الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الذين يعبدون الله على حرف، والإيمان المصرى

الذين يعبدون الله على حرف، والإيمان المصرى

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 8-7-2014

السنة السابعة

العدد: 2503  

الجزء الأول:

الذين يعبدون الله على حرف، والإيمان المصرى (1)

نحن أحوج ما نكون إلى تعميق علاقتنا بربنا مباشرة من خلال كدح السعى إليه، بكل العبادات والوسائل من التسبيح إلى الإبداع إلى العمل وبالعكس، حتى لا ننساق وراء قشور من لا يعرفون طريق الحق، فيستعملون شوقنا الفطرى إلى اللهسعيا إلى وجهه، لخدمة مطامعهم فى السلطة والمال والبنون. مصر فيها دين طبيعى بسيط، يعرفه كل مؤمن جميل بسيط، مما يأتى الله بقلب سليم.

الذين يعبدون الله على حرف يتمحكون فى معلومة من هنا، أو رأى عابر جاء فى حوار فى رواية أو مسرحية هناك، فيهتفون متشنجين أن الله موجود كما جاء فى قول فلان (يا حبذا لو كان خواجة، فى رواية كذا)، والذين يعبدون الله علىحرف أيضا، يلتقطون معلومة علمية جزئية محدودة، فيها شبهة تماس مع بعض ألفاظ نص مقدس، وهات يا تفسير الدين بالعلم، والعلم بالدين، بما يشوه كلا من الدين والعلم معا.

المعرفة الأصل، والفطرة السليمة تتجاوز هذا التلفيق والتشويه، لتظل حركية الإيمان/الإبداع/التعمير/نفع الناس: هى الوجود البشرى فى أنقى صوره.

الإيمان موقف وجودى حياتى حيوى، يمتد بالوعى البشرى إلى الوعى الكونى كدحا إلى ربنا لنلاقيه، هو عملية فردية/جماعية بقائية/تطورية/متجددة/ مستمرة، لا يمكن اختزالها إلى أى شعار، أو تهميشها بأى قرار أو تنظيم، كما لا يمكنحبسها بأية وصاية أو تقـزيم.

خذ مثلا ما شاع بفرحة ساذجة عن كيف أن ديستويفسكى فى “الإخوة كارامازوف” قد أنهى أو كاد ينهى الرواية بإعلان ما معناه “إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح”، أذكر أن الرواية حين تمصرت فيلما “الإخوة الأعداء” وقيلت هذهالجملة بلهجة خطابية فى الفيلم، صفق الناس فى الصالة، وهللوا، هؤلاء الناس الطيبون يصفقون لعبارة حوارية عابرة مستوردة، تؤكد لهم “نفع” وجود الله، فيعلنون بذلك هشاشة إيمانهم، وضعف يقيينهم، وكأن مثل هذه العبارة هى إثبات جديد أن “الدين كويس جدا”، أو”أن وجود الله مفيد أيضا”!! وبالتالى علينا أن نتمسك به، وننتخب بالمرّة كل من يلوّح لنا أنه قادر على نشره وصيانته!

هيا نقرأ – كمثال- ما أسعد الناس فصفقوا له، يقول: إيفان كارامازوف ما وصل إلى المشاهدين أنه: “…إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح”، ‏أو بالنص: “…إذا‏ ‏فقدت‏ ‏الإنسانية‏ ‏هذا‏ ‏الاعتقاد‏ ‏بالخلود‏ ‏فسرعان‏ ‏ما‏ ‏ستغيض‏ ‏جميع‏ ‏ينابيع‏ ‏الحب‏، ‏بل‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏سيفقد‏ ‏البشر‏ ‏كل‏ ‏قدرة‏ ‏على ‏مواصلة‏ ‏حياتهم‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العالم‏، ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يبقى شىء يعد منافيا للأخلاق، وسيكون كل شىء مباحا حتى أكل لحوم البشر”، فيصفق الناس وينسون أن إيفان يقول فى نفس الرواية: “… لا‏ ‏يعلم‏ ‏أحد‏ ‏ماذا‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أصنع‏ ‏به‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏اخترع‏ ‏الله‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏اخترعه‏، ‏إن‏ ‏الشنق‏ ‏قليل عليه..”.

علاقة الإنسان بربه أقوى وأقدم من هذا وذاك، هذا ما يعرفه الأطفال، والعجائز، وكل من أتى الله بقلب سليم.

كتبت – ناقدا – من وحى هذه الرواية “إنه‏ ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏فرد‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏صغيرا‏ ‏أو‏ ‏كبيرا‏ ‏لم‏ ‏تمثل‏ ‏عنده‏ ‏قضية‏ ‏الإيمان‏ ‏ووجود‏ ‏الله‏ (‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏الدين‏) ‏محورا‏ ‏خطيرا‏ ‏وأرضية‏ ‏متفجرة‏، ‏لا‏ ‏إيليوشا‏ ‏ابن‏ ‏الكابتن‏ ‏سينجريف‏ ‏ولا‏ ‏أبوه‏ ‏ولا إخوته‏، ‏ولا‏ ‏أمه‏”،أوصلنى نقدى للرواية إلى فرض يقول باستحالة الإلحاد بيولوجيا، بمعنى أنه وصلنى كيف أن تنظيم الخلية البشرية فى ذاته، يتوجه بطبيعة فطرته نحو استعادة هارمونيته مع تنظيم الكون على اتساعه، وأن الوعى بهذا النزوع يوجهنا بشرا لنبدع أنفسنا بتجدد متصل نحو استعادة التوازن مع الكون، فنؤمن بالله، وأن أية مخالفة لهذا القانون البيولوجى الحافز إلى التناسق الإيمانى، ليس إلا من ألعاب العقل المبرمج حديثا من خارجه، أما الخلية فتظل مبرمجة تطوريا بما يوجهها إلى إطلاق فطرتها، وإلا ضمرت وفنيت، الأمر الذى لا مجال لتفصيله هنا والآن. المهم أن قضايا الإيمان والتدين تتفجر بكل إشراقها من أصالة حركية الإبداع، إقرارا وإنكارا، وأن هذه الحركية هى الآلية الأساسية اللازمة لتحريك جدل الإيمان، وأنها ما زالت قائمة وفاعلة فى عمق وجود شعبنا الأصيل.

محفوظ قدّم لنا الطريق إلى الإيمان فى معظم أعماله، إن لم يكن كلها، وفى رأيى – وقد صارحته بذلك – أن “أولاد حارتنا” كانت من أقلها نجاحا فى القيام بهذه المهمة، مقارنة برحلة ابن فطومة، والأصداء، وملحمة الحرافيش وغيرها،وغيرها، ولنا فى ذلك عودة.

الإيمان المصرى العريق يتجلى فى كل لحظة فى كل بيت، وفى كل شارع، وفى كل وجه يعيشه أى مؤمن مصرى أشعث أغبر، خلط الإيمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب، وهو لا يحتاج أن يتكلم صاحبه بلغة خاصة، ولا أن يستشهد بنصوص بذاتها، فهو محورٌ وجودىٌّ فى حياة كل ناس هذا الشعب، ممن لم يتشوهوا بتسليم لسلفية تاريخية، أو سلفية حديثة. هذا الإيمان لا يكون كذلك، إلا إذا وقر فى القلب وصدّقه العمل

هيّا معا

والله المعين.

الجزء الثانى:

الإنسان المصرى والإيمان الأصلى (2)

 علاقة الإنسان المصرى بالله الواحد الأحد علاقة وجودية حضارية أصلية تجلت فى ما وصلته من ديانات هادية مبدعة الواحد تلو الآخر فآمن بها الواحد تلو الآخر، “لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ”

وعدت أمس أن أقدم بعض ذلك من خلال بعض إشراقات محفوظ الذى قدّم لنا الطريق إلى الإيمان فى معظم أعماله، إن لم يكن كلها، هذا المصرى المؤمن الرائع حين سئل – بالمصادفة بعد نوبل- عن جذوره واستلهاماته وغائيته أقر بفضل الحضارة المصرية إلى الإسلام المنير، ومع ذلك اتهموه فى علاقته بالله وبالإسلام، هذا المصرى المؤمن الموحد المبدع اكتشفت أكثر فأكثر كل خميس من خلال قراءتى ونقدى لتلقائية ما خطّ عفوا أثناء تدريباته لذراعه المصاب، (مئات الصفحات) ما جعلنى أكاد اعتبره قطبا أضاء لنا عبر إبداعه هذا الطريق الرائع إلى وجه الله كما وصلته فى تجليات ثقافة المصريين الذى يمثلهم أجمل من كل التاريخ .

إن قارئ نجيب محفوظ الذى يحسن الإنصات إلى رسائله، لا بد أن يصل إلى الإيمان اليقين من أكثر من طريق، وبأكثر من لغة. يتحرك إبداع هذا الرجل طول الوقت وهو يكشف لنا بعض ما نستطيع – نحن المصريين- تحمله، وحمله من جرعات الإيمان المتصاعدة، وإليكم بعض ذلك، مجرد عينات:

من ملحمة الحرافيش: فى حوار بين فلة وعاشور الناجى الكبير، تسأل فلة:

 “كيف يلقاك الناس يا عاشور؟”  فيرد “كلٌّ يعمل على قدر إيمانه”.

ومن أصداء السيرة الذاتية: حضرت تجليات الإيمان والموت والخلود بشكل متكرر متنوع لتخدم تحريك الوعى، لإيقاظ الفطرة سعيا إلى وجه الحق تعالى، وهاكم بعض عينات محدودة:

تبدأ فقرة “الزيارة‏ ‏الأخيرة” بأنه: “لولا المعلم عبد الدايم لضاع كل وافد على المدينة القديمة…إلخ” حيث أرجع الكاتب الفضل كله لصاحب الفضل، وأوضح كيف أنه بالرغم من فضله هذ،ا فقد أنكره أغلب من تفضل عليهم، بل وتنكروا له، حتى نسوه، لتنتهى الفقرة بالتذكرة بأن الموت هو اليقين الذى لابد وأن يثبت أن الوفاء هو الأجدر بمن وعى فضله باحثا عنه حامدا صنيعه.

أما الفقرة المسماة “‏المصادفة فقد  أظهرت كيف أن الاعتذار عن غرور الإنسان بنفسه، يبدو أجمل نوع من الاستغفار، وأنه مهما نضج الفرد حتى تصور أن بإمكانه أن يستقل عن تلك القوة الداعمة الجبارة المساندة، فإنه فى نهاية النهاية سوف يعرف أنه:

 “لا غنى عنها … وأن لقاءها، هو مصادفة سعيدة رغم كل شىء”.

وفى الفقرة ‏بعنوان “‏الانبهار”  كان الذى حافظ على استمرار العلاقة الجدلية نحو الإيمان حية حركية هو حضور الأسئلة المستعصية دون جواب، حيث يسمع كل سائل فى جوف الصمت العميق، يسمع  “الجواب الذى يغيثه” لتنتهى الفقرة كما يلى:

“… لم‏ ‏أرَ‏ ‏حركة‏ ‏تدب‏ ‏فى ‏شفتيه، ‏ ‏ولم‏ ‏أسمع‏ ‏صوتا‏ ‏يند‏ ‏عن‏ ‏فيه‏، ‏ورجعت‏ ‏من‏ ‏عنده‏ ‏وسط‏ ‏جموع‏ ‏قد‏ ‏انبهرت‏ ‏بما‏ ‏سمعت….‏”‏.‏

 الإجابات‏ ‏الصامتة‏ ‏عن‏ ‏الأسئلة‏ ‏الصعبة‏ ‏الغامضة هى ‏الإجابات‏ ‏الحقيقية‏ ‏القادرة على تحريك الوعى إلى غايته‏، ‏وهى ‏إجابات‏ ‏تأتى ‏من‏ ‏الداخل‏/‏الخارج‏ (وبالعكس) ‏مباشرة‏ ‏بيقين‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏شئ‏،

 كل‏ ‏إبداع‏ ‏محفوظ‏ – تقريبا- يحرك فينا مثل هذه الأسئلة التى تدفعنا إلى حيث يدور الوجود البشرى ‏حول‏ حضور ‏الله‏ ‏الآنى والخالد، عبر الوعى ‏بالنهاية‏/‏البداية‏، ‏والحوار‏ ‏مع‏ ‏الأقدار، يفعل ذلك وهو يثير – بسلاسة متسحبة- الأسئلة التى هى هى الإجابات .

وبعد

اسمحوا لى أن أؤجل الحديث عن الشيخ عبد ربه التائه فى الأصداء، وأيضا عن حضور نفس الإيمان الأصيل فى الوعى المصرى فى أحلام فترة النقاهة لشيخنا الجليل: نجيب محفوظ.

أقول قولى هذا، وأدعو الله العلى القدير أن نستطيع نوقظ كل هذا فى وعى كل المصريين الحضاريين المبدعين المؤمنين، ونحن نبنى من جديد هذه الأمة التى تحمل كل هذا الخير، وليس ذلك على الله، ولا على الشعب المصرى العظيم، ببعيد.

[1] – تم نشر هذا المقال فى موقع اليوم السابع، بتاريخ:6-5-2014

[2] – تم نشر هذا المقال فى موقع اليوم السابع، بتاريخ:7-5-2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *