الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الصحة النفسية (28) ماهية الحرية، والصحة النفسية (12) تجليات الحرية فى “حالات الوجود” والمتناوبة

الصحة النفسية (28) ماهية الحرية، والصحة النفسية (12) تجليات الحرية فى “حالات الوجود” والمتناوبة

العودة إلى الفهرس

نشرة “الإنسان والتطور”

5-7-2011

السنة الرابعة

 العدد: 1404

29-6-2011-1

الأساس:الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (35)

 الصحة النفسية (28)

 ماهية الحرية، والصحة النفسية (12)

تجليات الحرية فى “حالات الوجود” والمتناوبة

أنهينا حلقة الاسبوع الماضى بتساؤلات كثيرة ، تصورت أن أهمها هى محاولة تحديد جدوى كل هذا، للطبيب النفسى حالة كونه يمارس مهنته بخلفية نظرية مناسبة ، وفى محاولة مبدئية لتوضيح هذا البعد سوف أكتفى بالإشارة إلى ثلاثة أطروحات أساسية سبق أن تناولنا بعض جوانبها فى نشرات سابقة، كما فى غيرها وهى:

  1. الأيديولوجيا وممارسة: (الطب النفسى)
  2. العلاقة بين التنظير والممارسة علاقة النظرية بالتطبيق
  3. تأثير شخصية-وتكوين- الطبيب النفسى فى انتقاء وتوجيه العلاج

أكتفى الآن بالعودة إلى ما أشرنا إليه فى أوائل كتاب “العلاج الجمعى” الذى نشر هنا وتوقف مرحليا، وهو أن هذا العلاج وكل علاج مسترشد بمفهوم النمو Growth Oriented Therapy  هو بمثابة “إحياء ديالكتيك النمو” ولكننا لم نبين دور المعالج فى هذه العملية ومشاركته الحقيقية، وحقيقة الممارسة التى هدتنا إليها خبرة العلاج الجمعى أساسا، والعلاج النفسى المكثف للذهانات أيضاIntensive Psychotherapy of Psychotics، وفى ذلك نقول:

 أنه لا يمكن أن تتم إطلاق عملية نمو المريض فى فراغ، وبقدر ما أن الأم هى المشارك الأول فى نمو طفلها البدئى، فإن المعالج هو المشارك الأهم فى حركية إحياء وتنشيط ديالكتيك النمو، فيا ترى هل يمكن أن يتم ذلك إلا أن يتعرض المعالج نفسه إلى مثل ذلك بدرجة أو بأخرى؟

الحرية من هذا المنطلق تفرض نفسها كحركة يتميز بها ومن خلالها الوجود البشرى، لضمان سلامة وكفاءة حركية النمو، فهى تشمل المعالج والمريض على حد سواء، وإن اختلفت الدرجة وتنوع الأسلوب، إلا أن أغلب الأطباء والمعالجين إما أن يغفلوا أو ينكروا الدور المحورى لحركية نمو أى منهم شخصيا، إذْ هو يتناول الحرية وما تتيحه من إطلاق الإيقاع الحيوى نمائيا كهامش جانبى فى العلاقة بينه وبين مريضه، أو هو يختزلها إلى مسألة عقلية مفاهيمية تكميلية فحسب. من هنا يأتى الإشكال حتى يكاد يستحيل تحديد مساحة الحرية التى لا بد أن تتوفر للمعالج حتى يمكننا الاطمئنان إلى كفاءة العملية العلاجية من منظلق النمو

فى نشرة سابقة بعنوان “الصحة النفسية والإيديولوجية” المفتوحة (منذ أكثر من ثلاث سنوات 8-4-2008) تناولنا بعض ذلك وسوف نعود إليه غداً.

