الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع: الفصام الاستهلالى أم “العملية” الاستهلالية؟

نشرة الإنسان والتطور

نشرة الأثنين: 8-5-2017

السنة العاشرة

العدد:  3537                                                      

الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (191)

الفصام: مغارة الضياع ووعود الإبداع

الفصام الاستهلالى أم “العملية” الاستهلالية؟

مقدمة:

عودة إلى موضوعنا الجوهرى، الذى ننطلق منه إلى بحور التعرف على كل الأمراض النفسية والحياة، أشعر بالحرج وأنا أخصص لهذا الموضوع المحوري يوما واحدا مع أننى مدين له بأغلب ما وصلنى ليس فقط عن سائر الأمراض، بل أيضا عن تنويعات الاغتراب المعاصر، ثم تجليات الإبداع.

هذا، وأعتقد أننى ربما أقرر تأجيل استكماله مرحليا، فهو موضوع جوهرى ومتشعب، ولا يليق أن أخصص له يوما واحدا فى الأسبوع هكذا، كما أنه لا يمكن لمتتبع جاد أن ينتظر أسبوعا ليكمل ما بدأه اليوم، أغلب الظن أن خبرتى مع الفصام: أصله وتجلياته ومحاولات إيقاف مسيرته والوقاية منه وحالاته، كل ذلك سوف يتطلب تخصيص كتاب مستقل له، أدعو الله أن يعيننى على إخراجه قبل فوات الأوان، دعونا ننتظر لنرى.

لن أكرر الاعتذار وأنا مطمئن إلى ندرة، وصبر، وتحمل من يتابعنى

وبعد

لما كنت قد انتهيت من خلال فروضى، وممارستى، إلى التعامل مع الفصام باعتباره أصل كل الأمراض من منظور “واحدية المرض النفسى”Unitary Concept of Psychiatric Disorders ، فكيف أواصل هذه المحاولة لتقسيم أنواع الفصام إلى أنواع حتى لو كان ذلك من منطلق تطورى؟

ومع ذلك فقد وجدت أننى فى محاولتى الباكرة قمت بتقسيم‏ ‏الفصام‏ ‏كلينيكيا‏ ‏تقسيما‏ ‏ذا‏ ‏دلالة‏ ‏تطورية، على الوجة التالى:

أولاً:

  الانواع حسب المسار  “ الإيقاعحيوى التطورى”

1) االفصام الاستهلالى   Incipient  Schizophrenia

2) الفصام المتفتر   Intermittent Schizophrenia

3) الفصام الدورى  Periodical Schizophrenia

4) الفصام الوجدانى (Schizo-) Affective Schizophrenia

5) الفصام المتفسخ Disorganized Schizophrenia

6) الفصام المتناثر  Disintegrated Schizophrenia

7) الفصام المتدهور   Deteriorated Schizophrenia 

8) الفصام السلبى Negative Schizophrenia  

9) الفصام النكوصى   Regressive Schizophrenia

10) الفصام المتبقىResidual Schizophrenia      

ثانياً:

 الأنواع غير التقليدية التى تتصف بكلمة فصام (بتبريرات مختلفة) مثل:

  *  الفصام الكامن  Latent Schizophrenia

 *  الفصام المحتمل Potential Schizophrenia

*  الفصام شبه العصابى Pseudo-neurotic Schizophrenia

*  الفصام القِطَاعى Sectorial  Schizophrenia

*  فصام الطفولة   Childhood Schizophrenia

هذا بالإضافة إلى (ما يسمى):

• مكافئات الفصام Schizophrenic Equivalents (نشرة 20-3-0217)

والسؤال التالى الآن هو:

هل من المفيد عمليا أن نحاول وصف كل هذه الأنواع واحدا واحدا، أم أن الأجدر بنا أن نتكلم عن “المرحلة” المقابلة التى نواجهها فى المسيرة الفصامية؟ مع الأخذ فى الاعتبار أن المسيرة الفصامية، خاصة فى بدايتها، أو مع العلاج المناسب، قد تتحول إلى مسارات أخرى، أوتتوقف عند مراحل (أمراض) أخرى، أو تنقلب إلى توجُّه إيجابى نحو النمو (الإبداع الذاتى) أوالإبداع التشكيلى ⁽¹⁾؟؟.

ولكن دعونا نبدأ بالبداية: الفصام الاستهلالى (المبتدئ)!

(1) الفصام الاستهلالى: Incipient Schizophrenia

شغلنى هذا النوع منذ بدايات ممارستى للطب النفسى سنة 1960 حتى أننى سجّلت رسالة الدكتوراه بعد ثلاث سنوات فى موضوع يكشف عن أبعاد هذا النوع، أو يعرى طبيعته بما يتطلب إعادة النظر فيه، وقد كان:

كان عمق رسالة الدكتواره عن “الذهان الكامن” Latent Psychosis  وكيف يمكن أن يُستثار بمثيرات مناسبة، وأن يقاس هذا الذى يثار بمقاييس مقننة تكشف أبعاد ما هو كامن، وكنت أحقن بعض المتطوعين وبعض  المرضى غير الذهانيين بالوريد  بجرعة زائدة من الميثدرين (100 مجم) وأقارن استجاباتهم على اختبارات معينة  قبل وتحت تأثير هذه الجرعة ..إلخ ، وقد خَلُصْتُ من البحث بأن هذه الجرعة (التى كنا نستعمل ثلثها- 30 مجم- فى التنفيث فى العلاج النفسى)  تحرك فينا جميعا ما يشبه الذهان.

ثم انطلاقا من هذا البحث الذى كشف لى بعض داخلنا (خاصة فى فترات أزمات النمو) رحت أولى اهتماما خاصا بحالات الشباب صغار السن النابهين الذين يتوقفون فى الدراسة فجأة مع ظهور بعض االأعراض التى تعلن تغيّرا نوعيا محدودا فى الشخصية، لكنه لا يصل إلى أية حدة ذهانية ، ورحت أتابع هذه الحالات، بالطول والعرض ، حتى نصل بحر الأمان، أو غير ذلك.

منذ ذلك الحين وأنا أتصور أن بداية الذهان، وبالذات الفصام، ليست ذهانية !! بمعنى أننا يمكن أن نرصد الذهان فى بدايته (قبل أن يتطور إلى ظهور الهلاوس والضلالات أو الانسحاب الشديد من الواقع..إلخ)، وأننا بذلك يمكن أن نحول دون تطوره بطريقة مناسبة إذا ساعدت ظروف العلاج وإمكاناته.

بعد ذلك، حين كُلفِّتُ – مع زميلين ⁽²⁾– بإعدادا مسودة الدليل المصرى (/العربي) للأمراض النفسية، اقترحت إدخال تصنيف لهذه الفئة الاسم Incipient Schizophrenia = الفصام الاستهلالى، الذى قسمناه إلى نوعين، فرعيين النوع النشط Active Incipient Schiz الذى يتميز بتغير نوعى فى الشخصية وخاصة فى  الإدراك (الذاتى، وللواقع Depersonalization & Derealization (لا يصل إلى الهلوسة)، وتوقف فى الأداء، والنوع الآخر هو ما أسميناه الفصام الاستهلالى المتسحِّب Insidious  Incipient Schiz، الذى يتميز بتدرج متماد بطىء فى الأداء، وخفوت فى الرنين الوجدانى، وفى العلاقات مع  الآخرين، وهو الذى يتمادى عادة – إذا تمادى – إلى الفصام البسيط “بوجه خاص” ⁽³⁾، وقد وافقت اللجنة العليا التى راجعت هذه المسودة على ما اقترحنا، وصدر الدليل التشخيصى متضمنا كل ذلك.

بعد ذلك، ومع طول الممارسة والتتبع تبينتُ وأنا أكتب كتابى “الأم” (4)، أن هذه البداية بهذا الشكل، النوع النشط خاصة، ليست خاصة بالفصام، بل إننا قد نجدها فى بداية حالات الهوس أو حالات الاكتئاب الجسيم أو حالات البارانويا النشطة، بل إننى لاحظت مع وفرة ممارستى لعلاج شباب الجامعة فى مستشفى الطلبة التابع لجامعة القاهرة، أن نفس الأعراض (أو المظاهر السلوكية) يمر بها عدد وافر من الشباب فى سن المراهقة، دون أن تتطور إلى أى من تلك الأمراض لا الفصام ولا غيره، فاقترحت فى كتابى الأم أيضا أن نسمى هذه الحالة باسم العملية الاستهلاليةIncipient Process على أمل أن نتجنب أن ندمغ هذا العدد من الشباب والمراهقين الذين يمرون بها بلفظ الفصام باستسهال أو تشاؤم هكذا مرة واحدة، وكنت أقصد أن هذه “العملية” هى: “استهلالية” لأنها تعتبر بداية لأى احتمال آخر من أى مرض آخر، أو ربما تكون استهلالا لنقلة نوعية فى النمو فى أزمة نمو المراهقة بالذات، وقد سجلت هذا الاقتراح فى كتابى السالف الذكر باعتبار أنه فى هذه المرحلة البادئة لا توجد  ومبررات كافية للاحتفاظ بوصف هذا النوع من المعاناة والتغير بالفصام ، فى حين أنه يفتقد إلى كل ما هو فصامى تقليديا، وهأنذا أعيد هذه الفقرة على الوجه التالى :

…. إتجه‏ ‏رأيي مؤخرا  ‏إلى ‏تسمية هذه المرحلة Incipient Process, بدلا من الفصام المبتدئ Incipient Schizophrenia حيث أن ‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏إنما‏ ‏تعلن‏ ‏أزمة‏ ‏مفترقية، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏قد تعلن‏ ‏بداية‏ ‏نبضة‏ ‏نمو‏ ‏جديدة‏ ‏إما‏ ‏أن‏ ‏تنتهى ‏إلى “‏ماكروجيني” ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏ولاف‏ ‏أعلى، ‏وإما‏ ‏أن‏ ‏تتوقف‏ ‏عند‏ ‏أى ‏مرحلة‏ ‏من‏ ‏مراحل‏ “‏السيكوباثوجيني” (5)  ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏ماكروجينى ‏مُجهض‏ ‏ومُشوه، ‏وعموما‏ ‏فإنى ‏ما‏ ‏زلت‏ ‏أدرجها‏ ‏هنا‏ ‏تحت‏ ‏الفصام‏  ربما أملا فى توقيفه بفاعلية، أى لعلنا نسارع فنوجه المسار بعيدا عن احتمال المسار الفصامى، بأن نأخذ هذه الأعراض مأخذا جادا مسئولا لتفادى أسوأ المآلات وهو الفصام.

ولعلنا نلاحظ الآن كيف استعمل النص الباكر تعبير “أزمة مفترقية”، وهو التعبير الذى استعملته بعد ذلك مكررا فى توسيع مفهوم (وفروض) حالات الوجود المتبادلة ” (نشرة 15/3/2016) و(نشرة 26/6/2016) و(نشرة 3/7/2016)  .

وقد بينتُ فى نشرات الإنسان والتطور اليومية عن “المسيرة الفصامية” ⁽⁶⁾ العلامات التى تجعلنا أكثر ميلا لاعتبار هذا النوع من العلامات نذيرا بمسار فصامى، من حيث علاقته بالوراثة الإيجابية لحالات فصام، وأيضا بنوع الشخصية سواء كانت شيزيدية أم عاصفية قبل ظهور هذه الأعراض (يمكن الرجوع إلى نشرات المسيرة الفصامية من نشرة (25-3-2017) إلى نشرة (10-4-2017).

هذا، ‏و ‏عموما فإنى أتصور‏ ‏أن مَنْ‏ ‏يميل إلى ترجيح تصنيف  ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏تحت لا فتة ما ‏ ‏يسمى “‏الفصا‏‏م‏ ‏الاستهلالى”, ‏يكون هدفه هو أن يمنع تماديه إلى الفصام المستتب الصريح،

وبصفة عامة، فإنه إذا رَجَحَتْ كفة هذه الصورة الإكلينيكية لتشير إلى أن الفصام الاستهلالى هو الأكثر احتمالا، خاصة إذا كان فى الأسرة تاريخ فصامى إيجابى ذو مآل سلبى، فإن المبادرة بالتأهيل النشط، وملء الوقت بالمهام الواقية الملزِمة، وتدعيم التواصل الاجتماعى، وتشغيل الجسم (ليس مجرد ألعاب رياضية)، جنبا إلى جنب، مع استعمال جرعات متوسطة من النيورولبتات بطريقة متذبذبة حسب مؤشرات النوم، ونوعه، وطبيعة الإنجاز، والانتظام فى التأهيل، كل ذلك يعتبر من أهم العوامل التى يمكن أن تحوِّل المسار إلى ما هو أكثر أيجابية، أو على الأقل: أقل سلبية.

وبعد

نواصل الأسبوع القادم مع نوع آخر

بالله عليكم هل هذا يجوز؟ أسبوع بأكمله؟

دعونا نبحث عن حلِّ آخر،

والدعوة عامة .

[1]  – أنظر إن شئت حالات الوجود المتبادلة: ” (نشرة 15/3/2016) و(نشرة 26/6/2016) و(نشرة 3/7/2016) وأيضا إن شئت أطروحة: “جدلية الجنون والإبداع”.

[2]  – المرحوم د. صلاح الدين إبراهيم و أ.د. زينب سرحان.

[3]  –  نشرة أنواع الفصام “الفصام البسيط”  بتاريخ 22-4-2017

[4]  – يحيى الرخاوى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” دار عطوة – القاهرة  1979.

[5] – أنظر النشرات التى ذكر فيها الماكروجينى والسيكوباثوجينى مثلا (نشرة 9-2-2016) و(نشرة  7-5-2016) و(نشرة 25-3-2017)، ولاحظ كيف أن المؤلف يستعمل هذه الأبجدية منذ هذا التاريخ 1978 ، وقبله طبعا.

[6]  – نشرات المسيرة الفصامية من نشرة (25-3-2017) إلى نشرة (10-4-2017).