نشرت فى الدستور
20-2-2008
تعتعة
الشعور بالذنب فى السياسة والحرب
هل يشعر الساسة، خاصة الحكام منهم، بالذنب؟
كيف؟ ثم ماذا؟
وكلما كان السياسى الحاكم جدا، له سلطات كبيرة جدا، يحكم دولة قادرة فاجرة جدا، لها أسلحة استباقية، ومخابرات مافيّة (من المافيا)، وشركات عابرة، وتبريرات سافرة، احتدّت علىّ هذه التساؤلات عن شعور حكامها بالذنب. كيف؟ ثم ماذا ؟
أكتب منذ أسابيع فى الموقع الخاص بى www.rakhawy.org بالاشتراك مع الشبكة العربية للعلوم النفسية http://www.arabpsynet.com/” فى النشرة اليومية “الإنسان والتطور” عن الشعور بالذنب.
حين جلست اليوم لأكتب التعتعة لم أستطع أن أخرج من هذا الموضوع الملح، فحضرتنى هذه الأسئلة الساذجة.
أكتب منذ أسابيع عن الشعور بالذنب، حين جلست اليوم لأكتب التعتعة لم أستطع أن أخرج من هذا الموضوع الملح، فحضرتنى هذه الأسئلة الساذجة.
الشعور بالذنب غير الشعور بالندم، والتكفير عن الذنب غير مجرد الاستغفار، والتوبة عن الذنب ليست إعلانا موقوفا عن التنفيذ، هو شعور جوهرى مغروس فى الوجود البشرى منذ بدء الخليقة، منذ امتحن الإنسان بحمل أمانة الوعى، ثم الوعى بالوعى، وهو يرجع تاريخا إلى ندم المعرفة، منذ الأكل من الشجرة المحرمة، فالخروج من الجنة، ثم قابيل وهابيل والغراب، حتى أوديب سوفكل ثم فرويد .. إلخ طيب، إيش أدخل هذا فى السياسة؟ (بينى وبينكم، وفى الاقتصاد الذى تتمحور حوله السياسة؟)
تعلمت أن أمارس مهنتى من خلال احترامى لمرضاى وتعلـُّمى منهم، ولكى أتمكن من هذا وذاك كان على أن أتقمصهم، طبقة بعد طبقة، وتركيبا من داخل تركيب، طبعا ملئت بالرعب فى البداية، لكن طالت ممارستى أكثر من نصف قرن حتى عرفت الطريق إلى قراءة النص البشرى، وساعدتنى على ذلك ممارساتى فى قراءة النص الأدبى ناقدا، أصبح من السهل علىّ أن أتقمص مجنونا لا ينطق ببنت شفة، أقرأ عينيه وجسده وحركته وجموده، أنجح كثيرا أن أترجم لغته، وأنجح أحيانا أن أتواصل معه حتى أفهم ثورته، وفشله، وانسحابه، وإبداعه المجهض، وآلامه (بالرغم من غلبة ظاهر تبلده)، امتدت قدرتى على التقمص هذه من مرضاى إلى الأطفال، فسهُلَتْ علىّ صداقتهم، دون ذويهم الذين كنت أعجز غالبا عن تقمصهم اكتشفت أيضا أنه من السهل على أن أتقص فلاحا أميا مثابرا لئيما ظريفا عنيدا يقظا أكثر من قدرتى على تقمص رئيس المجلس المحلى أو رئيس مجلس إدارة شركة دواء، فما بالك برئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
ما الحكاية؟
احتدت المسألة حين حاولت أن أتقمص أولئك الذين عندهم من الأموال ما لو تفرغوا لعدّه حتى لو كان من فئة المائة دولار لقضوا نحبهم عدة مرات قبل أن ينتهوا، ومرت أمامى صور مرعبة لمجاعة عامة قائمة أو قادمة، وكلما سألت أحدا ممن حولى عن هدف ولذة هؤلاء بما يجمعون، على حساب أولئك الجائعين، وليس عندهم ثلاث معدات، ولا وقت “لعمل الحب “أكثر من 24 ساعة فى اليوم، فيمط المسئول شفتيه مستغربا ويقول لى: المفروض أن نسألك أنت، فأقسم له أننى عاجز أن أضع نفسى مكانهم (مع أننى غنى، وطبيب نفسى)، فيجيب: إن المال هو الطريق إلى السلطة، فأنزعج أكثر، صائحا إن السلطة سوف تجلب له مزيدا من المال وتستمر الدائرة الجهنمية، وأواصل: وهل السلطة ستجعل له معدة زيادة، أو تمط له اليوم إلى أربعين ساعة ليمارس الحب أكثر؟؟!!
التاريخ يلعب هنا لعبة ملتبسة، فهو قد يركز على التأثيم (الإشعار بالذنب، مثل مزاعم الهولوكست) أكثر من تركيزه على ارتكاب الذنب، وأحيانا يتعطف التاريخ فينبه حكاما لاحقين إلى ذنوب دولهم فى حرب أو تطهير عرقى أو إبادة جماعية سابقة، تجاه شعوب بأكملها أو أبرياء بلا حصر، فتنتبه اليابان – مثلا- إلى ما فعلت فى الصين وتعتذر، ولا ينتبه الأمريكيون إلى ما فعلوا فى الهنود الحمر، ويتمادون فى قتل ذويهم فى كارل هاربر إلى “البِدُونْ” (من ليس أمريكيا فهو شرير “بدون” جنسية”) من هيروشيما إلى فيتنام إلى أفغانستان إلى ما لا ندرى بعد إيران.
حين أواصل المحاولة، تطل علىّ ابتساماتهم البليدة، وتصريحاتهم المفرغة، وتعاطفهم الكاذب.
نجحتُ ذات مرة أن أتقمص أحدهم فإذا بى أشعر بالذنب كما ينبغى، فوجدت نفسى معلقا فى حبل مربوط فى أعلى حديد نافذة مسجد مهجور، أفزع من كثرة ما كررت لمرضاى أن انتحاره سوف يتكرر فى نار جهنم إلى الأبد، ليريه ربنا أنه لم ينجح أن ينهى حياةً ليس هو صاحبها.
أتلفت والحبل حول رقبتى، وجثتى تهتز تحتى، وإذا بى أرى مَنْ تقمصتـُهم ينظرون إلىّ فى شماتة بنفس الابتسامات، هى هى، بلا أدنى شعور بالذنب.
أنا المسئول لأننى تقمصتهم، أخطأت إذْ نسيت أن أتقمص مشاعرهم فانتحرتُ نيابة عنهم.
يملؤنى يقين أن الله أعدل من أن يتركنى هكذا،
ويتركهم هكذا!!