دعونا الآن نرجع إلى المحاولة الحالية لتمييز تجليات الحرية فى حالات الوجود البشرى المتعددة

نتذكر معا كيف أن التناوب السليم يجرى بين ثلاث حالات هى “حالة العادية”، و”حالة الجنون/اللاجنون”، و”حالة الإبداع”، وأما الحالتين الرابعة والخامسة فهما أقرب إلى اللاسواء وهما حالة “فرط العادية” و”الجنون”

ونتوقف هنا لنراجع هذا التعبير السخيف “الجنون/اللاجنون” بعد أن اعترض عليه كثير من الأصدقاء، فلنُسَمِّهِ من الآن فصاعدًا “حالة الحيرة الخلاقة“، (وليس الفوضى الخلاقة)، ثم نعود إلى أحوال الحرية فى حالتى البعد عن السواء قليلا أو كثيرا وهما: “حالة فرط العادية” و”حالة الجنون”

الحرية

5-7-2011-

[شكل يبين تجليات الحرية فى حالات السواء الإيقاعى الحيوى]

وفيما يلى موجز لتجليات الحرية فى كل حالة

أولاً: فى حالة العادية 

  • الحرية ممكنة محدودة، محسوبة عادة بما تيسر من معلومات عن تناسب الواقع مع القدرات والفرص المتاحة.
  • الشخص العادى يبالغ عادة فى حاجته إلى ما يسميه الحرية وتقديسه لها، وأيضا فى تصوره لمساحة ما يتمتع به فعلا من حرية.
  • وهو شاطر فى الوصول إلى درجات مختلفة وأنواع متعددة من التسويات التى تسمح له “بتصور أنه حر”.
  • وفى نفس الوقت فإن هذه التسويات تتيح له الاعتذار بأنه لو كان حرا لكان كذا وكذا…الخ.
  • وهو يخاف من الحرية بقدر ما يطالب بها.
  • لكن مطالبته بها علنيه وخوفه منها يتم سرا على الجميع بدءًا بنفسه.
  • وهو يمكن أن يرضى بالتنازل عنها، وعادة ما يعلن أن هذا التنازل هو نوع من التعقل والحسابات الضرورية.
  • وهو يعلن عن الحرية وعن تقديسه لها أكثر مما يمارسها.
  • وهو عادة يتحمل نتائجها، وهو يتكلم عنها بحماس، وقد يحسن القراءة عن ماهيتها تنظيراً، كما يفرح ببعض الآراء فى وصف طبيعتها ويرددها، لكن ذلك لا يتناسب بالضرورة مع درجة ممارسته لها.

الخلاصة

الحرية عند الشخص العادى ليست قيمة ثابتة ولا مطلقة، وهى عادة تتناسب مع الموقف بدرجة تساعد على التكيف وتمنع التصادم، ويمكن أن يعبر عنها بالتعبير الشائع أنها تنتهى عند بداية حرية الآخر.

ثانياً: حالة الحيرة الخلاّقة (الجنون اللاجنون)

  • هنا تشتد الحركة وتعد بإمكان التوسع فى مجال الحرية ، وفى نفس الوقت يزداد الخوف من نفس هذه الحركة خشية أن تتجاوز الحدود.
  • وتتناسب المغامرة تناسبا عكسيا مع متانة القيود السابقة، (صلابة الأيديولوجيا وقوة الميكانزمات).
  • فهى تمثل اندفاعة قوية، مصحوبة بحذر من الانتقال إلى مدًى لا يمكن التنبؤ بمساره أو مصيره.
  • لكنها حالة لا تتراجع عن المغامرة بسرعة مجهضه مثل حالة العادية.
  • وهى لا تكثر من الحسابات، ولا تخضع للواقع بسهولة.
  • وتشتد فيها حركة “الدخول والخروج” متجاوزة الحدود، ثم متراجعة حسب دقة الحسابات.
  • دون توقف “فى المحل”، أو إغلاق دائرة الحركة.
  • وفيها تمارس أشكال مختلفة من التجريب، والنقد.
  • ولها مستويات مختلفة تتجاوز ما تسمح به حالة العادية.
  • ونعايش فيها فى حالة من الرعب من التجاوز والاختراق حتى التمادى إلى اللارجعة بما فى ذلك مخاطر التفسخ.
  • مع الاحتفاظ بالقدرة على العودة إلى الحالة العادية فى الوقت المناسب، وفى نفس الوقت التلويح بإمكانية انتهاز الفرصة للتقدم لإعادة التشكيل من خلال التمادى فى ممارسة الحرية موضوعيا بما يتخلق منها من إبداع محتمل.
  • فهى حالة فيها درجة من الدهشة المتصاعدة تحت خط الإزعاج المعطّل.
  • وهى أيضا تشمل “تحمل الغموض”، والتماس مع دوائر المجهول وحركيته (العتب) .
  • ويعترف فيها الفرد بنسبية الحرية من ناحية، وبالتالى لا يغالى فى تقديسها، ولا هو يبالغ فى الشكوى من غيابها.
  • وهو يعترف بمسئوليته بدرجة ما عن إسهامه شخصيا فى الحد من امتدادها إلى مداها الأرحب فالارحب

