القدرة‏ ‏على ‏تذكر‏ -‏أو‏ ‏إعادة‏ ‏تأليف‏ – الحلم، أو المشاركة “بنسـْـيانه رغم التأكد من حدوثه

مرة أخرى: إن‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏أهم‏ ‏من‏ ‏التفسير‏ ‏والتأويل‏.

الفصام‏ ‏وفتور‏ ‏الاتصال‏ ‏والتغيـر‏:‏

يقول‏ ‏فهمى‏ ‏عن‏ ‏أخيه‏:‏

‏”‏هوه‏ ‏أخلاقه‏ ‏اتغيرت ‏ ‏وِبِعـِد‏ ‏عنى ‏وما‏ ‏عنتش‏ ‏قادر‏ ‏أتفاهم‏ ‏معاه‏”.‏

ثم يضيف:

‏”مثلا‏ ‏فتحى ‏كان‏ ‏بيقولى ‏إنه‏ ‏بينام‏ ‏مع‏ ‏الخدامة ‏على ‏المرتبة‏ ‏بتاعتها‏…”

ثم‏ ‏يقول‏‏: ‏

” ‏أخلاقى أنا برضه ‏اتغيرت‏ ‏لدرجة‏ ‏إنى ‏زعقت‏ ‏لماما‏ ‏اللى ‏باحبها‏ ‏خالص‏..‏

‏ ‏كنت‏ ‏ما‏ ‏اقدرش‏ ‏أزعلها‏ ‏وكنت‏ ‏بازعق‏ ‏لأخويا‏ ‏الكبير‏ ‏لما‏ ‏يزعلها‏”.‏

يعلن‏ ‏فهمى‏ ‏هنا‏ ‏حدثين‏ ‏أساسيين‏ ‏هما‏: ‏التغيـّر‏، ‏وفتور‏ ‏الوجدان المشارك بهدوء غريب‏.

التغير‏ ‏حدثٌ‏ ‏لازمٌ‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ (15‏سنة‏) ‏كذلك‏ ‏ما‏ ‏يصاحبه‏ ‏من‏ ‏فتور‏ ‏فى ‏الاتصال، ‏لكن‏ ‏المصاحبات‏ ‏والمسار‏ ‏التاليين‏ ‏حددت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التغير‏ ‏والفتور‏ ‏لهما‏ ‏دلالتهما‏ ‏االمرضية‏. ‏وأهم‏ ‏ما‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏فهمى‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏أنه‏ ‏أعلن‏ ‏رصده‏ ‏لما‏ ‏حدث‏ ‏من‏ ‏تغيير‏ ‏فى ‏توأمه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏أعلن‏ ‏فيه‏ ‏تغير‏ ‏ذاته‏، ‏فهو‏ ‏قد‏ ‏أدرك‏ ‏التباعد‏ ‏والتغيير‏ ‏من‏ ‏جهتيه‏، ‏وقد‏ ‏أعلن‏ ‏بشكل‏ ‏غير‏ ‏مترابط‏ ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏التباعد‏، ‏وبأنهما‏ ‏لم‏ ‏يعودا‏ ‏أهل‏ ‏سر‏ ‏واحد‏، ونلاحظ هنا كيف افتقد فهمى من يسمعه حين بعدت الشقة بينه وبين توأمه فتحى.

ويجدر‏ ‏بالأهل‏، ‏وبالطبيب‏ ‏النفسى ‏بعدهم‏، ‏أن‏ ‏يرصدوا‏ ‏هذه‏ ‏التغيرات‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ ‏ليملئوا‏ ‏الفراغ‏ ‏فى ‏صمت‏ ‏وصبر‏ ‏مناسبين‏، ‏لا‏ ‏أن‏ ‏يرفضوها‏ ‏أصلا‏ ‏ولا‏ ‏أن‏ ‏يغفلوها‏ ‏تماما‏، ‏ولعل‏ ‏فن‏ ‏التربية‏ ‏هو ‏فن:‏

  • الصبر‏ ‏والصحبة،
  • والتواجد‏ ‏على ‏مسافة‏:
  • تحت‏ ‏الطلب‏،
  • فى المتناوَلْ!!!

 كل‏ ‏هذا‏ ‏صعب‏ ‏أيما‏ ‏صعوبة‏، ‏أصعب‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏دعاوى ‏الحرية‏ ‏وادعاء‏ ‏التفاهم‏ ‏بالألفاظ‏ ‏السطحية‏ ‏والنصائح‏ ‏الجوفاء‏.

الخطورة‏ ‏فى ‏حالتنا‏ ‏هذه‏ ‏تكمن‏ ‏فى احتمال ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الجفوة‏ ‏التى ‏أحدثها‏ ‏المرض‏ ‏بين ‏التوأمين‏:‏ ‏حفرت‏ ‏من‏ ‏تباعدهما‏ ‏برزخا‏ ‏ساعد‏ ‏على ‏التناثر‏ ‏التالى ‏بشكل‏ ‏متصاعد‏ ‏لم‏ ‏يلتئم‏ ‏أبدا‏ ‏كما‏ ‏سنرى.

 الأسئلة‏ ‏التى ‏تثار‏ ‏هنا‏ ‏هى:‏

‏(1) ‏هل‏ ‏كان‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏التوأمين‏ ‏يمثل‏ ‏كيانا‏ ‏آخر‏ ‏لتوأمه‏، ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏مجرد‏ “‏حالة‏ ‏أنا‏”([18]) ‏مـُسقطة‏ ‏على ‏الآخر‏؟ إن‏ ‏صح‏ ‏الاحتمال الأخير، ‏فإن‏ ‏شعور‏ ‏فهمى‏ ‏بتباعده‏ ‏عن‏ ‏توأمه‏ ‏يعتبر‏ ‏إسقاطا ‏لتباعد‏ ‏ذات‏ ‏داخلية‏ ‏عن‏ ‏ذات‏ ‏أخرى؟ ‏

‏(2) ‏هل‏ ‏مرض‏ ‏التوائم‏ ‏المتماثلة‏ ‏بالفصام‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ (‏بنسب‏ ‏تتراوح‏ ‏من‏ 45% ‏إلى 85 % ‏من‏ ‏الحالات‏ ‏حسب‏ ‏مختلف‏ ‏الدراسات‏) ‏هو‏ ‏نتيجة‏ ‏لوراثة‏ ‏مرض‏ ‏بذاته‏، ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏إعلان‏ ‏لانفصال‏ ‏ذات‏ ‏واحدة‏ (‏كانت‏ ‏متواجدة‏ ‏فى ‏جسدين‏) ‏إلى ‏ذاتين‏ ‏ثم‏ ‏تلاحق‏ ‏الانفصال‏ في كلّ ‏بعد‏ ‏اهتزاز‏ ‏التوازن؟

‏(3) ‏هل‏ ‏الزعم‏ ‏بأن‏ ‏المريض‏ ‏الفصامى ‏له‏ ‏لغته‏ ‏الخاصة‏ ‏يعنى ‏أنه‏ ‏يستطيع‏ ‏التفاهم‏ ‏أكثر‏ ‏مع‏ ‏فصامى ‏مثله‏ (‏أكثر‏ ‏من‏ ‏تفاهمه‏ ‏مع‏ ‏إنسان‏ ‏سوى) ‏وتطبيقا فى ‏حالتنا‏ ‏هذه‏: ‏هل‏ ‏يجوز‏ ‏لنا‏ ‏افتراض‏ ‏تفاهم‏ ‏أكبر‏ ‏بين‏ ‏التوأمين‏ ‏الفصاميين‏ ‏المتماثليين‏ ‏عن‏ ‏التفاهم‏ ‏بين‏ ‏أى ‏منهما‏ ‏وشخص‏ ‏ثالث حتى لو كان أخوهم الأكبر (أنظر بعد)؟

ثم‏ ‏يأتى ‏فى ‏نهاية‏ ‏الموقف‏ ‏تعليق‏ ‏جانبى ‏عن‏ ‏طبيعة‏ ‏دراسة‏ ‏التوائم‏ ‏وما‏ ‏ينبغى ‏إزاءها‏ ‏من‏ ‏اعتبارات‏ ‏كيفية‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏نكتفى ‏بالمعلومات‏ ‏القائلة‏ ‏بأن‏ ‏نسبة‏ ‏كذا‏ ‏فى ‏المائة‏ ‏من‏ ‏التوائم‏ ‏المتشابهة‏ (‏مثلا‏)، ‏قد‏ ‏مرضت‏ ‏بمرض‏ ‏كذا‏ ‏أو‏ ‏كيت‏ ‏ونسبة‏ ‏كذا‏ ‏لم‏ ‏تمرض‏، ‏وإنما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تمتد‏ ‏الدراسة‏ ‏إلى ‏تفاصيل‏ ‏نوعية‏ ‏المرض‏ ‏ومحتواه‏ ‏وتوقيته‏ ‏ومساره‏ ‏واختلاف‏ ‏المسار‏ ‏لكل‏ ‏حالة‏ ‏على ‏حدة‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏اتفقوا‏ ‏فى ‏إسم‏ ‏المرض‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏حالاتنا‏ ‏هذه، ذلك لأن ‏ ‏ ‏تسلسل‏ ‏المرض‏ ‏وتفاصيل محتواه‏ ‏تمثل‏ ‏مجالا‏ ‏للدراسة‏ ‏والمقارنة‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏بجد‏ ‏وتفصيل‏ ‏مناسبين‏.‏

قراءة فى تاريخ فهمى:

* نظرة طولية فى تاريخ فهمى:

بعد ما أوضحناه من أهمية الاستعداد الوراثى وفروض ما يورث بين طاقة، وحركية واستهداف للتفكك، واحتمال القدرة على إعادة التشكيك ننتقل إلى ما أثر فى توجيه كل ذلك إلى ما آل إليه.

(1) ‏الطفولة‏: ‏الدلالة‏ ‏والمحتوى

فى ‏الأرضية‏ ‏البرجوازية‏ ‏غير‏ ‏الآمنة‏، ‏التى ‏شرحناها‏ ‏فى ‏البداية،‏ ‏نشأ‏ ‏فهمى‏، ‏ولم‏ ‏نجد‏ ‏فى ‏ورقة‏ ‏المشاهدة القديمة‏ (‏ديسمبر‏ 1959) ‏أو‏ ‏الحديثة‏ (1978) ‏ما‏ ‏يشير‏ ‏الى ‏حدث‏ ‏خاص‏ ‏يميز‏ ‏طفولته‏ ‏الباكرة‏ ‏أو‏ ‏المتأخرة‏ ‏وبالتالى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مسببا‏ ‏للمرض‏ ‏بالمعنى ‏الشائع‏.‏

المناقشة:

يحلو‏ ‏للناس ‏- ‏لأسباب‏ ‏تبريرية‏ ‏شخصية‏ ‏فى ‏العادة ‏- ‏أن‏ ‏يبحثوا‏ ‏عن‏ ‏أسباب‏ (‏عـُـقد‏ ‏وقصص‏) ‏فى ‏الطفولة‏ ‏تـفسر‏- ‏بشكل‏ ‏مـا‏- ‏المرض‏، ‏ويذهب‏ ‏كثير‏ ‏من الأطباء‏ و‏النفسيين‏ (مثلهم مثل عامة الناس ومؤلفى المسلسلات) ‏نفس‏ ‏المذهب‏ ‏إيمانا‏ ‏بالحتمية‏ ‏النفسية‏ ‏أو‏ ‏الحتمية‏ ‏الاجتماعية‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الأحداث‏ ‏ليست‏ ‏فاعلة‏ ‏فى ‏ذاتها‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى ‏تشكيل‏ ‏لمحتوى ‏مسار‏ ‏لم‏ ‏ينطلق‏ ‏فى ‏مجرى‏ ‏نموه‏ ‏الطبيعى ‏بالخطو‏ ‏المناسب‏، ‏إن استعادة‏ ‏الذكريات‏ ‏حول‏ ‏الطفولة‏- ‏فى ‏جو‏ ‏علاجى ‏لاحق‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏شابه‏- ‏مهما‏ ‏بلغت‏ ‏التفاصيل‏ ‏والدلالات،‏ ‏ليست‏ ‏لها‏ ‏دور‏ ‏شفائى ‏فى ‏ذاته‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أنها قد تفيد فى ‏استرجاع‏ ‏المرونة‏ ‏لحركية‏ ‏نمو‏ ‏العقل‏، شريطة ألا تنقلنا المسألة إلى مجرد اجترار معقلن بألفاظ مُعادة، ‏إن الفائدة تتحقق حين تصبح‏ ‏المادة‏ ‏القديمة‏ -‏ أيا‏ ‏كانت ‏-‏ فى ‏متناول‏ ‏الاستيعاب‏ ‏والتمثيل‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏أفضل‏.‏

‏(2) ‏المدرسة‏:‏

كان‏ ‏فهمى‏ ‏متفوقا‏ ‏فى ‏دراسته‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏حتى ‏المرحلة‏ ‏الإعدادية‏، ‏حيث‏ ‏كان‏ ‏ترتيبه‏ ‏الأول‏ ‏بالتبادل‏ ‏مع‏ ‏توأمه‏، ‏وقد‏ ‏يصل‏ ‏ترتيبهما‏ ‏فى ‏الفصل‏ ‏إلى ‏الخمسة‏ ‏الأوائل‏، ‏ثم‏ ‏حدثت‏ ‏العرقلة‏ ‏الدراسية‏ ‏مع‏ ‏ظهور‏ ‏المرض‏ ‏دون‏ ‏وضوح‏ ‏العلاقة‏ ‏السببية‏ ‏مباشرة‏، ‏أى ‏دون‏ ‏التأكد‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏التعثر‏ ‏الدراسى ‏هو‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏أسباب‏ ‏المرض‏، ‏أو‏ ‏كان‏ ‏المرض‏ – حتى وهو‏ ‏فى ‏دوره‏ ‏الكامن-‏ ‏هو‏ ‏سبب‏ ‏هذا‏ ‏التعثر‏.‏

المناقشة:

يمثل‏ ‏التاريخ‏ ‏الدراسى ‏فى ‏الأسر‏ ‏البرجوازية‏ ‏فى ‏مصر‏، ‏خاصة‏ ‏فى ‏الأربعين‏ ‏سنة‏ ‏الأخيرة‏([19]) ‏حدثا‏ ‏كيانيا‏ ‏له‏ ‏دلالته‏ ‏الخاصة‏، ‏فالدراسة‏ ‏تكاد‏ ‏تصبح‏ ‏هى ‏النشاط‏ ‏الأول (أو الوحيد)‏ ‏لإثبات الذات ‏وتحقيق‏ ‏الطموح‏ ‏الاجتماعى ‏معا‏، ‏والنجاح‏ ‏فيها‏ ‏والتفوق‏ ‏ ‏هما‏ ‏دليل‏ ‏التميز‏ ‏الاجتماعى ‏ومبرر‏ ‏للتقبل‏ ‏من الآخرين ‏فى ‏وقت واحد، كما أنهما شرط الاعتراف بالوجود‏، ‏كذلك‏ ‏احتد‏ ‏التباهى ‏والتنافس‏ ‏بين‏ ‏الأسر‏ ‏البرجوازية‏ ‏الأقرب‏ ‏فالأقرب: ‏أى ‏بين‏ ‏أبناء‏ ‏وبنات‏ ‏الإخوة‏ ‏والأخوات‏، ‏ثم‏ ‏أبناء‏ ‏وبنات‏ ‏العائلة‏ ‏من‏ ‏المرتبة‏ ‏الثانية‏ ‏وهكذا‏، وقد ‏احتد‏ ‏التنافس‏ ‏فى هذا‏ ‏الميدان‏ ‏وكأنه‏ ‏رمز‏ ‏للتميز‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ضروب‏ ‏التنافس‏ ‏البرجوازى، ‏وعلى ‏المستوى‏”‏الكيانى‏” ‏كأنه‏ ‏صراع‏ ‏للبقاء‏. (‏بمعنى: ‏البقاء‏ ‏للأشطر‏)، ‏وبرغم‏ ‏أن‏ ‏والد‏ “‏ووالدة‏” ‏فهمى‏ ‏لم‏ ‏يُظْهرا‏ ‏بشكل‏ ‏خاص‏ ‏زائد‏ ‏أى ‏حرص‏ ‏على ‏تفوق‏ ‏أولادهما‏([20])، ‏كما‏ ‏أنهما‏ ‏لم‏ ‏يقيما‏ ‏مأتما‏ ‏حول‏ ‏الفشل‏ ‏الدراسى ‏الذى ‏أصاب‏ ‏أبناءهما‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تتبع المسار‏ ‏الدراسى ‏كان‏ ‏له‏ ‏دلالته‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏مثلها‏ ‏مثل‏ ‏أغلب‏ ‏الحالات‏ ‏المشابهة‏، ‏وهنا‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نفترض‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏القيمة‏ (‏التفوق‏ ‏الدراسى ‏كمظهر‏ ‏للوجود‏ ‏ودليل‏ ‏على ‏التميز‏) ‏لا‏ ‏ترتبط‏ ‏بقيم‏ ‏الأسرة‏‏، المعلنة، بقدر ما تظهر فى سلوكها بشكل غير مباشر، كما نلاحظ أيضا أن تفوُّق‏ ‏فهمى‏ ‏لم‏ ‏ينفصل‏ ‏أبدا‏ ‏عن‏ ‏تفوق‏ ‏فتحى (‏توأمه‏) ‏وترتيبهم‏ ‏كان‏ ‏دائما‏ ‏متقاربا‏ (‏الأول‏ ‏والثانى ‏ثم‏ ‏الرابع‏ ‏والخامس‏… ‏وهكذا‏)، إلى أن توقف الواحد تلو الآخر بسبب المرض، أو كأحد مظاهر المرض.

‏(3) ‏التاريخ‏ ‏الجنسى:‏

تاريخ‏ ‏فهمى‏ ‏الجنسى ‏وكذلك تاريخ‏ ‏إخوته‏ ‏تاريخ‏ ‏حافل‏، ‏ولسوف‏ ‏نحاول‏ ‏ما‏ ‏أمكن‏ ‏أن‏ ‏نقلل‏ ‏من‏ ‏العينات‏ ‏التفصيلية‏ ‏اعتبارا‏ ‏لـظروف‏ ‏النشر‏ ‏على ‏غير‏ ‏المتخصص‏، ‏آملين‏ ‏ان‏ ‏تقوم‏ ‏المناقشة‏ ‏والتعميمات‏ ‏بالرسالة‏ ‏العلمية‏ ‏التى ‏نحاول‏ ‏إبلاغها‏.‏

يذكر‏ ‏فهمى‏ ‏جيدا‏ ‏أول‏ ‏معلومات‏ ‏وصلته‏ ‏عن‏ ‏الجنس‏ ‏فى ‏سن‏ ‏الخامسة‏ ‏من‏ ‏إبن‏ ‏الجيران:

 ‏”..‏.. ‏كانت‏ ‏مامته‏ ‏سافرت‏ ‏فكان‏ ‏بيحكيلى…‏الخ‏”‏،

 وهو‏ ‏لا‏ ‏ينكر‏ ‏الممارسات‏ ‏العابرة‏ ‏بين‏ ‏الإخوة‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏ألعاب‏ ‏الأطفال‏ ‏أو أكثر‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ كان ‏يعرف‏ ‏العادة‏ ‏السرية‏ ‏ويمارسها‏ ‏منذ‏ ‏سن‏ ‏مبكرة‏ (11‏سنة‏)، ‏ثم‏ هو ‏راح يستغرق‏ ‏فى ‏ممارستها‏ ‏حول‏ ‏البلوغ‏، ‏حتى ‏تصل‏ ‏الى ‏ثلاث‏ ‏مرات‏ ‏يوميا‏، ‏ثم‏ ‏تكتمل‏ ‏الصورة‏ ‏باعترافه‏ ‏السهل‏ ‏عن‏ ‏علاقاته‏ ‏السطحية‏ ‏المتكررة‏ ‏مع‏ ‏الخادمات‏ ‏بلا‏ ‏تمييز‏… ‏وقد‏ ‏ورد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏التاريخ‏ ‏فى ‏المشاهدات ‏الأولى (حول 1959) ‏وكان‏ ‏فى ‏الخامسة‏ ‏عشر‏ ‏من‏ ‏عمره آنذاك‏، ‏وهو لم‏ ‏يتردد أو يخجل‏ ‏أثناء‏ ‏ذكر‏ ‏هذا‏ ‏التاريخ‏ ‏الجنسى، ‏ولم‏ ‏تبد‏ ‏عليه‏ ‏أية‏ ‏مظاهر‏ ‏للشعور‏ ‏بالذنب‏، ‏ولم‏ ‏يُحْرج‏ ‏من‏ ‏أى ‏سؤال‏ ‏يتعلق‏ ‏بأى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الممارسات‏ ‏مهما‏ ‏بلغ‏ ‏الحظر‏ ‏والتحريم‏ ‏حولها‏. ‏و‏‏فى ‏المشاهدة‏ ‏المتأخرة‏ (1978) ‏وكان‏ ‏قد‏ ‏بلغ‏ ‏الرابعة‏ ‏والثلاثين‏ ‏من‏ ‏عمره‏ ‏لم‏ ‏يزد‏ ‏أية ‏معلومة‏ ‏جديدة‏ ‏سوى الإشارة إلى ‏بعض‏ ‏الممارسات‏ ‏العابرة‏ ‏غير‏ ‏المؤكدة‏ (‏أو‏ ‏إعلان‏ ‏نية‏ ‏الممارسات‏ ‏أحيانا‏) ‏مع‏ ‏زملاء‏ ‏جنود‏ ‏أثناء‏ ‏التجنيد.

المناقشة:

قليلٌ‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏نعرفه‏ ‏عن‏ ‏الحياة‏ ‏الجنسية‏ ‏للأطفال‏ ‏والمراهقين‏ ‏بشكل‏ ‏يسمح‏ ‏بالاستنتاج‏ ‏أو‏ ‏التعميم‏، ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تراكم الخبرة الإكلينيكية يمكن القول أنه‏:‏

‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏نمطا‏ ‏عاديا‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الأسر‏ ‏المتوسطة‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مجتمع‏ ‏حسب‏ ‏ظروفه‏، ‏وهذا‏ ‏النمط‏ ‏يشمل‏ ‏ممارسات‏ ‏جنسية‏ ‏متنوعة‏ ‏حسب‏ ‏المجال‏ ‏المتاح‏ ‏بحيث‏ ‏يحصل‏ ‏الطفل‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏على ‏المعلومات‏ ‏الممكنة‏ ‏عن‏ ‏جسده‏ ‏ووظائفه‏ ‏التناسلية‏، ‏وقد‏ ‏تشمل‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسات‏ ‏عينات‏ ‏من‏ ‏اللعب‏ ‏الجنسى ‏والممارسات‏ ‏المثلية‏، ‏والممارسات‏ ‏داخل‏ ‏الأسرة‏ ‏ومع‏ ‏الخادمات([21])‏، ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏الممارسات‏ ‏الذاتية‏ ‏واكتشاف‏ ‏الجسد‏ ‏التى ‏تؤدى ‏عادة‏ ‏الى ‏العادة‏ ‏السرية‏ ‏حتى ‏دون‏ ‏معلومات‏ ‏من‏ ‏الخارج‏. ‏هذه‏ ‏الأنماط‏ من الممارسة ‏الجنسية‏ ‏تصل‏ ‏من‏ ‏التواتر‏ ‏درجة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تصير‏ ‏فيها‏ “‏عادية‏” ‏بالمعنى ‏الإحصائى، ‏وربما‏ ‏بالمعنى ‏المنطقى ‏كذلك‏، ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أنها‏- ‏فى ‏حدودٍ‏ ‏بذاتها‏- ‏تعتبر‏ ‏جزءا‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏من‏ ‏النمو‏ ‏المعروف‏ ‏لوظيفة‏ ‏الجنس‏.‏

جدير‏ ‏بالذكر‏ ‏أن‏ ‏المجتمع‏ ‏الريفى ‏المصرى ‏يسمح‏- بشكل‏ ‏غير‏ ‏معلن‏- ‏باكتشاف‏ ‏الجنس‏ ‏من‏ ‏التقمص‏ ‏الخفى ‏مع‏ ‏الممارسات‏ ‏الجنسية‏ ‏بين‏ ‏الطيور‏ ‏والحيوان‏ (‏البط‏ ‏والحمير‏ ‏والغنم‏ ‏وغيرها‏)، ‏وقد‏ ‏يتيح‏ ‏هذا‏ ‏المجتمع‏ ‏فرصة‏ ‏احتكاكات‏ ‏جنسية‏ ‏مع‏ ‏الحيوانات‏ ‏دون‏ ‏دمغها‏ ‏بالشذوذ‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏تتعد‏ ‏فترة‏ ‏معينة‏ ‏من‏ ‏الطفولة‏ ‏والمراهقة([22])‏، ‏ومجتمع‏ ‏به‏ ‏خادمات‏ ‏صغيرات‏ ‏يؤجرن‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏وينمن‏ ‏بجوار‏ ‏أِسّرة‏ ‏الصبيان‏، ‏ويتعرين‏ ‏بالصدفة‏ ‏أو‏ ‏بفعل‏ ‏فاعل –فى المطبخ-‏ ‏بعد‏ ‏طول‏ ‏الإرهاق‏ ‏اليومى، ‏لابد‏ ‏سيتيح‏ ‏فرص‏ ‏ممارسات‏ ‏عابرة‏ ‏متكافئة‏ ‏أو‏ ‏ظالمة‏ (‏حسب‏ ‏تقارب‏ ‏السن‏ ‏وقهر‏ ‏السلطة‏) ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏.‏

أخيرا‏ ‏فإن‏ ‏الاخوة‏ ‏والأخوات‏ ‏قد‏ ‏تتاح‏ ‏لهم‏ – ‏حسب‏ ‏حجم‏ ‏المسكن‏ ‏أحيانا‏- ‏من‏ ‏فرص‏ ‏الاستكشاف‏ ‏الجنسى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يعرفه‏ ‏الأهل‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وما‏ ‏لا‏ ‏يجرؤ‏ ‏على ‏حكايته‏ ‏من‏ ‏مارسه‏ ‏من‏ ‏أسوياء‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يجعل‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسات‏ ‏من‏ ‏أسرار‏ ‏عالم الأسوياء. ‏وليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏أحداثا‏ ‏مرضية‏، ‏فاذا‏ ‏أصيب‏ ‏أحد‏ ‏بإعاقة‏ ‏مرضية‏ ‏سمحت‏ ‏بتقليب‏ ‏ملفاته‏ ‏الجنسية‏ ‏فإنه‏ ‏قد‏ ‏يعطينا‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏والذكريات‏ ‏ما‏ ‏قد‏ ‏نحسبه‏ ‏خاصا‏ ‏بالمرض‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ تعسف ‏افتراض‏ ‏أنه‏ ‏سبب‏ ‏مباشر‏ ‏فى ‏إحداث‏ ‏المرض‏، كل‏ ‏تلك‏ ‏قضايا‏ ‏تحتاج‏ ‏الى ‏مراجعة‏ ‏شاملة‏.

 ‏فإذا‏ ‏ما‏ ‏قبلنا‏ ‏هذه‏ ‏الافتراضات‏، ‏فإنه‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏ألا‏ ‏نغالى ‏فى تصور ‏السببية الحتمية بالنسبة لهذه المعلومات‏ ‏الجنسية‏ ‏لمجرد‏ ‏أن‏ ‏المرضى ‏قد‏ ‏حكوا‏ ‏عنها‏ ‏قدرا‏ ‏من‏ ‏المعلومات‏ ‏سمح‏ ‏بالتفسير‏ ‏والتعليق‏، ‏وينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏اهتمامنا‏ ‏الأكبر‏ ‏هو‏ ‏بـ ” ‏دلالة‏ ‏تذكرهم‏ ‏لها‏” ‏و‏”‏موقف‏ ‏المريض‏ ‏الحاكى ‏منها” و”‏حقيقة‏ ‏آثارها‏” ‏و‏”‏ما‏ ‏ترتب‏ ‏على ‏مواجهتها‏”، ‏أما‏ ‏تفاصيل‏ ‏محتواها‏ (‏مثلما‏ ‏بالغ‏ ‏فرويد‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏هانز‏ ‏الصغير‏ ‏مثلا‏) ([23]) ‏فقد‏ ‏تأتى ‏فى ‏المرتبة‏ ‏الثانية‏ ‏أو‏ ‏أبعد‏ من ذلك.

وقد‏ ‏يدعونا‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏إلى ‏الحذر‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏المبالغة‏ ‏فى ‏ترجمة‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الرموز‏ ‏إلى ‏دلالات‏ ‏جنسية‏ – ‏وذلك‏ ‏فى ‏مجتمعاتنا‏ ‏خاصة‏ – ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏إلا‏ ‏حيث‏ ‏يكون‏ ‏الكبت‏ ‏شديدا‏ ‏و‏مستمرا‏ ‏و‏‏منذ‏ ‏البداية‏، ‏و‏‏بالنسبة‏ ‏الى ‏حالة‏ ‏فهمى‏ ‏فإنه‏ ‏لم‏ ‏يقف‏ ‏عند‏ ‏أى ‏حادث‏ ‏بذاته‏ ‏ليعطيه‏ ‏دلالة‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏غيره‏ ‏كما‏ ‏لم‏ ‏يعط‏ ‏التاريخ‏ ‏الجنسى ‏كله‏ ‏أهمية‏ ‏تفوق‏ ‏ ‏التاريخ‏ ‏الدراسى ‏مثلا‏، ‏أو‏ ‏العلاقات‏ ‏الاجتماعية‏ ‏الأخرى، ‏ولا‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏نتيجة‏ ‏طبيعة‏ ‏الفحص‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏أفترض‏ ‏أن‏ ‏فهمى‏، ‏بعد‏ ‏كسر‏ ‏حاجز‏ ‏الكبت‏ ‏مع‏ ‏بداية‏ ‏الذهان‏ (‏الفصام‏) ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يتناول‏ ‏ذكريات‏ ‏شعوره‏ ‏ومحتوى ‏لا‏ ‏شعوره‏ ‏باعتبارهما‏ ‏موادا‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏الذاكرة‏ ‏تتساوى ‏فى ‏الدلالة‏ ‏والشحن‏، إذْ‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏مَخْفية‏ ‏تحت‏ ‏ضغطٍ‏ ‏بذاته‏ ‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏فى ‏حالات‏ ‏العصاب‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏.‏

إن افتقار‏ ‏فهمى‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ ‏المبكرة‏ ‏لأى ‏شعور‏ ‏بالذنب‏ ‏تجاه‏ ‏ما‏ ‏ذكر‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏جرى ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏دالا‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الأمور ‏-  رغم‏ ‏ظروف‏ ‏الأسرة‏ ‏المحافظة‏ ‏ظاهريا‏ – ‏لم‏ ‏تمثل‏ ‏عنده‏ (‏مثلما‏ ‏هو‏ ‏الحال‏ ‏عند‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأطفال‏ ‏فى ‏مجتمعاتنا‏) ‏محظورات‏ ‏تستأهل‏ ‏الشعور‏ ‏بالذنب‏ ‏كما‏ ‏يتصور‏ ‏الكبار‏، ‏إذ‏ ‏ينسون‏ ‏أو‏ ‏يتناسون‏ ‏ما‏ ‏كان منهم ‏صغارا‏.‏

وقد‏ ‏ذكر‏ ‏فهمى‏ ‏ضمن‏ ‏إجاباته‏ ‏عن‏ ‏التاريخ‏ ‏الجنسى ‏معلومات‏ ‏عن‏ ‏العلاقة‏ ‏الجنسية‏ ‏بين‏ ‏والديه‏، ‏وبين‏ ‏والدى ‏الأقارب‏ ‏والجيران‏، ‏وهذه‏ ‏الأمور‏ ‏يتناولها‏ ‏الأطفال‏ ‏والشباب‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏المجتمع‏ ‏بسهولة‏ ‏أكبر‏ ‏بكثير‏ ‏من‏ ‏تصوراتنا‏ ‏حولها‏، ‏وهى ‏تهيىء‏ ‏لتقبل‏ ‏الجنس‏ ‏باعتباره‏ ‏الحدث‏ ‏الطبيعى ‏فى ‏التواصل‏ ‏البشرى ‏الجسدى.

‏ ‏قد‏ ‏نتبين‏ ‏أن‏ ‏الافتقار‏ ‏الى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التاريخ‏ ‏الجنسى ‏الشائع‏ (‏رغم‏ ‏سريته‏) ‏هو‏ ‏الأدعى ‏للدهشة‏، ‏بالمقارنة‏ ‏بتوافر‏ ‏الأحداث‏ ‏الجنسية‏ ‏فى ‏الطفولة‏ ‏والمراهقة‏ ‏كاستكشاف‏ ‏طبيعى ‏وتجربة‏ ‏واردة‏ ‏ومتواترة‏، وبمعنى ‏آخر‏ ‏ ‏يحق‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نتساءل‏ ‏عن‏ ‏طبيعة‏ ‏ومسار‏ ‏النمو‏ ‏الجنسى ‏للفرد‏ ‏إن‏ ‏لم‏ ‏تتح‏ ‏له‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الفرص‏ ‏الواقعية‏ – ‏على ‏اختلاف‏ ‏أشكالها‏- ‏من‏ ‏التعرّف‏ ‏على ‏جسده‏ ‏ووظائفه‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏مع‏ ‏نفس‏ ‏الجنس‏ ‏أو‏ ‏مع‏ ‏الجنس‏ ‏الآخر‏، ‏أو‏ ‏مع‏ ‏الحيوانات‏ ‏أو‏ ‏المحارم‏، ‏ولكنه‏ ‏تساؤل‏ ‏لا‏ ‏يجرؤ‏ ‏عالم ‏- ‏بالإمكانيات‏ ‏الحالية ‏- ‏على ‏تناوله‏ ‏التناول‏ ‏الكافى ‏خاصة‏ ‏مع‏ ‏من‏ ‏يلبسون‏ ‏ثوب‏ ‏الأسوياء‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏الدعوة‏ ‏إلى ‏إتاحة‏ ‏الممارسة‏ ‏لمثل‏ ‏هذه‏ ‏الفرص‏ ‏الشاذة‏ ‏أو‏ ‏التغاضى ‏عن‏ ‏ممارسات‏ ‏محظورة‏، ‏فشكل‏ ‏المجتمع‏ ‏وسرية‏ ‏المسيرة‏ ‏وظاهر‏ ‏القيم‏ ‏وحجم‏ ‏الواقع‏ ‏هى ‏التى ‏تحدد‏ ‏جرعة‏ ‏التوازن‏ ‏المحتمل‏.‏

وقد‏ ‏تزوج‏ ‏فهمى‏ ‏مؤخرا‏- ‏معلومة‏ ‏حصلنا‏ ‏عليها‏ ‏بعد‏ ‏الفحص‏ ‏الثانى (1978) – ‏وأنجب‏ ‏بنتا‏، ‏ولكنه راح‏ ‏يتهم‏ ‏زوجته‏ ‏بالخيانة‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏، ‏ولم‏ ‏نحصل‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الأوراق‏ ‏المتاحة‏ لاحقا ‏على ‏معلومات‏ ‏كافية‏ ‏عن‏ ‏حياته‏ ‏الجنسية‏ ‏بعد‏ ‏الزواج‏، ‏وقد‏ ‏يعنى ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏ما‏ ‏يدعو‏ ‏للحديث‏ ‏عنها‏ ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏يحتمل‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏وضع‏ ‏قائم‏ ‏هو‏ ‏أصعب‏ ‏من‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏ذكرى ‏مضت‏، ‏وفى ‏خبرتى ‏الإكلينيكية‏ ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏النقطة‏-‏الحياة‏ ‏الجنسية‏ ‏للمتزوجين‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المعنى ‏والوظيفة‏ ‏والدلالة‏ ‏لا‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏الكم‏ ‏وتواتر‏ ‏الممارسة‏- ‏هى ‏من‏ ‏أهم‏ ‏المناطق‏ ‏ذات‏ ‏القيمة‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏معنى ‏وظروف‏ ‏ومسيرة‏ ‏المرض‏ ‏والعلاج‏، ‏كما‏ ‏أنها‏ ‏من‏ ‏أصعب‏ ‏المناطق‏ ‏القابلة‏ ‏للفحص‏ ‏الدقيق‏، ‏وخاصة‏ ‏بواسطة‏ ‏ممارس‏ ‏قد يعانى ‏هو‏ ‏شخصيا‏ ‏من‏ ‏درجات‏ ‏عالية‏ ‏من‏ ‏الكبت أو الغموض‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏.‏

(4) ‏المرض‏ ‏و‏‏المريض‏:‏

من‏ ‏هو‏ ‏فهمى؟ وماذا‏ ‏أصابه؟ وكيف‏ ‏أصبح‏؟

لا يكفى‏ ‏أن‏ ‏نتحدث‏ ‏عما‏ ‏أصاب‏ ‏فهمى‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏المرض‏ ‏و‏‏لفترة‏ ‏محدودة‏، ‏إذْ‏ ‏لابد أننا سوف‏‏ ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏نقول‏: ‏ماذا‏ ‏صار‏ ‏إليه‏ ‏فهمي؟‏ ‏ثم‏ ‏بتعبير‏ ‏أكثر‏ ‏دقة‏: ‏من‏ ‏أصبح‏ ‏فهمى؟‏ ‏وحتى ‏نقول‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نعرف‏ ‏من‏ ‏هو‏ ‏إذْ  “‏كان‏” ‏وكيف‏ “‏كان‏”، ‏ثم‏ ‏ماذا؟‏.‏

كان‏ ‏طفلا‏ ‏لامعا‏ ‏ثم‏ ‏شابا‏ ‏صغيرا‏ ‏وافر‏ ‏النشاط‏ ‏له‏ ‏أصدقاء‏ ‏كُثْر‏، ‏دون‏ ‏صداقة‏ ‏حقيقية‏، ‏ولكنه‏ ‏تكلم‏ ‏عن‏ ‏توأمه‏ ‏باعتباره‏ ‏صديقه‏ ‏الأوحد‏ ‏حتى ‏حدث‏ ‏المرض‏، ‏فتباعدا‏ ‏دون‏ ‏ترتيب‏ ‏أو‏ ‏تمهيد‏. ‏

وهنا‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نستعيد‏ ‏ما‏ ‏قلنا‏ ‏عن‏ ‏دور‏ ” ‏الصنو‏”. ‏كما‏ ‏يجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نستعيد‏ ‏دور‏ ‏الصداقة‏ ‏فى ‏تكوين‏ ‏الشخصية‏ ‏ومسار‏ ‏النمو‏، ‏فالحاجة‏ ‏إلى ‏الآخر‏ ‏ملحة‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏: ‏يَتِمّ‏ ‏التعارف‏ ‏على ‏الذات‏ ‏والحصول‏ ‏على ‏التقبل‏ ‏والمشاركة‏ ‏المتبادلة‏ ‏من‏ ‏وجود‏ ‏الآخر‏، ‏بداية‏ ‏بالأم‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الانتقال‏ ‏من‏ ‏الوالدين‏ ‏إلى ‏المجتمع‏، ‏وبالعكس‏ .. ‏ثم‏ ‏التعامل‏ ‏”مع‏ ‏آخر‏” ‏غير‏ ‏الوالدين‏، ‏إنما‏ ‏يتطلب‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏التبادل‏ ‏الحقيقى، ‏فعلى ‏مستوى ‏الأصدقاء‏ قد ‏نجد‏ ‏أن‏ ‏الصديق‏ ‏يطلب‏ ‏من‏ ‏صديقه‏ ‏نفس‏ ‏ما‏ ‏يطلبه‏ ‏الصديق لنفسه‏ ‏وفى ‏نفس‏ ‏اللحظة‏، ‏دون‏ ‏الاتفاق‏ ‏غير‏ ‏المعلن‏ ‏على ‏تبادل‏ ‏الأدوار‏، ‏فما بالك بالتوائم فإذا‏ ‏تصادمت‏ ‏الاحتياجات‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏اللحظة‏ ‏فقد‏ ‏تفقد‏ ‏الصداقة‏ ‏وظيفتها‏ ‏مؤقتا‏ ‏على ‏الأقل‏ أ‏وقد‏ ‏ينتج‏ ‏صدام‏ ‏يُـفرغ‏ ‏الصداقة‏ ‏من‏ ‏وظيفتها‏. ‏

وبصفة‏ ‏عامة‏، ‏فقد‏ ‏وَصَلَـَنـا‏ ‏من‏ ‏علاقة‏ ‏التوأمين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏جدير‏ ‏بالإشارة والنظر‏، ‏فوظيفة‏ ‏الصداقة‏ – ‏كما‏ ‏استلهمناها‏ ‏هنا -‏، ‏يمكن‏ ‏تخطيطها‏ ‏كما‏ ‏يلى:‏

‏(1) ‏أعطِنى ‏أذنك‏ ‏أعطـِـك‏ ‏همسَ‏ ‏نفسى‏ ‏

‏(2) ‏إقبـَل‏ ‏ضعفِى ‏الآن‏، ‏وسأفعل‏ ‏لك‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏حينه‏‏

‏(3) دعنا ‏نتعاون‏ ‏سويا‏ ‏أمام‏ ‏مـُـغـِـيرٍ ‏بشرى ‏ثالث‏

‏(4) ‏نوجّه‏ ‏نشاطنا‏ ‏معا‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏لا‏ ‏يتم‏ ‏إلا‏ ‏باثنين‏ ‏على ‏الأقل‏‏

‏(5) ‏أتبعك‏ ..تقودنى، ‏ولا‏ ‏تعيّرنى ‏بذلك‏ ‏

‏(6) ‏تتبعنى ‏أصاحبك‏ ‏ولا‏ ‏ألوى ‏ذراعك‏…. ‏

إلى ‏آخر‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏التعاقدات‏ ‏السرية – عادةً – التى ‏تجرى ‏ليل‏ ‏نهار‏ ‏تحت‏ ‏لافتة‏ ‏الصداقة الحميمة‏.

وقد‏ ‏استنتجنا‏ ‏أن‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏كان‏ ‏بين‏ ‏التوأمين‏ ‏فى ‏الصحة‏ (‏قبل‏ ‏المرض‏) ‏وهو هو ما لاحظناه ممتدا أثناء‏ ‏تواجدهما‏ ‏مرتبطين‏ ‏فى ‏القسم‏ ‏الداخلى ‏بالمستشفى ‏معا، أثناء المرض.

ويبدو‏ ‏أن‏ ‏فهمى‏ ‏قد‏ ‏عقد‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الصفقات‏ ‏مع‏ ‏توأمه‏ ‏بنجاح‏ ‏جعله‏ ‏ليس‏ ‏بحاجة‏ ‏إلى ‏بدائل‏ ‏لها‏، ‏فقد‏ ‏راح‏ ‏يكون‏ ‏صداقات‏ ‏أخرى ‏وصفها‏ ‏بالسطحية‏ ‏رغم‏ ‏الكثرة‏، ‏أو‏ ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يطمئن‏ ‏إلى ‏إمكان‏ ‏عقدها‏ ‏مع‏ ‏آخر‏ ‏بنفس العمق والفاعلية كما سبق وعقدها مع ‏توأمه‏.

هنا‏ ‏يثار‏ ‏سؤال‏ ‏هام‏ ‏عن‏ ‏دور‏ ‏الإخوة‏ ‏والأسرة‏ ‏فى ‏الوفاء‏ ‏باحتياج‏ ‏الطفل‏ ‏النامى ‏ثم‏ ‏الشاب‏، ‏إذ‏ ‏لو‏ ‏قامت‏ ‏الأسرة‏ ‏بتمثيل‏ ‏مصدر‏ ‏كامل‏ ‏لكل‏ ‏الاحتياجات‏ ‏لأماتت‏ ‏الاحتياج‏ ‏إلى ‏العالم‏ ‏الخارجى، ‏لتصبح‏ ‏الهزة‏ ‏مضاعفة‏ ‏وخطيرة‏ ‏حين‏ ‏تفرض‏ ‏الظروف‏ ‏انفصال‏ ‏أفراد الأسرة‏ ‏واستقلالهم‏ ‏بعضهم‏ ‏عن‏ ‏بعض‏، ‏والمرض‏ ‏أحد‏ ‏أسباب‏ ‏الانفصال‏ ‏المبكرة‏، ‏وما‏ ‏حدث‏ ‏لفهمى‏ ‏وقد‏ ‏أصابه‏ ‏أخطر‏ ‏ما‏ ‏أصاب‏ ‏الإخوة‏، ‏إنما‏ ‏حدث‏ ‏بعد‏، ‏ومع‏، ‏فتور‏ ‏العلاقة‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏توأمه‏، ‏ثم‏ ‏انفصاله‏ ‏عن‏ ‏توأمه‏ ‏بدخول‏ ‏هذا‏ ‏الأخير‏ ‏إلى ‏المستشفى، ‏فإذا‏ ‏لم‏ ‏يمكن ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الأسرة‏ ‏هى ‏مصدر‏ تغذية ‏كل‏ هذه ‏الاحتياجات‏، ‏وهذا طبيعى، فما‏ ‏هى‏ ‏حدود‏ ‏دورها‏ ‏فعلا؟‏

من‏ ‏واقع‏ ‏خبرتى ‏الشخصية‏ ‏والإكلينيكية‏ ‏تمثل‏ ‏الأسرة‏، ‏مصدر‏ ‏إرواء الاحتياج‏ ‏الأول‏ ‏والأهم‏ ‏فى ‏سنين‏ ‏العمر‏ ‏الأولى، ‏وذلك‏ ‏فى ‏المجتمع‏ ‏المصرى ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏ثم‏ ‏المجتمع‏ ‏العربى (‏ربما‏) ‏دون‏ ‏المجتمع‏ ‏الغربى ‏الذى ‏تتكون‏ ‏فيه‏ ‏الأسر‏ ‏مكتملة‏ ‏مبرمجة‏ ‏بإيقاع‏ ‏محسوم‏ ‏متلاحق‏، ‏أقول‏ ‏فى ‏مجتمعنا‏، ‏وفى ‏حالات‏ ‏السواء‏ ‏تظل‏ ‏الأسرة‏ ‏المصرية/ العربية بعد‏ ‏التفرق‏ ‏بمثابة‏ ‏المرفأ‏ ‏والبديل‏ ‏الإسعافى ‏للعلاقات‏ ‏الاجتماعية‏ ‏الأخرى، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏دورها‏ ‏الحقيقى ‏بعد‏ ‏السنوات‏ ‏الأولى ‏يكمن‏ ‏فى “‏أنها‏ ‏هناك‏”، فى المتناوَل، ‏وأن‏ ‏أى ‏إحباط‏ ‏فوق‏ ‏الطاقة‏ ‏يجد‏ ‏له‏ ‏ملطفا‏ ‏وبديلا‏ ‏بالرجوع‏ ‏إليها‏” ‏بعض‏ ‏الوقت‏”، ‏فتنطلق‏ ‏المحاولة‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏بعد‏ ‏تعديل‏ ‏الصفوف‏ ‏داخل‏ ‏النفس وداخل الأسرة أيضا‏، ‏فهى ‏بذلك‏ ‏صمام‏ ‏الأمن‏ ‏وتأمين‏ ‏للإحباط‏، ‏ومزود‏ ‏للطاقة‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏أفرادها‏ ‏الأصغر‏ ‏وهم‏ ‏يخوضون‏ ‏بحار‏ ‏المجتمع‏ ‏ذهابا‏ ‏وعودة‏، ‏حتى ‏يصبحوا‏ ‏نواة‏ ‏لوحدة‏ ‏اجتماعية‏ ‏جديدة‏، ‏وهكذا‏.‏

وفى ‏حالتنا‏ ‏هنا‏ ‏قامت‏ ‏الأسرة‏ ‏بدورها‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏عندها‏ وهو شديد التواضع: ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أنها‏ ‏أسرة‏ ‏افتقدت‏ ‏إلى ‏الأمان‏ ‏الأساسى ‏فأصبح‏ ‏عطاء‏ ‏أفرادها‏ ‏شديد‏ ‏الضآلة‏، ‏فقام‏ ‏كل‏ ‏توأم‏ ‏لأخيه‏ ” ‏بكل‏ ‏العمل‏” ‏فوضع‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏بيضه‏ ‏فى ‏سلة‏ ‏واحدة‏ هى توأمه، أو هى سلة، ‏مشتركة‏ ‏بينهما‏، ‏فكان‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏حين‏ ‏اهتزت‏ ‏السلة‏ ‏وتكسر‏ ‏البيض‏.

شخصية فهمى

‏لم يكن وصف‏ ‏شخصية‏ ‏فهمى سهلاً كما يتبادر للذهن لأول وهلة حين وُصـِفَ بالإنطوائية من أحد الفاحصين، إذْ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نقول‏ ‏إن‏ ‏فهمى‏ ‏كان‏ ‏شابا‏ ‏انطوائيا‏ ‏إذا‏ ‏نظرنا‏ ‏فى ‏سلوكه‏ ‏الظاهرى، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏يشارك‏ ‏فى ‏كل‏ ‏نشاط‏ ‏ويلعب‏ ‏كل‏ ‏لعبة‏ ‏رياضية‏، ‏وله‏ ‏أصدقاء‏ ‏كثيرون‏ ‏ويحبه‏ ‏المدرسون‏:

‏”‏علاقتى ‏بالمدرسين‏ ‏كانوا‏ ‏يحبونى، ‏مثلا‏ ‏مدرس‏ ‏العربى ‏كان‏ ‏يحبنى ‏عشان‏ ‏كنت‏ ‏خطيب‏ ‏كويس‏ ‏أقلد‏ ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏… ‏”‏

كما‏ ‏كان‏ ‏سلوكه‏ ‏الجنسى ‏متنوعا‏، ‏يمارسه‏ ‏بلا‏ ‏خجل‏ ‏زائد‏ ‏أو‏ ‏تردد‏، ‏مثلما‏ ‏نتوقع من‏ ‏الإنطوائيين‏، ‏أما‏ ‏الواقع‏ ‏الذى ‏ظهر‏ ‏لنا‏ ‏من‏ ‏الفحص‏ ‏الأعمق‏ ‏والمتابعة‏ ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الظاهر‏: ‏لما‏ ‏رحنا‏ ‏نقّيم‏ ‏عمق‏ علاقة ‏فهمى‏ ‏مع‏ ‏الآخر و‏‏وظيفتها‏ ‏وتعدد‏ ‏مصادرها‏ ‏مما‏ ‏يعطى ‏معنى ‏التواصل‏ ‏وفاعليته‏ ‏من‏ ‏عدمه‏، ‏وجدنا‏ ‏أن‏ ‏زعم‏ ‏الإنبساطية‏‏ لايتعدى وصف ‏سلوكٍ‏ ‏ظاهر، ‏رغم‏ ‏تأكيد‏ ‏فهمى‏ ‏عليه،‏ (‏وخاصة‏ ‏فى مقابلة 1978).

‏”‏كنت‏ ‏اجتماعى. ‏تمللى ‏أزور‏ ‏قرايبى، ‏كان‏ ‏لى ‏أصحاب‏ ‏ثلاثة‏ ‏أو‏ ‏أربعة‏..  “‏كنت‏ ‏أروح‏ ‏النادى”

إن هذا الوصف‏ ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يتوازن‏ ‏مع‏ ‏وصف‏ ‏آخر‏ ‏حين‏ ‏يقول‏:‏

‏ ‏فى ‏المعهد‏ ‏ما‏ ‏كانش‏ ‏لى ‏غير‏ ‏صاحب‏ ‏واحد‏”،

‏ ‏ثم‏ ‏تجيء‏ ‏شهادة‏ ‏أخته‏ ‏لتؤكد‏ ‏ظاهر‏ ‏إنبساطيته‏ ‏حتى ‏بالمقارنة بتوأمه‏، ‏ تقول‏ ‏أخته:

‏ “‏كان‏ ‏اجتماعى ‏بحبوح‏، ‏عكس‏ ‏أخوه‏، ‏منطوى”.

على ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏كان‏ ‏يستشعر‏ ‏جانبا‏ ‏من‏ ‏نفسه‏ ‏قد يشير إلى ميل إلى الانطواء‏، ‏يقول‏: ‏كنت‏ ‏أقرأ‏ ‏القرآن‏ ‏من‏ ‏صغرى‏، ‏وأصلى ‏وده‏ ‏كان‏ ‏ليه‏ ‏دور ‏فى ‏الناحية‏ ‏الانطوائية‏، ‏ولكنى ‏كنت‏ ‏طبيعى (‏مقابلة ‏ 1978)، من غير‏ ‏الواضح‏ ‏ماذا‏ ‏جعله‏ ‏يقول أولا ما قاله،‏ ‏ثم‏ ‏يستدرك‏ ‏هكذا‏، ‏لعله‏ ‏كان‏ ‏ينبه‏ ‏بأن‏ ‏للتدين‏ ‏دور‏ ‏فى ‏الناحية‏ ‏الانطوائية‏ ‏بتأكيده‏ ‏استطرادا‏ ‏أنه‏: “‏ولكنى ‏كنت‏ ‏طبيعى‏” ‏ويجدر‏ ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏تاريخه‏ ‏الجنسى ‏الثرى ‏فى ‏الطفولة‏ (‏دون‏ ‏شعور‏ ‏ظاهر‏ ‏بالذنب‏ ‏حينذاك‏، ‏ولا‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏) ‏والتزامه‏ ‏بالصلاة‏ ‏وقراءة‏ ‏القرآن‏ ‏منذ‏ ‏الصغر‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏لندرك‏ ‏عدم‏ ‏التعارض‏ ‏الحاد‏ – ‏كما‏ ‏تشير‏ ‏التفسيرات‏ ‏الدينية‏ ‏السطحية‏ ‏أو‏ ‏الموقف‏ ‏الأخلاقى ‏المتزمت‏ – ‏بين‏ ‏الجانبين‏، ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏النمو‏ ‏الدينى له مساره ودلالاته، وهو‏ ‏حاجة‏ ‏أساسية‏ ‏مثل‏ ‏سائر‏ ‏الحاجات‏ ‏باعتبار‏ ‏تعريف‏ ‏الدين‏ ‏والايمان‏ ‏بمفهوم‏ ‏أشمل‏ ‏يحوى ‏سلسلة‏ ‏من‏ ‏العبادات والعلاقات تعلن ‏الحاجة‏ ‏الى ‏التواصل‏ ‏عبر‏ ‏الذات‏ ‏والمجتمع‏ “‏معا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏بعدهما‏” ‏وهو ما يسير‏ ‏جنبا‏ ‏الى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏النمو‏ ‏الجسدى ‏والجنسى ‏والمعرفى ‏والوجدانى .. ‏ولا‏ ‏يوجد‏ – ‏فى ‏الواقع‏ – ‏ما‏ ‏يبرر‏ ‏هذا‏ ‏الاستقطاب‏ ‏الذى ‏يضع‏ ‏الدين‏ ‏ضد‏ ‏الجنس‏ ‏فى ‏النمو‏ ‏الأخلاقى ‏وخاصة‏ ‏فى ‏الطفولة،‏ ‏هذا‏ ‏الاستقطاب‏ ‏الذى ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏تصوراتنا‏ ‏التى ‏تقصر‏ ‏عن‏ ‏الفهم‏ ‏الأشمل‏ ‏للطبيعة‏ ‏البشرية‏ ‏ومساراتها‏ ‏المتعددة‏ ‏معا‏. ‏ونستطيع‏ ‏أن‏ ‏نخلص‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏عدة‏ ‏ايضاحات‏:

‏(1) ‏إن‏ ‏تصنيف‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏انطوائى ‏وانبساطى ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مقاييس‏ ‏أعمق‏ ‏من‏ ‏المقاييس‏ ‏السائدة‏، وهنا‏ ‏يجدر‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏الأبعاد‏ ‏المتعددة‏ ‏التى ‏قال‏ ‏بها‏ كارل ‏يونج‏ ‏صاحب‏ ‏هذه‏ ‏التقسيمات أساسا،‏ ‏حيث‏ ‏ميز‏ ‏الإنطوائية‏ ‏والإنبساطية‏ ‏على ‏أبعاد‏ ‏الشخصية‏ ‏المختلفة‏، ‏إذ‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الواحد‏ ‏إنطوائيا‏ ‏وجدانيا‏ ‏وانبساطيا‏ ‏فكريا‏، ‏أو‏ ‏يكون‏ ‏العكس‏، ‏وقد‏ ‏ميز‏ ‏كارل‏ ‏يونج‏ ‏عدة‏ ‏تصنيفات‏ ‏متعددة‏ ‏حسب‏ ‏المستويات‏ ‏المختلفة‏ ([24])، ‏لكن‏ ‏تصنيفاته‏ ‏الدقيقة‏ ‏لم‏ ‏تستثمر‏ ‏بالدرجة‏ ‏الكافية‏ ‏فى ‏الممارسة‏ ‏الصحيحة‏.‏

‏(2) ‏إن‏ ‏ما‏ ‏ذهب‏ ‏إليه‏” ‏أيزنك‏”([25]) ‏فى ‏مقابلته‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏العصابية‏ ‏والانبساطية‏، ‏ورغم‏ ‏دعم‏ ‏افتراضه‏ ‏هذا‏ ‏بعشرات‏ ‏المعطيات‏ ‏الإحصائية‏ ‏التفصيلية‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏مراجعة‏ ‏متأنية‏، ‏إذ‏ ‏قد‏ ‏يثبت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الاستقطاب‏ ‏أضعف‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يثبت‏ ‏بنظرة‏ ‏أعمق‏ ‏أن‏ ‏الإنطوائية‏، ‏فى ‏ظروف‏ ‏بذاتها‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏ذخيرة‏ ‏حية‏ ‏ضد‏ ‏العصابية‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏وليس‏ ‏كما‏ ‏زعم‏ “‏أيزنك”‏.

فعل‏ ‏المرض‏ ‏فى ‏ا‏لشخصية‏:‏

ثم‏ ‏يأتى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ” ‏فعل‏ ‏المرض‏” ‏تأثيره‏ ‏فى ‏الشخصية‏، ‏ففى ‏سنة‏ 1959 ‏لم‏ ‏يبد‏ ‏أن‏ ‏فهمى‏ ‏زاد‏ ‏انطوائية‏ ‏بالمرض‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏سلوكه‏ ‏بالقسم‏ ‏الداخلى ‏- كما‏ ‏أذكر‏- ‏لا‏ ‏يتصف‏ ‏بالانطوائية‏ ‏أصلا‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏جاء فى أوراقه‏ ‏فى ‏الفحص‏ ‏الثانى (1978) “بأنه‏ ‏بعد‏ ‏المرض‏ ‏بدأ‏ ‏الانطواء‏”، وقد‏ ‏جاء‏ ‏ذكر‏ ‏هذه‏ ‏الجملة‏ ‏دون‏ ‏تفصيل‏ ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏ورد‏ ‏بعدها‏ ‏وقبلها‏ ‏كان‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏درجة‏ ‏التواصل‏ ‏ونفس‏ ‏عدد‏ ‏الأصدقاء‏ ‏ونوع‏ ‏الصداقة‏، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏قيل‏ ‏حول‏ ‏علاقاته‏ ‏فى ‏المعهد‏ ‏ونشاطاته‏ ‏هناك‏ ‏كان‏ ‏بعد‏ ‏المرض‏، ‏لأن‏ ‏المرض‏ ‏أصابه‏ ‏وهو‏ ‏فى ‏السنة‏ ‏الثانية‏ ‏الثانوية‏، ‏وتكررت‏ ‏نوباته‏ (‏دون‏ ‏أن‏ ‏تختفى ‏آثاره‏ ‏أبدا‏ ‏حتى ‏بين‏ ‏النوبات‏) ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏ودخل‏ ‏المعهد‏ ‏المتوسط‏ ‏وهو‏ ‏مريض‏.‏

ويمكن‏ ‏تفسير‏ ‏هذا‏ ‏التناقض‏ ‏الظاهر‏ ‏فى ‏الشخصية‏ ‏باحتمال‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏أشار‏ ‏إلى ‏البعد‏ ‏الانطوائى ‏كما‏ ‏استقبله‏ ‏هو‏ ‏فى ‏ابتعاده‏ ‏عن‏ ‏الناس‏ ‏وجدانيا‏ ‏داخليا‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ابتعاده‏ ‏سلوكا‏ ‏اجتماعيا‏، ‏وكأن‏ ‏الإشارة‏ ‏العارضة‏ ‏التى ‏ذكرها‏ ‏فهمى‏ ‏نفسه‏ ‏إلى ‏دور‏ ‏التدين‏ ‏فى ‏الناحية‏ ‏الانطوائية‏ ‏فى ‏الصغر‏ ‏قد‏ ‏ظهرت‏ ‏دلالتها‏ ‏على ‏السطح‏ ‏حين‏ ‏استشعرها‏ ‏فى ‏وجوده‏ ‏وعلاقاته‏ ‏الباطنية‏ ‏بالآخرين‏، ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏الشخص‏ ‏انطوائيا‏، ‏ثم‏ ‏يصاب‏ ‏بذهان‏ ‏ما‏ ‏(من‏ ‏نوع‏ ‏الفصام‏ أو غيره)، ‏ثم‏ ‏يخرج‏ ‏منه‏ ‏وكأنه‏ ‏أصبح‏ ‏انبساطيا‏ ‏متعدد‏ ‏العلاقات‏ ‏سهل‏ ‏الاختلاط‏ (‏ظاهريا‏)، ‏وربما‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏نتيجة ‏درجة‏ ‏من‏ ‏التبلد‏ ‏اكتسبها‏ ‏بالمرض‏ ‏فسمحت‏ ‏له‏ ‏بهذه‏ ‏الجرأة‏ ‏الظاهرة‏ ‏التى ‏لا‏ ‏تدل‏ – ‏فى ‏الواقع‏- ‏على ‏علاقة‏ ‏حقيقية‏، ‏على ‏أن‏ ‏الحكم‏ ‏المتعجل‏ ‏على ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏التغيرات‏ ‏يبعدنا‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏عن‏ ‏فهم‏ ‏المريض‏ ‏والمرض‏، ‏ودلالة‏ ‏هذه‏ ‏التغيرات‏ ‏تكمن‏ ‏فى ‏حدوثها‏ ‏بنفس‏ ‏قدر‏ ‏دلالة‏ ‏اتجاهها‏، ‏فالانطوائى ‏الذى ‏أصبح‏ ‏بالمرض‏ ‏انبساطيا‏ ‏أو‏ ‏العكس‏، ‏إنما‏ ‏يعلن‏ ‏تغيرا‏ ‏كليا‏ ‏فى ‏تركيب‏ ‏شخصيته‏، ‏تغيرا‏ ‏يحتاج‏ ‏معه‏ – ‏إذا‏ ‏صح‏ ‏العلاج‏- ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ ‏فى “‏تأهيل‏ ‏نشِـط‏” ‏حتى ‏لا‏ ‏يصير‏ ‏التغير‏ ‏إلى ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏التليف‏ ‏الداخلى ‏والجمود‏ ‏برغم‏ ‏بريق‏ ‏المظهر‏، ‏ولابد‏ ‏من‏ ‏أن ننتبه إلى الاحتمال الأرجح الذى يقول إن‏ ‏المسار‏ ‏بعد‏ ‏الذهان‏ – ‏فى ‏معظم‏ ‏الحالات‏ – ‏هو‏ ‏إلى ‏أسوأ‏ ‏حتى لو بدا هادئا‏، ‏باختفاء‏ ‏الأعراض‏ ‏الظاهرة‏، وذلك ‏ما‏ ‏لم‏ ‏تبذل‏ ‏الجهود التأهيلية العلاجية المتمادية، التى تتيح فرصة حقيقية لاستيعاب خبرة المريض وتحويل مساره إلى أفضل، حتى أفضل مما كان عليه قبل المرض، وهو ما يسمى “تغيير الاتجاه إلى أعلى”.

المريض، ومن “عنده مرض”:

إن‏ ‏الشخصية‏ ‏بتركيبها‏ ‏المستقر‏ ‏نسبيا‏ ‏بفعل‏ ‏المرض‏ قد‏ ‏تعود‏ ‏إلى ‏استقرار‏ ‏ما‏، ولكن‏ ‏هذا‏ ‏الاستقرار‏ ‏الجديد‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏المظاهر‏ ‏المرضية‏ أو البعَدْ مرضية ‏ما‏ ‏يبرر‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نسميه‏ ‏مرضا‏ ‏أيضا‏، ‏لكنه‏ ‏مرض‏ ‏مختلف‏ ‏لا‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏التشخيص‏ ‏بالضرورة‏، ‏وإنما‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏النوع‏ ‏الدقيق‏ ‏والمآل‏، ‏ذلك‏ ‏بمعنى ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏من‏ ‏عمق‏ ‏آخر‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يورى ‏أن‏ ‏الشخصية‏ ‏الجديدة‏ ‏المستقرة‏ ‏بتركيب‏ ‏معوق‏ ‏ومتليف‏ ‏هى ‏هى ‏صورة‏ ‏المرض‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏استولى ‏على ‏المريض‏ ‏كله‏، ‏بحيث‏ ‏يصبح‏ ‏التعبير‏ “‏إن‏ ‏فلانا‏ ‏مريض‏” ‏أصح‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏من قولنا:‏ ‏أن‏ ‏فلانا‏ “‏عنده‏ ‏مرض‏”، ‏فلا‏ ‏يعود‏ ‏هذان‏ ‏التعبيران‏ ‏مترادفان‏ ‏بعد‏ ‏هذا‏ ‏التغير‏ ‏النوعى. ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏الفروق‏ ‏بين‏ ‏المفهوم‏ ‏الطبى ‏الباطنى ‏والجراحى ‏وبين‏ ‏مفهوم‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الذى ‏لابد‏ ‏وأن‏ ‏يفرق‏ ‏بين‏ “‏المريض‏” ‏ومن‏ “‏به‏” ‏أو‏ “‏عنده‏” ‏مرض‏‏.

فهمى‏ ‏أصيب‏ ‏بالمرض‏ ‏سنة‏ 1958. ‏ولم‏ ‏يتركه‏ ‏كما‏ ‏كان‏، ‏وعاودته‏ ‏النوبة‏ ‏بصورة‏ ‏أخرى ‏بعد‏ ‏عام‏ ‏وها‏ ‏هو‏ ‏يبدو‏ ‏كأنه‏ ‏أصبح‏ ‏مريضا‏ معاوِداً ‏يصاب‏ ‏بمرض‏ ‏جديد‏ ‏ليتركه‏ ‏أكثر‏ ‏تليفا‏ ‏وتشويها‏ ‏حتى ‏ولو‏ ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏أثره‏ ‏مباشرة‏ ‏على ‏السطح‏، ‏وهكذا‏، ‏وكأن‏ ‏ظهور‏ ‏النوبات‏ ‏فى ‏دورية‏ ‏متتالية‏، ‏أو‏ ‏فى ‏تفتر‏ ‏متلاحق‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏مرضا‏ ‏جديدا‏ ‏قد‏ ‏حل‏ ‏بالشخص‏، ‏وإنما‏ ‏يعنى ‏أن‏ ‏تغير‏ ‏صورة‏ ‏المرض‏ ‏ينقله‏ ‏من‏ ‏مرحلة‏ ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏حتى ‏يكاد‏ ‏يبتعد‏ ‏عن‏ ‏صورته‏ ‏الأولى ‏بدرجات‏ ‏مختلفة‏، ‏وفى هذه الحالة لاحظنا أن كل‏ ‏نوبة‏ ‏على ‏مسار‏ ‏التغير‏ ‏تترك‏ ‏الشخصية‏ ‏أكثر‏ ‏تليفا‏ (‏أقل‏ ‏نبضا‏) ‏وأكثر‏ ‏سلبية‏ ‏وجمودا‏.‏

حكاية‏ ‏المرض‏ ‏نفسه‏: ‏

كان‏ ‏فهمى‏ ‏فى ‏الخامسة‏ ‏عشر‏ ‏من‏ ‏عمره‏ ‏حين‏ ‏بدأ‏ ‏المرض‏، ‏وكان‏ ‏الجو‏ ‏السائد‏ ‏بين‏ ‏العاملين‏ ‏بالمستشفى (‏ممرضين‏ ‏وخدم‏ ‏وأطباء‏) ‏بالنسبة‏ ‏إليه‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ” ‏ثقيل‏ ‏الدم‏”، (‏وخاصة‏ حين تتاح فرصة المقارنة ‏ ‏بتوأمه‏ ‏ فتحى بعد دخوله القسم‏) ‏وكان‏ ‏يتحدث‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏بداخله‏ ‏وذكرياته‏ ‏وأعراضه‏ ‏بنفس‏ ‏الصوت‏ ‏والنغمة‏ ‏الرتيبة‏ ‏الفاترة‏، ‏والمقارنة‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏توأمه‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏لها‏ ‏أهمية‏ ‏خاصة‏، ‏لأن‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ – ‏ثقل‏ ‏الدم‏- ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏مفيدة‏ ‏فى ‏تشخيص‏ “التسطيح‏ ‏الانفعالى‏” و”‏فتور‏ ‏التواصل‏” ‏رغم‏ ‏ظاهر‏ ‏تشابه‏ ‏الأعراض‏، ‏ولكن‏ ‏الحكم‏ ‏المطلق‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الفاحص‏ ‏المنفرد‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏الاعتماد‏ ‏عليه‏، ‏لأن‏ ‏التواصل‏ (‏وخفة‏ ‏الدم‏) ‏هو‏ ‏عملية‏ ‏متبادلة‏ ‏بين‏ ‏اثنين‏، ‏فاذا‏ ‏تجمد‏ ‏أحدهما‏ ‏وعجز‏ ‏عن‏ ‏الاستقبال‏ ‏والإرسال‏ ‏وصف‏ ‏الآخر‏ ‏بهذه‏ ‏الصفة‏ ” ‏ثقل‏ ‏الدم‏”، ‏ومن‏ ‏أدرانا‏ ‏أن‏ ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏التواصل‏ ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏الطبيب‏ ‏الفاحص‏ ‏وليس‏ ‏صفة‏ ‏للمريض‏ ‏المفحوص؟‏ ‏لذلك‏ ‏كان‏ ‏إجماع‏ ‏العاملين‏ ‏على ‏وصف‏ ‏فهمى‏ “‏بثقل‏ ‏الدم‏” ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏فرصة‏ ‏المقارنة‏ ‏بتوأمه‏، ‏هما‏ ‏ما‏ ‏ارتكنـّـا‏ ‏اليه‏ ‏من‏ ‏قبول‏ ‏الأخذ‏ ‏بوجود‏ “‏فتور‏ ‏العواطف‏” ‏بشكل‏ ‏غالب‏ ‏عنده‏، ‏وقد‏ ‏تبين‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تطور‏ ‏فتحى ‏المرضى ‏والحياتى ‏كان‏ ‏أفضل‏ ‏من‏ ‏توأمه‏ ‏فهمى‏ ‏الذى ‏نحن‏ ‏بصدد‏ ‏إكمال‏ ‏حالته‏، ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏العامل‏ “‏مدى ‏ثقل‏ ‏الدم‏”، ‏هو‏ ‏جزء‏ ‏من‏ ‏الأرضية‏ ‏التى ‏قد‏ ‏تفيد‏ ‏فى ‏تحديد‏ ‏تطور‏ ‏مسار‏ ‏المرض‏ ‏وتوقع‏ ‏نتاجه‏، ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏ممكنا‏ ‏فى ‏حالتنا‏ ‏هذه‏ ‏بعد‏ ‏إعادة‏ ‏الفحص‏ ‏التى ‏تمت‏ ‏بعد‏ ‏ثمانية‏ ‏عشر‏ ‏عاما‏([26]) (1978).‏

أعراض‏ ‏ومعان‏:‏

تقول‏ ‏الأخت‏ ‏فى ‏الأعراض‏ ‏الخاصة‏ ‏بالنوبة‏ ‏الأخيرة‏ (1978) ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏ببعد‏ ‏الانسحاب‏ ‏والانغلاق‏: ‏

‏ ‏فهمى‏ ‏بطبيعته‏ ‏اجتماعى ‏يحب‏ ‏الناس‏، ‏لما‏ ‏تجيله‏ ‏الحالة‏ ‏ينعكف‏، يبقى ‏عنده‏ ‏تردد‏ ‏ونسيان‏ ‏كثير‏”

القراءة:

‏(1) ‏نبهنا‏ ‏منذ‏ ‏قليل‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏مراجعة‏ ‏استعمال‏ ‏كلمات‏ ‏مثل‏ ‏انطوائى ‏أو‏ ‏انبساطى ‏فى ‏وصف‏ ‏الشخصية‏ ‏قبل‏ ‏المرض‏، ‏ونعاود‏ ‏التذكرة‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏تقرير‏ ‏الأخت‏ ‏أن‏ ‏فهمى‏ ‏كان‏ ‏اجتماعيا‏ ‏يحب‏ ‏الناس‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏مباشرة‏ ‏المفهوم‏ ‏الظاهر‏، ‏وخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ “‏بحب‏ ‏الناس‏”، ‏فالحب‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏مجرد‏ ‏الإقبال‏ ‏أو‏ ‏الحديث‏ ‏أو‏ ‏الاختلاط‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الناس‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يعنى ‏موقفا‏ ‏تجاه‏ ‏التبادل‏ ‏البشرى ‏الضرورى ‏مع‏ ‏المسئولية‏ ‏المصاحبة‏ ‏والرعاية‏ ‏المنتظرة‏، ‏ولا‏ ‏نظن‏ ‏أن‏ ‏أيا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الصفات‏ ‏كان‏ ‏ما‏ ‏تعينه‏ ‏الأخت‏ ‏وهى ‏تصف‏ ‏فهمى‏.

وننبه‏ ‏فى ‏تحليل‏ ‏أقوال‏ ‏المرضى‏ ‏والأقارب إلى ما يلى‏:

‏إن‏ ‏القول‏ ‏بحب‏ ‏الناس‏، ‏غير‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏حب‏ ‏الناس‏، ‏غير‏ ‏انتظار‏ ‏حب‏ ‏الناس‏، ‏غير‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏حب‏ ‏الناس‏، ‏غير‏ “‏حب‏ ‏الناس‏ ‏الحقيقيى” ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏عدا‏ ‏الاحتمال‏ ‏الأخير‏ ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏علاقة‏ ‏نشطة‏ ‏مع‏ ‏الناس‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بأخر‏ ‏لا تسمى‏ ‏بالضرورة‏ “‏حبا‏” ‏بالمعنى ‏الإيجابى ‏البناء (= الرعاية والمسئولية).

(2) ‏ثم‏ ها هى أخته تضيف: “‏كان‏ ‏كده‏، ‏هو‏ ‏واخوه‏، ‏يقطعوا‏ ‏الأكل‏…. ‏ويقروا‏ ‏قرآن‏ ‏باستمرار‏ ‏وبصوت‏ ‏عالى‏”، فنتوقف أمام ‏‏ ‏تفسير‏ ‏ظاهرة‏ ‏الانسحاب‏، ‏والاستغراق‏ ‏فى ‏التدين‏ ‏الذى ‏يصاحب‏ ‏كثيرا‏ ‏من‏ ‏بدايات هذه‏ ‏الأمراض‏، ‏خاصة‏ ‏الذهانية‏، ‏دون‏ ‏تخصيص‏ ‏مرض‏ ‏بذاته‏، ‏فهذا‏ ‏التدين‏ ‏الطارىء‏ ‏كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إعلانا‏: ‏أن‏ ‏حاجزا‏ ‏قد‏ ‏قام‏ ‏بين‏ ‏الشخص‏ ‏وبين‏ ‏أقرانه‏ ‏البشر‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏حاجةً‏ ‏ما‏ ‏إلى “ما‏ ‏بعد‏ ‏البشر‏” ‏قد‏ ‏نشطت‏، ‏وبما‏ ‏أننا‏ ‏أمام‏ ‏تجربة‏ ‏مرضية‏، ‏فإن‏ ‏هذه‏ ‏الحاجة‏ ‏لا‏ ‏تتخطى ‏البشر‏ “‏بهم”‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ “‏بعدهم”‏، ‏ولكنها‏ ‏تلغى ‏البشر‏ ‏لصالح‏ ‏انسحاب‏ ‏إلى ‏أمان‏ ‏مضمون‏، ‏أو‏ ‏نحو‏ ‏أمل‏ ‏فى ‏أمان‏ ‏مضمون‏ ‏أو‏ ‏شائع‏، ‏كذلك‏ ‏فان‏ ‏الاستمرار‏ ‏فى ‏قراءة‏ ‏القرآن‏ ‏بصوت‏ ‏عال‏، ‏أو‏ ‏الاستماع‏ ‏اليه‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ “‏الانسحاب‏ ‏بالإزاحة‏”. ‏أى ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏يقفل‏ ‏أبواب‏ ‏الاستقبال‏ ‏واحتمالات‏ ‏الاستجابة‏ ‏بأن‏ ‏يشغل‏ ‏حواسه‏ ‏وأدوات‏ ‏اتصاله‏ ‏بهذا‏ ‏المحتوى ‏الدينى ‏الجاهز‏، أملا فى أن‏ ‏يؤدى ‏وظيفتين‏: الأولى: ‏تجاوز ‏التواصل‏ ‏البشرى المشكـِـل ‏إلى ‏ما‏ ‏بعده‏ ‏أو‏‏ ‏إلى ‏احتمال ما بعده‏، ‏والثانية‏: ‏توقف‏ ‏مخاطر‏ ‏التلقائية‏ ‏فى ‏الاستقبال‏ ‏والإرسال‏ ‏للمثيرات‏ ‏المتغيرة‏.‏

وقد‏ ‏نلاحظ‏ ‏شيئا‏ ‏قريبا‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏فى ‏تلاوة‏ ‏الأوراد‏ ‏التى ‏تستغرق‏ ‏ساعات‏ ‏طويلة‏ ‏من‏ ‏النهار‏ ‏أو‏ ‏الاستماع‏ ‏المستمر‏ (‏المستمر‏) ‏إلى ‏الترتيل‏، ‏أو‏ ‏إلى ‏النوم‏ ‏طول‏ ‏النهار‏، ‏والاستيقاظ‏ ‏ليلا‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏من‏ ‏مظاهر‏ ‏ليس‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نعتبرها‏ ‏سلبية‏ فى جميع الأحوال‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏ترتبت‏ ‏عليها‏ ‏إعاقات‏ ‏محددة من أهمها الابتعاد عن الناس‏.

‏(3) ‏‏ ‏صاحـَـبَ‏ ‏هذا‏ ‏الانسحاب‏ (‏الفعلى ‏- أو‏ ‏بالازاحة‏) ‏فى ‏حالتنا‏ ‏هذه‏ ‏هبوط‏ ‏فى ‏الحفز‏ ‏إلى ‏الحياة‏، ‏كان‏ ‏من‏ ‏بين‏ ‏مظاهره‏ ‏العزوف‏ ‏عن‏ ‏الطعام‏، ‏وتعبير‏ “‏يقطعوا‏ ‏الأكل‏” ‏الذى ‏ذكرته‏ ‏الأخت‏ ‏يبدو‏ ‏أشد‏ ‏صدقا‏ ‏من‏ “‏يفقدوا‏ ‏الشهية‏”..الخ‏.‏

‏(4) ‏ثم يأتى ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏ذكر‏ “‏التردد‏” ‏ليعلن‏ ‏أن‏ ‏الموقف‏ ‏تجاه‏ ‏مجريات‏ ‏الحياة‏ ‏لم‏ ‏يعد‏ ‏محسوما‏ ‏بقرارات‏ ‏تصدر‏ ‏من‏ ‏شخصية‏ “‏واحدية‏” ‏متسقة‏، ‏كما‏ ‏يعلن‏ أن‏ ‏ما‏ ‏ثار‏ ‏بالداخل‏ ‏شكك‏ ‏فى ‏صحة‏ ‏وجدوى ‏فاعلية أية قرار، ‏فالتردد‏ ‏هنا‏ ‏قد‏ ‏ ‏يعنى ‏عجزا‏ ‏عن اتخاذ‏ ‏القرار‏ ‏أو عن المبادأة بالفعل، ‏ ‏بقدر‏ ما‏ قد‏ ‏يعنى ‏شكا‏ ‏فى ‏جدوى ‏فعل‏ ‏بذاته،‏ ‏أو‏ ‏عدم يقين بصواب‏ ‏قرار‏ ‏بعينه،‏ ‏بالإضافة‏ ‏إلى ‏احتمال‏ ‏صدور‏ ‏قرارين‏ (‏أو‏ ‏أكثر‏) ‏من‏ ‏ذات‏ ‏ظاهرة‏ ‏فى‏ ‏الخارج‏، ‏وذات‏ ‏داخلية‏ ‏تنشطت‏ ‏إزاء‏ ‏موقف‏ ‏بذاته‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏أى ‏أن‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نفترض‏ ‏أن‏ ‏التردد‏ ‏قد‏ ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏قرارين‏ ‏صدرا‏ ‏معا‏: ‏القراران‏ ‏صادران‏ ‏من‏ ‏مصدرين‏ ‏لم‏ ‏يتفقا‏ ‏على ‏فعل‏ ‏بذاته‏:

الهلاوس‏ ‏والضلالات‏:‏

نتيجة‏ ‏لهذا‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏الاستقبال‏ ‏والإرسال المتسقين‏ ‏يصبح‏ ‏المخ‏ ‏البشرى ‏فى ‏حالة‏ ‏من‏ “‏الفراغ‏”، ‏الأمر‏ ‏الذى ‏يساعد‏ ‏فى ‏إثارة‏ ‏العالم‏ ‏الداخلى، الوعى الداخلى، الواقع الداخلى الذى ينشط ‏ليملأ‏ ‏هذا‏ ‏الفراغ‏ ‏من‏ ‏الداخل ثم يتخطى الحواجز (حدود الذات) ‏فتظهر‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏الهلاوس تواصل الأخت: يقول الواحد منهم: ‏“أنا باسمع‏ ‏أصواتً”‏، فهمى بيقول:‏ “‏أنا‏ ‏سمعت‏ ‏صوتـِك‏ ‏وأنت‏ ‏بتتكلمى‏ ‏عنى‏،‏‏ ‏وأنا‏ ‏ما‏ ا‏كونش‏ ‏بأتكلم‏ ‏عنه‏ ‏خالص‏”.‏

الأصوات‏ ‏هنا‏ – كما‏ ‏ذكرنا‏ – ‏قد‏ ‏تعلن‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يتكلم‏ ‏الناس‏ ‏عنه‏ ‏أو‏ ‏يرونه‏ (‏والسلام‏)، ‏هنا‏ ‏يظهر‏ ‏تناقض ‏ظاهرى: ‏فكيف‏ ‏يقفل‏ ‏المريض‏ ‏أبواب‏ ‏الاتصال‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏تعلن‏ ‏أعراضه‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏الاتصال‏ ‏بظهور‏ ‏هذه‏ ‏الهلوسة‏ ‏البديلة‏ ‏عن‏ ‏الناس‏؟

 ‏الإجابة‏ ‏قد‏ ‏تتضح‏ ‏من‏ ‏تذكر‏ ‏أن‏ ‏الاتصال‏ ‏المرفوض‏: ‏هو‏ ‏التواصل‏ ‏الخطر‏ ‏مع‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى، ‏مع‏ ‏الموضوع‏ ‏الخطر‏ ‏الغير‏ ‏معروف‏ ‏توجهه‏، ‏أما‏ ‏بديله‏ ‏المرضى (‏الهلوسات‏) ‏فهو‏ ‏تواصل‏ ‏زائف‏ ‏مصنوع‏ ‏بين‏ ‏أجزاء‏ ‏الذات‏ ‏وبعضها‏، ‏فهو‏ ‏بذلك‏ ‏يحقق‏ ‏اتصالا‏ ‏بخيالات‏ (‏وكأنها‏ ‏الناس‏) ‏لا‏ ‏تحمل‏ بالضرورة ‏تهديد‏اً ‏أو‏ ‏مفاجأة‏ بعمل علاقة حقيقية “بآخر” لموضوع مختلف، مع أنها قد ‏تحمل‏ ‏تهديدا‏ ‏صريحا‏‏ بالوعيد أو التهديد بما يتيح الفرصة   – بالعلاج – لاستبدالها بموضوعات حقيقية .‏

هكذا‏ ‏ترى ‏أخته‏ ‏أهم‏ ‏مظاهر‏ ‏مرضه‏، ‏أما‏ ‏هو‏ ‏شخصيا‏ ‏فهو‏ ‏يصف‏ ‏حالته‏ ‏من‏ ‏مدخل‏ ‏آخر‏.‏

يقول‏ ‏فهمى‏:‏

‏”‏كنت‏ ‏باحس‏ ‏إن‏ ‏اخواتى ‏بيعقّدونى.. ‏يعنى ‏عايزين‏ ‏يتقمصوا ‏ ‏شخصيتي‏”…

” ‏أختى ‏تعاكس‏ ‏زمايلى ‏فى ‏الشغل‏.. ‏يعنى ‏بالروح‏..،‏‏ ‏يعنى ‏لو‏ ‏أتكلم‏.. ‏لوأفكر‏ ‏فى ‏حاجة .. ممكن‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏تعرف‏ ‏أنا‏ ‏بافكر‏ ‏فى ‏إيه‏… ‏ممكن‏ ‏أقعد‏ ‏ساكت‏ ‏وأقول‏ ‏كلام  ‏فى ‏سرى، ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏تعرفه‏ “.‏

‏ ‏تعودنا‏ ‏أن‏ ‏نسمع‏ ‏عن‏ ‏التقمص‏ ‏بمعنى ‏أن‏ ‏الشخص‏ ‏أو‏ ‏المريض‏ ‏يتقمص‏ ‏آخرا‏ ‏فيحاكيه‏، ‏فيصير‏ ‏كأنه‏ ‏هو‏ ‏هو‏، ‏ولكننا‏ ‏لم‏ ‏نتعود‏ ‏أن‏ ‏نسمع‏ ‏أحدا‏ ‏يشكو‏ ‏أن‏ ‏الآخرين‏ “‏يتقمصوه‏”، ‏والواقع‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏قد يشير إلى ‏ضعف‏ ‏حدود‏ ‏الذات‏ ‏بحيث‏ ‏تصبح‏ ‏قابلة‏ ‏للنفاذ‏، ‏فإذا‏ ‏تذكرنا‏ ‏أن‏ ‏منافذ‏ ‏الذات‏ ‏ليست‏ ‏مجرد‏ ‏ثقوب‏ ‏الحواس‏ ‏إلى ‏مخزن‏ ‏الذكريات‏، ‏وإنما‏ ‏انطباعات‏ ‏كلية‏ ‏عبر‏ ‏الحواس‏، ‏ومن‏ ‏خلالها‏، وعبر ما بعدها: عبر الإدراك الكلى الشامل ‏على ‏الكيان‏ ‏الشامل‏ ‏للمخ‏ “‏والكل‏” ‏البشرى‏([27])، ‏لأمكننا‏ ‏الاقتراب‏ ‏من‏ ‏معنى ‏إحساس‏ ‏فهمى‏ ‏أن‏ ‏الغير‏ “عاوزين‏ ‏يتقمصوا‏ ‏شخصيته‏”. ‏

هذا‏ ‏التعبير‏ ‏النادر‏: ‏إخواتى ‏عايزين‏ ‏يتقمصوا‏ ‏شخصيتى ‏هو‏ ‏إشارة‏ ‏ضمنية‏ ‏للإغارة‏ ‏من‏ ‏الآخر‏ ‏على ‏الذات‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ ‏متضمن‏ ‏لإعطاء‏ ‏الذات‏ ‏أهمية‏ ‏تستأهل‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏أهلا‏ ‏للتقمص‏، ‏إذا‏ ‏فهمنا‏ ‏الكلمة‏ ‏بالمعنى ‏العادى، ثم إن الجمع “إخواتى” له دلالة أن هذا هو إدراك كلى أكثر من أنه فكرة اقتحام أو سرقة من شخص بذاته.

قريب‏ ‏من‏ ‏هذا‏، ‏ولكن‏ ‏على ‏مستوى ‏الفكر‏، ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏إقحام‏ ‏الأفكار(‏[28])‏ ويكمل‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسمى “‏أعراض‏ ‏التعرية‏”، ‏حيث‏ ‏تصبح‏ ‏الذات‏ ‏ومحتواها‏ – ما‏ ‏دامت‏ ‏قد‏ ‏رقَّت‏ ‏حدودها‏ (وجدرانها) ‏حتى ‏الشفافية‏ – ‏نهبا‏ ‏للغير‏، ‏اطلاعا‏ ‏فإذاعة‏ ‏فسرقة‏، ‏نحن‏ ‏هنا‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏“الاطلاع‏” (‏قبل‏ ‏إذاعة‏ ‏الأفكار‏ ‏أو‏ ‏سرقة‏ ‏الأفكار‏).‏

‏”‏ممكن‏ ‏كل‏ ‏الناس‏ ‏تعرف‏ ‏أنا‏ ‏بافكر‏ ‏فى ‏إيه‏”…‏الخ‏”‏

وعلاقة‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏بالهلوسة‏ ‏هامة‏ ‏جدا‏.‏

يقول‏ ‏فهمى‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏الهلوسة‏ ‏المصاحبة‏ ‏لتأثير‏ ‏إخوته‏:‏

 ‏”‏مش‏ ‏بس‏ ‏أسمع‏ ‏صوتهم‏ ‏يتكلموا‏.. ‏دول‏ ‏حتى ‏بيكلموا‏ ‏أصحابى ‏فى ‏الشغل‏..‏‏” “و‏فى ‏الشغل‏ ‏أسمع‏ ‏صوت‏ ‏أختى ‏تعاكس‏ ‏زمايلى، ‏أخويا‏ ‏برضه ‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏الشغل‏ ‏بيقول‏ ‏لزميلى ‏إخطف‏ ‏المكنة‏ “.‏

هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الهلوسة‏ ‏يتداخل‏ ‏كثيرا‏ ‏مع‏ ‏ظاهرة‏ “‏الضلال‏”[29]‏ ففهمى‏ ‏يعتقد‏ ‏أن‏ ‏إخوته‏ ‏يكلمون‏ ‏أصحابه‏، ‏وهو‏ ‏يسمع‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏والواقع‏ ‏أن‏ “‏هنرى ‏إى‏([30])” ‏قد‏ ‏أكد‏ ‏طوال‏ ‏أبحاثه‏ ‏فى ‏الضلال‏ ‏عن‏ ‏الوحدة‏ ‏العضوية‏ ‏بين‏ ‏الهلاوس‏ ‏والضلال‏، ‏أن‏ ‏مصدر‏ ‏كل‏ ‏منهما‏ ‏واحد‏، ‏فالواضح‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏تفككا‏ ‏حدث‏ ‏فى ‏وحدة‏ ‏الذات‏ ‏فنتجت‏ ‏تعتعة‏ ‏للكيانات‏ ‏الكلية‏ ‏المنطبعة‏ ‏فصارت‏ ‏مستقلة‏ ‏عن‏ ‏بعضها‏ ‏البعض‏، ‏فانفصلت‏، ‏فأصبحت‏ ‏بتلقائية خاصة ‏قادرة‏ ‏أن‏ ‏تصدر‏ ‏حديثا‏ ‏مسموعا‏، ‏وقادرة أن‏ ‏تحدث‏ ‏تأثيرا‏ ‏كأنه‏ ‏خارجى، ‏وهى ‏ليست‏ ‏سوى ‏كيانات‏ ‏الذات‏ ‏المتفككة‏ ‏نفسها‏ ‏مـسقطة‏ ‏إلى ‏الخارج‏.‏

وكل‏ ‏من‏ ‏الهلاوس‏ ‏والضلالات‏ – ‏كخبرة‏ ‏معيشة‏- ‏ليست ‏إلا‏ ‏ترجمة‏ ‏مباشرة‏ ‏لظاهرة‏ ‏التفكك‏ ‏المرضى ‏التى ‏تحلل‏ ‏الوحدة‏ ‏البشرية‏ ‏إلى ‏كثرة‏ ‏متعددة‏ ‏متفاعلة‏ ‏متنافسة‏ ‏متحاورة‏ ‏ولا‏ ‏يقتصر‏ ‏هذا‏ ‏التفكك‏ ‏على ‏كيان‏ ‏بذاته‏، (‏الكيان‏ ‏الطفلى، ‏أو‏ ‏الكيان‏ ‏الوالدى([31])”… ‏إلخ‏) ‏بل‏ ‏هو‏ ‏ينطبق‏ ‏على ‏أى ‏كيان‏ “‏مطبوع‏” ‏لم‏ ‏يندمج‏ ‏تماما‏ ‏بالوحدة‏ ‏الكلية‏، ‏وهذا‏ ‏التفسير‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏الفهم‏ ‏التركيبى ‏للنفس‏ ‏البشرية‏ ‏بيولوجيا‏ ‏ونفسيا‏، ‏باعتبار‏ ‏إن‏ ‏المعلومات‏ ‏الواصلة‏ ‏إلى ‏كيان‏ ‏الذات‏ (‏بيولوجيا‏ ‏للإستيعاب‏ ‏حتى ‏الاندماج‏) ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يتم‏ ‏تمثّلها‏ ‏بدرجة‏ ‏كافية‏، ‏فإن‏ ‏هذه‏ ‏الكيانات (المعلومات)‏ تظل ‏جاهزة‏ ‏للتحريك‏ ‏فى ‏وعى ‏ظاهر‏ (‏فى ‏حالة‏ ‏الجنون‏).‏

فهمى‏ ‏يشير‏ -هنا-‏ إلى ‏صوت‏ ‏توأمه‏ ‏مرة‏، ‏وإلى ‏أصوات‏ ‏إخوته‏ ‏عدة‏ ‏مرات‏، ‏وأخته‏ ‏بالذات‏ ‏تأخذ‏ ‏نصيبا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏الهلوسية‏، ‏ثم‏ ‏تنتشر‏ ‏الظاهرة‏ ‏إلى ‏الجيران‏ حين ‏يسمع‏ ‏أصواتهم‏.

قبل‏ ‏أن‏ ‏أورد‏ ‏مقتطفات‏ ‏لهذا‏ ‏التسلسل‏ ‏أنبه‏ ‏على ‏أنى ‏أعرض‏ ‏الظاهرة‏ ‏من‏ ‏وجهة‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏فعلا‏ ‏كظاهرة‏ ‏ترجمتـْها‏ ‏هذه‏ ‏الأعراض‏، ‏وليس‏ ‏باعتبارها‏ “‏خطأ‏” ‏فى ‏التفكير‏ ‏أو‏ ‏الإدراك‏، ‏كما‏ ‏اعتاد‏ ‏الطب‏ ‏التقليدى ‏أن‏ ‏يطرحها‏، ‏وإذْ ‏نتدرج‏ ‏مع‏ ‏كلام‏ ‏فهمى‏ ‏نجد‏ ‏أنه‏ ‏وصف‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏كما‏ ‏حدثت‏ ‏وأحس‏ ‏بها‏، ‏ثم‏ ‏بدأ‏ ‏يعزوها‏ ‏إلى ‏الآخرين‏.

يقول‏ ‏فهمى‏:‏

‏” ‏باحس‏ ‏إن‏ ‏دماغى ‏بتتفتح‏ ‏ويخرج‏ ‏مخى ‏منها‏ ‏عن‏ ‏طريق ‏ ‏الروح‏ ‏نفسها‏ ..‏ جايز‏ ‏فتحى (‏التوأم‏) ‏يأخذ‏ ‏مخى ‏ويدخله‏ ‏فى ‏دماغه‏، ‏أحس‏ ‏إنه ‏بيخنق‏ ‏رقبتى، ‏يخنق‏ ‏قلبى‏”.‏

التعقيب

  واضح‏ ‏هنا‏ ‏أنه‏ ‏يعبر‏ ‏مباشرة‏ ‏عن‏ ‏فقد‏ ‏حدود‏ ‏الذات‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏عن‏ ‏قابلية‏ ‏النفاذ‏ ‏التى ‏تسمح‏ ‏بالحركة‏ ‏فى ‏الاتجاهين‏ ‏من‏ ‏داخل‏ ‏الذات‏ ‏إلى ‏الآخرين‏ (‏إلى ‏الخارج‏ ‏عامة‏) ‏ومن‏ ‏الآخرين‏ ‏إلى داخل ‏الذات‏، ‏ونرجح‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏يحدث‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ ‏أساسا‏، ‏مما‏ ‏يسميه‏ ‏هو‏ ‏بين‏ ‏المخ‏ ‏والدماغ‏ (‏حسب‏ ‏ألفاظه‏) ‏وربما يصح أن نفترض‏ ‏أن‏ ‏لفظ‏” ‏دماغه‏” ‏هنا‏ ‏تعبير‏ ‏عن‏ ‏الحدود‏ ‏و‏أن “‏المخ‏”‏ يشير‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏إلى ‏الذات‏/ ‏الذوات‏. ‏ولست‏ ‏بمستطيع‏ ‏أن‏ ‏أتصور‏ ‏ماذا‏ ‏يعنى ‏بالروح‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المقام‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏كلمة‏ “‏الروح‏” ‏تعنى ‏القاسم‏ ‏المشترك‏ ‏بين‏ ‏المخ‏ ‏والدماغ،‏ ‏حسب‏ ‏قاموسه‏ ‏الشخصى، (بل حسب توجـُّـهات علمية  إبمانبة تكاملية لاحقة) ‏وهو‏ ‏فى ‏تعبيره‏ “‏يخنق‏ ‏رقبتى‏”، “‏يخنق‏ ‏قلبى “‏يشير‏ ‏إلى ‏تأثير‏ ‏أخيه‏، ‏والنتيجة‏ ‏أنه‏ (‏فهمى‏) ‏يصبح‏ – ‏بذلك‏ – ‏فى ‏قبضة‏ ‏ فتحى‏، ‏فيحيط‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏بكيانه‏ ‏الجسدى على نفسه، قلبه، وجوده، ‏بما‏ ‏قد‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏الاستيلاء‏ ‏عليه‏، ‏أو‏ ‏مشاركته‏ ‏حياته‏ ‏المستقلة‏.. ‏وهذا‏ ‏التوأم‏ الذى يدخل ويأخذ ويخنق (‏ولن‏ ‏أمل‏ ‏التكرار‏) ‏هو‏ ‏ما‏ ‏افترضنا‏ ‏أنه‏ قد يكون ‏مَسْقَط‏ ‏الكيان‏ ‏الداخلى ‏أساسا‏، ‏وليس‏ ‏توأمه‏ ‏فى ‏الخارج‏ ‏تحديداً‏، ‏فهل‏ ‏يتعلق‏ ‏ذلك‏ ‏بتوأمه‏ ‏فقط؟

يقول‏ ‏فهمى‏:‏

‏”‏أحس‏ ‏جمالات (الأخت)،.. ‏تتقمص‏ ‏شخصيتى ‏وأسمع‏ ‏صوتها‏ ‏يقوللى

‏ ” ‏إرمى ‏نفسك‏ ‏من‏ ‏الشباك‏” أو‏ ‏تقول:‏ ” ‏الحمام‏ ‏وقع‏ ‏عليك‏”

 ‏”‏جمالات” – ‏تماشيا‏ ‏مع‏ ‏نفس‏ ‏الفرض‏ -‏ هى ‏أيضا‏ ‏كيان‏ ‏منطبع‏ ‏فى ‏داخله‏، ‏تفكَّـكَ‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏تفكك‏، ‏وهذا‏ ‏الهاتف‏ ‏الانتحارى ‏يدعم‏ ‏الفرض‏ ‏القائل‏: ‏إن‏ ‏الانتحار‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏إلا‏ ‏قتل‏ ‏أو‏ ‏تدبير‏ ‏للقتل‏ ‏من‏ ‏أحد‏ ‏الكيانات‏ ‏للآخر‏ ‏أو‏ ‏لباقى ‏الكيانات‏، ‏التى ‏تسكن‏ ‏نفس‏ ‏الجسد‏ ‏الواحد‏ ‏الذى ‏يذهب‏ ‏ضحية‏ ‏المعركة‏ ‏لأنه‏ ‏الوعاء‏ ‏اللحمىّ ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏الكيانات‏ ‏المفككة‏ ‏معا‏، ‏يبدو‏ ‏الأمرفى ‏ظاهر‏ ‏السلوك‏ ‏باعتبار‏ ‏أنه‏ ‏انتحار‏ ‏بالتخلص‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ ‏قتل‏ ‏كيان‏ ‏لآخر‏. ‏حتى ‏اختفائهما معا من‏ ‏ميدان‏ ‏المعركة لأن الجسد حاوى الاثنين قد اختفى بما قيل أنه “انتحار”.

هذه‏ ‏الاعراض‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏ ‏قد‏ ‏وصفها‏ “‏شنايدر‏” ‏بشكل‏ ‏واضح‏ ‏باعتبارها‏ ‏أعراض‏ ‏المرتبة‏ ‏الأولى([32]) ‏المميزة‏ ‏للفصام ([33])، ‏وهى ‏فى ‏واقع‏ ‏الحال‏ ‏إنما‏ ‏تميز‏ ‏بداية‏ ‏الذهان‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏، ‏والفصام‏ ‏بصفة‏ ‏خاصة‏.‏

يقول‏ ‏فهمى‏:‏

‏” ‏أكون‏ ‏باطلع‏ ‏فرشة‏ ‏الحلاقة‏ ‏أسمع‏ ‏صوت‏ ‏حد‏ ‏منهم‏ ‏بيقولى إبنك‏ ‏بقى ‏فرشة‏ ‏وحاخطفه‏ … ‏شوف‏ ‏الواحد‏ ‏يبقى ‏حاسس‏ ‏بإيه‏، مع‏ ‏العلم‏ ‏إنى ‏لسه‏ ‏ماتجوزتش‏، ‏لكن‏ ‏ده‏ ‏إحساس‏ ‏طبيعى ‏فى ‏الانسان‏”.‏

فهمى‏ ‏لم‏ ‏يتجاوز الخامسة عشرة‏ ‏فعلا‏ ‏حتى ‏تاريخ‏ ‏هذا‏ ‏الفحص‏، ‏والصوت‏ (‏الخيال‏) ‏يقول‏ “‏إبنـك‏ “‏بقى ‏فرشة‏”. ‏وهذا‏ ‏الكذا‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏شىء‏ ‏غير‏ ‏حى (‏فرشة حلاقة‏)، ‏وربما‏ ‏هو‏ ‏ينتقى ‏أقرب‏ ‏أو‏ ‏أول‏ ‏شىء‏ ‏تقع‏ ‏عليه‏ ‏الحواس‏.

‏‏غرابة‏ ‏هذه‏ ‏الأقوال‏ ‏يمكن‏ – بسهولة-  ‏أن‏ ‏تُعتبر‏ ‏تخريفا‏ ‏بلا‏ ‏معنى، ‏وتأخذ‏ ‏اسم‏ ‏عرض‏ ‏بذاته‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الموضوع‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏أوضح‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏التسطيح‏، ‏وأكثر‏ ‏تحديا ودلالة‏.‏

يقول‏ ‏فهمى‏ ‏أيضا:‏

‏”ألبس‏ ‏الجزمة‏ ‏يقولوا‏ (‏مش‏ ‏شرط‏ ‏إخواتى ‏بس‏ .. ‏ساعات‏ ‏الجيران‏) ‏يقولوا‏: ‏إبنك‏ ‏بقى ‏جزمة‏..‏إبنك‏ ‏بقى ‏كرافتة‏”.‏

إذن‏ ‏هناك‏ ‏إصرار‏ ‏على ‏أن‏ ‏ثــمَّ‏ “‏إبنك‏” ‏كذا‏ ‏وكيت‏”، ‏فكيف‏ ‏السبيل‏ ‏إلى ‏فهم‏ ‏ذلك؟

قد‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏له علاقة بما‏ ‏يَسمى ‏عملية‏ ‏التصنيم‏([34])، ‏ولكن‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏متعلقا‏ ‏بقلب‏ ‏الأحياء‏ (‏فى ‏الخارج‏) ‏إلى ‏حجارة‏، ‏فانها‏ ‏هنا‏ ‏ترتبط‏ ‏بقلب‏ “أحياء‏ ‏الداخل‏” (‏الابن‏-‏أو‏ ‏الذات‏ ‏الطفلية‏- ‏ بصفة‏ ‏خاصة‏) ‏إلى “‏أشياء‏” ‏بلا‏ ‏حياة، (فرشة حلاقة – جزمة.. الخ)، وكأن‏ ‏الذى ‏يحدث‏ ‏فى ‏الذهان‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏تدب‏ ‏الحياة‏ ‏فى ‏الكيان‏ ‏الطفلى ‏الداخلى ‏المهمل‏ ‏بصفة‏ ‏خاصة‏، ‏وإذ‏ ‏تتفكك‏ ‏الذات‏ ‏وتتعدد‏ ‏الكيانات‏، ‏يُرفض‏ ‏هذا‏ ‏الكيان‏ ‏الطفلى ‏المقتحـم‏، ‏يرفض‏ ‏من‏ ‏سائر‏ ‏الكيانات‏ ‏الأخرى، ‏فمرة‏ ‏يأمر‏ ‏أحدها‏ ‏بقتله‏ (‏إرمى ‏نفسك‏ ‏من‏ ‏الشباك‏) ‏ومرة‏ ‏يخوَّف‏ ‏من‏ ‏سقوط‏ ‏السقف‏ (‏سقف‏ ‏الحمام‏) ‏عليه، ‏ومرة‏ ‏يعلن‏ ‏تصنيمه‏ ‏أو‏ ‏تشييئه‏ ‏فينقلب‏ ‏إلى ‏فرشه‏، ‏أو‏ ‏إلى ‏جزمة‏، ‏أو‏ ‏إلى ‏كرافتة‏. ‏

إن أهم‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏ملاحظته‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏وضوح‏ ‏الرؤية‏ ‏عند‏ ‏المريض‏، ‏وتأكده‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ “‏الإبن‏” ‏ليس‏ ‏إبنه‏ ‏الخارجى ‏لأنه يسرع ويستدرك ليعلن ‏- ‏ببساطة‏- أنه ‏يعرف‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يتزوج‏، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فهو‏ ‏يعتبر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏شيء‏ ‏طبيعى، بل ويُعمّمُهُ، يقول:‏”‏لكن‏ ‏ده‏ ‏إحساس‏ ‏طبيعى ‏فى ‏الإنسان‏!!!”.‏

البصيرة‏ ‏والخبرة‏ ‏المرضية‏ ‏المعيشة‏:‏

فهمى‏ ‏لم‏ ‏يرفض‏ ‏أية ‏إعادة‏ ‏نظر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الذى ‏يجرى. ‏يقول‏:‏

‏”‏آجى ‏أكلمهم‏ ‏فى ‏الحاجات‏ ‏دى ‏صحيحة‏ ‏ولا‏ ‏لأ‏، ‏يقولوا‏ ‏لى ‏ بيتهيألك‏، ‏مش‏ ‏فاهم‏ ‏ده‏ ‏يبقى ‏إيه‏، ‏فيه‏ ‏افتراضين‏: ‏يا‏ ‏إما‏ ‏يكون‏ ‏حقيقة ‏.. ‏بحيث‏ ‏يتقمصونى، ‏ويأخذوا‏ ‏شخصيتى، ‏وإما‏ ‏يكون‏ ‏تهيؤات‏ ‏نتيجة‏ ‏للمرض‏، ‏للكبت‏ ‏الجنسى”‏

يعتاد‏ ‏الأطباء‏ ‏أن‏ ‏يعتبروا‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏البصيرة‏ ‏دليلا على‏ ‏أن‏ ‏خبرات‏ ‏الهلوسة‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏غير‏ ‏حقيقية‏ (‏تهيؤات‏ ‏ليست‏ ‏ذات‏ ‏دلالة‏ ‏مرضية‏ ‏عالية‏)، ‏وإذا‏ ‏استعمل‏ ‏المريض‏ ‏تعبير‏” ‏يخيل‏ ‏لى” (‏بيتهيأ لى) ‏أو ‏”‏كأن‏” فإن ‏الأطباء‏‏ يقللون عادة ‏من‏ ‏إمراضية‏ ‏العرض‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أنى ‏فى ‏خبرتى ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الجاد‏ ‏فى ‏إدراك‏ ‏طبيعة‏ ‏الأعراض‏، ‏هو‏ ‏دال‏ ‏على ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏يعايش‏ ‏خبرة‏ ‏التعدد‏ ‏أو‏ ‏التناثر‏ ‏أو‏ ‏الاغتراب‏ ‏معايشه‏ ‏عميقه‏، ‏وبالتالى ‏فهى ‏دالة‏ ‏على ‏نشاط‏ ‏حالة‏ ‏المريض – وأن المرض لم يستتب تماما‏ ‏بما يدعو ضمنا إلى سرعة التدخل ربما يحول العلاج دون التمادى.

نأخذ‏ ‏عينة‏ ‏مباشرة‏ ‏أخرى ‏تقول:‏

‏”‏باسمع‏ ‏أصوات‏ ‏وأشوف‏ ‏خيالات‏ ‏وأسأل‏ ‏الناس‏ ‏اللى ‏حواليه‏ ‏بتسمعوا‏ ‏الأصوات‏ ‏دى ‏بيقولوا‏ ‏لأ‏..  ‏يبقى ‏أكيد‏ ‏أنا‏ ‏عيان‏،‏‏  ‏بالنسبة‏ ‏للأصوات‏ ‏والمرئيات‏ ‏دى ‏يبقى ‏اللى ‏عندى ‏فصام‏”.‏

يقول‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيون‏ ‏عامة‏: ‏إنه‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏عند‏ ‏المريض‏ ‏بصيرة‏ ‏فى ‏طبيعة‏ ‏هذه‏ ‏الأصوات‏ ‏ومدى ‏شذوذها‏، ‏أو‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏قابلة‏ ‏للتصحيح‏، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏يعنى ‏أنها‏ ‏ليست‏ ‏هلوسات‏ ‏حقيقية‏ (‏بل‏ ‏هى ‏هلوسات‏ ‏كاذبة‏)([35])، ‏وأود أن ‏أكرر‏ ‏‏أنه ربما يكون‏ ‏العكس‏ ‏هو‏ ‏الصحيح‏، ‏لأن‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة‏ ‏القابلة‏ ‏للتناول‏ ‏والمراجعة‏ ‏هى ‏خبرة‏ ‏معيشة‏ ‏حقيقيةً‏، ‏و‏ ‏ماثلة‏، ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏انقلبت‏ ‏الخبرة‏ ‏إلى ‏معتقد‏ ‏ثابت‏، ‏أو‏ ‏تجسدت‏ ‏فى ‏إدراك‏ ‏محكى، ‏يحكى ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏أصواتا‏ ‏مائة‏ ‏بالمائة‏، ‏فقد‏ ‏تحولت‏ ‏إلى ‏أعراض‏ ‏مرضية‏ ‏مغتربة‏، ‏لها‏ ‏دلالات أخرى‏، ‏لكنها‏ ‏ليست‏ ‏أكثر‏ ‏صدقا‏ ‏من‏ ‏التجربة‏ ‏المعيشة‏ ‏على ‏أية ‏حال‏ .‏

الكبت‏ ‏الجنسى … ‏و‏‏الذهـان‏:‏

أما‏ ‏حكاية‏ ‏أن‏ ‏ما‏‏ ‏حدث من‏ ‏تفكك‏ ‏لأبعاد‏ ‏الذات‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏نتيجة‏ ‏للكبت‏ ‏الجنسى – ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏فهمى‏ ‏بنص‏ ‏ألفاظه‏ – ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏وقفة‏ ‏خاصة‏.. ‏فبالنسبة‏ ‏للسلوك‏ ‏الجنسى ‏بكل‏ ‏أنواعه‏، ‏والمعلومات‏ ‏الجنسية‏، ‏والمزاج‏ ‏الجنسى، ‏فإن‏ ‏فهمى‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏ممن‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعتبروا‏ ‏مكبوتين‏ ‏بالمعنى ‏الشائع‏، ‏ورغم‏ ‏أننا‏ ‏لم‏ ‏نشرح‏ ‏تاريخه‏ ‏الجنسى ‏بالتفصيل‏ ‏للاعتبارات‏ ‏التى ‏أشرنا‏ ‏إليها‏ ‏سابقا‏، ‏إلا‏ ‏أننا‏ ‏أشرنا‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏حصل‏ ‏على ‏معلومات‏ ‏جنسية‏ ‏فى ‏وقت‏ ‏مبكر‏، ‏وشاهد‏ ‏ممارسات‏ ‏جنسية‏، ‏وتحدث‏ ‏أحاديث‏ ‏الجنس‏ ‏وتبادل‏ ‏نكاته‏، ‏ومارس‏ ‏ما أتيح‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏ممارسات‏ ‏منذ‏ ‏الطفولة‏ ‏وحتى ‏بداية‏ ‏المرض‏ ‏ومابعده‏، ‏فكيف‏ ‏يكون‏ ‏الجنس‏ عنده ‏مكبوتا‏ ‏بعد‏ ‏ذلك؟‏ ‏وكيف‏ ‏يمكن‏ ‏لهذا‏ ‏الكبت‏ ‏أن‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏هذا‏ ‏التفكك‏؟

 ‏فى ‏ذلك‏ ‏نقول:‏

أولا‏: ‏إن‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏الجنس‏، ‏وحتى ‏ممارسته‏، ‏لايعنى ‏بالضرورة‏ ‏عدم‏ ‏الكبت‏، ‏بمعنى ‏أنه حتى ‏ممارسة‏ ‏الجنس‏ ‏حقيقة‏ ‏وفعلا‏ ‏لا‏ ‏تمنع‏ ‏كبته‏، ‏والحلم‏ ‏به‏ ‏ربما‏ ‏بشكل‏ ‏آخر‏ ‏أو‏ ‏بنوع‏ ‏آخر‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏الممارسة‏ ‏الجنسية‏ ‏الميكانيكية‏ ‏أو‏ ‏التفريغية‏ ‏هى ‏بديل‏ ‏عن‏ ‏تواصل‏ ‏إنسانى ‏جنسى ‏أعمق‏، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏الجنس‏ ‏الفسيولوجى ‏التفريغى ‏قد‏ ‏يحل‏ ‏محل‏ ‏الجنس‏ ‏الإنسانى ‏التواصلى، ‏فيـُكبت‏ ‏الأخير‏ ‏لصالح‏ ‏الأول‏، ‏أو‏ ‏يُكبت‏ ‏الأخير‏ ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏مسئولية‏ ‏العلاقة‏ ‏بالأخر‏.‏

ثانيا‏: ‏إن‏ ‏الكبت‏ (‏للجنس‏ ‏أو‏ ‏لخلافه‏) ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏العامل‏ ‏المهيىء‏ ‏للمرض‏، ‏بحيث‏ ‏إذا‏ ‏شُرِخَ‏ ‏جدار‏ ‏الكبت‏ ‏انطلقت‏ ‏كيانات‏ ‏الشخصية‏ ‏بعد‏ ‏اهتزاز‏ ‏أبعاد‏ ‏الذات‏ ‏المسيطرة‏ ‏الواعية‏، ‏فهمى‏ ‏قد‏ ‏يقصد‏ ‏هنا‏ – ‏حسب‏ ‏تسلسل‏ ‏ألفاظه‏ – ‏أن‏ ‏الكبت‏ ‏الجنسى ‏قد‏ ‏أدى ‏للمرض‏ (‏الذى ‏هو‏ ‏انهيار‏ ‏الكبت‏)، ‏وقد‏ ‏أدى ‏الأخير‏ (‏المرض‏) ‏إلى ‏ظهور‏ ‏هذه‏ ‏المشاعر‏ ‏والخبرات‏، ‏فتعبير‏ ‏المريض‏ ‏يقول‏:‏ ‏”….‏نتيجة‏ ‏للمرض‏، ‏للكبت‏ ‏الجنسى” هذا‏ ‏الترتيب‏ ‏اللغوى ‏يستحسن‏ ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏باعتباره‏ ‏تسلسلا‏ ‏شارحا‏ (‏أى: ‏نتيجة‏ ‏للمرض‏ – ‏الذى ‏هو‏ ‏نتيجة‏ – ‏للكبت‏ ‏الجنسى)، ‏وليس‏ ‏ترادفا‏ ‏إيضاحيا‏، ‏أى ‏أنه‏ قد ‏يعنى ‏أن‏ ‏الكبت‏ ‏أدى ‏إلى ‏المرض‏، ‏والمرض‏ ‏أدى ‏إلى ‏الأعراض‏.‏

الجنس‏..‏والضعف‏..‏والمعرفة‏…‏والحاجة‏ ‏إلى ‏الآخر‏: ‏

حين‏ ‏فشل‏ ‏الكبت عند فهمى‏، ‏بظهور‏ ‏الذهان‏، ‏ظهرت‏ ‏الرغبة‏ ‏صريحة‏، ‏وبدأت‏ ‏بعض‏ ‏الممارسات‏ ‏الجنسية‏ ‏دون‏ ‏كف‏، ‏فظهرت‏ ‏بشكل‏ ‏فاضح‏ ‏كما‏ ‏أشرنا‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏فى ‏الاحتكاك‏ ‏والممارسات‏ ‏الجنسية‏ ‏بكل‏ ‏أنواعها‏، ‏وقد‏ ‏أخذت‏ ‏أشكالا‏ ‏شاذة‏ ‏أحيانا‏، ‏وأصبحت‏ ‏الرغبة‏ ‏هاتفا‏ ‏من‏ ‏الداخل‏، ‏ثم‏ ‏إسقاطا‏ ‏على ‏الخارج‏، ‏ثم‏ ‏صوتا‏ ‏من‏ ‏الخارج‏، ‏

يقول‏ ‏فهمى‏:

 “‏مرة‏ ‏كنت‏ ‏رايح‏ ‏الشغل ‏كنت‏ ‏فى ‏الأتوبيس‏ ‏وسمعت‏ ‏صوت بيقول لى إعمل كده، حسيت‏ ‏إنى ‏لما‏ ‏أعمل‏ ‏كده‏، ‏لما‏ ‏أتخيل‏ ‏نفسى ‏أعمل‏ ‏كده‏ ‏أزداد‏ ‏قوة‏”.‏

يقول‏ ‏فهمى:

‏”‏كنت‏ ‏أبقى ‏قاعد‏ ‏فى ‏البيت‏ … ‏أسمع‏ ‏صوت‏ ‏جارتى ‏كأنها‏ ‏قاعدة‏ ‏معايا‏ .. ‏وتقوللى ‏حبـِّـل‏ ‏جوزى ‏وانت‏ ‏بتعمل‏ ‏فيه‏..‏وانا‏ ‏باشفط‏ ‏منه‏ ‏واحلل‏ ‏شخصيته”.

 ‏هذه‏ ‏الأخيولة‏ ‏الهلوسية تحمل‏ ‏كل‏ ‏التكثيف‏ ‏الذى ‏يفيده‏ ‏الجنس‏ ‏فى ‏معنى ‏حاجة‏ ‏الذات‏ ‏المتناهية‏ ‏فى ‏الضعف‏ ‏إلى ‏الاندماج‏ ‏بكل‏ ‏وسيلة‏ ‏فى ‏الرجل‏ ‏والمرأة‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏المداخل‏ ‏والاحتمالات‏، ‏كما‏ ‏تحمل‏ ‏المعنى ‏التناسلى ‏للجنس‏ (‏حبـِّـل‏ ‏جوزى)، ‏والغرابة‏ ‏الدالة‏ ‏هنا‏ ‏تكمن‏ ‏فى ‏الإشارة‏ ‏الى ‏كيف‏ ‏يحمل‏ ‏الرجل‏ ‏من‏ ‏الرجل‏([36])، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الحمل‏ ‏والجنس‏ ‏لهما‏ ‏دلالة‏ ‏توليد‏ ‏الجديد‏ ‏فى ‏الالتحام‏ ‏الأعمق‏، ‏ثم‏ ‏يأتى ‏التعبير‏ ‏المباشر‏ ‏بأنه‏ ‏اذا‏ ‏حمل منه‏ ‏زوج‏ ‏جارته‏، ‏فإنه‏ ‏سوف‏ ‏يعرفه‏ ‏أعمق‏ ‏وأكمل ‏، ‏ثم تعرف الزوجة زوجها (أحلل شخصيته) بدورها من شفطها منه، وهكذا يتواصل توليد متتالٍ مترابط بديلا عن العلاقة المتعددة بالآخر (والآخرين)!!.

وفى ‏موقع‏ ‏آخر‏ ‏يربط‏ ‏فهمى‏ ‏بين‏ ‏التقمص‏ ‏و‏المنى ‏و‏ ‏الروح‏ (‏بمعنى ‏الحياة‏ ‏والقوة‏) ‏يقول‏:

‏”أحس‏ ‏إن‏ ‏اخوتى ‏وزملائى ‏بيتقمصوا‏ ‏شخصيتى ‏ويسحبوا‏ ‏المـَنـْى ‏و‏الروح‏ ‏من‏ ‏جسمى”.

علينا‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏ما‏ ‏سبقت‏ ‏الإشارة‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏تفسير‏ ‏مقولته‏ “‏بيتقمصوا‏ ‏شخصيتى”، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏يكاد‏ ‏يؤيد‏ ‏الفرض‏ ‏المقترح‏ ‏باعتبار‏‏ ‏أن‏ ‏الضعف‏ ‏واضمحلال‏ ‏معالم‏ ‏الذات‏ ‏هما‏ ‏تعبير عن السلب الجائع، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏ترادف‏ ‏المنى ‏مع‏ ‏الروح‏ ‏له‏ ‏دلالة‏ ‏واضحة‏ ‏فى ‏ترجيح‏ ‏الإشارة‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏فهم‏ ‏اللغة‏ ‏الجنسية‏ ‏فهما‏ ‏متعدد‏ ‏المستويات‏ ‏دون‏ ‏الاكتفاء‏ ‏بربط‏ ‏متعجل‏ ‏ومختزل‏ ‏بممارسة‏ ‏أو‏ ‏أخيلة‏ ‏الجنس‏ ‏الحسى ‏فحسب‏.

أنا‏ ‏لا‏ ‏أحاول‏ ‏بذلك‏ ‏أن‏ ‏أهوِّن‏ ‏من‏ ‏قدر‏ ‏الدافع‏ ‏الجنسى ‏فى ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏ولكنى ‏من‏ ‏واقع‏ ‏خبرتى ‏الإكلينيكية‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أعدل‏ ‏الوضع‏، ‏لأضع‏ ‏الحصان‏ ‏أمام‏ ‏العربة‏ ، ‏فالجنس‏ ‏هو‏ ‏اللغة‏ ‏والوسيلة‏ ‏التى ‏يتم‏ ‏بها‏ ‏التواصل‏ ‏و‏‏التناسل‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، ‏والتواصل‏ ‏و‏‏التعرف‏ ‏هما‏ ‏الاحتياج‏ ‏الأعمق‏ ‏- بعد التكاثر – وهو ‏غاية‏ ‏التواجد‏ البشرى – كبشر–  ‏فى ‏حقيقة‏ ‏الأمر‏، ‏والضعف‏ ‏الحتمى ‏للوجود‏ ‏منفردا‏ (‏وحيدا‏) ‏هو‏ ‏الذى ‏يطلب‏ ‏التقوية‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏التواصل‏ ‏والتعرف‏ ‏بلغة‏ ‏الجنس أو بأى لغة ممكنة‏.‏

ربما‏ ‏يصح‏ ‏بلغة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏أن‏ ‏يعاد‏ ‏تحليل‏ ‏هذه‏ ‏الأخيولة‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏سمى ‏عقدة‏ ‏أوديب‏ ‏أو‏ ‏عقدة‏ ‏الخصاء‏. قد‏ ‏يصح‏ ‏هذا‏ ‏التأويل‏ ‏فى ‏مستوى ‏محدود‏ ‏من‏ ‏الفهم‏ ‏المباشر‏ ‏للغة‏ ‏الجنسية‏، ‏أما‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الجنس‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏ ‏لكل‏ ‏المبالغات‏ ‏الفرويدية‏، ‏ثم‏ ‏يكون‏ ‏ما‏ ‏ترتب‏ ‏عليه‏ ‏من‏ ‏سلوك‏ ‏نفسى  ‏أو‏ ‏مرضى ‏هو‏ ‏الناتج‏، ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إعادة‏ ‏نظر‏، الجنس هو لغة تقوم بنفسها أو تترجم عن غيرها إذا اقتضى الحال.

نرجع‏ ‏للهلاوس‏: ‏

عرضنا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏نوعين‏ ‏من‏ ‏الهلاوس:‏

الأول‏: ‏تلك‏ ‏الهلاوس‏ ‏الدالة‏ ‏على ‏استقبال‏ ‏كيان‏ ‏ما‏ ‏لكيان‏ ‏آخر‏، ‏استقل‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏انفصل‏ ‏عن‏ ‏الوحدة‏ ‏الكلية‏، ‏حيث‏ ‏يتم‏ ‏هذا‏ ‏الاستقبال‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الإسقاط‏ ‏باعتباره‏ ‏كيانا‏ ‏خارجيا‏ يـُستقبل ‏عبر‏ ‏الحواس‏‏ .‏

أصوات: “إرمى ‏نفسك‏ ‏من‏ ‏الشباك‏ .. ‏ابنك‏ ‏بقى ‏جزمة‏…‏الخ‏

والثانى‏: ‏وهو‏ ‏الذى ‏ظهر‏ ‏نتيجة‏ ‏لتجسيد‏ ‏رغبة‏ ‏أو‏ ‏أخيولة‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏عيانى ‏تـُستقبل‏ ‏عبر‏ ‏الحواس‏، ‏وهذه‏ ‏العملية‏ ‏هى ‏نكوص‏ ‏من‏ ‏الرمز‏ ‏التجريدى ‏الى ‏التفكير‏ ‏الصورى ‏العيانى، ‏ثم‏ ‏إسقاط‏ ‏مباشر‏ ‏فاستقبال‏ ‏حسى، ‏ونفس‏ ‏هذه‏ ‏العملية‏ ‏هى ‏التى ‏تجعل‏ ‏استرجاع‏ ‏الذكريات‏ ‏يظهر‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏صور‏ ‏حسية‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏رمزا‏ ‏لغويا‏.‏

يقول فهمى‏:‏

 ‏ “‏كنت‏ لما ‏بافكر‏ ‏فى ‏أى ‏حد‏ ‏ألاقى ‏صورته‏ ‏قدامى… ‏محدد‏ ‏بصورة‏ “.‏

وسيلفانو‏ ‏أرييتى ‏هو‏ ‏أهم‏ ‏من‏ ‏وصف‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏وأسماها‏ ‏التعيين‏ ‏النشِط([37])‏ ولكن‏ ‏هل‏ ‏توجد‏ ‏علاقة‏ ‏بين‏ ‏العملية‏ ‏الأولى ‏والعملية‏ ‏الثانية‏‏ ؟‏ ‏أى ‏بين‏ ‏التفكيك‏ ‏فالاسقاط‏ ‏والاستبعاد‏ ‏وبين‏ ‏تجسيد‏ ‏المجرد‏ والتعيين النشط؟ ‏الجواب‏ ‏هو:‏ ‏نعم‏ ‏توجد‏ ‏علاقة‏ ‏من‏ ‏حيث‏: ‏أن المُشْتَرَك‏ ‏بينهما‏ ‏هو‏ ‏إيضاح‏ ‏قدرة‏ ‏العقل‏ ‏البشرى، ‏ ‏خاصة‏ ‏أثناء‏ ‏العملية‏ ‏الذهانية،‏ ‏على ‏التعامل‏ ‏مع‏ ‏الصورة‏ ‏بشكل‏ ‏تركيبى ماثـِـلٍ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الاختزال‏ ‏إلى ‏الرمز‏ ‏المحدد‏.‏

صورة‏ ‏الجسم‏، ‏ومخطط‏ ‏الجسم‏:

مع‏ ‏تناثر‏ ‏الشخصية‏ ‏وتفككها‏ ‏وتعددها‏ ‏تختل‏ ‏صورة‏ ‏الجسم([38])‏، ‏كما‏ ‏يختل‏ ‏مخطط‏ ‏الجسم([39])‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏الطور‏ ‏النشط‏ ‏فى ‏العملية‏ ‏الذهانية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الجسم‏ ‏له‏ ‏كيانه‏ ‏الممثل‏ ‏فى ‏المخ‏ ‏كمخطط‏ ‏حاضر‏ ‏فسيولوجيا‏ ‏فعلا‏ ‏فى ‏مواضع‏ ‏بذاتها‏، ‏فإذا‏ ‏تفككت‏ ‏ارتباطات‏ ‏المخ‏ ‏أثناء‏ ‏الحلم‏، ‏أو‏ تعاطـِى ‏المهلوسات‏ ‏مثل‏ ‏حامض‏ ‏الليسرجيك‏، ‏أو‏ مع ‏العملية‏ ‏الذهانية‏ ‏النشطة‏، ‏فإنه‏ ‏يحدث‏ ‏أن‏ ‏يتفكك‏ ‏مخطط‏ ‏الجسم‏ ‏بحيث‏ ‏يشعر‏ ‏المريض‏ ‏بأن‏ ‏أجزاءه‏ ‏متباعدة‏ ‏أحيانا‏، ‏أو‏ ‏يتغير‏ ‏إدراك‏ ‏هذه‏ ‏الوحدة‏ ‏الجسدية‏ ‏التى ‏كانت‏ ‏تمثل‏ ‏كـُلاًّ‏ ‏له‏ ‏صفات‏ ‏بذاتها‏ ‏ومواقع‏ ‏بذاتها‏، ‏وهذا‏ ‏التفكك‏ ‏التجزيئى ‏لما‏ ‏هو مُنْطَبَع وتخطيط‏ ‏”الوحدة”‏ ‏الجسدية‏ (‏المخطط‏) ‏يعبر‏ ‏عنه‏ ‏فهمى‏ ‏مباشرة‏: ‏

‏”..‏ساعات‏ ‏ابقى ‏قاعد‏ ‏فى ‏الأتوبيس‏ ‏أبص‏ ‏ألاقى ‏سرتى ‏تخرج‏ ‏منى ‏وتروح‏ ‏لواحدة‏.. ‏وعينى ‏نفس‏ ‏الشىء‏”.‏

رغم‏ ‏شدة‏ ‏شذوذ‏ ‏التعبير‏، ‏وعلاقته‏ ‏جزئيا‏ ‏بالاقتراب‏ ‏من‏ ‏الآخر، ‏ربما‏ ‏جنسيا‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏فان‏ ‏دلالته‏ ‏المبدئية‏ ‏هى ‏إعلان‏‏ “تفكيك”‏ ‏ما‏ ‏يمثل‏ ‏الوحدة‏ ‏الجسدية‏ ‏حالة كونها فى المخ (الدماغ) أساساً، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يدل‏ ‏على ‏أن‏ ‏التفكيك‏ ‏للوحدة‏ ‏الفردية للذات، وهو‏ ‏مرتبط‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏بالآخرين‏، ‏فالجزء‏ ‏الذى  ‏يخرج‏ ‏منه‏ ‏هنا‏ ‏-السـُّرّة-يمتد‏ ‏ليلصق‏ ‏بأخرى (‏أو‏ ‏بآخر). ‏

الفرق‏ ‏بين‏ ‏الهلوسة‏ ‏والصورة‏:‏

يقول‏ ‏فهمى‏:

‏” ‏لما‏ ‏أفكر‏ ‏فى ‏أى ‏حد‏، ‏أشوف‏ ‏صورته‏ ‏قدامى ‏وأنا‏ ‏مفتح‏ ‏عينى ‏مجرد‏ ‏صورة‏ ‏مش‏ ‏بره‏، ‏تؤثر‏ ‏بس‏ ‏فى ‏عينى”.‏

هذا‏ ‏التعبير‏ ‏يشير‏ ‏مباشرة‏ ‏إلى مرحلة من مراحل ‏عملية‏ ‏تكوين‏ ‏الهلاوس‏، ‏وكيف‏ ‏أنها‏ ‏عملية‏ ‏داخلية‏ ابتداءً، ‏لاحظ‏ ‏تعبيره‏: (‏مش‏ ‏بره‏) ‏تؤثر‏ ‏فى ‏عضو‏ ‏الحس‏ (‏العين‏)، ‏والفرق‏ ‏بين‏ ‏الهلاوس‏ ‏والصور‏ ‏الخيالية‏ ‏يتناوله‏ ‏الشرح‏ ‏التقليدى ‏بشكل‏ ‏مسطح‏ ‏إذ‏ ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏الصور‏ ‏أقل‏ ‏دلالة‏ ‏مرضية‏ ‏من‏ ‏الهلاوس‏، ‏ولكن‏ ‏فهمى‏ ‏هنا‏ ‏يعلمنا‏ ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏الوعى  ‏بالعملية‏ ‏المرضية‏ ‏ودرجاتها. إن هذا ‏التعبير‏ ‏الوارد‏ ‏هنا‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏الخطوات‏ ‏الأولى ‏فى ‏تكوين‏ ‏الهلاوس‏، ‏وكيف‏ ‏ينقلب‏ ‏الفكر‏ ‏إلى ‏صورة‏،‏ ‏وهو‏ ‏يرصد‏ ‏هذه‏ ‏العملية‏ ‏خطوة‏ ‏خطوة‏ ‏وهو‏ ‏يعيها‏، ‏وهى ‏بعدُ‏ ‏لم‏ ‏تسقط‏ ‏إلى ‏العالم‏ ‏الخارجى، ‏لتصبح‏ ‏فكرة‏ ‏مغتربة، ثم إحساسا موضوعيا ماثلا، ثم يـُـسقط أو لا يسقط‏ ‏وليست‏ ‏خبرة‏ ‏معيشة من البداية للنهاية، ‏مرة‏ ‏ثانية‏ ‏يحق‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نؤكد‏ ‏أن‏ ‏وعى ‏المريض‏ ‏بعملياته‏ ‏المرضية‏ ‏لا‏ ‏يقلل‏ ‏من‏ ‏خطورة‏ ‏المرض‏، ‏وإنما تختلف دلالاته حسب المرحلة والحركة،‏ ‏إنه‏ ‏ينبه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏النشاط‏ ‏الدائر‏ ‏يتطلب‏ ‏تدخلا‏ ‏علاجيا‏ ‏نشطا‏ ‏فى ‏العادة‏.‏

وبعد‏…‏

 ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏أن‏ ‏نتوقف‏ ‏عن‏ ‏التمادى ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏وأحوالها‏ ‏لنوجز‏ ‏ما‏ ‏أردنا‏ ‏تقديمه‏ ‏من‏ ‏خلالها‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نستطرد‏ ‏إلى ‏التوأم‏ ‏الآخر‏.‏

رأينا هنا كيف أن‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏هو:

“‏لغة‏”، “‏وعملية‏”

“‏وفشل‏”، “‏ومحاولة‏”

‏   فى ‏نفس‏ ‏الوقت:

فهو‏ ‏لغة‏: ‏يقول‏ ‏بها‏ ‏فهمى:‏

إن‏ ‏ما‏ ‏وصلنى ‏من‏ ‏عالمكم‏ – ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏ومعنى ‏وحنان‏ ‏ومعلومات‏ – ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏كافيا‏ ‏حتى ‏يلمّنى ‏على ‏بعضى ‏ليمكننى ‏من‏ ‏أن‏ ‏أكون‏ ‏وحدة‏ ‏أتفاعل‏ ‏معكم‏، ‏وحين‏ ‏عجزت‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏اضمحلّت‏ ‏حدود‏ ‏ذاتى ‏حتى ‏أصبحتُ‏ ‏نهبا‏ ‏لكم‏ ‏ولى (‏لمكوناتى ‏المستقلة‏ ‏المتناثرة‏ ‏معا‏)، ‏ولمّا‏ ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏يعنى ‏اختفائى ‏ككيان‏ واحدى ‏مستقل،‏ ‏فقد‏ ‏حاولت‏ ‏التوجه‏ ‏إليكم‏ ‏ببعضى ‏أو‏ ‏أبعاضى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏عجزتم‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏تصلوا‏ ‏إلىّ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏أنا‏ كلىِّ، ‏لكننى ‏لم‏ ‏أعد‏ ‏أعرف‏ ‏كيف‏ ‏أجمع‏ ‏نفسى ‏فيكم‏ ‏أو‏ ‏بكم‏ ‏أو‏ ‏بعيدا‏ ‏عنكم‏.‏

وهو‏ ‏عملية‏:‏

‏ ‏تبدأ‏ ‏من‏ ‏تركيب‏ ‏بشرى ‏مستعد‏ ‏للتفكك‏ ‏بداية‏: ‏نتيجة‏ ‏لتركيب‏ ‏متوارث‏ ‏غير‏ ‏متوازن‏ ‏القوى ‏من‏ ‏حيث‏ ‏تناسب‏ ‏أجزائه‏ (‏ ‏= الاستعداد‏ ‏الوراثى)، ‏مع التنبيه‏ على ‏أن‏ ‏الاستعداد‏ ‏الوراثى لا يكون استعدادا لمرضٍ بذاته‏‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏استعداد‏ ‏للحركة‏ ‏النشطة المفرطة‏، ‏مع‏ ‏خطر‏ ‏عدم‏ ‏التوازن‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏الظروف‏ ‏غير‏ ‏ملائمة‏، ‏والتغذية‏ ‏السابقة‏ ‏بالمعلومات‏ ‏ذات‏ ‏المعنى ‏غير‏ ‏كافيه‏، ‏وقد‏ ‏لاحظنا‏ ‏من‏ ‏علامات‏ ‏التهيؤ‏ ‏للمرض‏ ‏على ‏مستوى ‏البيئة‏: ‏برود‏ ‏الجو‏ ‏الأسرى، ‏وشدة‏ ‏اتصال‏ ‏أفراد‏ ‏الأسرة‏ ‏بعضهم‏ ‏ببعض‏ ‏ظاهريا‏ فحسب ‏مع‏ ‏شدة‏ ‏تباعدهم‏ فى اعمق الواقع .

وتستمر‏ ‏العملية‏ ‏فى ‏مسار‏ ‏متفتر‏، أزمة ‏”طـِـبــَـاق”([40])‏ ‏ثم‏ ‏”إفاقة‏ ‏جزئية”‏([41]) ‏مع‏ ‏اندمال‏، ‏ثم‏ ‏طباق‏ ‏وهكذا‏، بشكل‏ ‏متكرر‏، ‏لم‏ ‏نذكر‏ ‏منه‏ ‏إلا‏ ‏عينات‏ ‏من‏ ‏نوبتين‏ ‏اثنتين‏، ‏الأولى ‏صيف‏ 1959 ‏والأخيرة‏ ‏شتاء‏ 1978، ‏لكن‏ ‏فهمى‏ ‏أصيب‏ ‏بين‏ ‏هذين‏ ‏التاريخين‏ ‏بعدة‏ ‏نوبات‏، ‏فى ‏خريف‏1960 ‏وصيف‏ 61 ‏وخريف‏ 63 ‏وصيف‏ 64 ‏وخريف‏ 65 (‏الجيش‏) ‏وشتاء‏ ‏و‏ ‏ربيع‏ 66 (‏دخل‏ ‏مستشفى ‏العباسية‏) ‏ثم‏ ‏صيف‏ 67 ‏وشتاء‏ 69 ‏وربيع‏ 73، لم يصلنا تفاصيل أى منها.

 يقول‏ ‏فهمى‏:‏ ‏”‏الأعراض‏ ‏باستمرار‏ ‏هى ‏نفسها‏ ‏بتتكرر‏”، ولكن‏ ‏الناظر‏ ‏فى ‏التفاصيل‏ ‏سوف‏ ‏يجد‏ ‏أن‏ ‏التكرار‏ ‏الحرفى ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏مستحيلا‏، ‏ ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏شرحنا‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏النوبة‏ ‏الأولى 1959 ‏وما‏ ‏قبلها‏.‏

وهو فشل‏: ‏

لأنه‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏اللغة‏ ‏التى ‏أفادنا‏ ‏بها‏ ‏المرض‏ ‏عن ما‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يقوله‏، ‏فهى ‏لغة‏ ‏فاشلة‏ ‏تعلن‏ ‏العجز‏ ‏والانسحاب‏، ‏ولا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يستدرجنا‏ ‏فهمنا‏ ‏الشديد‏ ‏للغة‏ ‏المرض‏ ‏وطبيعة‏ ‏العملية‏ الإمراضية، ‏وكذلك‏ ‏تعاطفنا‏ ‏مع‏ ‏معنى ‏الأعراض‏ ‏إلى ‏تصور‏ أن ‏المرض‏ ‏النفسى ‏به أية درجة من البطولة، اللهم إلا إذا تحوّلت المسيرة- بالعلاج المكثف أو الظروف الطيبة- فى الاتجاه العكسى الخلاَّق بعد أزمة التفكك تلقائيا، المرض-من حيث المبدأ-ليس إلا ‏فشل‏ ‏يعلن‏ ‏عن‏ ‏التوقف‏ ‏عن‏ ‏اللاتواصل‏، ‏وعن العجز العميق المكثف‏‏، ‏فى ‏آن‏، لكنه ليس نقداً بنـّاءً، ولا هو احتجاج مفيد، إلا إذا نجحت الظروف أو العلاج فى إعادة تشكيل ما تفكك إلى واحدية جديدة قادرة (الإبداع)!!

وهو محاولة‏:‏

فالمريض‏، ‏رغم‏ ‏فشله‏ المحتمل، لا الحتمى، ‏هو‏ ‏دائم‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏تخطى ‏هذا‏ ‏الفشل‏، ‏وكثير‏ ‏من‏ ‏الاعراض‏ ‏ليس‏ ‏نتيجة‏ ‏مباشرة‏ ‏للتفكك‏ ‏أو‏ ‏التدهور‏، ‏وإنما‏ ‏نتيجة لمحاولات ‏ ‏تعويضية‏، تظهر فى شكل أعراض أيضا ‏فهذه‏ ‏الوفرة من الأعراض مع تبادلها،‏ ‏تعلن‏ ‏كلها‏ ‏عدم‏ ‏الاستسلام‏، ‏كما‏ ‏تعلن‏ ‏محاولة‏ ‏رأب‏ ‏الصدع‏ ‏ولو‏ ‏بطريقة‏ ‏مخلة‏، ‏وما‏ ‏الهلاوس‏ ‏والصور‏ ‏الخيالية‏ ‏والضلالات‏ ‏إلا‏ ‏نماذج‏ ‏لهذه‏ ‏المحاولات‏ (‏الفاشلة‏ ‏بدورها‏).‏

هامش‏ ‏حول‏ ‏العلاجات‏ ‏والمسار‏‏

عولج‏ ‏فهمى‏ (‏مثل‏ ‏توأمه‏ ‏والأخ‏ ‏الأكبر‏) ‏بعلاج‏ ‏المهدئات الجسيمة (النيورولتبات Neurleptus)‏، ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏علاج‏ ‏غيبوبة‏ ‏الأنسولين‏ ‏سنة‏ 1959، ‏ثم‏ ‏تكرر‏ ‏علاجه‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بالجلسات‏ ‏الكهربائية‏ ‏(جلسات تنظيم إيقاع المخ)، والعقاقير‏ ‏المهدئة‏ ‏الجسيمة‏..‏الخ‏، ‏وأستطيع‏ ‏أن‏ ‏أعلن‏ ‏أن‏ ‏علاج‏ ‏الأنسولين‏ ‏الذى ‏أصبح‏ ‏مهجورا هذه الأيام([42])‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أنحاء‏ ‏العالم‏ ‏لصعوبته‏ ‏والزعم‏ ‏بخطورته‏، ‏هو‏ ‏علاج‏ ‏يحمل‏ ‏فكرة‏ ‏بيولوجية‏ ‏ممتازة‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يحمل‏ ‏فرصة‏ ‏علاج‏ ‏جماعى ‏عميق‏، ‏فى ‏ظروف‏ ‏تعرية‏ ‏بيولوجية‏ ‏فائقة‏، ‏وقد‏ ‏مارستـُـهُ‏ ‏شخصيا‏ ‏مع‏ ‏”فهمى‏ وتوأمه” وأخيهما الأكبر “مختار” ‏فى ‏ذلك‏ ‏الحين‏ (حول سنة 1960)، ‏وما‏زلت‏ ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏غيبوبة‏ ‏الأنسولين‏ ‏فرصة‏ ‏بيولوجية‏ ‏للنكوص‏ ‏الكيميائى ‏والفيزيائى ‏وإعادة‏ ‏الولادة على شرط أن يجرى‏ ‏فى ‏وسطٍ‏ ‏حانٍ‏ ‏قادر‏ ‏على ‏إصلاح‏ ‏آثار‏ ‏واندمالات‏ ‏الصدمات‏ ‏الولادية‏ ‏فى ‏أزمات‏ ‏النمو‏ ‏السابقة‏، ‏والتأثير‏ ‏الإيجابى ‏لهذا‏ ‏العلاج‏ ‏الذى ‏أصبحت‏ ‏الممارسة‏ ‏العصرية‏، ‏والطب‏ ‏الدفاعى([43]) ‏أقل‏ ‏منه‏ ‏ومن‏ ‏إمكانياته‏ ‏، قد‏ ‏يكون‏ ‏أفضل‏ ‏لو‏ ‏أننا‏ ‏حاولنا التوفيق‏ ‏بين‏ ‏الفكرة‏ ‏الكيميائية‏ لتثبيط نشاط مخ بدائى ناشز، ‏وبين‏ ‏فرصة‏ ‏إعادة الولادة فى‏ ‏وسط‏ ‏مناسب‏ ‏يعطى فرصاً أفضل‏.‏

لقد‏ ‏تراجعت‏ ‏الأساليب‏ ‏العلاجية‏ ‏الفيزيائية‏ ‏والنفسية‏ ‏لحساب‏ ‏القمع‏ ‏الكيميائى المنفرد،‏ ‏فى ‏كل‏ ‏أنحاء‏ ‏العالم‏، ‏وأنا‏ ‏أعتبر‏ ‏ذلك‏ ‏تدهورا‏ ‏مؤلما‏ ‏فى ‏تناول‏ ‏الظاهرة‏ ‏البشرية‏ ‏فى ‏الصحة‏ ‏والمرض‏، ‏ذلك‏ ‏أننى ‏مازلت‏ ‏أميل‏ ‏إلى ‏اعتبار‏ ‏غيبوبة‏ ‏الأنسولين‏ ‏علاجا‏ ‏فيزيائيا‏ ‏يثيره‏ ‏عنصر‏ ‏كيميائى ‏(‏الانسولين‏)، ‏وهو بذلك‏ ‏يقترب‏ ‏من إيجابيات النوم السليم وكذا‏ ‏علاج‏ ‏الجلسات‏ ‏الكهربائية‏ بمعنى تنظيم الإيقاع، وإعادة الولادة([44]) ‏بديلا عن القهر بكيميائيات‏ ‏مثبطة‏ ‏ابتداء‏ ‏لأى – ‏وربما‏ ‏كل‏- ‏نبض‏ ‏إنسانى، لمددٍ طويلة تكاد توقف حركية بعض الأمخاخ بلا رجعة.

 ‏ومع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الحماس‏ ‏لعلاج‏ ‏الانسولين‏ ‏فإنه‏ ‏بتتبع‏ ‏حالة‏ ‏فهمى‏ ‏نجد‏ ‏أنه‏ ‏عبر‏ ‏هذه‏ ‏السنوات‏ ‏العشرين‏ ‏قد‏ ‏أخذ‏ ‏كل‏ ‏العلاجات‏ ‏المعروفة‏ ‏القديمة‏ ‏والمعاصرة‏ بما فى ذلك غيبوبة الإنسولين، ‏ولم‏ ‏تتوقف‏ ‏مسيرة‏ ‏تدهوره‏‏، ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏العنصر‏ ‏الوجدانى ‏فى ‏حالة‏ ‏فهمى‏ ‏أقل‏ ‏بكثير‏ ‏عنه‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏ فتحى‏، ‏وبالتالى ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏تطور مرض‏ ‏فهمى‏ (‏أعنى ‏تدهوره‏) ‏أكثر‏ ‏إصرارا‏ ‏واضطرادا‏ ‏من‏ ‏فتحى ‏كما‏ ‏سنرى، برغم حماسى الشخصى، ووجاهة التفسير النظرى لمعظم مراحله!!

[1]  – مرة أخرى: الاسم ليس هو الاسم الحقيقى، هذا بالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏فتحى ‏دخل‏ ‏القسم‏ ‏قبل‏ فهمى‏، ‏إلا‏ ‏أننى ‏فضلت‏ ‏أن‏ ‏يأتى ‏ترتيب‏ ‏فهمى ‏فى ‏البداية‏، ‏لأننى ‏شخصيا‏ – ‏كنت‏ ‏الفاحص‏ ‏الرئيسى ‏له‏  – ‏سنة‏ 1960‏.

[2] – فضلت‏ ‏هذا‏ ‏اللفظ‏  “‏الصنو” ‏رغم‏ ‏صعوبة‏ ‏نطقه‏  ‏بداية‏  ‏إلا‏ ‏أنى ‏بهذا‏ (1) ‏ابتعدت‏ ‏عن‏ ‏استعمال‏ ‏ألفاظ‏ ‏شائعة‏ ‏مثل‏ ‏الصديق‏ ‏أو‏ ‏المرافق‏ ‏إذ‏ ‏هى ‏ألفاظ‏ ‏شاعت‏ ‏بما‏ ‏لا‏ ‏يفيد‏ ‏المعنى ‏المراد‏ ‏هنا‏  ، ‏هذا‏ ‏والأفضل‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏العلمية‏ ‏هو‏ ‏استعمال‏ ‏كلمات‏ ‏غير‏ ‏مطروقة‏ ‏فى ‏وصف‏ ‏ظواهر‏ ‏خاصة‏  ‏حتى ‏لا‏ ‏تختلط‏ ‏مع‏ ‏المعانى ‏الشائعة‏ (2) ‏وأخيرا‏ ‏فإن‏ ‏معناها‏ ‏المعجمى ‏يكفى ‏البعدين‏ ‏اللذين‏ ‏أعنيهم‏: ‏الصنو” ‏النظير‏ ‏أو‏ ‏المثيل‏،  ‏والصنو‏ ‏الفسيلة‏ ‏المتفرعة‏ ‏مع‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏أصل‏ ‏شجرة‏ ‏واحدة‏- ‏وفى ‏التزيل‏ “‏صنوان‏ ‏وغير‏ ‏صنوان‏ ‏يسقى ‏بماء‏ ‏واحد” ‏وكل‏ ‏ذلك‏ ‏يقع‏ ‏ضمن‏ ‏ما‏ ‏نعنى ‏هنا‏.‏

[3] – فضلت أن أعرض حالة فهمى أولاً مع أنه دخل القسم بعد توأمه بأيام لأننى شخصياً كنت مسئولاً عن كتابة المشاهدة الأولى له  منذ البداية.

[4] – يحيى الرخاوى: “تبادل الأقنعة، دراسة فى سيكولوجية النقد” (فصل نيتوتشكا ص 141)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سنة 2006.

[5] – ألفرد أدلر Inferority complex.

[6] – Ideas of reference

[7] – Delusions of reference

[8]– The behind

[9]– إريك‏ ‏إريكسون‏ “‏الطفولة‏ و‏المجتمع”‏ عن الأهمية الاجتماعية للطفولة

Erik H. Erikson Childhood and Society is a 1950 book about the social significance of childhood by the psycho analyst.

[10] – توقفت عن ممارسة التداعى الحر منذ سنة 1962، وكان ثراء هذه الطريقة علميا أكثر منه علاجيا فى حدود السنوات التى مارستها فيها (حوالى ثلاثة سنوات لأ أكثر).

[11] – لعل هذا مرتبط بما وصل إلىّ لاحقا من أن شفافيه جدار الذات غير فقد حدود الذات، وأن هذه الشفافية بقدر ما تهدد بالكشف عن الداخل، فهى تكشف حتى لصاحبها (وغيره) مالا يريد أن يكشفه من تركيب طبيعى أو نقيضه الطبيعى.

[12] – كتاب تفسير الفصام لسيلفانو أريتى Silvano Ariti (1974) “Interpretation of schizophrenia”

[13] – Cephalic hypochondriasis.    

[14]– Laing R. D, (1960) the dividedd self. London: Tavistock‏

[15] – Disembodied self                     

[16]– وهذا ما قمت به فى حالة متأخرة هى “حالة فصام رشاد” فى “فصامى يعلمنا الفصام، دون أن ينفصم” (2020) والمقارنة قد تبرر هذا النشر المبكر الذي أشرنا إليه فى مقدمة العمل الحالى (ص 5)

[17] – تناولت أيضا هذه المسألة بالتفصيل فى أعمال لاحقة، مثل:

– يحيى الرخاوى “حركية الوجود وتجليات الإبداع”  المجلس الأعلى للثقافة، (2007).

 – يحيى الرخاوى “عن طبيعة الحلم والإبداع” (دراسة نقدية: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ)، دار الشروق، (2011)

[18] – Ego State

[19] – من تاريخ كتابة هذه الحالة 1984

[20] – تناولت هذه القضية بأشكال مختلفة فى إنتاجى الإبداعى مكرراً، ومن أهم ذلك ما جاء فى كتابى الباكر “عندما يتعرى الإنسان” فصل “الضياع1969، وما جاء فى أرجوزة النجاح “فى كتابى “أغانى مصرية: عن الفطرة البشرية للأطفال والكبار وبالعكس” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى، 2017

[21] – حين‏ ‏كان‏ ذلك ‏فى ‏متناول‏ ‏الممارسة‏ ‏منذ‏ ‏عشرين‏ ‏عاما‏ ‏السابقة‏ ‏لتاريخ‏ ‏النشر‏ ‏الأول‏ ‏لهذه‏ ‏المادة‏ 1984.

[22] – كما أشار يوما المرحوم عباس العقاد.

[23] – سيجموند فروید “خمس‏ ‏حالات‏ ‏فى ‏التحليل‏ ‏النفسى” (حالة‏ ‏هانز) ‏ ‏ترجمة‏: ‏صلاح‏ ‏ ‏ ‏مخيمر‏، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 2007.

[24]  – نظرية يونج: لأنماط الشخصية أصل اختبار MBTI ‏عن الانطوائى والانبساطى Introverted & Extraverted

[25] – نظرية آيزنك: “أنماط الأمزجة الأربع عن ‏العصابية‏ ‏والانبساطية”

[26] – هذا البعد الكلى فى فحص المريض من خلال أبعاد تتجاوز الأعراض المتفرقة كتبتُـه لاحقا فى فرض مستقل يضيف عددا من الأبعاد على التشخيص التقليدى:

– يحيى الرخاوى “رؤية‏ ‏مصرية‏ ‏فى ‏مسألة‏:‏‏ ‏‏ ‏تصنيف‏ ‏وتشخيص‏:‏الأمراض‏ ‏النفسية”  (1992) (التناول‏ ‏المتعدد‏ ‏الأبعاد‏ ‏وجها‏ ‏لوجه‏ ‏مع‏ ‏التناول‏ ‏المتعدد‏ ‏المحاور‏ ‏لتشخيص‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية)

[27] – تعبير‏ “‏الكل‏ ‏البشرى”‏هنا‏ ‏يهدف‏ ‏إلى ‏رفض‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أن‏ ‏المخ‏ ‏هو‏ ‏العضو‏ ‏المستقل‏ ‏المنفصل‏ ‏عن‏ ‏الكيان‏ ‏الكلى ‏للفرد‏ ‏المتكامل‏، ‏وهو‏ ‏تعبير‏ ‏لا‏ ‏يقسم‏ ‏الانسان‏ ‏إلى ‏مخ‏ ‏وجسد‏ ‏أو‏ ‏حتى ‏بدن‏ ‏ونفس‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏كلية‏ ‏بيولوجية‏ ‏وجودية‏ ‏متكاملة، ولمن يراد الرجوع إلى فروض الكاتب حول كلية الإدراك، ودور الجسد” بنشرات الإنسان والتطور اليومية بتاريخ، (28-2-2012) و(14-2-2012) و(11-9-2012) بموقعى: www.rakhawy.net

[28] – Thought insertion

[29] – Delusion

[30] – هنرى ‏إى ‏Manuel De Psychiatrie‏ ‏

[31] – نظرية‏ ‏التحليل‏ ‏التفاعلاتى ‏إريك‏ ‏بيرن‏ (‏تفسير‏ ‏الفصام)

 Eric Berne, Transactional Analysis in Psychotherapy in 1961

[32] – First Rank Symptoms

[33] – أعراض‏ ‏شنايدر‏ هذا الوصف النفسمراضى إنما‏ ‏يفسر‏ ‏مجموعة‏ ‏أخرى ‏من‏ ‏أعراض‏ ‏الصف‏ ‏الأول‏ ‏لشنايدر

 Schneider’s First Rank Symptoms‏ ‏

[34] –  Reification تشير‏ ‏هذه‏ ‏العملية‏ ‏إلى ‏اللعنة‏ ‏التى ‏صبتها‏ ‏الآلهة‏ ‏على ‏أحد‏ ‏البشر‏، ‏وهى ‏أن‏ ‏ينقلب‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏يلمسه‏ ‏من‏ ‏أحياء‏ ‏إلى ‏حجارة.

[35] – Pseudohallucination

[36] – فى ‏التراث‏ ‏الشعبى ‏توجد‏ ‏قصص‏ “‏حواديت” ‏تحكى ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏الرجل‏ ‏يحمل‏ ‏ويلد‏ ‏من‏ “‏بز” ‏رجله‏ …الخ‏، ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏لذلك‏ ‏نفس‏ ‏الدلالة ‏.‏

[37] – سيلفانو‏ ‏أرتيى active concretization‏

[38] – Body image

[39] – Body schema

يحيى الرخاوى، “تزييف الوعى البشرى، وإنذارات الانقراض” بعض فكر يحيى الرخاوى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى (الطبعة الأولى 2019)،. مقال: “استرجاع دور الجسد وعياً متعيناً” ‏‏‏(ص 53)

[40] -Relapse

[41]– Partial Remission

[42] –  سنة 2020

[43] – “‏الطب‏ ‏الدفاعى” ‏تعبير‏ ‏أطلقه‏ ‏زملاؤنا‏ ‏المهاجرون‏ ‏الذين‏ ‏يمارسون‏ ‏الطب‏ ‏فى ‏الولايات‏ ‏المتحدة‏ ‏وأوروبا‏ ‏وهو‏ ‏يصف‏ ‏حالتهم‏ ‏وهم‏ ‏يعاملون‏ ‏مرضاهم‏ ‏بالدفاع‏ ‏عن‏ ‏أنفسهم‏ ‏أولا‏ ‏خشية‏ ‏مقاضاتهم‏ ‏فيأتى ‏تأمين‏ ‏الذات‏ ‏ضد‏ ‏أخطاء‏ ‏المهنة‏ ‏قبل‏ ‏مصلحة‏ ‏المريض‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏الظروف‏.‏

[44]– يحيى الرخاوى “صدمة بالكهرباء أم ضبط للأيقاع” (مجلة الإنسان والتطور الفصلية، عدد إبريل 1982) وقد تمادى احترامى للعلاجات التى تحمل فكرة “إعادة التشغيل” بعد استغراقى فى البحث فى كيف يعيد المخ بناء نفسه باستمرار من خلال الإيقاع الحيوى الدائم، وكيف أن هذه العلاجات قد تعيد هذا الإيقاع إلى فاعليته بعد أن اختل التوازن وانتشر النشاز، ولكن الأمر يحتاج إلى إعداد وتدريب للأمخاخ التى يمكن أن تتولى القيادة بعد إعادة التشغيل.،  يمكنك الرجوع لنشرات الإنسان والتطور اليومية بتاريخ: (20/11/2007)، (25/6/2016)، (23/5/2016) بموقع المؤلف  www.rakhawy.net

الفصل الثالث فتحى

الفصل الثالث فتحى

الفصل الثالث

فتحى

دخل‏ ‏فتحى ‏القسم‏ ‏الداخلى ‏بمستشفى ‏قصر‏ ‏العينى (‏مستشفى ‏المنيل‏ ‏الجامعى) ‏أولا (قبل فهمى)،‏ و‏قد‏ ‏كانت‏ ‏شكواه‏ ‏فقيرة‏ ‏وتبدو‏ ‏مسطحة‏ ‏رغم‏ ‏خطورة‏ ‏الحالة.

جاء‏ ‏يشكو‏ ‏بإيجاز‏ ‏يستثير‏ ‏الدهشة‏:‏

‏”‏متضايق‏، ‏وبتحصل‏ ‏حركات‏ ‏فى ‏البيت‏”‏ ‏أبويا‏ ‏بيشتم‏ ‏أمى، ‏وأخويا‏ ‏الكبير‏ ‏بيعمل‏ ‏حاجات‏ ‏وحشه‏ (‏فى ‏البيت‏)…،‏‏ ‏وهو‏ ‏قاللى ‏الحاجات‏ ‏دى ‏وأنا‏ ‏صغير‏، ‏وعلمنى ‏الحب‏ ‏غلط‏”.‏

المناقشة‏:‏

نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏الأعراض‏ ‏لا‏ ‏تبدو‏ ‏أعراضا‏ ‏مرضية‏ ‏لأول‏ ‏وهلة‏، ‏ولكنها‏ ‏تبدو‏ ‏وكأنها‏ ‏حكاية‏ ‏عادية‏ ‏قد‏ ‏نتوقع‏ ‏مثلها‏ ‏من‏ ‏أى ‏شاب‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏، ‏فى هذه الطبقة الاجتماعية، فى هذه الظروف، وقد‏ ‏ناقشنا‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الملاحظ‏ ‏فى ‏حالة‏ ‏ فتحى، ‏هو‏ ‏حديثه‏ ‏المباشر‏.‏ عن‏ ‏موقفه‏ ‏المحدد‏ ‏المشير‏ ‏إلى ‏الرفض‏ ‏أو‏ ‏الاحتجاج‏، ‏وكأنه‏ ‏يقدم‏- ‏ابتداء‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يشكو‏- ‏تقريرا‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏أسباب‏ ‏شكواه ومبرر استشارته‏، ‏وعن‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏ليتخذ‏ ‏لنفسه‏ ‏موقفا‏، ‏يحكم‏ ‏من‏ ‏خلاله‏ ‏على ‏ما‏ ‏يجرى، ‏وربما‏ ‏على ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏، ‏فهو‏ ‏حين‏ ‏يقول‏ ‏عن‏ ‏أخيه‏ ‏الأكبر:‏ ‏أنه‏ ‏علمه‏ ‏الحب‏ “‏بطريقة‏ ‏غلط‏” ‏يبدو‏ ‏كأنه‏ ‏يعلم‏ – ‏أو‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ – ‏ما‏ ‏هى ‏الطريقة‏ ‏الصحيحة‏، ‏وهو‏ ‏يستعمل‏ ‏كلمة‏ ‏الحب‏ ‏ليعنى ‏بها‏ ‏الجنس‏ ‏بوجه‏ ‏خاص – غالبا -‏، ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏إشارته‏ ‏”للحاجات‏ ‏الوحشة”‏ ‏التى ‏يقوم‏ ‏بها‏ ‏أخوه‏ ‏هى ‏إشارة‏ ‏لممارساته‏ ‏الجنس‏ ‏مع‏ ‏الخادمات‏ (‏أشرنا‏ ‏إليها‏ ‏وناقشناها‏ ‏من‏ ‏قبل‏)، ‏لماذا‏ ‏سَمَّى ‏فتحى ‏ما‏ ‏يجرى هكذا ‏باسم‏ “الحب‏”‏؟‏ ‏لعله‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏أدب‏ ‏التحدث‏، ‏أو‏ ‏لعله‏ ‏حدْس‏ ‏مبكر‏‏، ‏وفتحى ‏كان‏ ‏أكثر‏ ‏رقة‏ ‏من‏ ‏توأمه‏، ‏كما‏ ‏كان‏ ‏دمه‏ ‏أخف‏، ‏وبصراحة‏ ‏فانى ‏كنت‏ ‏أحبه‏ ‏وأحترمه‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أخيه‏ ‏بلا‏ ‏سبب‏ ‏ظاهر‏، ‏وكان‏ ‏إذا‏ ‏تكلم‏ ‏عن‏ ‏داخله‏- ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الجنس‏- ‏يتكلم‏ ‏من‏ ‏قلبه‏ ‏وبوجهه، و‏فى ‏ترابط‏ ‏طيب‏، ‏بعكس‏ ‏فهمى‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يلقى ‏فى ‏وجهى ‏كل‏ ‏تعبير‏ ‏صارخ‏ ‏ومعلومة‏ ‏فاضحة‏ ‏بنفس‏ ‏النبرة‏ ‏هى هى،‏ ‏وكأنه‏ ‏يتكلم‏ ‏من‏ ‏بطنه‏، ‏دون‏ ‏أى ‏تعبير‏ ‏أو‏ ‏حرج‏، ‏ولست‏ ‏أدرى ‏ماذا‏ ‏كان‏ ‏يتصور‏ ‏فتحى ‏عن‏ ‏كيفية‏ ‏تعلم‏ ‏الحب‏ “‏بطريقة‏: صح‏” مادام يشكو من أن أخاه قد علمه الحب بطريقة: غلطٌ.

وقد سبق أن أشرت كيف أن ‏دراستى ‏لهذه‏ ‏الأسرة – مثلا-‏ ‏قد‏ ‏جعلتـنى أفكر فى احتمال‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏قام‏ ‏به‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ – ‏مصادفة‏ ‏أو‏ ‏تلقائيا‏ ورغم كل شىء – ‏من‏ ‏تثقيف‏، ‏هو‏ ‏شىء‏ ‏منطقى، ‏وربما‏ ‏مفيد‏، ‏وأن‏ ‏شكوى ‏فتحى ‏أو‏ ‏فهمى‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏شكوى ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏كانت‏ “‏خبرا‏” ‏يعلن‏ “‏موقفا‏” ‏بلا‏ ‏نقصان‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏إعلان‏ ‏الحاجة‏ ‏للمزيد‏ ‏أو‏ ‏للبديل‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏الرفض‏ ‏الكامل‏ ‏لكل‏ ‏ما‏ ‏قيل أو كان أو وصل‏، ‏والتسرع‏ ‏فى ‏الاعتماد‏ ‏على ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏العبارات‏ ‏للتدليل‏ ‏على ‏أفكارنا‏ ‏الخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بما‏ ‏نتصوره‏‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏سوء‏ ‏الفهم‏ ‏للوظيفة‏ ‏الجنسية‏) ‏هو‏ ‏أمر‏ ‏محفوف‏ ‏بالمخاطر‏.‏

‏ ‏يضيف‏ ‏فتحى ‏تلقائيا‏ ‏بنفس‏ ‏الألفاظ‏ ‏والتلاحق‏ ‏المباشر‏:‏

‏”كان‏ ‏أخويا‏ ‏بيضربنى ‏وأنا‏ ‏صغيـَّـر‏، وأحيانا‏ ‏باحس‏ ‏إن‏ ‏والدى ‏ووالدتى ‏والناس‏ ‏كلها‏ ‏بتظلمنى، ‏وفكرت‏ ‏فى ‏الانتحار‏”.

المناقشة‏:‏

ذاكرة‏ ‏المرضى “‏أثناء‏ ‏النوبة‏” ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏تفتح‏ ‏عندى ‏آفاقا‏ ‏بلا‏ ‏حدود‏ ‏حول‏ ‏طبيعة‏ ‏الذاكرة‏، ‏ومدى ‏ثباتها‏، ‏وكليتها‏، ‏وقوتها‏، ‏فالمريض‏ ‏أثناء‏ ‏النوبة‏ ‏تراه‏ ‏أحيانا‏ ‏قد‏ ‏ذهب‏ ‏يتجول‏ ‏داخل‏ ‏عقله‏ ‏يقلب‏ ‏فى ‏محتوياته‏ ‏بسهولة‏ ‏بالغة‏، ‏فيتذكر‏ ‏من‏ ‏الأمور‏ ما ‏يطفو منها مما له‏ ‏‏دلالة‏ جاهزة، ‏مما‏ ‏علمنى ‏الكثير‏ ‏عن‏ ‏عمق‏ ‏وثبات‏ ‏أى ‏مدركات‏ ‏تصل‏ ‏إلى ‏عقلنا‏ ‏فى ‏أى ‏وقت‏ ‏وبأى ‏صورة‏.‏

وإذ‏ ‏نبدأ‏ ‏بالجملة‏ ‏الأولى “‏كان‏ ‏أخويا‏ ‏بيضربنى ‏وأنا‏ ‏صغير‏” ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏ضرب‏ ‏أخ‏ ‏أكبر‏ ‏لأخ‏ ‏أصغر‏ ‏ليس‏ ‏حدثا‏ ‏فريدا‏ ‏فى ‏مجتمعنا‏، ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏أثناء‏ ‏اللعب‏ ‏أو‏ ‏الشجار‏ ‏العادى ‏أو‏ ‏غير‏ ‏ذلك‏، ‏لكن‏ ‏ضربة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الضربات‏ ‏قد‏ ‏تأتى ‏فى “‏موقع‏ ‏كرامة‏” ‏أو‏ ‏تهز‏ “‏قيمة‏ ‏كيان‏ ‏كلى” ‏وهذه‏ ‏الضربة‏ ‏بالذات‏ ‏بما‏ ‏تعنيه‏- ‏هى ‏التى ‏قد‏ ‏تقفز‏ ‏إلى ‏السطح‏ ‏أثناء‏ ‏حدة‏ ‏نوبة‏ ‏الذهان‏، ‏وهى ‏التى قد ‏يتكلم‏ ‏عنها‏ ‏المريض بوجه خاص‏، ‏فالمسألة‏ ‏إذا‏ ‏تناولناها‏ ‏بعفوية‏ ‏وتعميم‏ ‏قد‏ ‏تأخذ‏ ‏شكلا‏ ‏تربويا‏ ‏مسطحا‏ ‏حين‏ ‏تدور‏ ‏حول‏ ‏قضية‏ “‏التربية‏ ‏بالضرب‏ ‏أو‏ ‏بدونه‏” ‏إلا أنها‏ ‏قد‏ ‏تفتح‏ ‏ملفا‏ ‏جنسيا‏ ‏كاملا‏ ‏حين‏ ‏نربط‏ ‏الضرب‏ ‏بالقهر‏ ‏الجنسى ‏حتى ‏بالخصاء‏ كما يزعم البعض..‏الخ‏ ‏وننسى ‏فى ‏غمرة‏ ‏التعميم‏ ‏أو‏ ‏الترميز‏ ‏أن‏ ‏ضربة‏ ‏خاصة‏ ‏أو‏ ‏عدة‏ ‏ضربات‏ ‏هى ‏-‏ بالذات‏- ‏التى ‏تعود‏ ‏تقفز‏ ‏للذاكرة‏ ‏دون‏ ‏سواها‏، ‏وأن‏ ‏المهم‏ ‏ليس‏ ‏فى ‏حدوث‏ ‏الضرب‏ ‏الشائع‏، ‏وإنما‏ ‏المهم فى دلالة ‏تذكر‏ ‏المريض‏ ‏لحدث‏ ‏بذاته‏، ‏حدث‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏لحظة‏ ‏خاصة‏ ‏هى ‏التى ‏تحويها‏ ‏الجملة‏ ‏الأولى ‏لو‏ ‏حاولنا‏ ‏النظر‏ ‏بدقة‏ ‏انتقائية‏.‏

ثم‏ ‏تأتى ‏الجملة‏ ‏الثانية‏ ‏مباشرة‏:‏

‏”‏وأحيانا‏ ‏باحس‏ ‏إن‏ ‏والدى ‏ووالدتى ‏والناس‏ ‏كلها‏ ‏بتظلمنى”‏

الشعور‏ ‏بالظلم‏ قد ‏يبدأ‏ ‏باكرا أكثر من تصورنا‏، ‏حين‏ ‏يتلقى ‏الطفل‏ ‏ألما‏ ‏قاهرا‏ ‏دون‏ ‏تفسير‏، ‏أو‏ ‏حين‏ ‏يتلقى ‏هذا‏ ‏القهر‏ ‏نتيجة‏ ‏لفعل‏ ‏لم‏ ‏يُنذر‏ ‏بعواقبه‏ ‏مسبقا‏، ‏أو‏ ‏حين‏ ‏يرتبط‏ ‏هذا‏ ‏القهر‏ ‏بفعل‏ ‏حسن‏ ‏بمجرد‏ ‏الصدفة‏، وكل‏ ‏ذلك‏ ‏يتغلغل‏ ‏ويتثبت‏ ‏حين‏ ‏يمس‏ ‏القهر‏ “‏حدود‏ ‏الكرامة‏” ‏الشخصية‏ ‏التى ‏تكاد‏ ‏تنطبق‏ ‏على “‏حدود‏ ‏الذات‏” ‏تماما‏ ‏فى ‏فترة‏ ‏الطفولة‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏فذات‏ ‏الطفل‏ ‏حالة‏ ‏كونها‏ ‏تتكون‏، ‏إنما‏ ‏تحدد‏ ‏معالمها‏ ‏المعاملة‏ ‏الواضحة‏ ‏مع‏ ‏العالم‏ ‏الخارجى، ‏وكما‏ ‏تختلط‏ ‏الذات‏ ‏بالكرامة‏ ‏اختلاط‏ ‏التطابق‏ أحيانا، ‏تختلط‏ ‏كذلك‏ ‏بالجسد‏ ‏اختلاط‏ ‏التطابق‏ ‏من‏ ‏بعد‏ ‏آخر‏، ‏فيصبح‏ ‏الضرب‏ ‏الجسدى، ‏بلا‏ ‏تفسير‏ ‏ولا‏ ‏تبرير‏، ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏ألم‏ ‏جسدى ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏جرح‏ ‏للذات‏ ‏المتكوَّنة‏، ‏فيغوص‏ ‏أثره‏ ‏فى ‏الأعماق‏ ‏نتيجة‏ ‏لصعوبة‏ ‏المواجهة‏، ‏وخوفا‏ ‏من‏ ‏التهديد‏ ‏بالتناثر‏.‏

فاذا‏ ‏جاءت‏ ‏النوبة‏ ‏المرضية‏ ‏كشفت‏ ‏الغطاء‏، ‏وأتاحت‏ ‏اتخاذ‏ ‏موقف‏ ‏للمراجعة‏ (‏ولكنه‏ ‏موقف‏ ‏مرضى ‏متحيز غالبا) ‏وكأن‏ “‏هذه‏ ‏النوبة‏” ‏قد‏ ‏أزاحت‏ ‏بذاتها‏ -‏ وبما‏ ‏تعنى‏- ‏إلى ‏السطح الخبرة برمتها‏ ‏لتعلن‏ ‏الإحساس‏ ‏بالظلم‏، ‏وهو‏ ‏إحساس‏ ‏يختلف‏ ‏عن‏ ‏الشعور‏ ‏بالاضطهاد‏ ‏وكذلك‏ ‏عن‏ ‏الشعور‏ ‏بنظرات‏ ‏الناس‏ ‏وسوء‏ ‏التأويل‏ ‏المصاحب‏ (‏راجع‏ ‏حالة‏ ‏فهمى‏) ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏الإحساس‏ ‏بالظلم‏ ‏هو‏ ‏الممهـِّـد‏ ‏لما‏ ‏يليه‏ ‏من‏ ‏شعور‏ “‏بالاضطهاد‏” ‏أو‏ “‏بالإشارة‏” ‏أو‏ “‏بالتسلط‏” ‏أو‏ ‏حتى “‏بالتأثير‏ ‏المسيـِّـر” (‏بكسر‏ ‏الياء‏ ‏وتشديدها‏) ‏لكنه‏ ‏هنا‏ ‏يظهر‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏واضح‏ ‏وبسيط‏ ‏وناتج‏ ‏عن‏ ‏تعميم‏ ‏منطقى ‏لظلم‏ ‏وقع‏ ‏فعلا‏ (‏نتيجة‏ ‏لاستقبال‏ ‏قهر‏ ‏مؤلم‏ ‏غير‏ ‏مسبب‏، ‏وغير‏ ‏منطقى) ‏وينتشر‏ ‏هذا‏ ‏التعميم‏ ‏من‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏إلى ‏من‏ ‏يمثله‏ ‏من‏ ‏سلطة‏ (‏الوالدين‏) ‏إلى ‏الناس‏ ‏جميعا‏، ‏والإحساس‏ ‏بالظلم‏ ‏سواء‏ ‏كان‏ ‏منطقيا‏ ‏أم‏ ‏لا‏، ‏مـُـبـَـرَّاً‏ ‏أم‏ ‏لا،‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏أعمق‏ ‏الأحاسيس‏ ‏التى ‏تنبنى ‏عليها‏ ‏تشويهات‏ ‏الشخصية‏، ‏وأيضا تشويه الواقع‏ ‏بلا‏ ‏حدود‏، ‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏ينشأ‏ ‏هذا الإحساس نتيجة لنوع من‏ “‏الحرمان‏” ‏القاسى، ‏وخاصة‏ ‏الحرمان‏ ‏مما‏ ‏يبدو‏ “‏حق‏ ‏المحتاج‏” ‏بعد‏ ‏التلويح‏ ‏له‏ ‏بإمكان‏ ‏تحقيق‏ ‏حاجة‏ ‏هى ‏من‏ ‏صلب‏ ‏حق‏ ‏الحياة‏، (‏وهو‏ ‏نوع‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الظلم‏)، ‏وما‏ ‏دام‏ ‏الانسان‏ (‏طفلا‏ ‏أو‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏) ‏لم‏ ‏يأخذ‏ ‏حقه‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏قد‏ ‏جرح‏ ‏فى ‏كيانه‏، ‏فكل‏ ‏شىء بعد ذلك يكون جاهزا لتكوين أعراض‏‏: ‏الاضطهاد‏ ‏والإشارة‏ ‏والتسيير‏ ‏والتحقير.

حالة‏ ‏فتحى ‏تبدو هنا‏ ‏منطقية‏ ‏مترابطة‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏البعد‏‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يعلنه‏ ‏من‏ ‏عالمه‏ ‏الداخلى ‏يبدو‏ ‏قريبا‏ ‏من‏ ‏التقبل‏ ‏المباشر‏ ‏لأحداث‏ ‏واقعية‏، ‏فحتى ‏الجملة‏ ‏الثالثة‏: “‏وفكرت‏ ‏فى ‏الانتحار‏” ‏تبدو‏ ‏وكأنها‏ ‏النتيجة‏ ‏الطبيعية‏ ‏لمسار‏ ‏الأحداث‏، ‏وكأن‏ ‏الغطاء‏ ‏حين‏ ‏رفع‏ ‏عن‏ ‏مخزون‏ ‏الذات‏ ‏قد‏ ‏أتى ‏بالأحداث‏ ‏التى ‏تلاحقت‏ ‏مع‏ ‏بعضها‏ ‏بمنطقها‏ ‏الخاص‏ ‏متسلسلة‏ ‏مبررة‏ ‏إحداها‏ ‏للأخرى ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏لا‏ ‏يحتاج‏ ‏الى ‏فك‏ ‏للشفرة‏ ‏أو‏ ‏تحوير‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏كأن‏ ‏الذى ‏حدث‏‏ ‏كان‏ ‏كالتالى‏:‏

“مادام‏ ‏قد‏ ‏جرحنى ‏أخى ‏الأكبر‏ (‏ومن‏ ‏يمثله‏) ‏فى ‏كرامتى -‏ ذاتى‏- لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏أقوى ‏منى (‏عضليا‏ ‏حتى‏) ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أفهم‏ ‏لماذا‏ ‏ودون أن‏ ‏أستطيع‏ ‏منعه‏، ‏فقد “ظلمنى”‏..‏، هو يمثلهم غالبا، الجميع يظلموننى، هو يمثلهم حتما‏، ‏وهم‏ ‏لم‏ ‏يحمونى ‏منه‏، ‏فأنا‏ ‏ضعيف‏ ‏أمامهم‏، ‏فلأنسحب بالمرض إلى العجز إلى العدم‏ ‏لأعلن‏ ‏موقفى‏ ‏وأحرمهم‏ ‏منى.. ‏وأحمى ‏نفسى ‏من‏ ‏خبرة‏ ‏جديدة‏ ‏لقهر‏ ‏جديد‏، ‏وليختف‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الأن‏، ‏أنا ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أستوعب كل ذلك‏ ‏كما‏ ‏لا‏ ‏أستطيع‏ ‏مواجهته‏، أنا لن أكمِل حياتى!”

ثم‏ ‏تأتى ‏المَرْضَةْ([1])،‏ ‏ويكشف‏ ‏الغطاء‏ ‏فتظهر‏ ‏القضية‏ ‏فى ‏وساد‏ ‏الوعى ‏الحالى، ‏وما‏ ‏هى ‏إلا‏ ‏إعلان لما هو موجود،‏ وكما‏ ‏أشرت‏ ‏سابقا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المرض‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏بداية‏ “‏موقف‏ ‏للمراجعة‏” ‏وربما‏ ‏يتضمن‏ “‏فرصة‏ ‏للتهديد‏”، ‏فإن‏ ‏فكرة‏ ‏الانتحار‏ وصلتنى هنا وهى ‏تشير‏ ‏إلى ‏احتمال‏ ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏المرض‏ هو “‏موقف‏” ‏فعلا‏، ‏وأن‏ ‏الانتحار‏ ‏بهذا‏ ‏التسلسل‏ ‏هو‏ ‏موقف أيضا‏، ‏ولعله‏ ‏خطوة‏ ‏لم‏ ‏تظهر‏ “‏كحل‏” ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏رفع‏ ‏الغطاء‏ و ظهور المرض، ‏وتقليب‏ ‏القديم‏.

 ‏ ‏إن‏ ‏كبت الخبرة الأولى‏ ‏فى ‏أول‏ ‏الأمر‏ ‏كان‏ ‏انسحابا‏ ‏للداخل‏ ‏دون‏ ‏قرار‏ ‏انسحاب‏ ‏من‏ ‏الحياة‏، ‏فلما‏ ‏كسر‏ ‏الغطاء‏ ‏وتعرى ‏الداخل‏ ‏وتحفز‏ ‏الألم‏ ‏تجسد‏ ‏الإحساس‏ ‏الشامل‏ ‏بالظلم‏ ‏فى ‏ظاهر‏ ‏الوعى، ‏فلحقته‏ ‏مباشرة‏ ‏فكرة‏ ‏الانتحار‏.‏

أكاد‏ ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏فهمى‏ ‏كما‏ ‏عرفته‏، ‏وكما‏ ‏تتسلسل‏ ‏عباراته‏ ‏السالفة‏ ‏إنما‏ ‏كان‏ ‏يشيرفى ‏تلك‏ ‏اللحظة‏ إلى ‏مأزق التغيّر الحاسم، وهذا هو ‏الخاطر‏ ‏الانتحارى (‏أو‏ ‏المأزق‏ ‏الانتحارى) ‏ ‏باعتباره إعلانا صريحا‏ ‏لاستحالة‏ ‏استمرار الحال على ما هو عليه‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏هو‏ ‏إعلان‏ ‏للحاجة‏ ‏إلى ‏التغيير‏ ‏الجذرى، ‏مع‏ ‏العجز‏ ‏عنه‏، ‏هذا يتطلب أن يتخذ‏ ‏المعالج‏ ‏موقف الاستعداد المواجـِـهى بالاستجابة لهذا الإعلان بالمبادرة بترجمته إلى الموافقة على الإسهام فى التحول الجذرى مع تغيير الأسلوب والمسار إلى بديل علاجى إيجابى ما أمكن ذلك.

فى ‏خبرتى ‏الإكلينيكية‏ خاصة فى العلاج الجمعى ‏أدركت‏ ‏أن‏ ‏لحظة‏ ‏الانتحار‏ ‏بالذات‏ ‏هى ‏لحظة‏ ‏ليست بالضرورة‏ ‏اكتئابية‏، ‏لكنها قد تكون حلاًّ‏ ‏للاكتئاب‏، ‏بمعنى أنه قد‏ ‏يعِلن هذا الموقف – ضمناً – التخلص من حدة اليأس والاكتئاب بالأمل فى‏ ‏الصعود‏ ‏إلى ‏الرحم‏ ‏الكونى إلى وجه المطلق ‏أو العكس، أى‏ النكوص إلى ‏الرحم‏ ‏الأرضى – القبر‏ -، ‏وكأنه انتصار‏ ‏للموت‏ ‏انتصارا‏ ‏فاعلا‏ ‏كاملا، وأحيانا من غور عكسىّ كأنه تمهيد لإعادة ولادة حاسمة لحياة أكثر عدْلا وترحيبا.

الإسم‏ ‏الأكثر‏ ‏دلالة‏ ‏لهذا‏ “‏الموقف”‏ فى العلاج الجمعى خاصة هو: “‏المأزق” The Impasse وهو‏ “‏‏موقف‏” ‏يصل‏ ‏فى ‏عمقه‏ ‏إلى ‏الفعل‏ ‏الابداعى ‏الذى ‏يهدف‏ ‏إلى ‏تحقيق‏ ‏التغيير‏ ‏الشامل‏ ‏الصعب‏، ‏وكأنه‏ ‏بألفاظ‏ ‏أخرى ‏يقول‏: “‏ما دام التغيير هو الحل‏ ‏فليتغير‏ ‏كل‏ ‏شىء‏..‏ ‏فلينته‏ ‏كل‏ ‏شىء إلى “ما لا أعرف”!!!‏ (عادة!).

وفى ظروف ضعف الاستعداد لمواجهة هذا المأزق معا يتمادى‏ ‏الفكر‏ ‏الانتحارى باعتباره ‏‏الحل‏ ‏الإبداعى ‏الانهزامى ‏الذى ‏يوهم‏ ‏صاحبه‏ ‏بشرف‏ ‏التغيير‏ ‏الرافض‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يعفيه‏ ‏من‏ ‏ألم‏ “‏الإبداع‏ ‏للأمام”.‏

لو‏ ‏تذكرنا‏ ‏فهمى‏ ‏مع‏ ‏ثراء‏ ‏مادة‏ ‏المقابلات‏ ‏معه‏ ‏على ‏فترات‏ ‏متباعدة‏ ‏لما‏ ‏وجدناه‏ ‏قد‏ ‏فكر‏ ‏فى ‏الانتحار‏ ‏بهذا‏ ‏الوضوح‏، ‏لا‏ ‏هو‏ ‏قرره‏ ‏أو‏ ‏حاوله‏ ‏أو‏ ‏واجه‏ ‏مأزقه‏، ‏مع أنه‏ ‏توأم‏ ‏فتحى ‏المصاب‏ ‏بنفس‏ ‏المرض‏، ‏وفى ‏رأيى ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏قد‏ ‏كان‏ ‏كذلك‏ ‏لأن‏ ‏فهمى كان‏ ‏يدخل‏ ‏إلى ‏الحل‏ ‏المرضى ‏منسابا‏ ‏فى ‏غيبة‏ ‏الوعى ‏المواجِهِى، ‏أما‏ ‏فتحى ‏فكان‏ ‏يقلّب‏ ‏فى ‏ملفات‏ ‏الألم‏ ‏بشجاعة‏ ‏نسبية‏ ‏ويواجه‏ ‏ويقرر‏ ‏ويعجز‏ ‏ويفكر‏- ‏فالانتحار‏ ‏ومأزقه‏ ‏لا‏ ‏يطرح‏ ‏نفسه‏ ‏إذا‏ ‏تسارع‏ ‏التغيير‏ ‏إلى ‏أسفل‏ (‏أو‏ تسارع العلاج ‏إلى ‏أعلى) ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يظهر‏ ‏أساسا‏ ‏فى ‏فترات‏ “الوعى بحتم‏ ‏التغير‏ ‏مع‏ ‏الوعى بالعجز عن التغير مرحليا أو حالاً‏”.‏

الشكوى‏: (‏كما‏ ‏قالها‏ ‏الوالد‏ ‏بالنسبة‏ ‏لفتحى‏):‏

‏”‏مش‏ ‏طبيعى، ‏انصرفت‏ ‏نفسه‏ عن‏ ‏المذاكرة‏ ‏خالص‏، ‏وانْ‏ ‏ذاكر‏ ‏ما‏ ‏يلمِّش‏ ‏الموضوع‏”.‏

المناقشة‏:‏

تناولنا‏ ‏بالتفصيل‏ ‏قضية‏ ‏التعثر‏ ‏الدراسى ‏الطارىء‏ ‏ونحن‏ ‏نناقش‏ ‏التاريخ‏ ‏الدراسى ‏لـ”فهمى‏”، ‏ولن‏ ‏نعود‏ ‏إليها‏ ‏هنا‏، ‏فقط‏ سوف ‏نكتفى ‏بأن‏ ‏نشير‏ ‏إلى ‏وضوح‏ ‏رؤية‏ ‏الأب‏ ‏فى ‏تعبيره‏ “‏ما‏ ‏يلمش‏ ‏الموضوع‏” ‏لأن‏ ‏الفصامى ‏بالذات‏ ‏يصاب‏ ‏بعجز‏ ‏مبدئى ‏عن‏ “‏الانتقاء‏” ‏وعـن‏ “التحديد‏” ‏وعن‏ ‏إتخاذ‏ “‏القرار‏”، ‏وربما كان‏ ‏الوالد‏ ‏يعنى ذلك فى ‏تعبيره‏ “‏مايلمش‏ ‏الموضوع‏” ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏التعبير‏ ‏الشائع‏ “‏ينسى” ‏أو‏ “‏عاجز‏ ‏عن‏ ‏التركيز‏” ‏أو لعله مجرد وصف عابر لمثل هذا الموقف من قبل أى أب، لكن التعبير اللاحق للأب يرجح حدسه الأعمق لطبيعة خلل الفكر الذى حلّ بفتحى، حين يقول: ‏”‏أفكاره‏ ‏متلابسة‏ ‏فى ‏بعضها‏ ‏وغير‏ ‏محددة‏”‏

ولا‏ ‏يوجد‏ ‏أعمق‏ ‏ولا‏ ‏أدق‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏عن‏ ‏ظاهرة‏ ‏تسمى ‏”فرط‏ ‏التكثيف”‏ ‏أو‏ ‏فرط‏ ‏التداخل([2])‏ ‏وهى ‏الظاهرة‏ ‏التى ‏تشير‏ ‏إلى ‏ازدحام‏ ‏نفس‏ ‏الرمز‏ (‏جسم‏ ‏اللفظ‏‏) ‏بأكثر‏ ‏من‏ ‏معنى ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت دون التمكن من فصلهم ‏.

ثم‏ ‏يقول‏ ‏الوالد‏:‏

‏”‏ويشعر‏ ‏بالاضطهاد‏”‏

ونتذكر‏ ‏أن‏ ‏فتحى ‏حين‏ ‏تكلم‏ ‏عن‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏تكلم‏ ‏عن‏ ‏الظلم‏ ‏وليس‏ ‏الاضطهاد‏، ‏والنظر‏ ‏إلى ‏نفس‏ ‏الشعور‏ ‏من‏ ‏وجهات‏ ‏نظر‏ ‏مختلفة‏ ‏خليق‏ ‏بأن‏ ‏يعلمنا‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏الشعور‏ ‏بالظلم‏ ‏وبين‏ ‏الوصف‏ ‏بالشعور‏ ‏بالاضطهاد‏، ‏وأحب‏ ‏أن‏ ‏أنبه‏ ‏على ‏أن‏ ‏كلا من‏ ‏شكوى ‏المريض‏ ‏وشكوى ‏الوالد‏،‏ ‏كانا صحيحين‏ ‏رغم اختلاف التعبيرين‏، ‏ولنتذكر أيضا وصف‏ ‏الوالد‏ عدم‏ ‏الترابط‏ ‏فى ‏كلام‏ ‏الابن فتحى‏، ‏مع‏ ‏أنه‏ قد ‏ظهر‏ ‏لنا‏ ‏فى ‏شرحنا‏ ‏السالف‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يوجد‏ ‏شىء‏ ‏غير‏ ‏مفهوم‏ ‏أو‏ “‏متلابس‏” ‏فى ‏كلام‏ ‏فتحى. ‏فالنقلات‏ ‏الثلاث‏ ‏بين‏ ‏الجمل‏ ‏الثلاث‏ ‏التى ‏ذكرناها‏ ‏فى ‏شكوى فتحى ‏- ‏مثلا‏- ‏كانت‏ ‏شديدة‏ ‏الترابط‏ ‏من‏ ‏بعد‏ ‏بذاته‏، ‏لكنها‏ ‏كانت‏ ‏تبدو‏ ‏نقلات‏ ‏من‏ ‏موضوع‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏من‏ ‏بعد‏ ‏أسطح‏، ‏والأصل‏ – ‏كما‏ ‏ألمحنا‏ ‏قبلا‏- ‏أن‏ ‏كلام‏ ‏المريض‏ ‏هو‏ ‏كلام‏ ‏المريض‏، ‏وهو‏ ‏صادق‏ ‏بقدر‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏التعبير‏ ‏وعلى رصد ما‏ ‏يلتقط‏ ‏من‏ ‏الزحمة‏ ‏فى ‏الداخل‏، ‏وعلى‏ ذلك ‏فإن‏ ‏عَجَزْنا‏ ‏عن‏ ‏الفهم‏ ‏فينبغى ‏أن‏ ‏يكون ذلك‏ ‏ ‏بداية‏ ‏محاولة‏ ‏الفهم‏ ‏وليس‏ ‏مبرراً‏ ‏للتسرع‏ ‏فى ‏الحكم اختزالا أو تأويلا‏.‏

الفكرة‏ ‏التى ‏نرجو‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏قد‏ ‏بدأت‏ ‏فى ‏الوضوح‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏التشخيص‏ ‏الواحد‏ (فصام) وبالرغم من تماثل التوأمين ‏فإن‏ ‏التفاصيل‏ ‏تختلف‏ ‏بشكل‏ ‏يكاد‏ ‏يجعل‏ ‏المرض‏ ‏من‏ ‏عمق‏ ‏بذاته‏ ‏مختلفا‏ ‏أشد‏ ‏الاختلاف‏ ‏رغم‏ ‏اتفاق‏ ‏الأسماء‏، ونذكـّر بأنه ‏برغم‏ ‏التشابه‏ ‏فى ‏الشكل‏ ‏الجسدى ‏بين‏ ‏التوأمين‏ ‏هنا‏ ‏لدرجة‏ ‏الخلط‏ ‏على ‏من‏ ‏لا‏ ‏يعرفهما([3])‏ ‏فقد‏ ‏اختلفا‏:

‏(1) ‏فى الريح‏ ‏العام‏، ‏ففى ‏حين‏ ‏كان‏ ‏فتحى ‏محبوبا‏ ‏طيبا‏ ‏ودودا‏، ‏كان‏ ‏فهمى‏ “‏عاريا‏” ‏”بدائيا” فى ‏قسوة‏ ‏ثقيلة‏.‏

‏(2) ‏فى ‏طبيعة‏ ‏الشكوى (‏أنظر‏ ‏ما‏ ‏سبق‏).‏

‏(3) ‏فى ‏وصف‏ ‏الأهل‏ ‏لهما‏ ‏ولمرضهما‏ (‏أنظر‏ ‏ما‏ ‏سبق‏).‏

‏(4) ‏ثم‏ ‏فى ‏محتوى ‏الأعراض‏: ‏حيث‏ ‏غلبت‏ ‏الأعراض‏ ‏الوجدانية‏ ‏عند‏ ‏فتحى ‏أكثر‏ ‏منها‏ ‏عند‏ ‏فهمى‏، ‏وأيضا‏ ‏كانت‏ ‏الضلالات‏ ‏أكثر‏ ‏تماسكا‏ ‏عند‏ ‏ فتحى. ‏

ثم‏ ‏إننا‏ ‏سنرى ‏كيف‏ ‏اختلفا‏ ‏فى ‏الاستجابة‏ ‏للعلاج‏ ‏ومسار‏ ‏المرض‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏فالأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏أن‏ ‏نوصى ‏ألا‏ ‏نكتفى ‏فى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المقارنات‏ ‏بين‏ ‏التوائم‏ ‏بمجرد‏ ‏لافتة‏ ‏التشخيص‏، ‏بل‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نغوص‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏إلى ‏عمق‏ ‏نوعى ‏يبين‏ تفاصيل ودلالات ‏الاختلاف‏.‏

مزيد‏ ‏من‏ ‏إيضاحات‏ ‏عن‏ ‏ ‏فتحى ‏وعن فهمى‏:‏

كان‏ ‏فتحى ‏يشكو‏ ‏من‏ ‏أعراض‏ ‏تبدو‏ “عابرة‏” “انصرفت‏ ‏عن‏ ‏المذاكرة‏، ‏متضايق” الفصل‏ ‏السابق) ‏لكنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏كان‏ ‏ينسحب‏ ‏من‏ ‏العالم‏ ‏الواقعى “‏كنت‏ ‏عاوز‏ ‏أقعد‏ ‏لوحدى ‏وما‏ ‏كلمش‏ ‏حد‏” ‏ثم‏ ‏قد ينسحب أحيانا وراء‏ ما‏ ‏يسمى “‏ابتسامة‏ ‏خاصة‏ ‏فاترة”([4])‏، ‏ويتوقف‏ ‏تفكيره‏ ‏فى ‏”عرقلة”([5])‏‏ ‏غير‏ ‏مفسرة‏، ‏وأخيرا‏ ‏فهو‏ ‏يسمع‏ ‏أصواتا‏ ‏يعلم‏ ‏أحيانا‏ ‏أنها‏ ‏غير‏ ‏واقعية‏، ‏لكنه‏ ‏يسمعها‏، ‏وقد‏ ‏أشارت‏ ‏هذه‏ ‏الأغراض‏ ‏الى ‏التفكك‏ ‏الفصامى ‏المرجح‏ ‏مثل‏ ‏توأمه‏، ‏الا‏ ‏أنه بالمقارنة بتوأمه ‏كان‏ ” ‏أخف‏ ‏دما‏” ‏كما كررنا، ويبدو‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يؤكد‏ ‏هذه‏ ‏الصفة‏ ‏هو‏ ‏وجوده‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏مع‏ ‏توأمه‏ ‏ذى ‏الحضور‏ ‏الثقيل‏ ‏بما يسمح بالمقارنة‏، ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏الفرق‏ ‏يصبغ‏ ‏نفس‏ ‏الأعراض‏، ‏أو‏ ‏نفس‏ ‏الظاهرة‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الكف‏ ‏والكبت‏([6]) ‏فى ‏أضعف‏ ‏حالاتهما‏ ‏عند‏ ‏الاثنين‏. ‏لكن‏ ‏فهمى ‏كان‏ ‏إذا‏ ‏تكلم‏ ‏مثلا‏ ‏عن‏ ‏دفعاته‏ ‏الجنسية‏، ‏كان‏ ‏كأنما‏ ‏يعرى ‏حيوانية‏ ‏وقحة‏ ‏ذات‏ ‏معالم‏ ‏فجة‏ ‏بلا‏ ‏أدنى ‏إحساس‏ ‏بمن‏ ‏يخاطب‏ ‏أى ‏دون‏ ‏حياء‏ ‏أصلا‏، ‏حتى ‏أنه‏ ‏كان لا يتردد أن يحاول أن‏ ‏يمارس‏ ‏العادة‏ ‏السرية فى القسم‏ ‏فى ‏قحة‏ ‏علنية‏ ‏مقززة‏ قبل أن يـُـنـهَـى، ‏أما‏ ‏فتحى ‏فكان‏ ‏يتحدث‏ ‏عن‏ ‏تهيجه‏ ‏واندفاعه‏ ‏جنسيا‏ ‏‏بصورة‏ ‏فيها‏ ‏رغبة‏ ‏وانجذاب‏.‏

كذلك‏ ‏كانت‏ ‏ضحكة‏ ‏فهمى ‏الفاترة‏ ‏تبدو‏ ‏غائرة‏ ‏ساخرة‏ ‏شديدة‏ ‏الخصوصية‏ ‏وكأنها‏ ‏فلتت‏ ‏منه‏ ‏بلا‏ ‏غاية‏، ‏أما‏ ‏ضحكة‏ ‏ فتحى، ‏برغم‏ ‏عدم‏ ‏ارتباطها‏ ‏بظاهر‏ ‏الواقع‏ ‏أيضا، ‏فكانت‏ ‏تصدر‏ ‏مجلجلة‏ ‏وكأنها‏ ‏تصاحب‏ ‏فرحة‏ ‏صاحبها‏ ‏بشيء‏ ‏لا‏ ‏نعلمه‏، ‏وبرغم‏ ‏أنه‏ ‏ثبت‏ ‏فى ‏أوراق‏ ‏الاثنين‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏العَرَض‏ إنما يصف ابتسامة غير متناسبة للموقف ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الفرق‏ ‏كان‏ ‏نوعيا‏ ‏وله‏ ‏هذه‏ ‏الدلالة‏ ‏التى ‏نحاول‏ ‏تأكيدها‏ ‏الآن‏.‏

نحن‏ ‏بهذا‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نشير‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يكفى “‏رصد‏” “‏أسماء‏” ‏الأعراض‏ “‏ودمتم‏” ‏بل‏ ‏ينبغى ‏الانتقال‏ ‏إلى ‏وصف‏ ‏الاختلافات‏ ‏النوعية‏ ‏والمصاحِبة([7])‏ ‏رغم‏ ‏الأسماء‏ ‏أو‏ ‏اللافتات‏ ‏المتشابهة‏، ‏وعلينا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ (‏ما‏ ‏أمكن‏) ‏فى ‏الدراسات‏ ‏المقارنة‏ ‏التى ‏تعتمد‏ ‏أساسا‏، ‏أو‏ ‏تماما‏، ‏على ‏رصد‏ ‏الأعراض‏ ‏بأسمائها‏ ‏فحسب‏.‏

كذلك‏ ‏لاحظنا‏ ‏أن‏ ‏فتحى ‏كان‏ ‏أكثر‏ ‏نشاطا‏، ‏وبالتالى ‏أكثر‏ ‏عدوانية‏ ‏وخاصة‏ ‏حين‏ ‏يصطدم‏ ‏بآخر‏ ‏يعيقه‏، ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏جرعة‏ ‏الحضور‏ ‏الوجدانى ‏كانت‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏مثيلتها‏ ‏عند‏ ‏توأمه‏، ‏وبرغم ‏كونها‏ ‏اضطرابا‏ ‏فعلا فإنها‏ – ‏قد تعتبر‏ ‏ذات‏ ‏فضل‏ ‏فى ‏التماسك‏ ‏النسبى -، ‏وفى دفء‏ ‏الحضور‏ (‏وخفة‏ ‏الدم‏) ‏مما‏ ‏سبق‏ ‏ذكره.

هذا‏ ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏لدينا‏ ‏بعد‏ ‏المقابلة‏ ‏الأولى (‏ديسمبر1959) ‏كلاما‏ ‏مباشرا‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المريض ‏(‏فتحى‏)، ‏إلا‏ ‏أننا‏ ‏راجعنا‏ ‏أوراق‏ ‏توأمه‏ ‏سنة‏ 1978 ‏وأخيه‏ ‏الأصغر‏ ‏سنة‏ 1980 ‏فوجدنا‏ ‏ما‏ ‏يلى‏:

‏(1) ‏فى ‏أوراق‏ ‏التوأم‏ ‏فهمى (1978):‏

‏(‏أ‏) ‏من‏ ‏كلام‏ ‏الشقيقة‏ ‏جمالات‏.‏

‏”… ‏فهمى ‏لما‏ ‏يعيا‏: ‏يبقى ‏صعب‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏فتحى‏.. ‏يقرأ‏ ‏فى ‏القرآن‏، ويدَّرْوش‏ ‏قوى، ‏لدرجة‏ ‏يقول‏ ‏أنا‏ ‏نبى، ‏ربنا‏ ‏بعتنى ‏من‏ ‏السما‏، ‏وساعات يتهيج فجأة‏، ‏وكان‏ ‏حصل‏ منه ‏اعتداء‏ ‏على ‏والدته‏، ‏كان‏ ‏عايز‏ ‏يضربها‏ ‏بالسكينة‏”‏

يبدو‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المقتطف‏ ‏حدة‏ ‏المرض‏ ‏ونشاطه واندفاعاته نزويا‏ ‏عند فهمى‏، ‏وكذلك لعل‏ ‏ضلالات‏ ‏العظمة‏ (‏أنا‏ ‏نبى)‏ ‏هنا‏ ‏تساير‏ حدة ‏الاضطراب‏ الانفصال ‏الوجدانى معا‏، ‏وينبغى ‏أن‏ ‏نتريث‏ ‏قليلا‏ ‏أمام‏ ‏حكاية‏ ‏العدوان‏ ‏على ‏الأم‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏والذى ‏تكرر‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الأسرة.

‏(2) ‏ورد‏ ‏فى ‏أوراق‏ “‏فتحى‏” ‏مؤخرا‏ (1980) ‏من‏ ‏الشقيقة‏ ‏جمالات أيضا ‏أنه‏:‏

‏(‏أ‏) ‏انحجز‏ ‏فى ‏العباسية‏ خمس مرات‏ ‏وفى ‏”مستشفى خاص”‏ ‏مرتين‏.‏

‏(‏ب‏) ‏(جمالات تكمل:) “بيقول‏ ‏أن‏ ‏اللاسلكى ‏مراقبنى‏”

(جـ) “ولو‏ ‏كنت‏ ‏باعمل‏ ‏حاجة‏ ‏بالمقص‏ ‏يقول‏ لى (لجمالات أخته) ‏بتعاكسينى ‏بالمقص‏.”‏

نلاحظ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏المرض‏ ‏تكرر‏ ‏بتواتر‏ ‏ملحوظ‏، ‏وبحدة‏ ‏شديدة‏ ‏لدرجة‏ ‏الاضطرار‏ ‏إلى ‏حجزه‏ ‏بالعباسية‏ ‏كل هذه المرات‏، ‏كما‏ ‏نلاحظ‏ ‏ترابط‏ ‏الضلالات‏ ‏المراقبية‏ (‏يشعر‏ ‏بالمراقبة‏) ‏مع‏ ‏التأويل‏ ‏الضلالى ‏المرضى ‏حتى ‏لحركة‏ ‏عابرة‏ ‏عادية‏، ‏مجرد‏ ‏استعمال‏ ‏المقص‏، ‏مع‏ ‏احتمال‏ ‏ان‏ ‏يكون‏ ‏المقص‏ ‏بالذات‏ ‏له‏ ‏دلالة‏ ‏باعتباره‏ ‏آلة‏ ‏حادة‏ ‏خطرة‏، ‏أو رمز جنسىّ، وتكرار النوبات هكذا قد يشير ضمنا إلى غلبة النوابية عن التـَّـفـَـتـُّـر فى مسار المرض.

تقول‏: ‏(ما‏ ‏زال‏ ‏الكلام‏ ‏على ‏لسان‏ ‏جمالات‏، 1980)

 “‏فتحى ‏بيقول‏ ‏عنده‏ ‏سرطان‏ ‏فى ‏الرئة‏، ‏سارح‏ ‏على ‏المخ‏، ‏وانسداد‏ ‏فى ‏شرايين‏ ‏القلب‏، ‏وضلع‏ ‏مكسور‏”‏

(‏د‏) ‏وتواصل‏ ‏جمالات ‏وصف حالة‏ ‏فتحى ‏أيضا‏ (1980).

‏ “‏يشرب‏ ‏العسل‏ ‏الأبيض‏ ‏فى ‏الأول‏ ‏معلقتين‏ ‏

وبعدين‏ ‏هب‏ ‏ست‏ ‏برطمانات‏ – ‏نعرف‏ ‏إن‏ ‏التعب‏ ‏حايبتدى”.‏

‏ “‏لما‏ ‏يكون‏ ‏تعبان‏ ‏ياكل‏ ‏طرشى ‏كثير‏ ‏وفاكهة‏، ‏خمسة‏ ‏كيلو‏”.‏

‏ “‏ساعات‏ ‏يستحمى ‏خمس‏ ‏ست‏ ‏مرات‏ ‏فى ‏اليوم‏ ‏الواحد‏”.‏

تلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏ظاهرة‏ ‏دالة‏ ‏أيضا‏، ‏قد‏ ‏تحدث‏ ‏للشخص‏ ‏العادى ‏بطريقة‏ ‏دورية‏ ‏أو‏ ‏متقطعة‏، ‏ولكن‏ ‏بدرجة‏ ‏أخف‏، ‏وإن‏ ‏كنا‏ ‏نحسب‏ ‏أنها‏ ‏قد‏ ‏تحمل‏ ‏نفس‏ ‏الدلالة‏، ‏ودون‏ ‏الدخول‏‏ ‏فى ‏دلالات‏ ‏المحتوى ‏نبدأ‏ ‏بأن‏ ‏نؤكد‏ ‏على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الاندفاعات‏ ‏المفرطة‏ ‏والفجائية‏ ‏هى ‏فى ‏واقع‏ ‏الأمر‏ ‏إعلان‏ ‏عن‏ ‏انفلات‏ ‏ضبط‏ ‏الايقاع‏ ‏من‏ ‏تحت‏ ‏سيطرة‏ ‏التنظيم‏ ‏المعتاد.

‏(‏هـ‏) ‏وأخيرا‏ ‏تحكى‏ ‏الأخت جمالات ‏أيضا‏ عن سلوك أكثر نشازا أو غرابة (1980):‏

‏”‏ساعات فتحى‏ ‏يتعمق‏ ‏فى ‏القرآن‏ ‏وساعات‏ ‏يقطع‏ ‏خالص‏، ‏

‏- ‏يرش‏ ‏ملح‏ ‏على ‏السراير‏.‏

‏- ‏ياخذ‏ ‏الصابون‏ ‏وياكله‏.‏

‏- ‏يقف‏ ‏قدام‏ ‏تابلوهات‏ ‏الكانافا‏ ‏يرقص‏ ‏فى ‏الضلمة‏، ‏ويقول‏ ‏دى ‏رياضة‏”.‏

وبعد‏:‏

فبالرغم‏ ‏من‏ ‏حدة‏ ‏حالة‏ ‏فتحى ‏بهذه‏ ‏الصورة‏، ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏مضاعفاتها‏ ‏المحتملة‏، ‏فقد‏ ‏ظل‏ “‏حضوره‏” ‏يقظا‏، ‏ودمه‏ ‏أخف‏، ‏وريحه‏ ‏هين‏، ‏كما‏ ‏ظلت‏ ‏علاقاته‏ ‏حارة‏، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏شطحاته‏ ‏عنيفة‏ ‏وشديدة‏، ‏وقد‏ ‏ترتب‏ ‏على ‏حدة‏ ‏تقلباته‏ ‏أنه‏ ‏تزوج‏ ‏وطلق‏ ‏قبل‏ ‏مرور‏ ‏سنة على الزواج‏، ‏ثم‏ ‏عقد‏ ‏قرانه‏ ‏وطلق‏ ‏قبل‏ ‏الزواج‏، ‏ثم‏ ‏خطب‏ ‏ثلاث‏ ‏مرات‏ ‏وفسخ‏، ‏ذلك‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أخاه‏ ‏الأكثر‏ ‏تبلدا‏ ‏وأثقل‏ ‏ريحا‏ ‏قد‏ ‏تزوج‏ ‏وكان‏ ‏أكثر‏ ‏استقرارا‏ ‏وأنجب‏ ‏بنتا‏، ‏وقد‏ ‏يجعلنا‏ ‏هذا‏ ‏نراجع‏ ‏أنفسنا‏ ‏فى ‏خطأ‏ ‏قد‏ ‏نقع‏ ‏فيه‏ ‏حين‏ ‏نستسهل‏ “‏الجمع‏ ‏الإحصائى”. ‏العشوائى ‏للتدليل‏ ‏على ‏ان‏ ‏استمرار‏ ‏الزواج‏ ‏نجاح‏ ‏صحى، ‏وأن‏ ‏العكس‏ ‏صحيح‏، ‏باعتبار‏ ‏الأول‏ ‏دليل‏ ‏تكيف‏ ‏والآخر‏ ‏إعلان‏ ‏فشل‏ ‏هكذا‏ ‏دون‏ ‏تمحيص‏.‏

[1] – المرْضة = نوبة المرض: والشاعر العربى يصف الجنون الدورى هكذا:

أفى كل عامٍ مرضة ثم نقهة    وأنْعِى ولا أُنْعَى فكم ذا إلى متى؟!

شعر عمران بن حطان من شعراء صدر الإسلام، توفى سنة 84 هجرية وقد تناولنا هذا البيت فى باب مقتطف موقف مجلة الإنسان والتطور الفصلية عدد أبريل 1982، نشرح به سبق الشعر العربى فى وصف دورية المرض.

[2] – Over inclusion

[3] – ‏ وقد‏ ‏عملت‏ ‏لهما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الحين‏ ‏دراسات‏ ‏لبصمات‏ ‏أصابع‏ ‏اليدين‏ ‏والقدمين‏ ‏فى مصلحة الطب الشرعى فى وزارة الداخلية شخصيا بناء على توصية أ.د. عبد العزيز عسكر لإثبات‏ ‏التماثل‏، ‏وقد‏ ‏أثبتته‏.

[4] – Facile smile

[5] – Block of thoaghts

[6] – يطلق‏ ‏الكف‏ ‏عادة‏ ‏على ‏ضبط‏ ‏محتوى ‏اللا‏ ‏شعور‏ ‏دون‏ ‏الظهور‏ ‏صريحا‏ ‏فى ‏السلوك‏ ‏وذلك‏ ‏بإرادة‏ ‏واعية‏، ‏وقد‏ ‏يسمى ‏أحيانا‏ ‏القمع‏ Suppression ‏أما‏ ‏الكبت Repression‏ ‏فهو‏ ‏نفس‏ ‏العملية‏ ‏لكنها‏ ‏تتم‏ ‏على ‏مستوى ‏اللاشعور‏ ‏أى ‏بدون‏ ‏إرادة‏ ‏واعية‏.

[7] – وهذا هو ما تطور عندى فيما بعد حين أضفت بُعْداً نابعا من ثقافتنا إلى التشخيص التقليدى يحدد إذا كان المريض حاضر التواصل العاطفى أم لا بغض النظر عن التشخيص، حتى أننى ابتدعت له لفظا بالحروف اللاتينية حين عجزت عن أجد له ما يقابله بالانجليزيه، وهذا البعد Wijdanic-Nonwijdanic Dimension (أنظر المجلة العربية) Arab Journal of Psychiatry (1991) Vol. 2 No1.  Page 1-13

الفصل الرابع مختار

الفصل الرابع مختار

الفصل‏ ‏الرابع

مختــــار([1])

دخل‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏القسم‏ ‏الداخلى ‏بالقصر‏ ‏العينى ‏سنة‏ 1960([2]) – ‏وكنت‏ ‏مازلت‏ ‏طبيبا‏ ‏مقيما‏ – ‏وكان‏ ‏طالبا‏ ‏فى ‏السنة‏ ‏الثانية‏ ‏بكلية‏ ‏الأداب‏، ‏حيث‏ ‏كان‏ ‏عمره‏ ‏حينذاك‏ 18 ‏سنة‏ وعمر أخويه التوأم 15 سنة ‏وكان‏ ‏نشطا‏ ‏لدرجة‏ ‏الهياج‏ ‏الحركى، ‏لكنه‏ ‏كان‏ ‏متماسكا‏ ‏لا‏ ‏يبدو‏ ‏شريرا‏ ‏أو‏ ‏معتديا‏، ‏كما‏ ‏كان‏ ‏حاضرا‏ ‏بلا‏ ‏برود‏، ‏ولم‏ ‏نلمح‏ ‏فى ‏مجمل‏ ‏سلوكه‏ ‏أو‏ ‏أعراضه‏ ‏أية ‏درجة‏ ‏ملحوظة‏ ‏من‏ ‏تفكك‏ ‏أو‏ ‏تناثر‏، ‏وحين‏ ‏سئل‏ ‏عن‏ ‏الشكوى‏- ‏‏ “‏بتشتكى ‏من‏ ‏ايه؟‏”‏

أجاب‏:‏

‏(1) ‏باشتكى – فى ‏الحقيقة‏ – ” ‏إنى ‏عايش‏”‏

‏(2) ‏”كل‏ ‏المشاكل‏ ‏اللى ‏الواحد‏ ‏بيصادفها‏ هى لمجرد‏ ‏إنه‏ ‏انسان‏ ‏يحتك‏ ‏بناس‏ ‏يخالفوه‏… ‏الاختلاف‏ ‏فى العقيدة‏ ‏والمذهب‏ ‏والتفكير”.

لم‏ ‏نتبين‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بطريق‏ ‏مباشر‏ ‏موقفه‏ ‏من‏ ‏العقيدة‏ ‏بشكلها‏ ‏التقليدى ‏أو‏ ‏بما‏ ‏وصلته‏، ‏كما‏ ‏لم‏ ‏نتبين‏ ‏اتجاها‏ ‏أيديولوجيا‏ ‏بذاته‏ ‏يفسر‏ ‏هذا‏ ‏الحسم‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ “‏اختلاف‏” ‏وإن‏ ‏كنا‏ ‏لا‏ ‏نستبعد‏ ‏تفرده‏ ‏العميق‏ ‏فى ‏فكره‏ ‏الخاص‏ ‏وحركته‏ ‏الصادقة‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏كل‏ ‏المعطيات!!

‏ ثم يضيف:

‏(3) ‏الخطورة‏ ‏عندى ‏إنى ‏باحاول‏ ‏طول‏ ‏الوقت،‏ ‏حاسس إنى: ‏خطر‏ ‏على ‏نفسى ‏وخطر‏ ‏على ‏الناس‏.‏

نلاحظ‏ ‏هنا‏ ‏مدى ‏الوعى ‏الفائق‏ ‏بالخطورة‏ ‏واتجاهاتها‏، ‏ثم‏ ‏انظر‏ ‏ما‏ ‏يتضمنه‏ ‏تعبيره‏ ‏من‏ ‏الإنهاك‏ ‏الضمنى ‏نتيجة‏ ‏فرط‏ ‏السيطرة‏ ‏الواعية‏ ‏مما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نستنج‏ ‏معه‏ ‏العلاقة‏ ‏بين‏ فرط‏ ‏السيطرة‏ ‏حتى ‏الإنهاك‏، ‏وبين‏ ‏التهديد‏ ‏بخطر‏ ‏الانفجار‏.

‏(4) ‏شاعر‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏انى ‏برّه‏ ‏مكانى ‏زى ‏السمكة‏ ‏اللى ‏بتطلع‏ ‏من‏ ‏البحر‏،

               وفى نفس الوقت بين احتفاظه بدرجة طيبة من البصيرة.

وهنا‏ ‏يبدو‏ “‏التفرد‏” ‏مع‏ “‏الوحدة”‏ ‏وقد‏ ‏بلغا‏ ‏أقصى ‏مداهما‏، ‏كما‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏مريضنا‏ ‏يدرك‏ ‏عمق‏ ‏قضيته‏ ‏وجوهر‏ ‏معاناته‏ المشروعة قبل أن تكون مرضية، وهى تتجسد فى الوعى بعدم القدرة على التكيف (التى قد تكون علامة إيجابية من حيث المبدأ لو كانت بداية مسار نمو إبداعى).

‏(5) (مازال الكلام لمختار)الأوضاع‏ ‏العامة‏ ‏تاعبانى، ‏”كون‏ ‏واحد‏ ‏يفرض‏ ‏نفسه‏ ‏على ‏ناس‏ ‏بحكم‏ ‏مركزه‏،‏ ‏ده‏ ‏وضع‏ ‏لا‏ ‏أقبله‏”.‏

ولم‏ ‏يفصح‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏، ‏وقد‏ ‏يعنى ‏بهذا‏ ‏القول‏ ‏البعد‏ ‏الأسرى ‏مشيرا‏ ‏إلى ‏الأب‏، ‏أو‏ ‏قد‏ ‏يعنى ‏بعدا‏ ‏موازيا‏ ‏على ‏المستوى ‏السياسى([3])، ‏علما‏ ‏بأن‏ ‏أحد‏ ‏البعدين‏ ‏لا‏ ‏يلغى ‏الآخر.

‏(6) “‏باضرب‏ ‏اخواتى ‏جامد‏، ‏لأن‏ ‏ده‏ ‏تعويض عن‏ ‏نقص‏ ‏وأنا‏ ‏صغير‏، ‏لما‏ ‏ماما‏ ‏كانت‏ ‏بتضربنى ‏بنفس‏ ‏القسوة“.

هنا‏ ‏نلاحظ‏ ‏ونتذكر‏ ‏ونذكـّر‏:‏

1) إن‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏التوأمين‏ ‏قد‏ ‏اشتكى ‏من‏ ‏ضرب‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ لهما ‏بلا‏ ‏مبرر‏، ‏وأنهما‏ ‏وصفاه‏ ‏بنفس‏ ‏الصفه‏ “‏القسوة‏”.

2) إن‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ “‏مختار‏” ‏كان‏ ‏يمارس‏ ‏رياضة‏ ‏كمال‏ ‏الأجسام‏ ‏ورفع‏ ‏الأثقال والجودو‏، ‏كما‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏الوزن‏ ‏الثقيل‏، ‏وبالتالى‏ ‏تصبح‏ ‏ثورته‏ ‏وضربه‏-‏من‏ ‏الناحية‏ ‏الجسمية‏ ‏البحته‏-‏خطرا‏ حقيقيا، ‏وتصبح‏ مواجهته من أخويه الأصغر بأى مقاومة ‏محسومة بالخسارة من البداية ‏.‏

3) إن‏ ‏اعترافه‏ ‏بما‏ ‏يفعل‏، ‏وشعوره‏ ‏بقسوته وخطره‏، ‏وتفسيره‏ ‏لذلك‏ (‏بغض النظر عن مدى صحته) ‏لم‏ ‏تردعه‏ ‏عن‏ ‏مواصلة‏ ‏نفس‏ ‏السلوك‏.‏

4) إن‏ ‏السبب‏ ‏الذى ‏قدمه‏ – ‏رغم‏ ‏وجاهته‏ – ‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏هو‏ ‏فصل الخطاب، لكنها وجهة نظره!!‏ ‏

5) إن‏‏ الظروف ‏التى ‏أعلنها‏ ‏من‏ ‏جانبه‏، ‏والتى ‏شكى ‏منها‏ ‏التوأمان‏ ‏من‏ ‏جانبهما‏، ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏هى ‏المشكلة‏ ‏المشتركة، لكن استجابه كل أخ لها كانت مختلفة حتى لو اتفقا فى التشخيص.

وهكذا ‏بدا‏ ‏أن‏ ‏البحث‏ ‏واجب‏ ‏فى ‏أسباب أخرى‏، ‏وأسباب‏ ‏سابقة،‏ ‏أو‏ ‏مشاركة‏، ‏مع‏ ‏افتراض‏ ‏احتمال‏ ‏عكس‏ ‏ما‏ ‏يقول‏ ‏ضمن‏ ‏فروض‏ ‏البحث ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏التسرع بالتسليم‏ ‏لهذه‏ ‏التفسيرات‏ ‏المباشرة‏ ‏من مصدر واحد، هو المريض، هو‏ ‏أمر‏ ‏بعيد‏ ‏عن‏ ‏العمق‏ ‏العلمى ‏الواجب‏.‏

أما‏ ‏شكوى ‏الوالد‏ ‏بالنسبة‏ ‏لهذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏مختار‏، ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏حينذاك‏ (1960) ‏

‏”-‏ حالة‏ ‏الولد‏ ‏النفسية‏ ‏زى ‏إخواته‏ ‏وألعن، ‏ابتدا‏ ‏يضطرب‏، ‏ويختل‏، ‏عنده‏ ‏رغبه‏ ‏إنه‏ ‏ينتقم‏ ‏من‏ ‏أمه‏”.

فهل‏ ‏حقيقة‏ ‏كانت‏ ‏حالة‏ ‏مختار ‏ألعن‏ ‏من‏ ‏فتحى ‏وفهمى؟

فى ‏ذلك‏ ‏نقول‏:‏

أولا‏: ‏إن‏ ‏مختار ‏كان‏ ‏شديد‏ ‏التماسك‏ ‏ظاهريا‏، ‏شديد‏ “الحضور‏” ‏شديد‏ ‏الفاعلية‏ ‏والفعل‏، ‏حاد‏ ‏الذكاء‏ ‏حاضر‏ ‏البديهة‏، ‏وبذلك‏ ‏كان‏ ‏أبعد‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏عن‏ ‏فهمى (‏الفاتر‏ ‏المفكك‏) ‏وأقرب‏ ‏نسبيا‏ ‏إلى ‏فتحى (‏الحار‏ ‏نسبيا‏، ‏والأخف‏ ‏ظلا‏) ‏فلماذا‏ ‏اعتبر‏ ‏الوالد‏ ‏حالته‏ “‏ألعن‏ ‏من‏ ‏اخواته‏”‏؟

أحسب‏ ‏ان‏ ‏الأهل‏ ‏يقيسون‏ ‏ما‏ ‏هو‏ “‏ألعن‏”، ‏وما‏ ‏هو‏ ‏أهون‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏يتلقون‏ ‏فيه‏ ‏عدوانية‏ ‏المريض‏، ‏وليس‏ ‏بالقدر‏ ‏الذى ‏تتدهور‏ ‏به‏ ‏حالة‏ ‏المريض‏.‏

وفى ‏الفقرة‏ ‏الثانية‏ ‏من‏ “‏شكوى” ‏الوالد‏ ‏نجد‏ ‏التعميم‏ ‏أدل‏ ‏من‏ ‏التخصيص‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏، ‏فحين‏ ‏يقول‏ “‏ابتدا ‏يضطرب‏، ‏ويختل‏” ‏إنما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏حركة‏ ‏تخلخل‏ ‏عام‏، ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏منه‏ ‏إلا‏ ‏تلك‏ ‏الحدة‏ ‏العدوانية‏، ‏التى ‏بدت‏ ‏فى ‏ضرب‏ ‏مباشر‏ ‏لأخويه‏ ‏التوأم‏ وأمه، ‏ثم‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الرغبة‏ ‏التى “‏شعر‏ ‏بها‏” ‏الوالد‏ ‏دون‏ ‏دليل‏ ‏محدد‏ (‏عنده‏ ‏رغبة‏ ‏إنه‏ ‏ينتقم‏)، ‏واستعمال‏ ‏كلمتى “‏رغبة‏” ‏و‏”‏انتقام‏” ‏هكذا‏ ‏فيه‏ ‏عمق‏ ‏كاف‏ ‏ودال‏، ‏وليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏المريض‏ (‏الأخ‏ ‏الأكبر‏:‏ مختار‏) ‏قد‏ ‏صرح‏ ‏بهذه‏ ‏الرغبة‏ ‏أو‏ ‏هدد‏ ‏بهذا‏ ‏الانتقام‏، ‏لكن‏ ‏حدس‏ ‏الوالد‏ ‏لاينبغى ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏باعتباره‏ ‏مجرد‏ ‏تخوف‏ ‏من‏ ‏ناحيته‏ ‏أو‏ ‏إسقاط‏، ‏علما بأنه لم‏ ‏يتبين‏ ‏لنا‏ ‏لماذا‏ ‏الانتقام‏، ‏والانتقام‏ ‏بالذات‏ ‏هو‏ ‏أشبه‏ ‏بالثأر‏ ‏أو‏ ‏الرد‏ ‏العنيف، ولم نجد فيما عندنا من معلومات ما يستدعى أيا من ذلك إلا إن كان ضرب الأم له وهو بعد ُ طفلاً !!‏.

بصراحة، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏فى ‏مختار ‏أية‏ ‏بارقة‏ ‏تدل‏ ‏على ‏تفكك‏ ‏أو‏ ‏تناثر‏ ‏مما‏ ‏يتصف‏ ‏به‏ ‏الفصامى، ‏وقد‏ ‏تعذر‏ ‏فعلا‏ ‏الوصول‏ ‏إلى ‏تشخيص‏ ‏الفصام‏، ‏رغم‏ ‏أننا‏ ‏عاملناه‏ ‏باعتبار‏ ‏الفصام‏ ‏هو‏ ‏التشخيص‏ “‏الكامن‏” ‏وعالجناه ‏-‏ إذ‏ ‏ذلك‏-‏ بنفس‏ ‏علاج‏ ‏شقيقيه‏ ‏التوأم‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏وأساسا‏ ‏بغيبوبة‏ ‏الانسولين‏ (50 ‏مرة‏، ‏خلال‏ ‏شهرين‏ ‏تقريبا‏).‏

عودة‏ ‏إلى ‏التاريخ‏ ‏الجنسى، ‏فى ‏أسرة‏ ‏مصرية‏ ‏متوسطة:

‏(1) ‏كان‏ ‏التاريخ‏ ‏الجنسى ‏لهذا‏ ‏الشاب‏ ‏شديد‏ ‏الوضوح‏ (‏أيضا‏: ‏مثل‏ ‏أخويه‏ ‏التوأم‏)، ‏بدأ‏ ‏مبكرا‏، ‏وحكاه‏ ‏بنفس‏ ‏البساطة‏ ‏التى ‏حكى ‏بها‏ ‏شقيقاه‏ ‏تاريخهما‏، ‏وهو‏ ‏لم‏ ‏يترك‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الممارسة‏ ‏الجنسية‏: ‏الذاتية‏، ‏أو‏ ‏المثلية‏، ‏أو‏ ‏الغيرية‏، ‏أو‏ ‏السطحية‏ ‏أو‏ ‏العميقة‏، ‏مع‏ ‏الخادمات‏ ‏أو‏ ‏الإخوة‏ ‏أو‏ ‏الأخت‏ ‏إلا‏ ‏جربها‏، ‏ابتداء‏ ‏من‏ ‏سن‏ ‏الثالثة‏ ‏عشر ‏- ‏حسب‏ ‏ما‏ ‏ذكر‏ – وقد‏ ‏صرح (بدون‏ ‏تردد) عن‏ ‏بعض‏ ‏هذه‏ ‏الممارسات‏ ‏المبكرة‏، مثلا،  ‏كما يلى‏:‏

“كنت‏ ‏أمارس‏ ‏نشاطى ‏فى ‏كل‏ ‏أخواتى ‏‏أولاد‏ ‏وبنات‏ ‏عالناشف‏، ‏كان‏ ‏عندى ‏حوالى 13 ‏سنة‏، ‏ بعد‏ ‏كده‏ ‏الخدامين‏ ‏وما‏ ‏إلى ‏ذلك‏، و‏قعدت‏ متصل‏ ‏بالخدامات‏ ‏لحد‏ ‏الصيف‏ ‏اللى ‏فات‏، ‏ كان‏ ‏الإتصال‏ ‏كامل‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏الخدامة‏ ‏مش‏ ‏بكر‏”. ‏

لكن يبدو أن ‏‏رد‏ ‏الفعل‏ – ‏هكذا‏ ‏فجأة من واقع كلامه ‏- ‏كان‏ ‏فى ‏الإتجاه‏ ‏المعاكس‏: ‏

‏” ‏رد‏ ‏الفعل‏ ‏كان‏ ‏عنيف‏، ‏ابتدأت‏ ‏أخش‏ ‏فى ‏دروشة‏ ‏جامدة‏ ‏وأتصوف‏ ‏وأبعد‏ ‏عن‏ ‏الحاجات‏ ‏دى” ‏

‏ ‏ ‏النقلات‏ ‏من‏ ‏النقيض‏ ‏إلى ‏النقيض‏ ‏على ‏مسار‏ ‏النمو ليست نادرة، ولا مستغربة‏ فى مثل هذه الحالات، وهذه السن!!

الخبرة‏ ‏العاطفية‏ ‏على ‏صفحة‏” ‏بيضاء‏”(!!):‏

‏”حبيت‏ ‏زمان‏، ‏ولغاية‏ ‏فترة‏ ‏قريبة‏، ‏كنت‏ ‏أحب‏ ‏بنت‏ ‏خالتى، ‏وهيه‏ ‏بيقولوا‏ ‏إنها‏ ‏أختى ‏فى ‏الرضاعة‏،‏‏ ‏فلما‏ ‏عرفت‏ ‏إبتديت‏ ‏أحكم‏ ‏نفسى وسبتها”

“‏والحب‏ ‏دلوقتى ‏هو‏ ‏اللى ‏كان‏ ‏السبب‏ ‏المباشر‏ ‏فى ‏حالتى ‏دى، ‏أول‏ ‏ما‏ ‏إبتدا‏ ‏المرض‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏شهرين‏ ‏تقريبا‏،‏ ‏ ‏لاحظت‏ ‏إن‏ ‏الحكاية‏ ‏زادت‏ ‏علىّ، ‏البنت اللى حبتها‏ ‏فى ‏سنة‏ ‏أولى (‏آداب‏)، ‏ كانت‏ ‏حلوة‏ ‏وتقاطيعها‏ ‏فيها‏ ‏براءة‏،‏ خفت‏ ‏عليها‏ ‏من‏ ‏الوسط‏ ‏الموبوء‏ (‏الجامعة‏!)‏‏ ‏عرفتها‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏التمثيل‏، ‏وتبادلنا‏ ‏الإعجاب‏ ‏والشفقة‏، ‏من‏ ‏جانبى ‏كنت‏ ‏محتاج‏ ‏لحنان‏ ‏كبير‏،‏‏ ‏كنت‏ ‏باحاول‏ ‏أكون‏ ‏معاها‏ ‏فى ‏شيء‏ ‏من‏ ‏الجفاء‏ ‏لأنى ‏تصورت‏ ‏أنها بتحاول‏ ‏تخلينى ‏أزل‏ ‏فى ‏ شىء ‏ ‏غير‏ ‏مشروع‏ ‏زى ‏بنت‏ ‏خالتى، ‏فابتدت‏ ‏تنفر‏ ‏منى ‏نفور‏ ‏فيه‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏الدهشة‏” .‏

نحن‏ ‏هنا‏ ‏نراه‏ ‏شخصا‏ ‏آخر‏، ‏يترك‏ ‏إبنة‏ ‏خالته‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تحكـم‏ ‏فى ‏نفسه‏ ‏حين‏ ‏تثار‏ ‏شبهة‏ ‏أخوة‏ ‏فى ‏الرضاعة‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏مارس‏ ‏مع‏ ‏المحارم‏ ‏ما‏ ‏مارس‏ برغم سطحيته، ‏ثم‏ ‏حين‏ ‏يحب‏ ‏زميلة‏ ‏له‏، ‏يختار‏ها ‏بذات‏ ‏التقاطيع‏ ‏التى “‏فيها‏ ‏براءة‏ “، ‏ماحصلشى معها حاجة، برغم إنها كانت “بتقرب” جدا، ‏وكأنه‏ ‏بكل‏ ‏ذلك‏ ‏يمارس‏ “‏محوا‏” (مشكوكا فيه) ‏منظما‏ ‏ومتصلا‏ ‏لخبرات‏ ‏الطفولة‏ ‏والمراهقة‏ ‏الباكرة‏‏.‏

دعونا نحدد أبعاد ما حضر لنا به:

‏(‏أ‏) ‏هذا‏ ‏شاب‏ ‏كان‏ ‏انطوائيا‏، بحسب أغلب من وصفوه.

‏(‏ب‏) ‏ثم‏ ‏صار‏ ‏انبساطيا مندفعا، سلوكاً ظاهرا‏ (‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏جانب‏). ‏

‏(‏ج‏) ‏كان‏ ‏له‏ ‏تاريخ‏ ‏جنسى (‏طفلى ‏و‏مراهقى) ‏متعدد‏ ‏ومتنوع‏ ‏ونشط‏.‏

(د) ثم تاريخ عاطفى رقيق، وهو الذى أجهضه

‏(‏هـ‏) ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يعيش‏ ‏حاضرا‏ ‏عاطفيا‏ ‏مترددا‏، ‏مضروبا‏ (‏من‏ ‏داخله‏ ‏أساسا‏).‏

(و) ثم هو يعلن – ربما بمرضة –  نقداً حاد  يصل إلى ثورة شاملة على الواقع المحيط والجارى.

نقرأ ما يبرر ما قدَّمناه

‏(‏أ‏) ‏أما‏ ‏إنه‏ ‏كان‏ ‏إنطوائيا‏ ‏فهو‏ ‏يقول‏:‏

‏”‏كنت‏ ‏ألعب‏ ‏رياضة‏ ‏لوحدى، ‏مش‏ ‏فى ‏المدرسة‏، ‏كنت‏ ‏أنفر‏ ‏من‏ ‏ المجتمع‏، ‏وأميل‏ ‏إلى ‏الوحده‏، ‏لأن‏ ‏والدى ‏كان‏ ‏بيشجع‏ ‏عدم‏ ‏الإختلاط‏ “.‏

‏(‏ب‏) ‏ثم‏ ‏صار‏ ‏إنبساطيا‏:‏

‏”‏دلوقتى ‏باحب‏ ‏الإجتماعية‏، ‏بالعب‏ ‏فولى، ‏وباسكت‏، ‏وتنس‏،‏ ‏ ‏ومصارعة‏، ‏وغاوى ‏رسم‏، ‏وموسيقى ‏وتمثيل‏، ‏وأنا‏ ‏عضو‏ ‏فى ‏الفريق‏ ‏الإنجليزى ‏بتاع‏ ‏التمثيل‏ ‏بتاع‏ ‏الكلية‏” .‏

‏(‏ج‏) ‏وحين‏ ‏كان‏ ‏إنطوائيا‏ ‏مارس‏ ‏كل‏ ‏أنواع‏ ‏الجنس‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏مواضيعه‏ ‏كما‏ ‏ذَكـَـر.

‏(‏د‏) ‏وحين‏ ‏صار‏ ‏إنبساطيا‏، ‏تعفف‏ ‏فى ‏حبه‏، ‏وجذبته‏ ‏البراءة‏، ‏ورفض‏ ‏التمادي‏!!.‏

(هـ) ثم نعيد قراءة شكواه فنحترم وجهة نظره حتى يمكن أن نتساءل عن مدى إيجابية آثارها ولا نرفضها تماما.

أليس‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏عكس‏ ‏المألوف‏ ‏من‏ ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏إنطوائيا‏، ‏ثم‏ ‏حالة‏ ‏كونه‏ ‏إنبساطيا‏، ‏حيث‏ ‏يتصور‏ ‏العامة‏ ‏وبعض‏ ‏النظريين‏ ‏أن‏ ‏الإنطوائية‏ ‏تعنى ‏الخجل‏ ‏والإنسحاب‏ ‏على ‏طول‏ ‏الخط‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الإنبساطية‏ ‏إنما‏ ‏تعنى ‏الجرأة‏ ‏والإقدام‏، ‏فى العلاقات بما فى ذلك ‏المسألة‏ ‏الجنسية ‏بالذات‏: ‏كيف‏ ‏يتفق‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏إنطوائى ‏مع‏ ‏كل‏ ‏تلك‏ “‏الممارسات‏” ‏وما‏ ‏هو‏ ‏انبساطى ‏مع‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ “‏التعفف‏”‏؟‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نميز‏- ‏إذن‏- ‏بين‏ ‏الممارسة‏” ‏السرية‏” ‏والمحدودة‏ ‏لنشاط‏ ‏غريزة‏ ‏الجنس‏ ‏إذ‏ قد ‏تخرج‏ ‏من‏ ‏تحت‏ ‏جلد‏ ‏الإنطوائى ‏مستقلة‏ ‏تماما‏، ‏ثم‏ ‏ترجع‏ ‏إلى ‏مكانها‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تلتحم‏ ‏بالكل‏ ‏النامى ‏أصلا‏، ‏وذلك‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏ممارسة‏ ‏إرادية‏ ‏وكاملة‏ ‏أحيانا‏، ‏لكنها‏ ‏كانت‏ ‏منفصلة‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏تقريبا‏، ‏ثم بعد‏ ‏ذلك‏، ‏‏راح‏ ‏يحاول‏ ‏أن‏ ‏ينتصرعلى ‏انطوائيته‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ “‏التعويضات‏” ‏الرياضية‏ ‏والفنية‏، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يكسرها‏ ‏بل‏ ‏أزاحها‏ ‏إلى ‏مستوى ‏آخر‏، ‏لعله‏ ‏المستوى ‏العاطفى ‏أو‏ ‏الفكرى، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏لم‏ ‏يتمثلها‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏حل‏ ‏الإنطوائية‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏بالقفز‏ ‏إلى ‏عكسها‏. (‏والعكس‏ ‏صحيح‏، ‏فحل‏ ‏الانبساطية‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏بالقفز‏ ‏إلى ‏عكسها‏) ‏وإنما‏ ‏يتم‏ ‏الحل‏ ‏باستيعاب‏ الضد جدلا‏ ‏حتى ‏يمكن‏ ‏تمثله‏ ‏بهدوء‏، ‏مما‏ ‏لا‏ ‏مجال‏ ‏لتفصيله‏ ‏هنا‏، ‏فنكتفى ‏بتقرير‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الشاب‏ ‏حين‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏فأقدم‏ ‏على ‏أولى ‏تجاربه‏ ‏العاطفية‏ ‏فى ‏سنها‏ ‏المناسب‏ (‏أولى‏ ‏جامعة‏) ‏أقدم‏ ‏عليها‏ ‏بخبرة‏ ‏فجة‏ ‏تماما‏، ‏وبلا ربط مناسب مع‏ ‏‏غزواته‏ ‏الجنسية‏‏ التجريبية ‏المراهقية‏، ‏بل‏ ‏ربما‏ ‏كان‏ ‏الإرتباط‏ ‏عكسيا‏، ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏فرط‏ ‏تعففه‏ ‏كان‏ ‏محوا‏ ‏لفرط‏ ‏اندفاعاته‏ ‏الباكرة‏.‏

لكن‏ ‏للمسألة‏ ‏العاطفية‏ ‏هنا‏ ‏أبعادا‏ ‏أخرى ‏متضفرة‏، ‏فقد‏ ‏شمل‏ ‏حبه‏ ” ‏الجامعى” ‏هذا‏ ‏عدة‏ ‏معالم‏ ‏أخرى ‏تستأهل‏ ‏النظر‏ ‏حيث‏ ‏نلمح‏ ‏فيه‏ (‏من‏ ‏نص‏ ‏المقتطف‏):‏

‏(‏أ‏) ‏موقف والدىّ راعٍ‏: ‏فهو‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يحمى ‏زميلته‏-‏ رغم‏ ‏أن‏ ‏سنها‏ ‏يكاد‏ ‏يكون‏ ‏نفس‏ ‏سنه‏ (‏طالبة‏ ‏سنة‏ ‏أولى) ‏من‏ ‏الوسط‏ ‏الموبوء‏، ‏وكأنه‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏أنه‏ (‏شخصيا‏) – “فى ‏الداخل‏” ‏ومن‏ ‏واقع‏ ‏تاريخه‏ – ‏يمثل‏ ‏حقيقة‏ ‏هذا‏ ‏الوسط‏ (‏الموبوء‏)، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏فهو‏” ‏خارجيا‏” ‏يمثل‏ ‏الوالد‏ ‏الحامى ‏والراعى (‏ضد‏ ‏نفسه‏ “‏إياها‏” ‏وضد‏ ‏الوسط‏” ‏الموبوء‏”!!!) .‏

‏(‏ب‏) ‏احتياج‏ ‏ناضج‏: ” ‏تبادلنا‏ ‏الإعجاب”.‏

‏(‏جـ‏) احتياج‏ ‏طفلى‏: “‏من‏ ‏جانبى‏ ‏كنت‏ ‏محتاج‏ ‏لحنان‏ ‏كبير‏”.‏

‏(‏د‏) ‏انضباط‏ ‏أخلاقى‏: “كنت‏ ‏باحاول‏ ‏أكون‏ ‏معاها‏ ‏فى ‏شيء‏ ‏من‏ ‏الجفاء‏ ‏لأنى ‏تصورت‏ ‏أنها‏ ‏بتحاول‏ ‏تخلينى ‏أزل‏ ‏فى ‏شىء‏ ‏غير‏ ‏مشروع‏ ‏زى ‏بنت‏ ‏خالتى“.‏

‏النتيجة‏ أنه ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الخليط‏ – الذى ‏هو بداية احتمال مسار النضج، يبدو أنه ‏تصادم‏ ‏فأجهضَ‏ ‏بعضـُـه‏ ‏بعضا‏- ‏حتى هدّد ‏بفقد‏ ‏هذا‏ ‏المصدر‏ ‏الجديد‏ ‏لإرواء‏ ‏احتياجاته‏، “فابتدِتْ‏ ‏تنفر‏ ‏منى”.‏

‏(‏لا‏ ‏شك‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏حق‏ ‏البنت‏ ‏أن‏ ‏تندهش‏، ‏أليس‏ ‏كذلك؟‏ ‏ننظر معها‏:)‏

‏” ‏أول‏ ‏ما‏ ‏ابتدا‏ ‏المرض‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏شهرين‏ ‏تقريبا‏،‏‏ ‏لاحظت‏ ‏إن‏ ‏الحكاية‏ ‏زادت‏ ‏علىّ.. ‏بقيت‏ ‏أظهر‏ ‏لها‏ ‏البرود‏ ‏والتزمت‏، ‏وتملى ‏أنصحها‏، ‏وتقوللى أنت‏ ‏بتتكلم‏ ‏بلهجة‏ ‏أبويا‏ ‏، هِيَّا لما قالت كده اتخضيت لدرجة إنى جالى رغبة‏ ‏فى ‏الانتحار مش عارف ليه، ‏وبعدين‏ ‏الحالة‏ ‏زادت‏،‏‏ ‏وبقيت اشعر‏ ‏إن‏ ‏البنت‏ ‏دى ‏وقّعتنى ‏فى ‏حيرة‏ ‏لأنى ‏كنت‏ ‏فى‏ ‏أخذ‏ ‏وعطا‏ ‏لدرجة‏ ‏إنى ‏اتهزيت‏،‏‏ ‏مابقتش‏ ‏عارف‏ ‏أذاكر‏، ‏وجالى ‏رغبة‏ ‏إنى‏ ‏أتكلم‏ ‏معاها‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏، ابتعدت‏ ‏عنها‏ ‏وبقيت‏ ‏من‏ ‏بعيد‏ ‏أتتبعها‏ ‏وأعمل‏ ‏رسوم‏ ‏عنها‏ ‏فيها‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏القدسية‏…، ‏وبعدين‏ ‏تطور‏ ‏المرض‏ ‏بأنى ‏بقيت‏ ‏أسيب‏ ‏المحاضرات‏ ‏بتاعتى‏ ‏وأحضر‏ ‏معاها‏ ‏محاضراتها‏، ‏وبقت‏ ‏تفكرنى ‏ ‏كثير‏ ‏قوى ‏بماما‏، ‏وطريقة‏ ‏معاملتها‏ ‏لى‏ ‏بشىء‏ ‏من‏ ‏عدم‏ ‏التفاهم‏، ‏ورجعت‏ ‏البلد‏،‏‏ ‏شفت‏ ‏ماما‏، ‏ففكرتنى ‏بالبنت‏ ‏دى، ‏فضربت‏ ‏ماما‏، ‏فعرفت‏ ‏إن‏ ‏الحالة‏ ‏خطيرة‏، ‏اعتديت‏ ‏على ‏ماما‏ ‏بالضرب‏، ‏وبعدين ‏ ‏لقيت‏ ‏الأعراض‏ ‏اللى ‏جابتنى هنا‏” .‏

التعقيب‏:‏

هكذا‏ ‏نرى ‏شابا‏ ‏بالغ‏ ‏الكشف‏ ‏دقيق‏ ‏الوصف‏، بخبرة الحب كما عاشها، وعبّر عنها ‏فنفترض‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏التجارب‏ ‏العاطفية‏ ‏إنما‏ ‏هى ‏مسماع‏ ‏لقضايا‏ ‏قديمة‏ ‏عميقة‏، ‏متعددة‏ ‏الاحتمالات‏، ‏فنتتبع‏ – ‏من‏ ‏خلال‏ ‏قراءة‏ ‏هذه‏ ‏الفقرة‏ – ‏بعض‏ ‏ما‏ ‏جرى ‏من‏ ‏بُعْد نفسمراضى‏ ‏سيكوباثولوجى ([4]) ‏اجتهادى على الوجه التالى‏:‏

‏1- ‏التقطت‏ ‏البنت‏ ‏بحدسها‏ ‏الأنثوى ‏دور‏ ‏صاحبنا‏ ” ‏الوالدى” (‏أنت‏ ‏بتتكلم‏ ‏زى ‏أبويا‏)

‏‏2- ‏رفض‏ ‏هو‏ ‏بدوره‏ ‏وصاية‏ ‏والده‏ (=‏الوالد‏ ‏الداخلى)([5]( ‏على ‏محبوبته‏، ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏الوالد‏ ‏فى ‏الداخل‏- ‏وليس‏ ‏هو‏- ‏هو‏ ‏الذى ‏يلبس‏ ‏دور‏ ‏الواعظ‏ ‏والناصح‏ (‏‏بلهجة‏ ‏أبويا‏)، ‏وحين‏ ‏تقول‏ ‏فتاة‏ ‏هذا‏ ‏القول‏، ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏التفاعل‏ ‏المباشر‏ ‏هو‏: “‏لدرجة‏ ‏إن‏ ‏جالى ‏رغبة‏ ‏فى ‏الإنتحار‏” ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏تنبيهها‏ ‏هذا‏ ‏قد‏ ‏نبه‏ ‏عنده‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏الذى” ‏يتكلم‏ ‏بلهجة‏ ‏أبوها‏”، ‏وإنما‏ ‏أبوه‏ ‏الداخلى، ‏فالانتحار‏ ‏هنا‏ ‏قد يكون‏ ‏محاولة‏ ‏إزاحة‏ ‏هذا‏ ‏الوالد‏ الداخلى ‏الواقف‏ ‏حائلا‏ ‏دون‏ ‏فتاته‏، أو المنافس له فى حبها، ‏لأن‏ ‏الانتحار‏، ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏ذكرنا‏ ‏هو‏ ‏قتل‏ ‏ذات‏ ‏داخلية‏ ‏لذات‏ ‏أخرى، ‏ولكن‏ ‏بما‏ ‏أن‏ ‏كل‏ ‏الذوات‏ ‏تلبس‏ ‏نفس‏ ‏الجسد‏، ‏فلا‏ ‏سبيل‏ ‏لهذا‏ ‏القتل إلا ‏أن‏ ‏يُفَعْلَن ويُنْجَز‏ ‏‏بما‏ ‏أن‏ ‏الجسم‏ ‏سينتهى ‏فى ‏كل‏ ‏حال‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏من‏ ‏القاتل‏ ‏ومن‏ ‏المقتول‏- ‏ولولا‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏ ‏لكان‏ ‏الربط‏ ‏بين‏ ‏قول‏ ‏الفتاة‏” ‏أنت‏ ‏بتتكلم‏ ‏بلهجة‏ ‏أبويا‏” ‏وبين‏ ‏هذا‏ ‏التفاعل‏ ‏المباشر‏ ‏بظهور‏ ‏رغبة‏ ‏الانتحار‏، ‏لكان‏ ‏ربطا‏ ‏شديد‏ ‏التسطيح‏ ‏مثل‏ ‏أن‏ ‏يوصف‏ ‏بأنه:‏ ‏”حزن‏” ‏واكتئاب نتيجة‏ ‏رفضها‏ ‏للهجته‏ الوالدية، وبالتالى فلعل هذه الرغبة هى رغبة فى مقتل هذا الوالد الذى استولى على فتاته فرفضته.

‏3- ‏فلما‏ ‏وصل‏ ‏مختار ‏إلى ‏مرحلة‏ ‏من‏ ‏التردد‏ ‏والتصادم‏ ‏أدت‏ ‏به‏ ‏أن‏ ‏يستجيب‏ ‏هذه‏ ‏الإستجابة‏ ‏التى ‏أعلنت‏ ‏استهدافه‏ ‏لخلخلة‏ ‏الواحدية‏([6])، ‏كان‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتماسك‏، ‏بل‏ ‏أن‏ ‏يـُـفـْـرط‏ ‏فى ‏التماسك‏، ‏فانطلقت‏ ‏الطاقة‏ ‏دون حساب‏ ‏فيما‏ ‏بدا‏ ‏أنه‏ ‏فرط‏ ‏اندفاع‏ (‏عدوان‏)، ‏بدءا‏ ‏بكثرة‏ ‏الكلام‏ “‏وجالى ‏رغبة‏ ‏أتكلم‏ ‏معاها‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏” -‏وهو‏ ‏لم‏ ‏يقل‏ ‏أنه‏ ‏تكلم‏ ‏فعلا‏، ‏ولكنه‏ ‏استشعر‏ ‏الرغبة‏، ‏ولعله‏ ‏فعل‏، ‏وفرط‏ ‏الكلام‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏فى ‏اتجاه‏ ‏أعراض‏ ‏الهوس‏، ‏أما‏ ‏الرغبة‏ ‏فى ‏الإنتحار‏ ‏فهى ‏فى ‏الإتجاه‏ ‏المضاد‏ ‏نحو‏ ‏أعراض‏ ‏الاكتئاب‏، ‏وكلا‏ ‏منهما‏ (‏الهوس‏ ‏والاكتئاب‏)، ‏هو‏ ‏محاولة‏ ‏لتجنب‏ ‏التمادى ‏فى ‏اتجاه‏ ‏التفسخ‏ ‏حتى ‏فقد‏ ‏الواحدية‏، ‏أى ‏حتى ‏حركية الخلخلة بداية التناثر‏ ‏الفصامى داخليا([7])‏– ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏فإن‏ ‏فرط‏ ‏الكلام‏ ‏هنا‏ ‏كان‏ ‏موجها‏ ‏نحو‏ “‏موضوع‏ ‏الحب‏” ‏بالذات‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏عاما‏ ‏على سائر الموضوعات، أو بدون موضوع‏، ‏فكانت‏ ‏الإندفاعة‏ ‏ضد‏ ‏احتمال‏ ‏التمادى ‏فى ‏الخلخلة‏ والتهديد بالتفسخ (مثل أخويه)‏، ‏وبألفاظ‏ ‏أخرى ‏نقول‏: ربما بدا له أن ‏ “‏الملاحقة‏” ‏بالكلام‏ وتواصله معها ‏قد‏ ‏تحافظ‏ ‏مؤقتا على ‏درجة الترابط‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الإندفاع‏ ‏قد‏ ‏يطمئنه‏ ‏أنها‏ (‏فتاته‏) ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏فى ‏متناوله‏، ‏مع‏ ‏أنه‏ ربما ‏لو‏ ‏انتبه‏ ‏لمحتوى ‏كلامه‏ ‏لوجده‏ ‏ما‏ ‏زال‏ “‏والديا‏”‏، وكأنه‏ ‏لا‏ ‏يندفع‏ ‏هاربا‏ ‏من‏ ‏والد‏ ‏داخلى ‏ملاحـق‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏يندفع‏ “‏إلى هذا الوالد الداخلى‏”‏ ويستعين به.

‏(4) ‏فكانت‏ ‏‏المحصلة‏ ‏هى ‏عكس‏ ‏ما‏ ‏أراد‏، ‏فبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يحتفظ‏ ‏بفتاته‏، ‏ابتعد‏ ‏شعوريا‏ ‏وبمحض‏ ‏إراداته‏، (‏ولعل‏ ‏والده‏ ‏بالداخل‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏أبعده‏) ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏حرص‏ ‏على ‏أن‏ ‏تظل‏ ‏فتاته‏ ‏ماثلة‏ ‏أمام‏ ‏نظره‏ “‏وبقيت‏ ‏من‏ ‏بعيد‏ ‏أتتبعها”‏.‏

‏(5) ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏حاول‏ ‏حل‏ ‏المسألة‏ ‏بتسوية‏ ‏فنية‏ ‏بديله‏، ‏فراح‏ ‏يستبدل‏ ‏حقيقتها‏ (‏لحما‏ ‏ودما‏) ‏بتشكيل‏ ‏رسوم‏ ‏لها‏ (“فيها‏ ‏شىء‏ ‏من‏ ‏القدسية‏”) ‏وكأنه‏ ‏بذلك‏ ‏أرضى ‏والده‏ ‏الوصى ‏الداخلى، ‏وأرضى ‏حاجته‏ ‏اليها‏‏، ‏ثم إنه ‏أعفى ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏إلحاح‏ ‏داخله – ‏بالتقديس‏ -، ‏وبالابتعاد‏ ‏الجسدى ‏معا‏.‏

‏(6) ‏فى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏أبعدها‏ ‏لحما‏ ‏ودما‏، ‏مع‏ ‏حضورها‏ ‏خيالا‏ ‏مُسْقطا‏ ‏على ‏صورتها‏ ‏من‏ ‏بعيد‏، ‏أطلت‏ ‏فتاته‏ ‏فى ‏وعيه‏ ‏باعتبارها‏ ‏أمه‏” وبقت‏ ‏تفكرنى ‏كثير‏ ‏قوى ‏بماما‏” -‏ ولكن‏ ‏أى ‏أم‏؟ ‏الأم‏ ‏التى ‏تمنح‏ ‏الحنان‏؟، ‏أم‏ ‏الأم‏ ‏الموضوع‏ ‏الجنسى (‏أوديب‏)؟ ‏أم‏ ‏الأم‏ ‏المقدسة‏ ‏والمحرمة‏ أم  أمه الحقيقية فى الواقع الماثل (التى سبق أن أشرنا لبعض سماتها فى الفصلين السابقين بما فى ذلك ضربها إياه)؟ ‏الأرجح أنه كان يشير إلى أمه فى الواقع، قارن قوله ‏”طريقة‏ ‏معاملتها‏ ‏لى ‏بشيء‏ ‏من‏ ‏عدم‏ ‏التفاهم‏”‏ وبوصفه‏ ‏للقسوة‏ ‏بدليل ما جاء‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الشكوى ‏وتبريره‏ ‏لضرب‏ ‏إخوته‏ ‏بأنه‏ ‏كان‏ ‏نتيجة‏ ‏لتلك‏ ‏القسوة‏، ‏وسوف تجد أننا‏ ‏نقترب‏ ‏رويدا‏ ‏رويدا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏فكــَّـره‏ ‏بأمه‏ ‏هو ترجمته إهمالها له على أنه قسوة بدليل ‏ضربها‏ ‏إياه‏، ‏باعتبار أن ‏تخليها‏ ‏عنه‏ هو أقسى من الضرب، ‏ويُثْبِتُ‏ ‏ذلك‏ ‏كثيرا‏ ‏أو‏ ‏قليلا‏ ‏ما‏ ‏جاء‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏الجملة‏ ‏مباشرة‏ ‏حين‏ ‏سافر‏ ‏إلى ‏أمه‏ ‏ورآها‏ ‏رأى ‏العين‏، ‏فماذا‏ ‏حدث؟

‏(7) ‏الذى ‏حدث‏ ‏أنه‏ ‏بمجرد‏ ‏رؤيته‏ ‏لأمه‏ ‏ذَّكرته‏ ‏بفتاته‏، ‏فضربها‏ (ضرب أمه) “ففكرتنى ‏بالبنت‏ ‏دى ‏فضربتها‏” ‏فهل‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏كان‏ ‏يضرب‏ ‏البنت‏ ‏فيها‏؟ ‏أم‏ ‏أن التى‏ ‏كان‏ ‏يضربها‏ ‏هى ‏أمه‏ ‏باعتبار ‏أنها‏ ‏المسئولة‏ – ‏بما‏ ‏كانته ‏وما‏ ‏ترتب عن ما كانت بداخله‏ ‏من‏ ‏قسوة‏ ‏وهجر‏ من فتاته – حتى فقدها الأرجح عندى هو الاحتمال الأول.

‏(8) ‏وما‏ ‏أن‏ ‏وصلت‏ ‏المسألة‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏المرحلة‏، ‏حتى ‏أدرك‏ ‏بنفسه‏ “‏ان‏ ‏الحالة‏ ‏خطيرة‏”، “‏وبعدين‏ ‏لقيت‏ ‏الأعراض‏ ‏اللى ‏جيت بيها‏”. ‏وليذكر‏ ‏القارىء‏ ‏معنا‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يذكر‏ ‏أعراضا‏ ‏جسيمة‏ ‏تتناسب‏ ‏مع‏ ‏هذه‏ ‏الإشارة‏، ‏أو‏ ‏مع‏ ‏تلك‏ ‏الخطورة‏ ‏المعلنة‏، ‏فكل‏ ‏ما‏ ‏قاله‏ ‏بدا‏ ‏فى ‏البداية‏ ‏أنه‏ ‏فلسفة‏ ‏حياة‏ ‏عميقة‏، ‏ورغبة‏ ‏فى ‏التفرد‏ ‏المتميز‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏رؤيته‏ ‏المؤلمة‏ ‏للواقع‏ ‏القاهر‏ ‏النمطى (‏باشتكى ‏فى ‏الحقيقة‏ ‏إنى ‏عايش‏ …. ‏إلخ‏).‏

إذن‏، ‏فالإحساس‏ ‏بالخطورة‏، ‏وبالأعراض‏، ‏هو‏ ‏استقبال‏ ‏للحركة‏ ‏الداخلية‏ ‏المندفعة‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏تتحدد‏ ‏الأعراض‏ ‏ظاهرا‏ ‏بكل‏ ‏هذه‏ ‏الخطورة‏. ‏

المناقشة العامة للحالة:

نستطيع‏ ‏أن‏ ‏نتوقف‏ ‏هنا‏ ‏قليلا‏، ‏لنعلن‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏الذى ‏نشأ‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الأسرة‏، ‏قد‏ ‏أتيحت‏ ‏له‏ ‏فرصة‏ ‏أطول‏ (‏حتى ‏سن‏ ‏الثامنة‏ ‏عشر‏ ‏والنصف‏ ‏بالمقارنة‏ ‏بالبداية‏ ‏عند‏ ‏التوأم‏ ‏فى ‏الرابعة‏ ‏عشر‏) ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يثور‏ ‏عليه‏ ‏داخله‏ ‏فيهاجمه‏ ‏هكذا‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏أتيحت‏ ‏له‏ ‏خبرات‏ ‏أكثر‏ ‏ثراءً‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏يعنيه‏ ‏الثراء‏ ‏من‏ ‏خطأ‏ ‏وصواب‏، ‏كما‏ ‏أنه‏ ‏لجأ‏ ‏إلى ‏تعويضات‏ ‏أوضح‏ (‏بنشاطه‏ ‏الرياضى ‏والاجتماعى ‏والفنى)، ‏وبالتالى ‏فهو‏ ‏حين‏ ‏اهتز‏ ‏حتى ‏كاد‏ ‏يتفسخ‏، ‏ثم‏ ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يلم‏ ‏نفسه‏ ‏بهذه‏ ‏الاندفاعة‏ ‏الأمامية‏ ‏التى ‏اقتربت مما‏ ‏يسمى” ‏هوسا‏”([8])  لكن‏ ‏الاكتئاب‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏بعيدا‏، ‏كان‏ ‏ماثلا‏ ‏فى ‏ظاهر‏ ‏الأعراض‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏الشعور‏ ‏بالوحدة‏، ‏والغرابة‏، ‏والتفرد‏، ‏واللاجدوى (‏باشتكى ‏من‏ ‏إنى ‏عايش‏)، ‏ثم‏ ‏فى ‏فكرة‏ ‏الانتحار‏ ‏كما‏ ‏أشرنا‏، ‏واختلاط‏ ‏الهوس‏ ‏مع‏ ‏الاكتئاب‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏من‏ ‏أشهر‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نراه‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏الاضطراب الوجدانى‏ ‏حيث‏ ‏الهوس‏ ‏انتصار‏ ‏طفلى ‏نشط‏ ‏هائج‏، (‏عدوانى ‏أحيانا‏) ‏والاكتئاب‏ ‏مواجهة‏ ‏والدية‏ ‏ضاغطة‏ ‏مانعة‏ ‏لتمادى ‏هذا‏ ‏الانتصار‏، ‏ثم‏ ‏لإخفائه‏ ‏ومعادلته‏([9])، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏من‏ ‏شأن‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏.‏

وحتى ‏تصير‏ ‏الصورة‏ ‏أقرب‏ ‏للقارىء‏، ‏رأينا‏ ‏أن‏ ‏نقدم‏ ‏بعض‏ ‏جوانب‏ “‏حضور” مختار ‏بالقسم‏ ‏الداخلى، (‏مازلنا‏ ‏سنة‏ 1960) ‏وفيما يلى بعض عينات‏ ‏نشاطه‏ فى القسم الداخلى، ‏حتى ‏نرى ‏مدى ‏التماسك‏ ‏الذى ‏أشرنا‏ ‏اليه‏، ‏ومدى ‏الاندفاعة‏ ‏التعويضية‏، ‏على ‏أرضية‏ ‏اكتئابية‏: ‏

‏1- ‏فقد‏ ‏نظم‏ ‏مختار ‏نشاطا‏ ‏رياضيا‏ ‏لكل‏ ‏المرضى ‏بالقسم‏ ‏الداخلى، ‏واستطاع‏ ‏بمبادرة‏ ‏فردية‏ ‏أن‏ ‏يقنعهم‏ ‏بالمشاركة‏ ‏كائنا‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏مرضهم‏، ‏أو‏ ‏درجة‏ ‏عجزهم‏.‏

‏2-‏ كما‏ ‏رسم‏ ‏أثناء‏ ‏وجوده‏ ‏بالقسم‏ ‏رسوما‏ ‏جيدة‏، ‏ودالة‏، (‏وللأسف‏، ‏فهذه‏ ‏الرسوم‏ ‏لم‏ ‏تعد‏ ‏بعد‏ ‏طول‏ ‏هذه‏ ‏السنين‏ ‏صالحة‏ ‏للطبع‏ ‏هنا‏) ‏.

وقد‏ ‏يكون‏ ‏من‏ ‏المفيد‏ ‏الإشارة‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏محتواها‏:‏

‏(‏أ‏) ‏فقد‏ ‏وضح‏ ‏فى ‏إحداها‏ ‏قفص‏، ‏كأنه‏ ‏فى ‏حديقة‏ ‏حيوان‏ ‏أو‏ ‏ما‏ ‏شابه‏، ‏وبداخله‏ ‏أسد‏ ‏ولبؤة‏ ‏وشبل‏ (‏أو‏ ‏لبؤة‏ ‏أخرى‏: ‏منظر‏ ‏غير‏ ‏واضح‏ ‏تحديدا‏) ‏والزوار‏ (‏المتفرجون‏) ‏يحيطون‏ ‏بهم‏ ‏وهم‏ ‏يلبسون‏ ‏قبعات‏.‏

‏(‏ب‏) ‏أما الرسم‏ ‏الثانى فهو ‏أشبه‏ ‏ببار‏ ‏فى ‏جانب‏ ‏منه‏ “‏بيانو‏”، ‏وسطه‏ ‏حلقة‏ (‏بيست‏) ‏لكنها‏ ‏مُسَوَّرة‏ ‏بسياج‏ ‏حديدى (‏لا‏ ‏يفترق‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏سور‏ ‏القفص‏ ‏فى ‏الصورة‏ ‏السابقة‏) ‏ويرقص‏ ‏فيها‏ ‏فتى ‏يلبس‏ ‏ملابس‏ ‏رومانية‏، ‏وحوله‏ ‏متفرجون‏، ‏أو‏ ‏رواد‏ ‏يتفرجون‏، ‏والفتاة‏ ‏ترتدى ‏مايشبه‏ ‏المايوه‏ (‏بكلوش‏ ‏قصير‏)، ‏وقد‏ ‏جلس‏ ‏على ‏البار‏ ‏رجل‏ ‏فى ‏منتصف‏ ‏العمر‏، ‏ينظر‏ ‏إلى ‏قدميه‏، ‏وامرأة‏ ‏تخطت‏ ‏منتصف‏ ‏العمر‏، ‏تكاد‏ ‏تنادى ‏برفع‏ ‏كأسها‏ ‏مائلا‏، ‏ناظرة‏ ‏إلى ‏الرواد‏ ‏نظرة‏ ‏داعرة‏.‏

‏3- ‏وقد‏ ‏كان‏ ‏يواصل‏ ‏كتابة‏ ‏آرائه‏ ‏ومطالبه‏ ‏للطبيب‏ ‏المعالج‏ (‏شخصى) ‏بانجليزية‏ ‏جيدة‏ وسليمة (‏وهو‏ ‏بعد‏ ‏فى ‏السنة‏ ‏الثانية‏ كلية ‏الآداب وكان في مدارس ثانوية عادية، وليست مدارس لغات!!!!‏) ‏وكانت‏ ‏أغلب‏ ‏كتاباته‏ ‏مواجهة‏ ‏لما‏ ‏استَـشْـعَـرَهُ‏ ‏من‏ ‏سلطة‏ ‏الطبيب‏ ‏الذى ‏بدا‏ ‏أنه‏ ‏يحتاجها‏ ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يرفضها‏، ‏ومن‏ ‏ذلك‏ ‏ما‏ ‏يلى‏:‏

Dear Dr.‏

‏I wander what you take me for: a big brute? A liar? A senseless thoughtless human being? Well, think what you may think, but one thing I will have to tell you: that is, I flatly and absolutely refuse to resume the curing business. I told you I learn fast, perhaps too fast، (but) I do know now that I am thankful for your worthy cooperation.‏

‏The days I spent here were not spent in vain. They have been fruitful، immensely so. I will never forget you or the interesting collection of “invalids” you have here. They feel very sure and secure when you are around. I feel the same myself, but for different reasons.‏

‏I don’t like the idea of you dominating me among all the people you have here. You may control any one you have around me، but my dear, not me; simply because I am different. I am leaving here; I am ready for the worst. You will not put me down no matter what.‏

Yours very truly‏

Signature‏

Mokhtar

وقد‏ ‏ترجمتُ‏ ‏خطابه‏ ‏هذا‏ كما يلى‏:‏

عزيزى ‏الطبيب‏:‏

إنى ‏أتساءل‏” ‏كيف‏ ‏ترانى‏؟ ‏وحش‏ ‏كبير؟ كاذب؟‏ ‏إنسان‏ ‏بلا‏ ‏إحساس‏ ‏ولا‏ ‏تفكير؟‏ ‏حسنا‏، ‏لترنى ‏كما‏ ‏تشاء‏ ‏ولكن‏ ‏شيئا‏ ‏واحدا‏ ‏أحب‏ ‏أن‏ ‏أؤكده‏ ‏لك‏ ‏وهو‏: ‏إننى ‏أرفض‏- ‏بكل‏ ‏وضوح‏ (‏على ‏بلاطة‏)، ‏تماما‏- ‏أن‏ ‏أستأنف‏ ‏هذه‏ ‏الصفقة‏ ‏العلاجية‏ (‏المشروع‏ ‏العلاجى)، ‏لقد‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أخبرتك‏ ‏أنى ‏أتعلم‏ ‏بسرعة‏، ‏ربما‏ ‏بسرعة‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏اللازم‏ (‏لكن‏) ‏أنا‏ ‏أعلم‏ ‏الآن‏ ‏أنى ‏شاكر‏ ‏لك‏ ‏تعاونك‏ ‏الذى لايمكن إنكاره‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏الأيام‏ ‏التى ‏أمضيتـُها‏ ‏هنا‏ ‏لم‏ ‏تضع‏ ‏هباء‏، ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏مثمرة‏، ‏مثمرة‏ ‏جدا‏ ‏جدا‏،  ‏وسوف‏ ‏لا‏ ‏أنساك‏ ‏أبدا‏، ‏ولا‏ ‏هذه‏ ‏المجموعة‏ ‏من ‏”العجـَزة‏” ‏الذين‏ ‏هم‏ ‏عندك‏ ‏هنا‏، ‏إنهم‏ ‏يشعرون‏ ‏بالثقة‏ ‏والأمان‏ ‏حين‏ ‏تكون‏ ‏متواجدا‏ ‏حولنا‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏، ‏وأنا‏ ‏أشعر‏- ‏شخصيا‏- ‏كذلك‏، ‏ولكن‏ ‏لأسباب‏ ‏أخرى، ‏إنى ‏لا‏ ‏أتقبل‏ ‏فكرة‏ ‏أن‏ ‏تطغى ‏علىَّ ‏وسط‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ ‏الذين‏ ‏عندك‏ ‏هنا‏، ‏إنك‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏ ‏تتحكم‏ ‏فى أى شخص ‏من‏ ‏حولى، ‏لكن‏، ‏يا‏ ‏عزيزى، ‏ليس‏ ‏أنا‏، ‏لأننى ‏ببساطة‏ “مختلف‏” ‏إنى ‏سأترك‏ ‏هذا‏ ‏المكان‏، ‏وأنا ‏على أتم ‏استعداد‏ ‏لأى احتمال، أنت‏ ‏لن‏ ‏تقمعنى ‏بأى ‏وسيلة‏ ‏كانت‏ (‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عما‏ ‏هى..) .‏

ثم‏ ‏يكتب‏ ‏ما‏ ‏يلى ‏أيضا‏ ‏ويعطيه‏ ‏لى‏:‏

‏Things I would like to consult the doctor about.

‏1-The feeling of loneliness that accompanies taking life too seriously. ‏

‏2-Emotional support: is it advisable that I should bring some (unreadable word, some colour, some light, some emotion into my life.‏

‏3-Sexual life: Is it advisable that I would go on leading the same kind of passive sexual life I am living right now. I feel I am getting very cold emotionally and sexually.‏

‏4-To what extent do you agree to the shifting (alteration)? if you advice any? or the continuation of the same monotony of never trusting any girl، feeling sensitive، awkward and unable to satisfy her sincerely

(I do not like the business, that animal instincts would make one turn into a beast; it would degrade any self-respect etc.)

‏5-What do you think of subliming the instincts through art or changing the course of the driving energy behind in the shape of violent physical and mental exercise to exhaust the body and sublime the spirit and mind?‏

وقد‏ ‏ترجمت‏ ‏ذلك أيضا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يلى‏:

‏أمورٌ ‏أود‏ ‏أن‏ ‏أسأل‏ ‏الطبيب‏ ‏عنها‏:‏

‏1- ‏الشعور‏ ‏بالوحدة:‏ ‏الذى ‏يترتب‏ ‏على ‏أخذ‏ ‏الحياة‏ ‏بجدية‏ ‏شديدة‏.‏

‏2-‏ الدعم‏ ‏العاطفى‏: ‏هل ثمة نصيحة بأن‏ ‏أدخل‏ ‏بعض‏ (‏كلمة‏ ‏غير‏ ‏مقروءة‏) ‏بعض‏ ‏اللون‏، ‏بعض‏ ‏الضوء‏ ‏بعض‏ ‏العواطف‏ ‏إلى ‏حياتى‏؟‏

‏3- ‏الحياة‏ ‏الجنسية‏: ‏هل‏ ‏ما‏ ‏تنصح‏ ‏به‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏أستمر‏ ‏على ‏نفس‏ ‏نوع ‏الحياة‏ ‏الجنسية السلبية ‏كما‏ ‏أعيشها‏ ‏الآن‏ ‏حالا‏، ‏إنى ‏أشعر‏ ‏أنى ‏أصبحت ‏أكثر‏ ‏برودا‏، ‏عاطفيا‏ ‏وجنسيا‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏.‏

4- إلى ‏أى ‏مدى ‏توافق‏ ‏على ‏النقلة‏ (‏التغيير؟‏) ‏إذا‏ ‏كنت‏ ‏تنصح‏ ‏بأى ‏تغيير‏ ‏أصلا؟‏ ‏أم‏ ‏أنك‏ ‏ترى ‏استمرار‏ ‏نفس‏ ‏الموقف‏: ‏من‏ ‏عدم‏ ‏الثقة‏ ‏بأى ‏فتاة‏، ‏حيث‏ ‏يغلب‏ ‏الشعور‏ ‏بالحساسية‏، ‏والحرج‏ ‏والعجز‏ ‏عن‏ ‏إرضاء‏ ‏أية‏ ‏فتاة‏ ‏بإخلاص‏ (‏إنى ‏لا‏ ‏أحبذ‏ ‏أن‏ ‏أنساق‏ ‏وراء‏ ‏غرائزى ‏لتحولنى ‏إلى ‏وحش‏، ‏إن‏ ‏ذلك‏ ‏يقلل‏ ‏قيمة‏ ‏أى ‏إحترام‏ ‏لنفسى….‏الخ‏).‏

‏5-‏ ما‏ ‏هو‏ ‏رأيك‏ ‏فى ‏إعلاء‏ ‏الغرائز‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الفن‏ ‏أو‏ ‏تغيير‏ ‏مجرى ‏الطاقة‏ ‏الدافعة‏ ‏وراءها‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏التدريبات‏ ‏الجسدية‏ ‏والعقلية‏ ‏العنيفة‏ ‏التى ‏تنهك‏ ‏البدن‏ ‏وتتسامى ‏بالروح‏ ‏والعقل؟‏ ‏

المناقشة‏:‏

إنتهى ‏النص‏، ‏ولنا‏ ‏وقفة‏:‏

‏1-‏ ‏أوردت‏ ‏نص‏ ‏كتابته‏ ‏بالإنجليزية‏، ‏وتعمدت‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏فى ‏المتن‏ ‏دون‏ ‏الهامش‏، ‏لأبين‏ ‏عدة‏ ‏أمور‏:‏

‏(‏أ‏) ‏هذا‏ ‏الشاب‏ (18.5 ‏سنة‏) ‏متمكن‏ ‏بدرجة جيدة‏ جدا ‏من‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ ‏الأجنبية‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يتعلم‏ ‏فى ‏مدارس‏ ‏أجنبية‏، ‏ولم‏ ‏ينشأ‏ ‏فى ‏أسرة‏ ‏تعرف‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ ‏بأى ‏قدر‏ ‏مناسب‏، ‏فمن‏ ‏أين‏ ‏له‏ ‏هذا‏ ‏التمكن‏ ‏من‏ ‏لغة أجنبية‏ ‏فى مثل هذه الظروف؟‏ ‏وهل‏ ‏يعنى هذا ‏شيئا‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏أو‏ ‏مسيرة‏ ‏مرضه؟‏ ‏خاصة‏ ‏وأنه‏ ‏صاحب‏ ‏التاريخ‏ ‏الدراسى ‏المتوسط‏ (‏سقط‏ ‏فى ‏سنة‏ ‏أولى ‏آداب‏، ‏وحصل‏ ‏على 69 % ‏فى ‏الثانوية‏ ‏العامة‏) .‏

وفى ‏ذلك‏ ‏نقول‏: ‏إن‏ ‏علاقة‏ ‏المرض‏ ‏النفسى (‏المريض‏ ‏النفسى) ‏باللغة‏ ‏علاقة‏ ‏شديدة‏ ‏التداخل‏ ‏والتعقيد‏، ‏وهى ‏لا‏ ‏تقتصر‏ ‏على ‏انهيار‏ ‏اللغة‏ ‏وتفككها‏ ‏وعجزها‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأمراض‏ (‏مثل‏ ‏الفصام‏) ‏بل‏ ‏إنها‏ ‏قد‏ ‏تحضر‏ ‏بالمعنى ‏التعويضى ‏والإبدالى، ‏فيمتلك‏ ‏المريض‏ ‏ناصية‏ ‏لغة‏ ‏فصحى، ‏أو‏ ‏أجنبية‏ ‏تملكا‏ ‏يغذى “تفرده‏” ‏وفى ‏نفس ‏الوقت‏ ‏يعفيه‏ ‏من‏ ‏العلاقة‏ ‏الخطرة‏ ‏بلسان‏ ‏الأم،‏ ‏نحن‏ ‏نفترض‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏اختيار‏ ‏هذا‏ ‏الشاب‏ ‏لإتقان‏ ‏هذه‏ ‏اللغة‏ ‏الأجنبية‏، ‏ثم‏ ‏نزوعه‏ ‏إلى ‏التعبير‏ ‏بها‏ ‏دون‏ ‏اللسان‏ ‏الغالب، أو اللغة الأم، ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏عن‏ ‏عرض‏”‏الجـَدْلـَغـَة‏”([10]) – ‏وكأنه‏ ‏بهذا‏ ‏اللسان‏ ‏الأجنبى ‏يتكلم‏ ‏لغة‏ ‏خاصة‏ ‏مميزة‏ ‏اكتسبها‏ ‏هو‏ ‏بنفسه‏([11])، ‏متخلصا‏ – ‏قليلا‏ ‏أو‏ ‏كثيرا‏ – ‏من‏ ‏لسان‏ ‏فٌـرِضَ‏ ‏عليه‏، ‏وكأنه‏ ‏يستطيع‏ ‏بهذا‏ ‏اللسان‏ ‏الخاص‏ ‏غير‏ ‏الشائع‏ ‏أن‏ ‏يعرى ‏احتياجاته‏ ‏بلغته‏ “‏المختارة‏” الجديدة ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يفعل‏ ‏بلسان‏ ‏الأم‏ (‏المعروف‏ ‏للجميع‏ ‏وللأم‏ ‏خاصة‏) .‏

وقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أن‏ ‏مختار ‏قد‏ ‏استعمل‏ ‏أسلوبا‏ ‏راقيا‏ ‏وبعض‏ ‏الكلمات‏ ‏النادرة‏ ‏الرصينة‏ ‏التى ‏توقفت‏ ‏مليا‏ ‏أحاول‏ ‏ترجمتها‏ ‏بنفس‏ ‏الدقة‏ ‏التى ‏توحى ‏بها‏، ‏وأعترف‏ ‏أنى ‏عشت‏ ‏هذه‏ ‏الكلمات‏ ‏الأجنبية‏ ‏معه‏ ‏بدرجة‏ ‏أحرجتنى ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏أنقلها‏ ‏ناقصة‏ ‏إلى ‏لغتى.

كما‏ ‏نلاحظ‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏العينة‏ ‏المباشرة‏ ‏شديدة‏ ‏التماسك‏، ‏بل‏ ‏لعلها أكثر‏ ‏تماسكا‏ ‏من‏ ‏المعتاد‏، ‏وكأنها‏ ‏تعلن‏ ‏أنها‏” ‏ضد‏ ‏الفصام‏”، ‏فتـُذكرنا‏ ‏أن‏ ‏أعراض‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ (‏مختار‏) ‏تبدو ‏عكس‏ ‏شقيقيه‏ ‏التوأم‏ ‏رغم‏ ‏وحدة‏ ‏الأصل‏.‏

ثم‏ ‏ننتقل‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏الى ‏محتوى ورقتيه بالإنجليزية: ‏

أولا‏: ‏المقتطف‏ ‏الأول‏:‏

يعلن‏ ‏هذا‏ ‏المقتطف‏ ‏بصراحة‏ ‏طبيعة‏ ‏العلاقة‏ ‏العلاجية‏، ‏وما‏ ‏يصاحبها‏ ‏من‏ ‏تراوح‏ ‏بين‏ ‏الطمأنينة‏، ‏والشك‏، ‏بين‏ ‏الاعتماد‏ ‏والثورة‏ ‏على ‏التبعية‏، ‏بين‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏التفرد‏ ‏والمبادرة بالاستغاثة‏ ‏بالمعالج‏، ‏بين‏ ‏مقاومة‏ ‏الإغارة‏ ‏العلاجية‏ ‏والحرص‏ ‏على ‏شكر‏ ‏المعالج‏ ‏وتقديره‏.‏

ثم‏ ‏ندخل‏ ‏فى ‏التفاصيل‏:‏

‏(‏أ‏) ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏: ‏مختار ‏قد‏ ‏خطا‏ ‏خطوات‏ ‏محدودة‏ ‏فى ‏المشروع‏ ‏العلاجى، ‏وحين‏ ‏تهدد‏ ‏بالتغيير‏ الحقيقى، ‏توقف‏، ‏واحتج‏، ‏وأعلن – لنفسه أولا– ‏أنه‏ ‏تعلم‏ ‏بسرعة‏ ‏ما‏ ‏فيه‏ ‏الكفاية‏، ‏ونحب‏ ‏أن‏ ‏نشير‏ ‏إلى ‏تحديده‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏تعلمه‏ ‏هنا‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏حتم‏ ‏التغيير‏ ‏فى ‏ظل‏ ‏أمان‏ ‏آخر‏ ‏ووسط‏ ‏آخر‏، ‏غير‏ ‏ما‏ ‏كانت‏ ‏تمثله‏ ‏له‏ ‏العائلة‏ (‏مما‏ ‏نعتبره‏ ‏مفتاح‏ ‏العلاج‏ ‏الحقيقى) – ‏ولكنه‏ ‏تعلم‏ (‏بسرعة‏) ‏ألا‏ ‏يستأنف‏([12])‏ ‏العلاج‏، وهذا أفضل، بدلا من العكس([13]) ‏لكنه فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏راح‏ ‏يستأنف‏ ‏العلاج‏، ‏واستعماله‏ ‏زمن‏ ‏الماضى ‏برغم‏ ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏تحت‏ ‏العلاج‏، ‏له‏ ‏دلالته‏، ‏فهو‏ ‏إذ‏ ‏يقول‏: “‏الأيام‏ ‏التى ‏أمضيتها‏” ‏إنما‏ ‏يعلن‏ ‏محاولة‏ ظاهرة ‏للتخلص‏ ‏من‏ ‏آثار تلك الأيام (‏الطيبة‏!) ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يعلن‏ ‏أنها‏ ‏وآثارها‏ ‏أصبحت‏ ‏فى ‏حكم‏ ‏الماضى (‏الذى ‏يذكره‏ ‏بالخير‏: ‏مهما‏ ‏كان‏).

 إن‏ ‏المريض كثيرا ما‏ ‏يعلن‏ ‏الاحتجاج‏ ‏والتوقف‏، ‏لا‏ ‏ليتوقف‏ ‏فعلا‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏يعيد‏ ‏اختياره‏ ‏من‏ ‏موقع‏ ‏جديد‏، ‏فيحاول‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏تأكيده‏ ‏لتفرده‏، ‏مع‏ ‏الإحتفاظ‏ ‏بسرية‏ ‏تبعيته‏، ‏سريتها‏ ‏عن‏ ‏نفسه‏ ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏وأصعب‏ ‏المواقف‏ ‏العلاجية‏، ‏وحين‏ ‏يجتازها‏ ‏المريض‏، ‏تتغير‏ ‏العلاقة‏ ‏العلاجية‏ ‏جذريا‏ ‏لصالحه‏. ‏

‏(‏ب‏) ‏نلاحظ‏ كذلك ‏فى ‏نفس‏ ‏المقتطف‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏وصف‏ ‏المرضى ‏الآخرين‏ ‏بأنهم‏ ‏مجموعة‏ ‏من‏ “‏العجـَـزة‏” ‏وهذا‏ ‏يحمل‏ ‏ما‏ ‏يحمله‏ ‏من‏ ‏إسقاط‏ ‏يبرر‏ ‏بعض‏ ‏أسباب‏ ‏رفضه‏ (‏الظاهرى) ‏للعلاج‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏دمغه‏ ‏إياهم‏ ‏بصفة‏ ‏مهينة‏ ‏أو‏ ‏سيئة‏ ‏وكأنه‏ ‏يقول‏: “إننى ‏إذا‏ ‏إستسلمت‏ ‏لك‏ أيها الطبيب، ‏فسوف‏ ‏أصير‏ ‏تابعا‏ ‏عاجزا‏ ‏مثلهم‏”. ‏

هذا‏ ‏الموقف‏ ‏العلاجى” ‏ثنائى ‏الوجدان‏”([14]) إنما‏ ‏يدل‏ ‏على ‏الصراع‏ ‏الخطير‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏التربية‏ ‏عموما‏ ‏وفى ‏مجال‏ ‏إعادة‏ ‏التربية‏ (‏العلاج‏) ‏خصوصا‏، ‏وهو‏ ‏موقف‏ ‏يعيشه‏ ‏الأصغر‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏حاجته‏ ‏للأكبر‏، ‏جنبا‏ ‏إلى ‏جنب‏ ‏مع‏ ‏حاجته‏ ‏للتخلص‏ ‏من‏ ‏وصايه‏ ‏هذا‏ ‏الأكبر‏، ‏ونلاحظ‏ ‏أن‏ ‏مريضنا‏ ‏وهو‏ ‏يعترف‏ ‏ضمنا‏ ‏أنه‏ “مثل‏ ‏سائر‏ ‏المرضى” (‏هؤلاء‏ ‏العجزة‏) ‏راح‏ ‏يستدرك‏ ‏وهو يلمح ‏إلى ‏أسباب‏ ‏أخرى ‏لم‏ ‏يذكرها‏ ‏أصلا‏.‏

‏(‏جـ‏) ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏حدد‏ ‏رفضه‏ ‏لطغيان‏ ‏المعالج‏ ‏خاصة‏ “وسط‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏” ‏ربما هو‏ ‏يقول بهذا‏: “‏ياليتك‏ ‏تطغى ‏فتحتوينى، ‏ولكن‏ ‏ليس‏ ‏أمام‏ ‏الناس‏، ‏ويا‏ ‏حبذا‏ ‏بدون‏ ‏علمى ‏شخصيا‏” – ‏لقد‏ ‏تصورت‏ ‏ذلك‏ ‏وهو‏ ‏يستعمل‏ ‏تعبير‏” ‏أنى ‏لا‏ ‏أتقبل‏ ‏فكرة‏ ‏أن‏ ‏تطغى ‏علىَ” ‏ولو‏ ‏صح‏ ‏استنتاجى ‏فهذا‏ ‏التعبير‏ ‏يختلف‏ ‏عن‏ ‏لو‏ ‏قال:‏” ‏إنى ‏أرفض‏ ‏أن‏ ‏تطغى ‏على” ‏على ‏أن‏ ‏ثم‏ ‏احتمالا‏ ‏آخر‏، ‏فقوله‏ “‏وسط‏ ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏” ‏قد‏ ‏يعنى ‏حاجته‏ ‏وحاجة‏ ‏كل‏ ‏مريض‏ ‏للشعور‏”‏بالخصوصية‏”، ‏والخصوصية‏ ‏لا‏ ‏تعنى ‏السرية‏ ‏هنا‏ ‏وانما‏ ‏تعنى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏له‏ ‏وضع‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏وعى ‏المعالج‏ ‏وأن‏ ‏يحظى ‏باهتمامه‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏بقية‏ ‏المرضى (‏بل‏ ‏و‏ ‏بقية‏ ‏الناس‏)، ‏وهذا‏ ‏حق‏ ‏كل‏ ‏مريض‏، ‏بل‏ ‏كل‏ ‏إنسان‏، ‏ولو‏ ‏كخطوة‏ ‏مبدئية([15])‏، وكأن‏ ‏مريضنا‏ ‏هنا‏ ‏يقول‏ ‏إنى” ‏مختلف‏”، أنا “‏لست‏ ‏رقما‏”، ‏ولهذا‏ ‏فلابد‏ ‏من‏ ‏وضع‏ ‏خاص‏ ‏يميزنى ‏عن‏ ” ‏هؤلاء‏ ‏الناس‏”([16]).‏

‏(‏د‏) ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏مريضنا‏ ‏قد‏ ‏صرح‏ ‏ضمنا‏ ‏أن‏ ‏قطع‏ ‏العلاج‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏خطأ‏، ‏لكنه‏ ‏جهز‏ ‏نفسه‏ ‏للأسوأ‏، ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏إنما‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏بوعى ‏كامل‏ ‏وعلى ‏مسئوليته‏ ‏مقابل‏ ‏ألا‏ ‏يدع‏ ‏المعالج‏ “يقمعه‏” ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏النتائج.‏

ثم‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏: ‏هو‏ ‏لم‏ ‏يخرج‏ ‏من‏ ‏القسم‏، ‏ولم‏ ‏يقطع‏ ‏علاجه‏، ‏وبعد‏ ‏ثلاثة‏ ‏أيام‏ ‏كتب‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ ‏الثانى، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يقدمه‏ ‏للطبيب‏ ‏المعالج‏ ‏مباشرة‏، ‏فلم‏ ‏يفتتحه‏ ‏بـ‏”عزيزى ‏الطبيب‏” ‏مثل‏ ‏الأول‏، ‏لكنه‏ ‏عنونه‏ ‏بعنوان‏ ‏فرعى، ‏وكأنه‏ ‏يذكر‏ ‏نفسه‏ ‏بما‏ ‏يريد‏ ‏أن‏ ‏يتساءل‏ ‏حوله‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏قد‏ ‏كتب‏ ‏هذا‏ ‏النص‏ ‏الثانى ‏بالقلم‏ ‏الرصاص‏ ‏كتابة‏ ‏باهتة‏، ‏وكأنه‏ ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏تحديد‏ ‏احتياجاته‏ ‏بإعلان‏ ‏محدد‏.‏

مناقشة‏ ‏المقتطف‏ ‏الثانى:‏

كُتب‏ هذا‏ ‏المقتطف‏ ‏الثانى ‏بعد‏ ‏الأول‏ ‏بثلاثة‏ ‏أيام‏ ‏فقط‏ (الثانى من أغسطس سنة 1960) ‏مما‏ ‏يرجح‏ ‏ما‏ ‏ذهبنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏إعلان‏ ‏الاحتجاج‏ ‏كان‏ ‏وسيلة‏ ‏طيبة‏ ‏لاستمرار‏ ‏العلاج‏ ‏وقبول‏ “‏حقه‏” ‏فى ‏إدراك‏، ‏وربما‏ ‏احتمال‏ ‏إرواء،‏ ‏احتياجاته الحقيقية، ‏وقد‏ ‏حوى ‏هذا‏ ‏المقتطف الثانى ‏معظم‏ ‏مشاكل‏ ‏هذه‏ ‏السن‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏أن‏ ‏كاتبه‏ ‏هو‏ ‏مريض‏ ‏فى ‏قسم‏ ‏داخلى ‏للأمراض‏ ‏النفسية‏، ‏وكذلك‏ ‏بغض‏ ‏النظر‏ ‏عن‏ ‏نوع‏ ‏مرضه‏، ‏وكأن‏ ‏المشاكل‏ ‏هى ‏هى ‏المشاكل‏ ‏فى ‏السواء‏ ‏والمرض‏، ‏مع‏ ‏تغير‏ ‏حدة‏ ‏الوعى ‏بها‏، ‏وطريقة‏ ‏مواجهتها‏، ‏وتصادم‏ ‏تفاصيلها‏..‏الخ‏. ‏إن هذا‏ ‏يجعلنا‏ ‏ننتبه‏ ‏الى ‏أن‏ ‏الموقف‏ ‏فى ‏المعالجة‏ ‏الطبية‏، ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يختلف‏ ‏جذريا‏ ‏عن‏ ‏الموقف‏ ‏فى ‏الندوات‏ ‏النصائحية‏، ‏وعنه‏ ‏فى ‏أبواب‏ ‏الصحف تحت‏ عنوان “عزيزى ‏المحرر‏..” ‏وما‏ ‏شابه‏، ‏فالمريض‏ ‏يقول‏ ‏نفس‏ ‏الكلام‏ ‏ويكرر‏ ‏نفس‏ ‏الشكوى ‏ويثير‏ ‏نفس‏ ‏القضايا‏ ‏لكنه‏ ‏يحتاج‏ ‏لتناول‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏بعد‏ ‏آخر‏، ‏والذى ‏يتصور‏ ‏أن‏ ‏الطبيب‏ ‏النفسى ‏هو‏ ‏ماسك‏ ‏مفاتيح‏ ‏إجابات‏ ‏لتساؤلات الشباب بالنصح والإرشاد‏ ‏هو‏ ‏مخطيء‏ ‏تماما‏‏، ‏والطبيب‏ ‏الذى ‏يستجيب‏ ‏لمرضاه‏ ‏بالوعظ المباشر‏ ‏يتنازل‏-‏ دون‏ ‏أن‏ ‏يدرى‏- ‏عن‏ ‏فن‏ ‏حرفته‏، ‏ويسطح‏ ‏جوهر‏ ‏علمه‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏لا‏ ” ‏يعالج‏” ‏مرضاه‏ ‏بالمعنى ‏الحقيقى ‏للعلاج‏.‏

ثم لاحظ أيضا أن الجزء الأخير من هذه التساؤلات، بما تحمل من إجابات، هو الشائع بين الناس، والإجابة بالإيجاب المسطح لاتفيد، وكأن المريض لا يسأل بقدر ما هو يشكك فى هذا المستوى التعويضى الدفاعى الشكلى.

ثم‏ ‏نتناول‏ ‏المقتطف‏ ‏بالتفصيل‏ ‏فنقول‏:‏

‏1- ‏إن‏ ‏شعور‏ ‏المريض‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏يتعبه‏ ‏هو‏ ‏أنه ‏”‏جد‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏اللازم‏، ‏وأن‏ ‏ذلك‏ ‏يفرض‏ ‏عليه‏ ‏الوحدة”‏، ‏هو‏ ‏شعور‏ ‏جاد‏ ‏وحقيقى، ‏والربط‏ ‏السببى ‏فيه‏ ‏مقبول‏، ‏لكن‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏مريضنا‏ ‏هذا‏ ‏قد‏ ‏بالغ‏ ‏فى “‏جديته‏”، ‏حين‏ ‏فرض‏ ‏على ‏نفسه‏ “‏جدية‏” ‏والدية‏ ‏من‏ ‏داخله‏، ‏وربما كانت‏ ‏هذه‏ ‏الجدية‏ ‏هى ‏التعويض‏ ‏المناسب‏ ‏لعكسها‏ (‏انطلاقاته‏ ‏الجنسية‏ ‏العفوية‏ ‏بلا‏ ‏شعور‏ ‏بالذنب‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏المراهقة‏)، ‏وقد‏ ‏أدت‏ ‏هذه‏ ‏الجدية‏ ‏إلى ‏كبت‏ ‏متزايد‏ ‏حتى ‏أُنهك‏ ‏ثم‏ ‏تعرض‏ ‏لتعرية‏ ‏احتياجه‏ ‏أمام‏ ‏تلك‏ ‏الزميلة‏ (‏الحبيبة‏/ ‏فى سنة‏ ‏أولى جامعة) ‏فراح يمارس‏ ‏معها‏ ‏مزيدا‏ ‏من‏ ‏الجدية‏ ‏النصائحية‏ ‏لدرجة‏ ‏جعلتها‏ ‏تنفر‏ ‏من‏ ‏وصايته‏ ‏الوالديه‏، ‏فتضاعفت‏ ‏وحدته‏ ‏وربط‏ ‏بين‏ ‏موقفه‏ ‏الجاد‏، ‏وبين‏ ‏وحدته‏ ‏القاسية‏ (‏وجوعه‏ ‏العاطفي‏: ‏بداهة‏).‏

‏2- ‏فإذا‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏الفقرة‏ ‏الثانية‏ ‏فى ‏المقتطف‏ ‏لاحظنا‏ ‏أن‏ ‏العنوان‏ ‏قد‏ ‏اتخذ‏ ‏شكلا‏ ‏معدَّلا‏، ‏فبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يعنونها‏ ‏بما‏ ‏يصف‏ ‏محتواها‏ ‏مباشرة‏ (‏مثل‏: ‏الحالة‏ ‏العاطفية‏ ‏أو‏ ‏الاحتياج‏ ‏العاطفى) ‏عنونها‏ ‏بـ‏”الدعم‏ ‏العاطفى” ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏يستأذن‏ (‏ويرجو‏) ‏أن‏ ‏ينصحه‏ ‏أحدهم‏ (‏المعالج‏ ‏أساسـا‏) ‏إن‏ ‏كان‏ ‏عليه‏ (‏ليخفف‏ ‏من‏ ‏جديته‏) ‏أن‏” ‏يدخل‏” ‏بعض‏ ‏الضوء‏، ‏بعض‏ ‏اللون‏….‏الخ‏، ‏وكأن‏ ‏جديته‏ ‏المفرطة‏ ‏قد‏ ‏مسخته‏ ‏فجعلته‏ ‏بلا‏ ‏لون‏، ‏أو‏ ‏ضوء‏، ‏ولكن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏ننتبه‏ ‏إلى ‏طريقة‏ ‏تساؤله‏ ‏هذه‏ ‏ومغزاها‏، ‏وكأنه‏ ‏قد‏ ‏نصب‏ ‏فكره‏ ‏القح‏ ‏وصيا‏ ‏وحارسا‏ ‏على ‏مخزن‏ ‏العواطف‏ ‏والتلوين‏!!، ‏وكأن‏ ‏المسألة‏ ‏آلية‏ ‏تدور‏ ‏بتحكم‏ ‏يدوى ‏هكذا‏: “يفتح‏ ‏بابا‏، ‏ليدخل‏” ‏بعض‏” ‏الضوء‏، ‏أو‏ ‏بعض‏ ‏اللون‏” (‏حسب‏ ‏التعليمات‏!!) .‏

هذا‏ ‏الموقف‏ ‏ينبه‏ ‏إلى ‏خطورة‏ ‏التمادى ‏فى ‏الاعتماد‏ ‏على ‏ما‏ ‏هو‏ “عقل‏ ‏وإرادة‏ ظاهرة” ‏حيث‏ ‏الشائع‏ ‏عند‏ ‏العامة‏ ‏والمدرسين‏ ‏والمحافظين‏ ‏أن‏ ‏الفكر‏ ‏المجرد‏ (‏العقل‏) ‏هو‏ ‏قائد‏ ‏المسيرة‏ ‏والمنظم‏ ‏لكافة‏ ‏جوانب‏ ‏الوجود‏، ‏فالانسان‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الخلل‏ ‏فى ‏توازن‏ ‏نواحى ‏نموه‏ ‏حين‏ ‏يبالغ‏ ‏فى ‏التعويض‏ ‏المعقلن‏ ‏دون‏ ‏الاهتمام‏ “بالانطلاق‏ ‏الخبراتى”، ‏وكأن‏ ‏هذا‏ ‏الشاب‏ ‏بإعلانه‏ ‏حاجته‏ ‏إلى ‏الدعم‏ ‏العاطفى ‏إنما‏ ‏يصرخ‏ ‏آملا‏ ‏فى ‏تكامل‏ ‏الوجود‏، ‏لكنه‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏بوصاية‏ ‏فكرية‏ ‏خائبة‏، ‏وكأنه‏ ‏يضيف‏ ‏قدرا‏ ‏معلوما‏ ‏من‏ “‏الزيت‏” ‏الى “موتور‏” ‏وجوده‏ ‏بحسبة‏ ‏معقلنة‏ ‏جافة‏، ‏والعلاج‏ (‏والتربية‏) ‏يتطلب‏ ‏ألا‏ ‏نخدع‏ ‏بهذه‏ ‏النوايا‏ ‏الحسنة‏، ‏والاستغاثات‏ ‏المشروطه‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يتطلب‏ ‏أن‏ ‏نحقق‏ ‏لطالبها‏ ‏حقه‏ ‏فى ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏، ‏ولكن‏ ‏من‏ ‏مدخل‏ ‏آخر‏، ‏وبأسلوب‏ ‏آخر‏، ‏فقد‏ ‏يلزم‏ ‏الأمر‏ ‏أن‏ ‏نعطيه‏ – ‏رغما‏ ‏عنه‏، ‏ومن‏ ‏خلف‏ ‏وعيه‏ ‏الظاهر‏ ‏ما‏ ‏طلبه‏ ‏بمحض‏ ‏اختياره‏، ‏وهذه‏ ‏معادلة‏ ‏علاجية‏ ‏صعبة‏، ‏لكنها‏ ‏لازمة‏، ‏حتى ‏لا‏ ‏يبادر‏ “‏بحرق‏” ‏حقه‏ ‏بألاعيب‏ ‏وصايته‏ ‏على ‏مسيرة‏ ‏العلاج‏: ‏بالمسخ‏ ‏أو‏ ‏المحو‏ ‏أو‏ ‏التشكيك‏.‏

‏3- ‏ننتقل‏ ‏لما‏ ‏جاء‏ ‏بالمقتطف‏ ‏فى ‏الفقرة‏ ‏الجنسية‏: ‏فقد‏ ‏وضع‏ ‏هذا‏ ‏المريض‏ ‏الأمر‏ ‏فى ‏يدى ‏المعالج‏ ‏من‏ ‏جديد‏، ‏وكأنه‏ ‏سيقبل‏ ‏نصيحته‏ ‏لينفذها‏ ‏بقرار‏ ‏محدد‏ ‏بالضغط‏ ‏على “زر‏” ‏التحكم‏ ‏المعقلن‏!!.‏ فهو‏ ‏يتساءل‏ ‏إبتداء‏ ‏هل‏ ‏يستمر‏ “هكذا‏” (‏باردا‏، ‏جافا، عاطفيا وجنسيا‏!!).

4- ثم ها هو يتساءل فى الفقرة التالية مباشرة: “إن كان‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ “‏يتغير‏”‏، ‏فإلى ‏أين‏‏؟‏ ‏وهو‏ ‏يشترط ‏- ‏ضمنا‏- ‏وفى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏ (‏وبين‏ ‏قوسين‏) ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏التغيير‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏ينساق‏ ‏وراء‏ ‏غرائزه‏ ‏ليتحول‏ ‏إلى” ‏وحش‏”، ‏فيذكرنا‏ ‏ذلك‏ ‏بفترة‏ ‏مراهقته‏ ‏الباكرة‏ ‏وما‏ ‏صاحبها‏ ‏من‏ ‏إفراط‏ ‏جنسى ‏من‏ ‏كل‏ ‏نوع‏ ‏ولون‏ ‏بلا‏ ‏أدنى ‏تردد‏، ‏فنعود‏ ‏نتساءل‏ ‏عن‏ ‏جدوى ‏هذه‏ ‏الممارسة‏ ‏المفرطة‏ ‏والمبالغ‏ ‏فيها‏، ‏وهل‏ ‏إطلاق‏ ‏الغريزة‏” ‏هكذا‏” ‏منذ‏ ‏بدء‏ ‏نشاطها‏ ‏هو‏ “‏الطبيعى” (‏لو‏ ‏كان‏ ‏ممكنا‏!!)‏؟‏، ‏وهل‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏تم‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ “‏بسماح‏ ‏ما‏” (‏فى ‏مجتمعات‏ ‏أكثر‏ ‏حرية‏ ‏مثلا‏) ‏هل‏ ‏كان‏ ‏يعنى ‏أننا‏ ‏نقترب‏ ‏من‏ ‏الحل‏ ‏المناسب؟‏ ‏أم‏ ‏أن‏ ‏الأمر كان‏ ‏سيتمادى ‏بلا‏ ‏رادع‏ ‏أصلا؟‏، ‏وهل‏ ‏إجابات‏ ‏هذه‏ ‏الأسئلة‏ ‏هى ‏قضايا‏ ‏أوسع‏ ‏من‏ ‏التعليق‏ ‏عليها‏ ‏هنا‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الفقرة‏، ‏فنكتفى ‏بأن‏ ‏ننبه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏تناقض‏ ‏الانطلاقة‏ ‏المراهقية‏ ‏العفوية‏، ‏مع‏ ‏قهر‏ ‏الوالد‏ ‏الداخلى ‏الذى ‏راح‏ ‏يصور‏ ‏الأمر‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏احترام‏ ‏الذات‏ ‏والحفاظ‏ ‏على ‏الكرامة‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يفسر‏ ‏ما‏ ‏آل‏ ‏اليه‏ ‏صاحبنا‏ “‏هكذا‏” .‏

5- أما‏ ‏الفقرة‏ ‏الأخيرة‏ ‏فى ‏المقتطف ‏فقد‏ ‏عرضت‏ ‏لنا‏ ‏الحلول‏ ‏الشائعة‏ ‏لمسألة‏ ‏تناول‏ ‏الغريزة‏ ‏الجنسية‏ ‏قبل‏ ‏الزواج‏، ‏فتناولت‏: ‏التسامى، ‏والإعلاء‏، ‏والإبدال ‏.. ‏وهى ‏حلول‏ ‏تصدر‏ ‏عادة‏ ‏من‏ ‏رجال‏ ‏الدين‏ ‏والمدرسين‏ (‏الأوائل!!‏)، ‏وعلى ‏الطبيب‏ ‏أن‏ ‏يحذر‏ ‏من‏ ‏الاستسهال‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الاتجاه‏، ‏لأن‏ ‏عليه‏ – ‏مرة‏ ‏ثانية‏- ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏طبيبا‏، ‏ولكن‏ ‏كيف؟‏ ‏فاذا‏ ‏كانت‏ ‏الغريزة‏ ‏وحشا‏، ‏والجفاف‏ ‏موتا‏، ‏والتسامى ‏اختباء‏، ‏والنصيحة‏ ‏تسطيحا‏، ‏فماذا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يقدم‏ ‏الطبيب؟ يمكن أن يقدم مواكبة الطبيعة فى نبضها الخبراتى، وليس مجرد النصح والقمع والإرشاد، بالسماح والمشاركة فى الحيرة والحفاظ على المساحة المرنة والمواكبة، ولكل هذا تفصيل لا يسمح به المقام الآن؟

ثم‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الشاب‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يسأل‏ ‏هذا‏ ‏السؤال‏ ‏قد‏ ‏حاول‏ ‏بنفسه‏ ‏طرق‏ ‏باب‏ ‏كل‏ ‏الحلول‏ ‏التى ‏عاد‏ ‏يتساءل‏ ‏عنها‏، ‏فهو‏ ‏قد‏ ‏لعب‏ ‏الرياضة‏ ‏العنيفة‏ (‏وكان‏ ‏يبدو‏ ‏فى ‏المستشفى ‏شديد‏ ‏المراس‏، ‏عضلى ‏التكوين‏ ‏مثل أبطال ‏كمال‏ ‏الأجسام‏ ‏أو‏ ‏رفع‏ ‏الأثقال‏) ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏ظل‏ ‏نفس‏ ‏التساؤل‏ ‏يلح‏ عليه ‏بنفس‏ ‏الشدة‏، ‏وقد‏ ‏راح‏ ‏مختار‏ ‏يشرح‏ (‏فى ‏المقتطف‏) ‏كيفية‏ ‏عمل‏ ‏هذه‏ ‏الوسائل‏ ‏بأنها‏ “‏تنهك‏ ‏الجسد‏ ‏وتتسامى ‏بالروح‏ ‏والعقل‏” ، ‏ولكن‏ ‏واقع‏ ‏الحال‏ ‏يقول‏ ‏إنها‏ ‏فشلت‏ ‏فى حالته‏، ‏فانهار‏ ‏تحت‏ ‏أول‏ ‏ضربة‏ “هجر‏” ‏من‏ ‏حبيبة‏ ‏لم‏ ‏تحتمل‏ “والديته‏”. ‏ثم‏ ‏إنه‏ ‏عاد‏ ‏يمارس‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏النشاط‏ ‏الرياضى ‏العنيف‏ ‏فى ‏القسم‏ ‏الداخلى، ‏ولم‏ ‏يساعده‏ ‏ذلك مباشرة‏ ‏على ‏قدر‏ ‏تقديرنا ‏”فى ‏مسيرة‏ ‏علاجه‏، ‏ولم‏ ‏يوقف‏ ‏تساؤلاته‏ ‏حول‏ ‏ذات‏ ‏الموضوع” ‏فهو‏ ‏إذن‏ ‏ظل‏ ‏يتساءل‏ (‏الفقرة‏ ‏الثالثة‏) ‏هل‏ ‏يستمر‏ ‏هكذا؟‏ (‏برغم ما آل‏ ‏اليه‏ ‏من‏ ‏جفاف‏، ‏ورتابة‏، ‏وحرج‏)‏؟‏ ‏وبديهى‏ ‏أن‏ “هكذا‏” ‏هذه‏ ‏كانت‏ ‏تشمل‏ ‏هذه‏ ‏الممارسات‏ ‏العنيفة‏ ‏الفاشلة‏.‏

أنا‏ ‏بذلك‏ ‏لا‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أضرب‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ “الإعلاء‏”، ‏لكنى ‏أنبه‏ ‏أنه‏ ‏إن‏ ‏جاز‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الإعلاء‏ ‏نافعا‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏نصح‏ ‏دينى، ‏أو‏ ‏مهرب‏ ‏تربوى ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يجوز‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هو‏ ‏العلاج‏ ‏الطبى ‏بنفس‏ ‏اللهجة‏ ‏الإرشادية‏‏، ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏المريض‏ ‏قد‏ ‏أتى ‏يستشير‏ ‏الطبيب‏ ‏بعد‏ ‏ما‏ ‏حاوله‏ ‏شخصيا‏ ‏وفشل‏ ‏من‏ ‏قبل‏.‏

قضية‏ ‏الطبيب‏ ‏ليست الأساسية‏ ‏فى ‏كيفية‏ ‏الإجابة‏ ‏عن‏ ‏هذه‏ ‏التساؤلات‏، ‏ولكن‏ ‏فى ‏معرفة‏ ‏مغزى ‏ظهورها‏ “‏الآن‏”، “‏هكذا‏”، “بعد‏ ‏ماذا‏”، “‏وإلى ‏أين‏”، …‏الخ‏. وفى ‏مثل‏ ‏حالة‏ ‏مختار‏، ‏كان‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نركز‏ ‏على “مأزق‏ ‏النمو‏” ‏إذ‏ ‏نحاول‏ ‏كسر‏ ‏وحدته‏ “بحضورنا‏” ‏فى ‏وعيه‏، ‏وبالتالى ‏فى ‏متناول‏ ‏ألمه‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نكسر تفرد‏ ‏ذاته‏ ‏باقتحام‏ ‏مباشر‏، ‏ودون‏ ‏أن‏ ‏نسطح‏ ‏عمق‏ ‏خبرته‏ ‏بإجابات مسطحة ‏مضروبة‏ ‏قبل‏ ‏ظهور‏ ‏السؤال‏ ‏أصلا‏.‏

تعقيب‏ ‏عام‏ ‏على ‏مختار:

عند‏ ‏هذه‏ ‏الوقفة‏ ‏الواجبة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نحاول‏ ‏تحديد‏ ‏بعض‏ ‏معالم‏ ‏حالة‏ ‏مختار ‏بالمقارنة‏ ‏بتوأميه‏ ‏فيما‏ ‏ذكرنا‏ ‏وما‏ ‏لم‏ ‏نذكر‏، وقد اشترك الثلاثة في ما حملوا من جينات، وفيما نشأوا فيه من قيم وعلاقات أسرية.

‏فنلاحظ:‏

‏1- ‏كيف‏ ‏كان‏ ‏مختار ‏نقيض‏ ‏أخويه‏، ‏وخاصة‏ ‏فهمى، ‏من‏ ‏حيث‏ ‏فرط‏ ‏تماسكه‏ (‏تماسك‏ ‏مختار‏)، ‏وتنامى ‏كرامته‏، ‏وقدرته‏ ‏على ‏القيادة‏ ‏والتحدى ‏والمثابرة‏، أى ‏كيف‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يتناثر‏، (‏لم‏ ‏يتفسخ‏، ‏لم‏ ‏ينفصم‏) ‏رغم‏ ‏فداحة‏ ‏ضغوط‏ ‏داخله‏، بل إن تماسكه بدا إيجابيا وفائق الصلابة.

‏2- ‏كيف‏ ‏تناقض‏ ‏تاريخه‏ ‏الجنسى ‏فى ‏المراهقة‏ ‏الباكرة‏ ‏مع‏ ‏موقفه‏ ‏التعويضى ‏والرومانسى ‏فى ‏تجربته‏ ‏العاطفية‏ ‏المتأخرة‏.‏

‏3- ‏كيف‏ ‏كان‏ ‏الاكتئاب‏ ‏قابعا‏ ‏فى ‏أرضية‏ ‏وعيه‏ ‏معظم‏ ‏الوقت‏، ‏رغم‏ ‏وفرة‏ ‏النشاط‏ ‏وغلبة‏ ‏مظاهر‏ ‏العظمة‏، ‏والاعتداد‏ ‏بالقوة‏ ‏وتمادى ‏السيطرة‏ ‏الظاهرة‏.‏

‏4- هذا ويمكن إضافة أننا‏ ‏اذا‏ ‏وضعنا‏ ‏متدرجا‏ ‏بين‏ ‏التفكك‏ ‏والتماسك‏، ‏بين‏ ‏التناثر‏ ‏الفصامى ‏واللم‏ ‏الانفعالى، ‏بين‏ ‏تشخيص‏ ‏الفصام‏ ‏وتشخيص‏ ‏الاضطرابات‏ ‏الجسيمة‏ ‏للوجدان‏، ‏لوجدنا‏:‏

* ان‏ ‏هذا‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏يقع‏ ‏- سلوكيا- على ‏أقصى ‏طرف‏ ‏الهوس‏ ‏فى ‏أرضية‏ ‏اكتئابية‏، ‏كنوع‏ ‏صريح‏ ‏من‏ ‏الاضطراب‏ ‏الوجدانى ‏الجسيم‏.‏

* فى ‏حين‏ ‏يقع‏ ‏التوأم‏ ‏الأول‏” ‏فهمى‏” ‏على ‏أقصى ‏طرف‏ ‏الفصام‏ (‏التناثر‏) ‏كنوع‏ ‏صريح‏ ‏من‏ ‏التفسخ‏ ‏الفصامى ‏الخطير مع معالم التوجه إلى مآل سلبى‏.‏

* ثم‏ ‏نجد‏ ‏فتحى ‏يقع‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏هذين‏ ‏الطرفين‏ ‏حسب‏ ‏كل‏ ‏نوبة‏ ‏من‏ ‏نوبات‏ ‏مرضه‏.‏

‏5- ‏‏مختار ‏استطاع أن يلم‏ ‏نفسه‏ ‏ضد‏ ‏الفصام‏، فامتلك‏ ‏ناصية‏ ‏لغة‏ ‏متماسكة‏ ‏حتى ‏بدا‏ ‏عكس‏ ‏اضطرابات‏ ‏اللغة‏ ‏فى ‏الفصام‏ ‏تماما‏.‏

تعقيب عام…

‏يُظهر‏ ‏لنا‏ ‏موقف مختار‏ ‏من‏ ‏العلاج‏ ‏ضرورة‏ ‏الاهتمام‏ ‏بكلية‏ ‏الموقف‏ ‏العلاجى، ‏وضرورة‏ ‏الانصات‏ ‏لكل‏ ‏قنوات‏ ‏الحديث‏ ‏وليس‏ ‏الاقتصار‏ ‏على ‏الإعلان‏ ‏اللفظى، ‏فقد‏ ‏سهل‏ ‏احتجاج‏ ‏مختار ‏بما‏ ‏كتب‏ ‏من‏ ‏كلمات‏، ‏سهل‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نحسن‏ ‏الانصات‏ ‏له‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏لم‏ ‏نستجب‏ ‏إلى ‏مطالبه‏ ‏لأسباب‏ ‏علاجية‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏راح‏ ‏‏مختار يواصل ‏المشروع‏ ‏العلاجى ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏أعمق‏ (برغم الشك فى قدرته على إكماله وحده).

عن‏ ‏المتابعة‏ ‏اللاحقة‏:‏

لم‏ ‏نحصل‏ ‏على ‏أى ‏أوراق‏ ‏لمختار ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏بطريقة‏ ‏مباشرة‏، ‏فاكتفينا‏ ‏بالمعلومات‏ ‏التى ‏استقيناها‏ ‏من‏ ‏أوراق‏ ‏أخيه‏ ‏التوأم‏ ‏الأول‏ ‏فهمى‏، ‏ثم‏ ‏أخيه‏ ‏الأصغر‏ ‏وائل‏، ‏فعلمنا‏ ‏أنه‏ ‏تخرج‏ ‏من‏ ‏كلية‏ ‏الآداب‏ ‏دون‏ ‏تعثر‏ ‏دراسى، ‏وأنه‏ ‏عمل‏ ‏فورا‏ ‏واستمر‏ ‏فى ‏عمله‏، ‏ثم‏ ‏سافر‏ ‏للعمل‏ ‏بإحدى ‏البلاد‏ ‏العربية‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تزوج‏، ‏وقد‏ ‏عاودته‏ ‏النوبة‏ ‏تلو‏ ‏النوبة‏، ‏وبدا‏ ‏أن‏ ‏أغلبها‏ “‏هوسى” ‏أيضا‏ ‏فكانت‏ ‏جميعها‏ ‏تشفى ‏دون‏ ‏إعاقة‏ ‏باقية‏ ‏وقد‏ ‏وصلت‏ ‏حدتها‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏خطيرة‏ ‏مرتين‏ (‏على ‏الأقل‏) ‏وقد‏ ‏استنتجنا‏ ‏درجة‏ ‏الحدة‏ ‏هذه‏ ‏من‏ ‏دخوله‏ ‏مستشفى ‏الأمراض‏ ‏العقلية‏ ‏بالعباسية‏ ‏مرة‏، ‏ومستشفى ‏الخانكة‏ ‏مرة‏ ‏أخرى‏، ‏لكنه‏ ‏عاود‏ ‏حياته‏ ‏مع‏ ‏تكيف‏ ‏متوسط‏ ‏لا‏ ‏يخلو‏ ‏من‏ ‏صدامات‏ ‏فى ‏العمل‏، ‏وسخط‏ ‏عام‏، ‏وتوتر‏ ‏زواجى، ‏ولم‏ ‏ينم‏ ‏إلى ‏علمنا‏ ‏ما‏ ‏توقعناه‏ ‏له‏ ‏من‏ ‏تفوق‏ ‏ما‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏مجالات‏ ‏الإبداع‏ ‏أو‏ ‏الرياضة‏ ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏واصل‏ ‏حياته‏ ‏بكفاءة‏ ‏واستقلال‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏التقليل‏ ‏من‏ ‏دلالتهما‏.‏

[1] – هل هناك حاجة لتكرار أن هذا ليس اسمه الحقيقى؟

[2] – كان‏ ‏قسم‏ ‏الامراض‏ ‏النفسية‏ ‏سنة‏ 1960 ‏(وما‏ ‏حولها‏)، ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏عدة‏ ‏أسرة‏ ‏محدودة‏ (12 ‏سريرا‏ 8 ‏رجال‏ ‏ثم‏ 4 ‏حريم‏) ‏يقع‏ ‏فى ‏الدور‏ ‏الرابع‏ ‏مما كان‏ ‏يسمى ‏القصر‏ ‏العينى ‏الجديد‏، ‏وهو‏ ‏أصلا‏ ‏قسم‏ ” ‏للملاحظة” ‏وليس‏ ‏للعلاج‏، ‏وكانت‏ ‏تمارس‏ ‏فيه‏ ‏علاجات‏ ‏عميقة‏ ‏مثل‏ ‏غيبولة‏ ‏الأنسولين‏، ‏وقد‏ ‏مثل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأخوة‏ ‏الثلاثة‏ ‏ما‏ ‏يقارب‏ ‏نصف‏ ‏النزلاء‏ ‏حينذاك‏. ‏

[3] – ‏لاحظ‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الكلام‏ ‏كان‏ ‏سنة‏ 1960.

[4] – هذه بعد إرهاصات ما انتهيت إليه فى مجال النفسمراضية منذ 1979 وحتى الآن.

[5] – Intrapsychic father

[6] – ” ‏الواحدية” Oneness ‏هى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏الانسان‏ ‏الفرد” ‏واحدا” ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏أى ‏أن‏ ‏تتجمع‏ ‏ذواته‏ ‏فى لحظة بذاتها فى “‏واحد‏ ‏صحيح” ‏تحت‏ ‏توجيه‏ ‏الذات‏ ‏الأكثر‏ ‏سيطرة‏ ‏على”‏من” ‏سواها‏ (‏من‏ ‏ذوات‏ ‏داخلية‏)، ‏وتتحدد‏ ‏الذات‏ ‏المسيطرة” ‏بالموقف” ‏و” ‏المثير” ‏و”التوجه” ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏والاستهداف‏ ‏لخلخلة‏ ‏هذه‏ ‏الواحدية‏ التى أسميناها: “التعتعة”  ‏(“دراسة‏  ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى” سنة 1979)  ‏يحدث‏ ‏فى ‏بداية‏ ‏الاكتئاب‏. ‏أو عموما فى بدايات المرحلة التفكيكية المفترقية – ‏أما‏ ‏مرحلة‏ ‏فقد‏ ‏الواحدية‏ ‏فهى ‏التفكك‏ ‏والتعدد‏ ‏والتناثر‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏متأخرة‏  ‏من‏ ‏تطور‏ ‏مرض‏ ‏الفصام‏ ‏مثلما‏ ‏حدث‏ ‏مع‏ ‏الإخوة‏ ‏الثلاثة‏ ‏الآخرين‏.‏

[7] – على أساس الفرض الأساسى للمؤلف أن معظم (أو كل) الأمراض النفسية، وخاصة الهوس والاكتئاب هى بمثابات دفاعات مرضية ضد مرض أخطر هو التفسخ الفصامى” المنِذر بالتدهور العدمى.

[8] – Mania

[9] – يعتبر الهوس من منظور دينامى نوعا من “إنكار” الاكتئاب وقد تظهر أعراض الاثنين معا بالتناوب أو بالتداخل.

[10]– نحتّ‏ ‏لفظ” ‏الجدلغة” ‏ليقابل‏ ‏عرضا‏ ‏يسمى Neologism ‏ كنا‏ ‏نسميه‏ ‏اللغة‏ ‏الجديدة‏، ‏ونعنى ‏به‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏يصدر‏ ‏أصواتا‏ ‏رطانية‏ ‏خاصة‏، ‏وكأنه‏ ‏اخترع‏ ‏لغة‏ ‏خاصة‏ ‏له‏- ‏ليس‏ ‏لها‏ ‏أصلا‏ ‏ولا‏ ‏يفهمها‏ ‏الا‏ ‏هو‏، ‏وحتى ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يصدرها‏ ‏هى ‏هى ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يسميه‏ ‏العامة‏ ‏أحيانا‏ ‏عند‏ ‏الانجذاب فى ملفات ‏الذكر” ‏يضرب‏ ‏بالسريانى” -‏وقد‏ ‏رفضت‏ ‏التسمية‏ ‏القديمة‏ (‏لغة‏ ‏جديدة‏)  ‏لما‏ ‏تحمله‏ ‏من‏ ‏مظنة‏ ‏إيجابية‏ ‏لا‏ ‏نلقاها‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏الشعر‏ ‏الجيد، لكن اللغة التى استعملها مختار هنا هى لغة بليغة وراقية وصحيحة، وفى نفس الوقت هى بعيدة عن التداول العام (مثل الجدلغة توظيفاً)‏.‏

[11]– كان‏ ‏عندى ‏مريض‏ ‏مصاب‏ ‏بالتهتهه‏، ‏كان‏ ‏يعانى ‏منها‏ ‏بنسبة‏ ‏مطلقة‏ (‏حوالى 100%) ‏أمام‏ ‏والده‏، ‏وحوالى 90% ‏أمام‏ ‏من‏ ‏هم‏ ‏فى ‏مرتبة‏ ‏والده، ‏ثم‏ ‏تقل‏ ‏الى 70% ‏أمام‏ ‏أقرانه‏ ‏وتقل‏ ‏الى 20% ‏باللغة‏ ‏الإنجليزية‏، ‏فذهب وقرر أن ‏يتعلم‏ ‏الألمانية‏ ‏فلم‏ ‏يكن‏ ‏يتهته‏ ‏فيها‏ ‏ولا‏ ‏كلمة‏ ‏واحدة‏، ‏فرجحِت أنه‏ ‏كلما‏ ‏ضاقت‏ ‏دائرة‏ ‏الاتصال‏ ‏بين‏ ‏الفرد‏ ‏والآخر‏، ‏وكلما‏ ‏قل‏ ‏الخوف‏ ‏من‏ ‏السلطة‏، ‏قل‏ ‏عرض‏ ‏التهتهة‏ ‏نتيجة‏ ‏لعدم‏ ‏التهديد‏ ‏بالحكم‏ ‏من‏ ‏أعلى‏.‏

[12] – (‏لاحظ‏ ‏كلمة‏ Resume ‏ التى ‏إخترت‏ ‏أن‏ ‏أترجمها‏ ‏” ‏يستأنف‏” وليس “يعاود”)

[13] – بدلا من أن يعلن حماسه وترحيبه بالعلاج، ويمارس مقاومة وتوقفا بلا حدود.

[14] – ambivalent

[15] – برغم أن هذا الشعور حق لأى مريض إلا أن ذلك لايعنى أن يميز المعالج أى مريض عن آخر –  ويتأكد هذا خاصة فى خبرة العلاج الجمعى – إلا بقدر ما تتميز به حالته بما تسمح به فرص التعاقد الظاهر والخفى، ومساحة الحركة بينهما.

[16] – كثيرا‏ ‏ما‏ ‏يطلب‏ ‏بعض‏ ‏مرضاى ‏فى ‏العيادة‏ ‏الخاصة‏ ‏أن‏ ‏يتأخر‏ ‏دورهم‏ ‏ليكونوا‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏يدخل‏ ‏للطبيب‏ (‏لأن‏ ‏له‏ ‏وضع‏ ‏خاص‏، ‏أو‏ ‏لأنه‏ ‏يريد‏ ‏إنتباها‏ ‏خاصا‏ …‏الخ‏) – ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏يفترق‏ ‏هذا‏ ‏المريض‏ ‏عن‏ ‏غيره‏ – ‏لا‏ ‏فى ‏التشخيص‏ ‏ولا‏ ‏فى ‏غير‏ ‏ذلك‏، ‏فإذا‏ ‏نـُبـِّـه‏ ‏الى ‏ذلك‏ ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏سبقه‏ ‏هم‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏حاجته‏ ‏وخصوصيته‏ ‏لم‏ ‏يتقبل‏ ‏الأمر‏ ‏أصلا‏.‏

الفصل الخامس وائل

الفصل الخامس وائل

الفصل‏ ‏الخامس‏

وائـل

ما‏زلت‏ ‏أذكره‏ ‏حين‏ ‏رأيته‏ ‏فى ‏قصر‏ ‏العينى، ‏فى ‏أواخر‏ ‏سنة‏ 1959،  كنت طبيبا مقيما، ‏كان‏ ‏طفلا‏ ‏جميلا ‏- ‏حول‏ ‏الثامنة‏- ‏حضر‏ ‏مع‏ ‏أمه‏ ‏وأخته‏ ‏لزيارة‏ ‏أخويه المريضين‏، ‏كان مليئا‏ ‏بالنشاط‏ ‏والحياة‏، ‏يلعب‏ ‏فى” ‏الطرقة”  ‏فى ‏القسم‏ ‏الداخلى، ‏ويشاكس‏ ‏هيئة‏ ‏التمريض‏، ‏ويحبه‏ ‏الجميع‏ ‏دون‏ ‏استثناء‏، ‏ولست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏لم‏ ‏يخطر‏ ‏على ‏بالى ‏حينذاك‏، ‏ورغم‏ ‏ثقل‏ ‏التاريخ‏ ‏الأسرى ‏والاستعداد‏ ‏الوراثى، ‏لم‏ ‏يخطر‏ ‏على ‏بالى ‏ان‏ ‏هذا‏ ‏الطفل‏ ‏الجميل سيمرض‏ (‏مثل‏ ‏إخوته)‏ ‏يوما‏ ‏ما  – ‏حتى ‏أنى ‏فوجئت‏ ‏حين‏ ‏أبلغونى ‏- ‏صدفة‏ – (‏سنة‏ 1980 وقد أصبحت أستاذاً قديماً)  ‏إنه‏ ‏بالقسم‏ ‏الداخلى([1])  ‏كانت‏ ‏مفاجأة‏ ‏حزينة‏ ‏قابضة‏. ‏حين‏ ‏رأيته‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏هو‏ أبداً، ‏‏لم‏ ‏أتبين‏ ‏فيه‏ ‏أى ‏ملمح‏ ‏مما‏ ‏كنت‏ ‏أعرفه‏ ‏عنه‏، ‏أو‏ ‏كنت‏ ‏أتوقعه‏ ‏منه‏،‏ ‏كنت‏ ‏أحسب‏ ‏أنه ‏‏على ‏أسوأ‏ ‏الاحتمالات‏،‏ ‏قد‏ ‏يصاب‏ بنوع‏ ‏من‏ ‏الاضطرابات‏ ‏الوجدانية‏ ‏الجسيمة‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏أخيه‏ ‏الأكبر‏ ‏مختار‏، ‏لكنه‏ ‏كان” ‏شيئا”  ‏آخر‏.‏

حين‏ ‏رأيته‏ ‏بالقسم سنة 1980‏ ‏كان‏ ‏جسدا‏  ‏كبيرا‏، ‏ربما‏ ‏أطول‏ ‏من‏ ‏إخوته‏ ‏بقدر ما‏ ‏أتذكرهم‏، ‏أو‏ ‏ربما‏ ‏تصورت‏ ‏ذلك‏ ‏لأنى ‏لم‏ ‏أتصور‏ ‏أن‏  ‏طفل‏ ‏الثامنة‏ النشيط ‏المرح‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏بهذا‏ ‏الهيكل‏ ‏الجسيم‏، فى الثامنة والعشرين من عمره ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏تركيبه‏ ‏البدنى ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏عضلى ‏التكوين‏ ‏مثل‏ ‏أخيه‏ ‏الأكبر‏ ‏مختار ‏أو‏ ‏حتى ‏دائرى ‏التكوين‏ ‏مثل‏ ‏أبيه‏ ‏بل‏ ‏كان‏ ‏تركيبا‏ ‏خليطا‏ ‏يتقدمه‏ ‏كرش – برغم طوله –  ‏مترهل،‏ ‏وتسرى ‏فيه‏ ‏رخاوة‏ ‏عامة‏، ‏فلم‏ ‏أطل‏ ‏الوقوف‏ ‏معه‏-‏ألما‏ ‏وعجزا‏- ‏ورحت‏ ‏أراجع‏ ‏أوراقه‏ ‏وأنا‏ ‏فى ‏حال‏.‏

قرأت‏ فى أوراقه ‏ما يلى‏:‏

مرِض “‏وائل”  (‏أو‏ ‏أعلن‏ ‏مرضه‏)  ‏عقب‏ ‏وفاة‏ ‏والده‏ ‏منذ‏ 12 ‏سنة‏ (‏أى 1968 المشاهدة‏ ‏سنة‏ 1980)  ‏كان‏ ‏عمره‏ ‏حوالى 18 ‏سنة‏، ‏ولم‏ ‏تعاوده‏ ‏النوبات‏ ‏فى ‏دورات‏ ‏متكاملة‏ ‏متبادلة‏ ‏مع‏ ‏فترات‏ ‏سلامة‏ ‏واضحة‏، ‏لكن‏ ‏مسار‏ ‏المرض‏ ‏أخذ‏ ‏شكلا‏ ‏متغيرا‏ ‏فلم‏ ‏يكن‏ ‏سليما‏ ‏تماما‏ ‏بين‏ ‏النوبات‏، ‏وتراوحت‏ ‏نوباته‏ ‏بين‏ ‏التفكك‏ ‏المتوسط‏، ‏والتفسخ‏ ‏الجسيم‏، ‏والتنشيط‏ ‏الوجدانى، ‏والتهيج‏ ‏الحركى، ‏ثم‏ ‏أنى ‏لم‏ ‏أستطع الحصول على‏ ‏تواريخ‏ ‏دخوله‏ ‏المستشفيات‏ ‏تحديدا‏، ‏لكن‏ ‏الثابت‏ ‏ ‏أنه‏ ‏دخل‏ ‏مستشفى ‏قصر‏ ‏العينى ‏ثلاث‏ ‏مرات‏ ‏والعباسية‏ ‏ثلاث‏ ‏مرات‏،  ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏النوبة‏ ‏الأخيرة‏ التى أكتب منها حالا (‏سنة‏ 1980- ‏قصر‏ ‏العينى‏ -) ‏لكن ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏لم‏ ‏يَحُلْ دون‏ ‏أن‏ ‏يكمل‏ ‏دراسته‏ ‏حتى ‏نهاية‏ ‏معهد‏ ‏فوق‏ ‏المتوسط‏ ‏للفنادق‏، ‏كما‏ ‏لم‏ ‏يَحُلْ‏ ‏بينه وبين‏ ‏أن‏ ‏يعمل‏ ‏بانتظام‏ ‏نسبى مع‏ ‏بعض‏ ‏المضاعفات‏ ‏المؤقتة‏، ‏والمصادمات‏ ‏المتكررة‏ ‏وخاصة‏ ‏وأن‏ ‏عمله‏ ‏كان‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏انضباط‏ ‏وعلاقات‏ ‏معا‏ (‏كابتن‏ ‏فى ‏فندق‏) .‏

كانت‏ ‏شكواه‏ ‏يغلب‏ ‏عليها‏ ‏أعراض‏ ‏الهلاوس‏ ‏والضلالات‏، ‏فوق‏ ‏أرضية‏ ‏من‏ ‏التفكك‏ ‏المنسحب‏:‏

‏- ” ‏ساعات‏ ‏يجيلى ‏تهيؤات‏، ‏أصوات‏ ‏تكلمنى، ‏تشتمنى ‏يا‏ ‏كلب‏، ‏أو‏ ‏تتكلم‏ ‏مع‏ ‏بعضها‏ ‏فى ‏حقى”

– ” ‏مش‏ ‏موفق‏ ‏فى ‏العمل‏، وما‏ ‏باشتغلش‏ ‏بالمستوى ‏بتاع‏ ‏زمان”.

– ” ‏أحيانا‏ ‏لما‏ ‏أقعد، ‏ ‏فى ‏حته‏ ‏فيها‏ ‏ناس‏ ‏يكونوا‏ ‏بيتكلموا‏ ‏أحس‏ ‏إنهم‏ ‏بيتكلموا علىّ، ‏وان‏ ‏فيه‏ ‏حد‏ ‏عايز‏ ‏يأذينى”.‏

تقول‏ ‏أخته‏ ‏فى ‏ضمن‏ ‏الشكوى (‏فى ‏أوراق‏ ‏المشاهدة‏):‏

‏”‏بيضحك‏ ‏بصوت‏ ‏عالى ‏من‏ ‏غير‏ ‏سبب‏.” ‏يتردد‏ ‏فى ‏الكلام،‏ ‏وفى عمل‏ ‏أى ‏حاجة” ” ‏قبل‏ ‏ما‏ ‏يدخل‏ ‏المستشفى، ‏إتبول‏ ‏على ‏روحه‏ ‏مرتين” .‏

حين‏ ‏نعاود‏ ‏قراءة‏ ‏هذا‏ ‏المقتطف‏ – ‏تفسيرا‏ ‏وتمحيصا‏ – ‏نلاحظ‏:‏

‏1- ‏إنه‏ ‏يحدد‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏تلك‏ ‏الأصوات‏ ‏التى ‏تسبه‏ ‏سبا‏ ‏محددا‏  “‏يا‏ ‏كلب” ‏مازال‏ ‏ينعتها‏ ‏بأنها‏ ‏تهيؤات‏، ‏فهل‏ ‏معنى ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏يعرف‏ ‏أن‏ ‏مصدرها‏ ‏هو‏ ‏الخيال‏، ‏أم‏ ‏يا‏ ‏ترى ‏هو‏ ‏يعامل‏ ‏خياله‏ ‏باعتباره‏ “‏حقيقة‏ ‏أخرى”  ‏وأنه‏ ‏يستعمل‏ ‏تعبير “بيتهيألى”  ‏إستعمالا‏ ‏فيه‏ ‏قوة‏ ‏الحقيقة؟‏ ‏ونتذكر‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏المناقشة‏ ‏حول‏ ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏البصيرة‏ ‏التى ‏تؤكد‏ ‏جدية‏ ‏الخبرة‏ ‏الهلوسية‏ ‏وليس‏ ‏أنها‏ “‏هلاوس‏ ‏كاذبة” فى حالة “فهمى” (ص 73).

للإجابة‏: ‏أرجح‏ ‏الاحتمال‏ ‏الأخير‏، ‏وخاصة‏ ‏أنه‏ ‏حدد‏ ‏الكلمة‏ ‏التى ‏يسمعها‏ ‏بمنتهى ‏الوضوح‏، ‏ثم‏ ‏ألحق‏ ‏ذلك‏ ‏بوصف‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الهلاوس‏ ‏السمعية‏ ‏التى ‏تميز‏ ‏الفصام ‏- ‏فى ‏أطواره‏ ‏النشطة‏- ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏وهى ‏تلك‏ ‏التى ‏تتحدث “عن” ، ‏أو‏ ‏تتناقش “بشأن” ، ‏أو‏ ‏”تعقب” ‏”على” ‏المريض‏ ‏وأفعاله([2])‏، ‏بحيث‏ ‏تتكلم‏ ‏بضمير‏ ‏الغائب‏ ‏لا‏ ‏المخاطب‏ (‏مثلا‏: ‏تقول‏ ‏الأصوات‏ ‏فيما‏ ‏بينها‏:

“هو”  ‏كويس‏.

صوت آخر: لأ‏ ‏والله‏ ‏ما‏ “‏هو”  ‏نافع‏.

صوت: ‏أبدا‏ ‏دا‏ “‏هو”  ‏طيب‏.

صوت آخر: ‏يا‏ ‏شيخ‏ ‏سيبك‏، ‏بقى ‏ده‏ ‏راجل‏ ‏ده‏؟!!‏…‏الخ‏) ‏

وبالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الضلالات‏، ‏والهلاوس‏ ‏تدل‏ ‏على ‏تماسك‏ ‏نسبى ‏إلا‏ ‏أن‏ بقية ‏الأعراض‏ ‏ ‏تشير‏ ‏إلى شدة ‏مظاهر‏ ‏الانسحاب‏ ‏ومدى‏ ‏التفكك‏.‏

‏2- ‏ ‏‏إن ما يعتبره‏ ‏الأطباء‏ ‏النفسيون أعراضا صريحة‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تفسر‏ ‏على ‏نفس‏ ‏الأساس بأنها تفاعل مع الداخل أكثر منها “بلا سبب”‏، وهذا ما كان يفسر به وائل ضحكه فى كثير من الأحيان حين يسأله الطبيب (أو أي آخر) عن سبب ضحكه مع نفسه فجأة، فيجيب أنه بلا سبب.‏

‏3- ‏‏أن ‏”عرض‏” “‏التردد”‏ ‏بعد ذلك‏، ‏وهو‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏مظاهر” ‏تعدد‏ ‏القيادات([3])” ‏المسئول عن‏ ‏صدور‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏قرار‏، ‏من‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذات (منظومة دماغية، مستوى وعى)‏، ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ونفس الموقف كان عند وائل مرتبطاً بحالته الوجدانية أكثر.

‏4- ‏ ‏فقد‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏التحكم‏ ‏فى ‏التبول‏، ‏(مؤخرا مع ظهور أعراض المرض وليس منذ الطفولة) و‏هو الأمر الذى‏ ‏لا‏ ‏يحدث‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏الحالات‏ ‏المتدهورة‏ ‏تماما‏ ‏فى ‏الفصام‏‏، وهذا لا يتفق مع حالة وائل المتماسكة نسبياً.

يتأكد‏ ‏ما‏ ‏ذهبنا‏ ‏إليه‏ ‏ (‏من‏ ‏أن‏ ‏الحالة‏ ‏ليست‏ ” ‏بهذا‏ ” ‏التدهور‏) ‏حين‏ ‏نستمع‏ ‏إليه‏ ‏وهو‏ ‏يحكى ‏عن‏ ‏النوبة‏ ‏الأخيرة‏ ‏بترابط‏ ‏مناسب‏، ‏ووضوح‏، ‏وتعليل‏ (‏ليس‏ ‏بالضرورة‏ ‏هو‏ ‏السبب‏ ‏الحقيقى، ‏لكن‏ ‏مجرد‏ ‏أنه جرى على لسانه ‏ فهو‏ ‏ما‏ ‏يعنينا‏ ‏هنا‏): ‏لنحضره‏ (‏وهو‏ ‏يقترب‏ ‏من‏ ‏حالة‏ ‏مختار‏، الأخ الأكبر) ‏وهو‏ ‏يقول‏:

“‏جت‏ ‏لى ‏صدمة‏ ‏عاطفية‏ ‏شوية‏، ‏إللى ‏حصل‏ ‏إنى ‏كنت‏ ‏فى حالى…. ‏تعرفت‏ ‏على ‏بنت‏….، ‏خدت‏ ‏منها‏ ‏ميعاد‏، ‏واتقابلنا‏ ‏واتعرفنا‏، ‏اندمجنا‏ ‏مع‏ ‏بعضنا‏ ‏عاطفيا‏،  ‏وجسديا‏، ‏ونفسيا‏،‏‏ ‏اللى ‏حصل‏ ‏إنى ‏ماقدرتش‏ ‏إننا‏ ‏نكون‏ ‏أسرة‏ ‏مع‏ ‏بعض‏..‏ ‏ ‏الواحد‏ ‏مش‏ ‏قادر‏ ‏يكون‏ ‏نفسه‏، ‏أو‏ ‏يكون‏ ‏نفسه‏ ‏كما‏ ‏يحب‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الحياة‏، ‏مع‏ ‏العلم‏ ‏إن‏ ‏الحياة‏ ‏نفسها‏ ‏إقتصاديا‏..(صمت)، ‏الواحد‏ ‏عشان  ‏إنه‏ ‏طيب‏، ‏ما‏ ‏حدش‏ ‏بيسأل‏ ‏فيه‏… ‏الواحد‏  ‏زى ‏ما‏ ‏تقول ‏ ‏شاعر‏ ‏بالذنب‏، ‏إنه‏ ‏أذى ‏واحد‏…، ‏أذى ‏نفسه‏…، ‏شعور ‏ ‏بالألم‏ ‏ترسب‏ ‏فى ‏الأعماق‏…..” .‏

نلاحظ‏ ‏فى ‏النصف‏ ‏الأول‏ ‏ما‏ ‏يلوح بأنه‏ ‏السبب‏ ‏الكافى للتفسير‏ (‏مما‏ ‏يطرب‏ ‏له‏ ‏العامة‏ ‏والمسلسلاتية‏)، ‏وقد‏ ‏يلتقط‏ ‏بعضهم‏ ‏حكاية‏ “اقتصاديا‏” ‏فيربط‏ ‏بين‏ ‏الإحباط‏ ‏العاطفى ‏والقهر‏ ‏الاقتصادى، (!!) ‏‏فيطمئن‏ ‏إلى ‏أنه اكتشف الأزمة‏، ‏هذه‏ ‏أرضية‏ ‏لا‏ ‏نرفضها‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الاكتفاء‏ ‏بها‏، ‏أو‏ ‏التضخيم‏ ‏من‏ ‏شأنها‏ ‏يجعلنا‏ ‏نغفل‏ ‏النظر‏ ‏الأعمق‏ ‏لسائر أبعاد‏ دراما ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏فى ‏خبرة‏ ‏تصدعه‏.‏

‏ثم‏ ‏نربط‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏الألم‏ ‏المترسب‏ ‏فى ‏الأعماق”‏ ‏و‏‏بين‏ ‏تفسخ‏ ‏الفصامى.

– ‏يبدو‏ ‏أنه‏ (‏وائل‏) ‏بصفته‏ ‏الأصغر‏ (‏آخر‏ ‏العنقود‏) ‏ظـَل‏ ‏فى ‏حِجر‏ ‏أمه‏ ‏مدة‏ ‏أطول‏، ‏فكان‏ ‏الاعتماد‏ ‏هو‏ ‏أصل‏ ‏العلاقة‏ ‏بها‏ (‏و‏‏بغيرها‏) ‏ولم‏ ‏يحل‏ ‏محله‏ ‏توجه‏ ‏عدوانى (كرُّ وفر) ([4]) ‏نحوها‏ ‏وكذلك‏ ‏لم‏ ‏يتطور‏ ‏إلى ‏ثنائية ‏وجدان([5] (‏ مثل‏ ‏إخوته‏ ‏جميعا‏ ‏و‏ ‏خاصة‏ ‏مختار‏، ‏فلنسمع‏ ‏وائل ‏وهو‏ ‏يقول‏:‏

” ‏الواحد‏ ‏كانت‏ ‏والدته‏ ‏تحيطه‏ ‏بالعطف‏، ‏كان‏ ‏حاسس‏ ‏ان‏ ‏ ماعليهوش‏ ‏مسئوليات‏، ‏مش‏ ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏راسم‏ ‏نفسه‏، ‏وده‏ ‏ وسطه‏ ‏بيوجعه‏، ‏وده‏ ‏مشغول عالآخر، ماكنتش‏ ‏أسمح‏ ‏بأى ‏حد‏ ‏يكسر‏ ‏أى ‏حاجة‏، ‏أو‏ ‏أى ‏ حد‏ ‏يعتدى ‏علّى”.‏

يبدو‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المقتطف‏ ‏أن‏ ‏النقلة‏ ‏من‏ ‏الاعتمادية‏ ‏الطفلية‏ ‏إلى ‏مسئولية‏ ‏مواجهة‏ ‏الآخرين‏ ‏كانت‏ ‏فجائية‏ ‏و‏‏بلا‏ ‏إعداد‏ كافٍ، ‏كما‏ ‏يلاحظ‏ ‏ضعف‏ ‏الترابط‏ (مثلا‏: ‏بين‏: ‏كل‏ ‏واحد‏ ‏راسم‏ ‏نفسه‏، – ‏ثم‏ ‏فورا‏- ‏وده‏ ‏وسطه‏ ‏بيوجعه‏)، ‏كما‏ ‏تبدو‏ ‏هنا‏ ‏معالم‏ ‏الهزيمه‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ” ‏الوعى ‏بالعجز” ‏وهو‏ ‏شعور‏ ‏داخلى ‏لا‏ ‏يعنى ‏عجزا‏ ‏فعليا‏ ‏بالضرورة‏، ‏وهو‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏همود‏ ‏الإكتئاب‏، ‏ولكنه‏ ‏يشير‏ ‏الى ‏ضآلة‏ ‏التناسب‏ ‏بين‏  ‏قدرته‏ ‏المحدودة‏ ‏فى ‏وحدته‏ ‏الفريدة‏ ‏و‏ ‏بين‏ ‏إستقباله‏ ‏لمتطلبات‏ ‏الواقع‏  ‏وتوقعاته‏ ‏للسحق‏ ‏أمام‏ ‏جبروت‏ ‏الغير‏.‏

يقول‏ ‏فى ‏موقع‏ ‏آخر‏:‏

“‏ ‏الناس‏ ‏مش‏ ‏زى ‏الأول‏ ‏الناس‏ ‏كترت،‏ ‏الناس‏ ‏كان‏ ‏عندها ‏ ‏طيبة‏ ‏ومودة‏ ‏ورحمة،‏ ‏النهارده‏ ‏ماحدش‏ ‏بيسأل‏ ‏عن‏ ‏حد‏ ‏”

هذه‏ ‏الأقوال‏ ‏تبدو‏ ‏مألوفة‏، ‏يقول‏ ‏مثلها‏ ‏معظم‏ ‏الناس‏ ‏الأسوياء‏، ‏لكنها‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏السياق‏ ‏ومن “‏وائل”- ‏وسط‏ ‏هذه‏ ‏الأرضية‏، ‏يفضل‏ ‏أن‏ ‏توضع‏ ‏فى ‏مكانها‏ ‏مع‏ ‏الأبعاد‏ ‏الأخرى، ‏وأرى  ‏أن‏ ‏تكرارها‏ ‏إنما يشير إلى مدى حاجته للوالدية والاعتمادية.

“حاسس‏ ‏إن‏ ‏مفيش‏ ‏عطف، ‏ ‏فاقد‏ ‏الوالد‏ ‏والوالده‏، ‏وبعدين‏ ‏الناس‏ ‏بتعامل‏ ‏الواحد‏ ‏فى ‏الشغل‏ ‏باستحقار‏ ‏وعظمة‏، ‏الواحد‏ ‏يكون‏ ‏طيب‏ ‏يقولوا‏ ‏عليه‏ ‏أنه‏ ‏تعبان‏ ‏فى ‏مخه”‏.‏

فنرى‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏من خلال المرض مدى ‏ارتباط‏ ‏الطيبة‏ ‏بالعجز‏ ‏بإلحاق‏ ‏الظلم‏ ‏بالاتهام‏ ‏بالجنون‏، ولعل هذا يذكر ببداية شكوى مختار الاحتجاجية (الأخ الأكبر)، مع ملاحظة فارق التفاعل لدرجة العكس فاحتجاج مختار نقد ثورى واحتجاج وائل نعابة اعتمادية.‏

إضافات دالة (ضرورية)

هكذا‏ ‏نرى ‏أن‏ ‏وائل ‏عاش‏ ‏مرضه‏ ‏خليطا‏ ‏من‏ ‏التفكك‏ ‏والاضطراب‏ ‏الوجدانى، ‏لكنه‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏محاربا‏ ‏أصلا‏ مثل الأخ الأكبر مختار، ‏لا‏ ‏فى ‏مرضه‏ ‏ولا‏ ‏قبل‏ ‏مرضه‏، (‏قارن‏ ‏صراع‏ ‏مختار وبطولته وتحريضه وتحدّيه ‏مثلا‏) ‏وحتى ‏الأعراض‏ ‏التى ‏ظهرت‏، ‏وبدت‏ ‏كأنها‏ ‏آثار‏ ‏هزيمة‏ ‏لمعركة‏ ‏لم‏ ‏تبدأ‏ ‏أو‏ ‏أنها‏ ‏فلول‏ ‏جيش‏ ‏انسحب‏ ‏قبل‏ ‏المواجهة‏ ‏أصلا‏، ‏حتى ‏وهو‏ ‏يتكلم‏ ‏عن‏ ‏بداية‏ ‏المرض‏ ‏يقول‏:‏

“المرض‏ ‏ابتدا‏ ‏من‏ ‏خمستاشر‏ ‏سنة‏، ‏تغير‏ ‏اجتماعى ‏ويمكن‏ ‏فسيولوجى، ‏الواحد‏ ‏حس ‏انه‏ ‏محروم‏ ‏من‏ ‏ حاجات‏ ‏مش‏ ‏قادر‏ ‏يوصل‏ ‏لها‏، ‏انه‏ ‏محاصر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جهة”‏

ننظر‏ ‏كيف‏ ‏بدا‏ ‏المرض‏ ‏قبل‏ ‏بدايته‏ ‏الحقيقية‏ ‏المعلنة‏([6])، ‏ولكن‏ ‏ماذا‏ ‏بدأ؟ بدأ‏ ‏الاقتراب‏ ‏من‏ “‏الوعى ‏بالحرمان”‏، ‏والوعى ‏بالحرمان‏ ‏غير‏ ‏الحرمان‏، ‏ثم‏ ‏بدأ‏ ‏الوعى ‏بالعجز‏ “‏محاصر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏جهة”، هذا‏ ‏الحصار‏ ‏ترجم‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏ ‏الى ‏أصوات‏ (هلوسات‏) ‏شديدة‏ ‏التحديد‏، ‏أصوات‏ ‏اكثر‏ ‏منها‏ ‏تخيلات‏ “‏وقد‏ ‏عبرت‏ ‏هذه‏ ‏الاصوات‏ ‏عن‏ ‏الحصار‏ ‏بطريقه‏ ‏فريده‏، ‏فهو‏ ‏ليس‏ ‏حصار‏ ‏الاضطهاد‏ ‏أو‏ ‏المراقبة‏ ‏فحسب‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏حصار‏ ‏الرعايه‏ ‏وتحقيق‏ ‏الرغبة‏. ‏ “‏أصوات‏… ‏تشتمنى، ‏تمدح‏ ‏فيَّا، ‏تزفنى ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏مدح”‏

فالحصار‏ ‏هنا‏ ‏يمكن‏ ‏ترجمته‏ ‏إلى ‏أن‏ “‏الداخل‏ ‏الدافع” ‏أصبح‏ “‏خارجيا‏ ‏محيطا” ‏فبدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يتلقى ‏اللوم‏، ‏والثناء‏ ‏بطريق‏ ‏غير‏ ‏مباشر‏ ‏من‏ ‏جوهره‏ ‏الداخلى ‏الملتحم‏ ‏بالكل‏ ‏الواحد‏، ‏أصبح‏ ‏هذا‏ ‏الداخل‏ ‏مـُـسقطا‏ ‏فى ‏العالم‏ ‏الخارجى، ‏فانقلب‏ ‏اللوم‏ ‏إلى “أصوات‏ ‏تسب” ‏وانقلبت‏ ‏الرغبة‏ ‏فى  رضا‏  ‏الوالدين‏  ‏إلى “‏أصوات‏  ‏تمدح”، لكن ياليتها كذلك، أصبح المديح – أو تبين أنه- زفة، لعلها  كانت زفة سخرية أو تجريس وليست أنها زفة فرحة أو فرح!!؟.‏

وحين‏ ‏يصل‏ ‏الأمر‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏المدى ‏يصبح‏ ‏ما‏ ‏يتبقى ‏من‏ ‏الذات‏ ‏ظلا‏ ‏خافتا‏ ‏بلا‏ ‏معالم‏ ‏ولا‏ ‏قرار. ‏

وبعد‏ ‏

فهذا‏ ‏هو‏ ‏الأخ‏ ‏الأصغر‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏المتدرج‏ ‏ما‏ ‏بين‏ ‏التوأمين‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏درجة‏ ‏التفكك‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏التماسك‏ ‏الوجدانى، ‏ومن‏ ‏حيث‏ ‏مسار‏ ‏المرض‏ ‏الدورى ‏فى ‏مقابل‏ ‏المسار‏ ‏المتغير‏.

‏فحالته‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏الفصام‏ ‏الأقل‏ ‏تفككا‏ ‏من‏ ‏فتحى ‏والأكثر ‏من فهمى وربما من موقفه النقدى وإن اقترب أحيانا فى بعض اعلانات احتجاجه من اضطراب مختار الوجدانى الهوسى أساسا.

[1] – وهذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏جعلنى ‏أعود‏ ‏إلى ‏أوراقى ‏- ‏وذكرياتى – ‏القديمة‏ ‏أكتب‏ ‏حالة‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المقام‏.‏

[2] – وهى ما تغلب فيما يسمى أعراض الصف الأول لـ شنايدر

[3] – المقصود بتعدد القيادات هو Multiple Pace-Makers تبعا لغرض المؤلف الذى يتخذ من نموذج دقات القلب التابعة لنقطة انبعاث واحدة لكى ينتظم القلب، قياسا لعمل المخ فيعتبر أنه فى حالة السواء يكون عمل المخ أيضاً منتظما طالما أن مستوى واحد من المخ هو الذى يقود سائرا المستويات (مايسترو) واحد فإذا تعددت نقاط الانبعاث أى تعدد مستويات المخ دون تبادل (مثل تبادل النوم واليقظة، والحلم واللاحلم أثناء النوم) إذا تعددت هذه المستويات معاً فى وعىٍ ظاهر، سمى ذلك تعدد القيادات

[4] – الموقف البارنوى “كَرّ وفَرَ”Fight Flight، ثم الموقف الاكتئابى ثنائية ال وجدانAmbivalence  هى المواقف المتتالية للانفصال عن الأم على طريق تكوين علاقة أنضج فأنضج بالموضوع (الأم): مدرسة العلاقة بالموضوعobject relation school. وقد طورت هذه المواقف إلى أطوار استعادة باستمرار وذلك ضمن فروض وأساسيات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى.

– يحيى الرخاوى “الإيقاعحيوى ومسارات الوعى وتشكيلات المعلومات” “نشرة الإنسان والتطور اليومية”بتاريخ (29-2-2016)  www.rakawy.net

– يحيى الرخاوى “الفرق بين “الموقع” و”الطور” و”الموقفPosition, Phase and Attitude  “نشرة الإنسان والتطور اليومية” بتاريخ (4-6-2016) www.rakawy.net

– يحيى الرخاوى “بعض معالم العلاج النفسى: من خلال الإشراف عليه” الكتاب الأول (1 – 20): الحالة (11) “آلام ومضاعفات التعرف على الآخر” (ص143)، “منشورات جمعية الطب النفسى التطورى” (2018)

[5] – ambivalence

[6] – ‏ترتبط‏ ‏هذه‏ ‏الملاحظة‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏ ‏بما‏ ‏أسميناه‏ ‏سابقا‏ “‏ظاهرة‏ ‏سبق‏ ‏التوقيت” ante-dating، ‏بمعنى ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏قد يذكر‏ ‏تاريخ‏ ‏البداية‏ ‏سابقا‏ ‏لبدايته‏ ‏الحقيقة‏ ‏بمدة‏ ‏تصل‏ ‏أحيانا‏ ‏الى ‏سنوات‏، ‏بل‏ ‏قد‏ ‏يذكر‏ ‏المريض‏ ‏أنه‏ “‏كذلك” ‏منذ‏ ‏الولادة‏ ‏أو‏ ‏منذ‏ ‏شجار‏ ‏مع‏ ‏طفل فى‏ ‏الابتدائى… ‏الخ‏ ‏فى ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏قد‏ ‏بدأ‏ ‏المرض‏ ‏فى ‏منتصف‏ ‏العمر‏. ‏وتفسير‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏افترضناه‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ” ‏الكسرة” ‏الدالة‏ ‏العميقة‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏المريض‏، ‏والتى ‏لم‏ ‏ينشأ‏ ‏عنها‏ ‏فى ‏حينها‏ ‏أى ‏عرض‏ ‏أو‏ ‏مرض‏ ‏هى ‏البداية‏ ‏الحقيقية‏ ‏للمرض.

 –  يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” 1979 (الفصل الثامن: “الفصام” “سبق التوقيت”) (ص:361).

ملاحق وملاحظات

ملاحق وملاحظات

ملاحق وملاحظات

جدول لا لزوم له

بعد‏ ‏عرض‏ ‏حالات‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏التى ‏تصادف‏ ‏تتبعها‏ ‏على ‏مدى ‏عشرين‏ ‏عاما‏ ‏تشاء‏ ‏ظروف‏ ‏النشر‏ ‏والكتابة‏ ‏فى ‏المرحلة‏ ‏الأولى ‏من‏ ‏عرض‏ ‏هذه‏ ‏الحالات‏ ‏أن‏ ‏نعرضها‏ ‏فى مجلة فصليه (الانسان والتطور) على مدى ‏ست‏ ‏سنوات‏، ‏ثم‏ ‏نجمعها‏ ‏هنا‏ ‏فى ‏هذا الكتاب‏ ‏دون‏ ‏إضافات‏ ‏تذكر‏ – ‏فنجد‏ فى ‏أنفسنا‏ ‏ميلا خائبا يدفعنا أن نجدولها تعسفا فى جدول لا نرى أنه يعين على تتبع السرد بقدر ما قد يعين فى الإحاطة الشاملة للتذكرة.

بل ربما تعمدنا هذه الجدولة لتظهر كيف يمكن اختزال هذه الحالات الشديدة الحضور بكل ما سبق (وهذا بعض ما كان لا أكثر) كيف يمكن اختزالها فى أرقام وألفاظ تمسخها هكذا.

وضعنا هذا‏ ‏الجدول‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏الدراسة‏ ‏لا فى بدايتها حتى لا ‏تختزل‏ ‏حالات‏ ‏هذه‏ ‏الأسرة‏ ‏إلى ‏مثل‏ ‏ذلك‏، ‏لكن فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لعله‏ ‏مرجع ‏موجز‏ ‏لمن‏ ‏أراد‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏القراءة‏ ‏من‏ ‏الأول‏!!

هذا‏ ‏الجدول‏ ‏ربما يبين‏ ‏ما‏ ‏يلي‏:‏‏

(1) ‏تنوع‏ ‏أشكال‏ ‏ظهور‏ ‏المرض‏ ‏بتنوع‏ ‏ظروف‏ ‏وترتيب‏ ‏أفراد‏ ‏الأسرة‏: ‏مما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏تنوع‏ ‏العوامل‏ ‏المسئولة‏، ‏وعدم‏ ‏التطابق‏ ‏حتى ‏فى ‏التوائم‏ ‏المتماثلة‏.

‏‏(2) ‏تحوير‏ ‏مسار‏ ‏المرض‏، ‏وتكرار‏ ‏ظهوره‏ ‏إما‏ ‏دوريا ‏ Periodic‏أو‏ ‏متفترا‏ intermittent ‏ مما‏ ‏يؤكد‏ ‏نوابية‏ ‏المرض‏ ‏النفسى‏.‏‏

(3) ‏تغير‏ ‏صورة‏ ‏المرض‏ ‏إكلينيكيا‏ ‏عبر‏ ‏المسار‏ ‏الطولى ‏مما‏ ‏يشير‏ ‏إلى ‏تداخل‏ ‏فئات‏ ‏المرض‏ ‏التشخيصية‏، ‏برغم ‏وحدة‏ ‏المنبع‏.

‏(4)  ‏ كيف‏ ‏أنه‏ ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏خطورة‏ ‏هذه‏ ‏الأمراض‏ ‏جميعا‏، ‏وتكرر‏ ‏الدخول‏ ‏إلى ‏المستشفيات‏ ‏العقلية‏، ‏فالجميع استطاع أن‏ ‏يمارس‏ ‏عملا‏ ‏ما‏، ‏ويتكيف‏-‏حتى ‏فى ‏الأسرة‏ – ‏بدرجة‏ ‏ما‏.‏

(5) أنه ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏مسئولية‏ ‏الوراثة‏ ‏ظاهرة‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏ظروف‏ ‏الأسرة‏ ‏المصرية‏ ‏المتوسطة‏ (‏وكذا‏ ‏العلاقات‏ ‏البرجوازية‏) ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏نظرة‏ ‏فاحصة‏ ‏فى ‏تضافرها‏ ‏مع‏ ‏التهيؤ‏ ‏للمرض‏.‏

جدول موجز لمعالم عامة قد يعين فى تتبع السر

الاسم مختار(الأخ  الأكبر) فهمى(تؤام 1) فتحى(تؤام 2) وائل(الأخ الأصغر)
السن عند بداية المرض 18.5 14.5 14.5 8
وقت كتابة الدراسة 40 36 36 29.5
                            شكل بداية المرض تهيج ثائر أرضية اكتئابية (مع تماسك ظاهر شديد) تفكك وتغير نوعى فى الادراك وبلادة وخمول وفرط نوم تفكك أقل واضطراب وجدانى أكثر ودرجة من حرارة التواصل اعتقادات ضلالات اضطهادية وهلوسات وتفكك متوسط
العامل المسببفى النوبة الأولى قصة حب / احباط (­+) غير واضح غير واضح موت الأب
 العلاج الأولى صدمة الانسولين عدد 50سنة 59/60 صدمة الانسولينعدد 50سنة 59 / 60 صدمة الانسولينعدد مرة 59/60 عقاقير من نوع المهدئات + جلسات تنظيم إيقاع المخ
    

 

مسار الحالة

نوبات متكررة / هوسية فى الأغلب/رصدت حدتها الخطرة مرتين حينما دخل الخانكة مرة والعباسية مرة. نوبات متفترة/ تفككية فى الأغلب/ مستشفى القصر العينى سنوات:(59 – 61 – 63 – 64 – 65)ثم مستشفى العباسية سنة 66، ثم قصر العينى سنوات:( 67 – 69 – 77) نوبات متكررة/ مختلطة/ دخل خلالها مستشفيات عقلية عامة وخاصة بالأضافة لدخوله قصر العينى فى بداية المرض(لم يمكن تحديد الأماكن والنوبات ولكنه حجز فى العباسية خمس مرات وكانت النوبات فى سنوات: (59 – 60 – 61 – 63 –64- 65 – 66 – 73- 80) نوبات متفترة/ تترواح بين التفكك والتنشيط الوجدانى والتهيج، لم نجد تواريخ دخوله المستشفيات السابقة.لكن الثابت أنه دخل مستشفى القصر العينى ثلاث مرات والعباسية ثلاث مرات فضلا عن النوبة الأخيرة:سنة 1980 القصر العينى. 

 

 مآل الحالة حتى تاريخه (سنة 1980) (تحسن وتخرج وتزوج مع بقايا مصادمات فى العمل اساساً) (هدأ لم يتم تعليمه الجامعى، تزوج وله بنت، وزواجه مهدد) (أكمل تعليمه الجامعى تزوج وطلق –يعمل، ويعالج حتى تاريخ الدراسة) (يعمل بانتظام نسبى – لم يتزوج)
 التشخيص الأول  هوس + فصام وجدانى دورى هوسى فصام تفسخى (هيبفرينى) فصام وجدانى (هوسى أساسا) فصام مزمن غير متميز
 التشخيصات اللاحقة وتبدل الأطوار هوس مختلط – اكتئاب مختلط هوس بارنوى المحتوى. فصام بارنوى – فصام غير متميز – فصام تفسخى محدود ذهان دورى – فصام وجدانى، فصام بارنوى، هوس غير نموذجى هوس مختلط، فصام وجدانى، مآل سلبى.
 الريح العام: السيطرة / الحضور/ التعويض (الإبداع) البرود، البلادة، قحة النكوص، ثقل الدم الطيبة، الدفء، التجاوب التقلب، الضحالة، الاعتمادية
   المغزى الخاص: 1- فرط التعويض لايفيد2- قسوة النقد وجاهزية العدوان تقاومان التفكك3- الاكتئاب ظاهر نشط4- الثورة حاضرة لا تكتمل 1- الانسحاب خطير2- اللامبالاه تحمى من الاقتراب من الآخر3- التفتر اخفى الدورية مع تمادى التبلد 1- الفصام فى الخلفية قد يكون دوريا2- العلاقة وثيقة بين أنواع الذهان وقد تتبادل الأنواع3- الحرارة الوجدانية تؤجل التدهور 1- حيوية الطفولة الباكرة لا تحمى صاحبها2-الأخت الأم (لم تتزوج) تفرط فى الحماية حتى الإعاقة3- التفكك يتم بلا معركة مواجهة

تكاد هذه الأسرة تمثل محورا جوهريا لتطور فكرى على طول مسار وجودّى المهنى ولم أعرف كيف أرد لهم جميلهم وما علمونى إياه إلا بما بذلته وأبذله لأسرتنا الكبيرة فى مواجهه تحديات الوجود والتطور

أدعو الله لمن بقى منهم بالسلامة والعافية،

وآمل أن أرد دينى لمن يهمه الأمر.

من هم؟؟؟ وأى أمر؟؟؟!!

“هم” كل من سيسألنى ربى عن مسئولية مشاركتى لهم

و”الأمر” هو حمل الأمانة لهم ولمن على شاكلتهم وشاكلتى وشاكلتنا!!

المحتوى

المحتوى

صفحة العنوان
3 الأهـداء
5 مقدمة
9 تمهيد: عن المهنج وطبيعة العمل
13 الفصل الأول   تطور تاريخ الدراسة
29 الفصل‏ ‏الثانى فهمى
71 الفصل الثالث فتحى
83 الفصل الرابع مختار
107 الفصل‏ ‏الخامس ‏وائل
115 ملاحق وملاحظات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *