نشرة “الإنسان والتطور”
نشرة الأثنين: 6-3-2017
السنة العاشرة
العدد: 3474
الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى (169)
التكامل العلاجى
مقدمة:
إذا كنا قد تحدثنا أمس عن التفاؤل العلاجى واستلهمنا من تماسك واتساق تسلسل التنظير وقوة الفروض ما يشجعنا على قبول ما يفتح أبواب الأمل والتجديد لحياتنا ومهنتنا، فإنه بقى أمامنا أن نحدد الخطوط الأساسية التى تجعل من هذا الأمل واقعا له معالم قابلة للتطبيق بما يدعم هذه الفروض التى تتحقق بنتائجها، وليس بالضرورة بإثباتها بمنهج من خارجها.
الكلام عن حديقة الحيوان التى تحضر للطبيب داخل المريض (وخارجه) فى حجرة الكشف كما قال ستيفن وبرايس (واقتطفناه أمس، وقبل ذلك)، وهى تشمل جمهرة من الناس المُـمَـثـَّلين تاريخه كما تشمل أجداده من الصيادين وآكلى النمل…إلخ” يبدو هذا الكلام لأول وهلة أنه يمثل تحديا مستحيلا لإمكان التعامل مع عشرات الألوف من هذه الأحياء فى عملية العلاج، وإذا توقفنا عند هذه المرحلة مهما كانت حقائق علوم التطور ونظرياته تثبتها فإننا: نكون قد كتبنا قصيدة شعر، وليس منهجا علاجيا يمكن تطبيقه يوميا انطلاقا من حجرة الكشف (كما دعانا ستيفن وبرايس).
وبعد
الطب النفسى الإيقاعحيوى التطورى يرد على هذا التحذير الجيد بفروض وتطبيقات عاملة سبق أن وردت فى النشرات الخاصة بهذا الطب، أجد أنه من المناسب أن أشير إلى بعض عناونيها بما يسمح لنا بالانطلاق منها إلى تناول الأمراض واحدا واحدا، وكذا العلاجات نوعا نوعا، من هذا المنطلق خطر لى أن ألملم المسألة فى خطوط أساسية لعلها تكون مرشدا مفيداً:
الخطوط العشرة:
أولاً : امتداد نظرية الاستعادة (= القانون الحيوى) إلى استعادة تاريخ التطور مع كل نبضة إيقاعحيوى: (نشرة: 16-5-2016) يسمح لنا بأن يُحضر الماضى فى الحاضر، فنتناوله بالمواجهة وليس بالحكى والاستنتاج.
ثانياً : تطوير مدرسة العلاقة بالموضوع من “مواقف” Positions متتالية فى الطفولة أساسا إلى “أطوار” Stages مكررة (نشرة:4-6-2016) ربما يسمح لنا أيضا بتعديل مسار أى طور انحرف بكل ما نملك من وسائل علاجية، بديلا عن الرجوع إلى آثار “موقف” غائر من الطفولة، فما مضى، ها هو ذا يحضر دائما وباستمرار فى الاستعادة، “الآن”، حتى بأخطاء توجهّه فى حالة المرض، بما يسمح بتعديل مسارها .
ثالثاً : تبنى فروض “حالات الوجود الخمسة”12-3-2016 ، 14-3-2016، 15-3-2016، 21-12-2010 ، يفتح أفاق التفاؤل أكثر، لأن هذه الفروض تعرض بعدا آخر لدورية الإيقاع فى الصحة فى ثلاث أحوال تزيد إلى خمس أحوال مع احتمالات المرض، وهذا التكرار هو الذى يتيح لنا فرصة توجيه التوجه بهذه الأحوال (والحالات) إلى مسارها الإيجابى، وهذه الدورات موازية ومتكاملة مع دورات النوم/الحلم/اليقظة، إلى دورات إرهاصات الإبداع النمو، والإبداع المعلن، والابداع الايمانى الخلاّق.
رابعاً: التوصية باحترام كل مستويات الوعى (الأمخاخ/الأحياء) وتنظيم حركيتها معا بالتبادل والتكافل والجدل والإبداع والنمو: وهو ما يحتاج إلى استلهام وتكافل كل الأساليب العلاجية التى تساعدنا فى ذلك.
خامساً : استعمال العقاقير الفاعلة استعمالا إكلينيكيا انتقائيا يمكن أن نتعرف من خلاله (وقد تعرفنا فعلا، خلال أكثر من نصف قرن على كثير من معالمه) على مستوى الوعى (المخ) الذى يعمل عليه كل عقار (أو مجموعة عقاقير) أكثر نسبيا، فهناك عقاقير تثبيط الأمخاخ الأقدم فالأقدم، وعقاقير تعمل على الأمخاخ الأقل قِـدَما، وعقاقير تعمل على الأمخاخ الأحدث، ولا يمكن تمييز هذا من ذاك بالركون إلى “طريقة عمل” العقاقير Mode of Action كما تأتينا من المعامل، وإنما نتحصل عليه بجمع معلومات أمينة متضفرة من واقع الممارسة الإكلينيكية واستعمال أعداد أقل وأقل من العقاقير بقدر من التكامل الهادف مع المراجعة الدائمة.
سادساً : الاكتفاء – اضطرارا- بالتعامل مع أقل عدد ضرورى من الأمخاخ (مستويات الوعى) لاستحالة التعامل مع هذه الآلاف المؤلفة منها، علما بأن هذا لا يلغى بقية وجود المستويات (والأحياء والأمخاخ) وإنما يقلل عمليا من عدد ما يمكن التعامل معه، وقد بدأنا بالمستويات (الأطوار) الثلاثة التى استلهمتـُهـَا ابتداءً من واقع مدرسة العلاقة بالموضوع (الموقف الشيزيدى – البارانوى– الاكتئابى) وهى التى تحورت بعد تعديل ما هو “موقف” إلى ما هو “طور” فصارت: “المخ التقوقعى”(1) (بديلا عن الموقف الشيزيدى) والمخ القتالى (بدلا من الموقف البارانوى) المخ العلاقاتى البشرى المتألم (بديلا عن الموقف الاكتئابى)، ثم أضيف إليها المخ الاجتماعى (التكيفى الحديث) ثم المخ الجدلى الابداع التطورى المشتمل، فأصبح لدينا خمس مستويات (تنوب عن الآلاف التى تمثلها) وانطلاقا من هذا الفرض يمكن استعمال العقاقير: ليس بوصفها تزيد أو تنقص أو تغلق مسار عمل هذه المادة البيوكيميائية فى المشتبكات النيوروبيولوجية المعينة، (وهى تفعل ذلك فعلا!) وإنما بوصفها تثبّط هذا المخ الناشز أو ذاك انتقائيا بما يسمح للمخ (الأصلى الأسلم) المـُزَاح أو المـُفـَكـَّك أو المُعـَطـَّل أن يستعيد دوره مع تواصل التنشيط والتأهيل.
سابعاً : تواصُل التأهيل والتنشيط للأمخاخ التى أزيحت أو توقف نشاطها بالمرض نتيجة نشوز وعشوائية طغيان الأمخاخ الأقدم، التى غالبا تحاول أن تأخذ بالمرض ما حُرمت منه خلال سوء التنشئة أو اغتراب المجتمع، أو كليهما أو غير ذلك، لهذا فإن العلاج المتكامل لا يُغفل ولا ينسى حق هذه الأمخاخ الأقدم فى تبادل الامساك بالقيادة والمشاركة فى ظروف تناسبها بما يشمل دورات النوم والأحلام على مسار التكامل لتحقيق ما كان يريده المريض بالمرض ولكن عن طريق ما أتاحه له العلاج المحتوى لكل المستويات، وهو ما يشمل: التأهيل النشط، ومعظم أنواع العلاج النفسى والسلوكى والجمعى وعلاج الوسط.
ثامنا: يتواصل التأهيل والتنشيط واستعادة الهارمونية للأمخاخ المزاحة مع تواصل التثبيط الانتقائى بالعقاقير للأمخاخ الناشزة حتى تستعيد مجموعة الأمخاخ تكاملها وتناغمها، فيتواصل جدلها إلى الابداع الايمانى الخلاق.
تاسعاً : يتم كل ذلك من خلال ما نمارسه معا من جدل نيوروبيولوجى نابعٍ مِنْ، وغائرٍ فى، “ما يسمى” حركية الوعى بدوائره الممتددّة بحيث تتواصل عملية الابداع فالنمو والتطور إلى مداها الذى لا نعرفه طول الوقت، (الغيب) مستعينين فى ذلك باحتواء ما تسمح به مستويات الثقافة الخاصة والمحيطة إلى ما تعد به من إمكانات البشر على أرض الواقع، بتنوعاته المختلفة.
عاشراً : فى الوقت المناسب بعد الاطمئنان إلى تنشيط مناسب للمخ الأقدر على القيادة (فالابداع) بطريقة أسلم وأنشط، ومع الاطمئنان إلى إعادة ترتيب مستويات الدماغ (الأمخاخ) كلها بقدر مناسب، ومع تذكر نعمة الله، التى جعلت المخ البشرى قادر على إعادة بناء نفسه ليعود إلى ما خـُلـِقَ به، ليحقق ما خـُلـِقَ له، نعطى فرصة “إعادة تشغيل الأمخاخ مجتمعة” Restart بما يسمى جلسات تنظيم الإيقاع (التى كانت تسمى الصدمات) والتى تقيـّم فاعليتها بقدر نتائجها “واحدة” “بواحدة” لنتعرف من خلال ذلك إذا كنا قد وفقنا فى تحديد التوقيت، أم أننا قد تعجلنا، أم أنه كان لا لزوم لها أصلا، وهذا يحتاج إلى خبرة متواصلة وتعاون علاجى من كل المعالجين فى إطار خطة علاجية ممتددة.
وبعد
أنا آسف لهذا التكثيف الصعب خاصة على من لا يمارسه، ولكن هذا ما يجرى تقريبا بنجاح نسبى فى حدود الواقع خلال محاولة تطبيق كل هذه الخطوط أو الخطوات وغيرها على أرض الواقع منذ عقود.
وسوف يأتى تفصيل ذلك مع “كل مرض” ومع “كل علاج” بطريقة عملية محددة.
[1] – كنت قد أسميته قبل ذلك التحوصلى، ثم الانسحابى، لكننى فضلت أخيراً أن أطلق عليه التقوقعى من التوقعة.