الخلاصة

فى هذه الحالة تكون الحرية موضوعية، وحافزة، وواعدة، ولها حركية إيجابية ووعود مفتوحة بقدر ما لها إنذارات مرعبة، وتهديد متوسط بانفلات القيود.

ثالثاً: حالة الإبداع

  • توجد  هنا كل مقومات ومواصفات حالة “الحيرة الخلاقة” (الجنون/اللاجنون) مع زيادة كمية ونوعية فى كل من اتجاه الرعب والدهشة والمخاطرة حتى الموت/الولادة.
  • والمبدع لا يكتفى بالكلام عن قيمة الحرية أو يشكو من اختفائها بقدر ما يمارس معاودة كسر القيود الداخلية والخارجية.
  • وهو يحمل ما يترتب على ذلك.
  • كما أنها تتحرك فى أكثر من اتجاه فى اللغة، والمساحة، والزمن.
  • فى هذه الحالة تحتد حركية الحرية حتى تكاد تصبح حتما ملحا لا يهمد إلا باعادة تشكيل المتاح من تفكيك بنقلة نوعيه سواء فى النمو (الإبداع البيولوجى الذاتى) أو فى ناتج مبدع يتحدد نوعه بأداة بذاتها.

الخلاصة

الحرية فى حالة الإبداع هى جوهر فاعل بنشاطها وحركتها بقدر ما هى التهديد المنذر بنقلة مجهولة، فهى ليست قيمة ثابته ندور حولها،  وإنما هى فعل متجاوز إلى ما بعدها

  • وقد تتجلى منقضة بعد تكثيف فيما يسمى “لحظة الإلهام”.
  • أو تنساب مضطردة النمو فى حالة النمو فى دورات الإيقاع الحيوى المتتالية وهذا هو إبداع النمو المتصل.

وبعد

المفروض أن الحالتين التاليتين ليستا متضمنات فى دورات الإيقاع الحيوى فى السواء، بل إنهما تحولان دون فاعلية هذا الإيقاع للحفاظ على التوازن التناغمى الضرورى لاستمرار عملية الصحة، فحالة فرط العادية تخنقه فى ميكانزماتها المفرطة حتى توقف فاعليته النمائية وحالة الجنون مسئولة عن تمادى التفكك حتى يفقد الإيقاع فاعليته الإيجابية ونبضة الدافع المتناوب.

 وفيما يلى تفصيل بعض هذا وذاك.

الحرية

5-7-2011--

رابعاً: حالة فرط العادية

  • فى هذه الحالة تصبح كل الصفات التى ذكرت فى حالة العادية أكثر تحديدا، وأسمك حدودا.
  • فتتمادى المبالغة فى تقديس الحرية من جهة، وكما تتضخم الشكوى من انعدامها من جهة أخرى.
  • ويكثر الكلام عنها بدرجة أكبر كثيرا جدا من ممارستها.
  • وقد تُسقط مشاعر الحرمان منها على الآخرين، فيصبح منعها عنهم هو أسلوب لمزيد من إنكارها، ويصاحب ذلك فرط التعصب، ونفى الرأى الآخر، والوعى الآخر، والاحتمال الآخر.
  • وتتأكد الوثقانية بحسم النهايات،  برغم تكرار إعلان عكس ذلك فى كثير من الأحيان.
  • ويزداد التقوقع والدفاعات (الميكانزمات) العامية.
  • وقد يتمادى المتحوصل فى هذه الحالة فى الزعم بلا محدوديتها ولكن على مستوى لفظى معلن وليس على  أى مستوى عملى خبراتى.

الخلاصة

على الرغم من التأكد أن هذه الحالة ليست متضمنة فى حالة الإيقاع الحيوى السوى، إلا أن كثرتها العددية، خاصة مؤخرا، وتحت عناوين أكثر بريقا تنبه إلى حالة اغتراب وليست حالة نبض نمائى، ولا يجوز أن تكتسب حق وصفها بالسلامة الحقيقية لمجرد زيادة أعداد من ينتمون إليها مهما بلغت مهما زادوا.

خامساً: حالة الجنون

(يستحسن مراجعة الحرية هنا فى أطروحة “الجنون والحرية فنكتفى الآن بالإشارات التالية)

  • تبدو الحرية هنا مطلقة بلا رادع ولا حدود، اللهم إلا الحدود المتصلة بمنظومات ضلالية مرضية شاذة.
  • كما يكثر استعمال لفظها فى غير موضعها، بل فى عكس موضوعها.
  • وهى غير قابلة للاختبار حسب درجة البعد الشاطح السلبى عن الواقع.
  • وهى غالبا ما تتم على حساب حرية الآخرين، والمبالغة فى قهرهم ما أمكن ذلك.
  • وتشمل بعض أنواع الجنون الاستجابة القصوى للتنازل عنها بالتبعية المطلقة حتى التشكل الشمعى.
  • أو عكس ذلك: مثل الخلف الدائم أو الشلل المطلق، أو الانسحاق لقهر من داخل أو من خارج.
  • وقد تتحقق ظاهرا من خلال إلغاء الآخر (الموضوع) والاستغناء عنه حتى إنكار وجوده، أى الانسحاب تماما من أية علاقة معه، إما بالانسحاب الجسدى الفعلى، أو بالانسحاب العلاقاتى بالتبلد أو الإسقاط المطلق.
  • وهى قد تمارس بشكل تبدو أنها تجاوزت الحدود جميعها، حتى تخدع من يتصور أن الجنون قد حقق الحرية المطلقة، فى حين أنها لا تعدو  أن تكون برقا خادعا أو كما قلنا: هى فعل الحرية انتحاراً
  • ومحصلتها فى نهاية الأمر هى التنازل عنها مرغما دون الاعتراف بذلك.

الخلاصة

الجنون هو فعل الحرية لتستحيل،

 وهو مقصلة حريته البدئية

“إن‏ ‏المجنون‏ ‏يخترق‏ ‏كل‏ ‏حاجز‏، ‏ويعيش‏ ‏أى‏ ‏تجاوز‏، ‏ويقفز‏ ‏فوق‏ ‏أسوار‏ ‏اللغة‏ ‏بلا‏ ‏لغة‏، ‏وهو‏ ‏يلعب‏ ‏بالزمن‏‏، ‏لا‏ ‏يتبعه‏، ‏ولا‏ ‏يقع‏ ‏فيه‏، ‏لكنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ هو ‏ينتهى ‏إلى ‏هـلامية‏ ‏ساكنة‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏ترجرجت‏ ‏فى ‏مكانها‏، ‏وكأنها‏ ‏تتحرك‏.

 إن‏ ‏المجنون‏ ‏الحر‏ ‏الطليق‏ ‏هو‏ ‏فى ‏و‏اقعه‏ ‏دائر‏ ‏فى ‏محله‏ ‏فى ‏انغلاق‏ ‏دوائرى ‏متناثر‏، ‏فلا‏ ‏هو‏ ‏حر‏ ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏طليق‏.

 هكذا‏ ‏ينفى ‏الجنون‏، ‏الذى ‏يبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهله‏ ‏وكأنه‏ ‏الحرية‏ ‏الكاملة‏، ‏ينفى ‏الحرية‏ ‏تماما‏ ‏وهو‏ ‏يجتثــها‏ ‏من‏ ‏جذورها‏. ‏برغم أنها كانت هى البداية الحتمية‏ ‏التى تسمح باختيار‏ ‏الجنون‏.

‏المجنون‏ ‏يختار‏ ‏أن‏ ‏يحرم‏ نفسه من‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الاختيار‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *