“يوميا” الإنسان والتطور
8 – 10 – 2007
العدد : 38
الخوف من الحب (2)
“مَنْ” يحب “مَنْ”…؟
(صفقات الظاهر، وأحلام التكامل!!)
مرة أخرى نتقدم خطوة فى محاولتنا سبر غور التواصل البشرى، مع تركيزنا على مايسمى “الحب“، آخذين العلاقة بين المرأة والرجل، كنموذج فقط، إذ يبدو أن القواعد والقوانين واحدة، مع اختلاف التجليات والسلوك والمجال والنوع والفرص!!
القصيدة المنتقاة اليوم هنا تحاول ان ترسم تقاطعات متحاورة بين الذات الغاوية الظاهرة، وبين الفطرة الطفلية الطازجة الجاهزة المتخلـّقة معا.
فى خبرتى المحدودة، كدت ألاحظ فى الكثيرات تناسبا عكسيا بين فرط التجمل والاهتمام بالشكل الظاهرى، (والديكورات، والإكسسوارات، والميك اب)، وبين مدى الانسحاب الداخلى، والعجز عن التواصل المتعدد الأعمق للتكامل.
هذه السدود التى نبنيها داخلنا طبقة وراء طبقة، ليست سدا واحدا كما تصورناها من الكلام الشائع عن التحليل النفسى الفرويدى (الذى ليس هو ما قال به فرويد تماما)، المسألة ليست مسألة شعور ولاشعور، وحاجز بينهما، ودمتم. المسألة هى مستويات وعى يقابلها مستويات دماغ نيورونية (مخية)، مرتبة هيراركيا بحسب تاريخ التطور من جهة، وتاريخ النمو من جهة أخرى، ثم علاقات داخلية، بالتبادل أو بالتناوب أو بالتعاون أو بالتسوية المؤقتة أو الدائمة، وكلها – فى أحوال السواء جدا ومع استمرار النمو- تتوجه فى نهاية النهاية (بلا نهاية) نحو جدل خلاّق، يظل الوعى الفائق يتكون من خلاله باستمرار باستمرار، إلى أن يتصل الوعى الخاص بالوعى العام (فى حالة إن لم يكن قد فقد جاذبيته فأصبح نيزكا كافرا) فالوعى الكونى بالموت توجّـها إلى بارئه تعالى.
لن أمل من تكرار هذه الأساسيات لأنها تمثل الخريطة الكبرى التى أتحرك من خلالها حتى وأنا أتناول مسألة الحب، أو: وبالذات وأنا أتناول مسألة التواصل البشرى عامة، التى من أهم تجلياتها ما نسميه الحب.
من هذا المنطلق يمكن أن ننظر فى عنوان هذه الحلقة: “من يحب من؟” ونحن نتسائل :
حين نحب أو نُحَب، أى مستوى وعى من كل هذا هو الذى يفعل ذلك؟ وإذا اقتصرت الصفقة (أنا أستعمل كلمة الصفقة بمعناها الإيجابى أساسا، وأحيانا بمعناها السلبى، فتاريخ الحياة والتآمر والبقاء، كله صفقات!!!)، أقول: إذا اقتصرت الصفقة على مستوى وعى دون الآخر، فما دور المستويات الأخرى؟، حالا (أثناء ممارسة بنود لاتفاق)؟ ومستقبلا على المدى الطويل؟
وهل استبعاد المستويات الأخرى هو ضرورة أحيانا حتى يمشى الحال، أم هو خطر على طول الخط على مسيرة التكامل “معا”؟
وهل يمكن أن ترجع مضاعفات العلاقات البشرية التى تظهر مع مرور الزمن إلى الإفاقة المتأخرة نتيجة لاختزال العلاقة إلى مستوى واحد دون الآخرين؟
وما العمل؟
الذين يتناولون قضية التواصل بين البشر وكأنه تواصل بين اثنين أساسا، أو فقط، ثم يصنفون الحب على هذا الأساس، لهم وجهة نظر سليمة، لكنها فى نهاية النهاية “محدودة” (حتى بعض تصنيفات إريك فروم فى “فن الحب”) مع أنك تستطيع أن تقرأ حدسهم بهذا التعدد دون إعلانه مباشرة، وهذا ما يجعل بعض تصنيفاتهم مقبولة، ومفيدة.
قصيدة اليوم تـُظهر بعض هذا التعدد المتداخل فى محاولة عمل علاقة حب: حيث يظهر مستوى صفقة الغواية الخارجى، فى مقابل مستوى البحث عن الكيان الخائف الأكثر أصالة، ثم نرى حوارالمقاومة، وأيضا مؤامرات الخوف، و الاستبعاد، و الاختزال، و الامل.
لكن : دعونا نقرأ القصيدة كلها على بعضها أولا كما اتفقنا:
وعيون مكـْحُـولة مْـنَـدِّيــة.
تِسْحِـَر وتشِدْْ.
منديلْها على وش الميّة
مِـستنّى تمـدْ:
إيدك، تسحبْـها تروحْ فيـها،
ولا مينْ شـَافْْ حـدْ.
(1)
ماتكونشى يا واد الندّاهة؟
حركات الجنّية اياها؟
أنا خايف مـِاللـِّى مانـِيشْ عارْفُهْ.
أنا شايفْ إِللِّى مانيش شايفُــهْ.
وتلاحِـظْْ خوفى تْـطَـمّنى.
وتقولّى كلام، قال إيه يعنى :
ماتبصّش جوّهْ بـزْيادة،
خلّــيك عالقَــدْ.
شوف حركة عودى الميـّادَة،
شوف لــون الخدْ
(2)
وأحس بهمْس اللى معاها،
أنــوِى أقرَّبْْ.
وأشوف التانية جُــوَّاهَـا،
أحلى وأطيبْ.
والخوف يغالبنى من ايـّاهـَا،
لأْ. مش حَـاهـْربْ.
والطفلة تشاور وتعـافرْ،
بتقـّرب، ولاّ بـْتـِتاَّخـِرْ؟
وانْ مدّيت إيدى ناحيتها، بتخاف وتكِـشْ.
والتانية تنط تخلــّـيها: تـهـْرَبْ فى العـِشْ.
دى غيامةْ كــِدب وتغطــيّة، ومؤامرة غِشْ.
(3)
وماصـدّقشى،
ولا اسلّمشِى،
أنا واثق إنها ما مَـتِـتْـشٍى
أنا سامع همس الماسْكِـتْشِـى
مش حاجى، لو هيّه ما جَاتْـشِى.
(4)
- جرى إيه يا أخينا؟ عَـلى فـِينْ ؟
حَاتْـصـَحّى النايـِمْ؟ بـِـضمانْ إيه”؟
جَـرَى إيهْْْ؟
مش عاجـْبـَك رسمى لـِحـَواجـْبى، ولاََ لُـونْ الُّروجْ؟
مش عاجبك تذكرةِِ الترسو، ولا حتى اللوجْ؟
ما كَفاكْشى زِواق البابْ؟
هيّه وكالة من غيرْ بّوابْ؟
أنا مش ناقصة التقليبهْ دِيّــةْ،
ولا فيش جوّايا “الْـمِشْ هيّةْْ”،
ولاَ فيه بنّـوتــة بـْمَـرايلْهـَا،
ولا فيه عيّـل ماسك ديلهاَ،
(5)
إوعى تخطّى، أبْعـَدْ مِـنّى، حاتْلاقى الهِـِوْْْ.
البيت دا ما لوهْـشى اصْـحـَاِبْ.
دُولْ سـَافروُا قَـبـْلِ ما يـِيـِجـُوا.
من يوم ما بنينا السدْ:
السد الجوّانى التانِى.
وانْ كان مش عاجبكْ، سدّى البرّانـِى.
تبقى فقست اللعبة،
ومانيـِشْ لاعبةْ.
(6)
دوّر على واحدة تكون هبْلهْ،
بتْسوُرَقْ مِنْ حَصْوِة نِبْلهْ.
تديلك قلْب الخسّاية!!
ومالكشِى دعوة بْجُوّايَا
…..
يا ما كان نفـِسى،
بس ياروحْ قلبى “ما يُحْكمشِى”.
***
نقرأ معا:
النداهة، فى بلدنا هى جنية تظهر ليلا على سطح الترعة، فى صورة منديل حريمى جميل أو أى إشارة جاذبة تسترعى الانتباه، بحيث تغرى المار على شاطئ الترعة بالذهاب نحوها، أولا: من حب الاستطلاع، وثانيا : منجذبا انجذابا سحريا للمجهول الجميل الواعد من الظاهر (منديل على سطح الماء، يتموج خفيفا مع هسهسات حركة ماء الترعة)
وعيون مكـْحُـولة مْـنَـدِّيــة.
تسحَِر وتشدْ.
منديلها على وش الميّة
مِـستنّى تمـدْ،
إيدك، تسحبْـها تروح فيـها،
ولا مين شـَافْْ حدْ.
قلت فى البداية أننى لم أعد أفاجأ من التناسب العكسى بين مدى العناية بالمظهر الخارجى، وتمادى البرود الداخلى لكثيرات ممن تتاح لى الفرصة لفحص هذين المستويين فى خبرتى المهنية أساسا. بل إن المسألة تتعدى الديكورات والمظهر الخارجى إلى حضور الجاذبية الحقيقية، بما لا يتناسب مع حقيقة وعمق التجاوب فى النهاية. (تحذير من التعميم: أحيانا – ليست قليلة – تكون هذه العناية بالخارج، نوعا من احترام الجسد، ويكون الجمال الخارجى، حتى المصنوع منه بإتقان، إشارة إلى الجمال الداخلى، لكن هذا هو الأندر).
فى بداية هذه القصيدة، يبدو أن التركيز كان على السحر والشد، والغواية، ويبدو أن الوسائل كانت ناجحة لدرجة ثقة النداهة بسحرها القادر على جذب السائر على شط الترعة حتى تسحبه إلى غير رجعة (هذا ما يُحكى عن الجنية النداهة فى بلدنا، وهو بعض ما استلهمه يوسف إدريس فى قصته النداهة). وهو ما خالج صاحبنا من أن هذا الجذب الساحر، يحمل وراءه الاختفاء الغامض، المرعب، ومع ذلك: هو يواصل الانجذاب، وهى تواصل الغواية:
ماتكونشى يا واد الندّاهة؟
حركات الجنّية اياها؟
أنا خايف مـِاللـِّى مانـِيشْ عارْفُهْ.
أنا شايفْ إِللِّى مانيش شايفُــهْ.
وتلاحِـظْْ خوفى تْـطَـمّنى.
وتقولّى كلام، قال إيه يعنى :
ماتبصّش جوّهْ بـزْيادة،
خلّــيك عالقَــدْ.
شوف حركة عودى الميـّادَة،
شوف لــون الخدْ
يقترب صاحبنا من السطح، لكنه لا يكون منجذبا انجذابا خالصا لسحر الغواية، إذْ يبدو أنه يريد ما وراء ذلك، فتلاحظ هى أنه بقدر ما هو خائف، يقترب ويرجو ما تحت السطح، فتنبهه أن الصفقة ينبغى أن تقتصر على هذا المستوى (يمكن أن ترجع للحلقة السابقة: الوجبات السريعة) نعم، هى تنبهه ألا يتجاوز الحدود، وأنه إن كانت ثمة صفقة فهى محددة المناطق (قارن هامش رقم “1” فى الجزء الأول “الخوف من الحب”)، وأنه غير مسموح له أن يخطو إلى ما بعد السطح (ما تبصش جوه بزياده، خليك عالقد) ولتحقيق ذلك ى تذكره بجمال خارجها، وميادة عودها، ووردية خدودها.؟؟ إلخ،
هو يستمع إلى كل ذلك، لكن يأتيه همس من الأعماق، فيقترب، لا ليقبل الصفقة الظاهرية بشروطها، وإنما هو يقترب أملا فى التواصل مع الهمس الآخر الذى يناديه بلغة أخرى، لعلاقة أخرى :
وأحس بهمْس اللى معاها،
أنــوِى أقرَّبْْ.
وأشوف التانية جُــوَّاهَـا،
أحلى وأطيبْ.
والخوف يغالبنى من ايـّاهـَا،
لأْ. مش حَـاهـْربْ.
يستجيب صاحبنا فعلا، لكنه لا يستجيب لنداء السحر الجذاب، وإنما هو يشعر بأن الأخرى تناديه من قاع الترعة، ربما هى عروس البحر الطفلة الفطرة، وهى “أحلى وأطيب”، فهو لا ينجذب إلى المنديل على سطح الماء، بقدر ما يأمل فى تلك الأخرى الأجمل والأطيب، لكنه يخاف (تماما مثلما كانوا يخوّفوننا من الاقتراب من الترعة ليلا حتى لا تخطفنا النداهة)، فيهُمّ بالتراجع خوفا من التى على السطح، (والخوف يغالبنى من اياها) التى هى مستعدة للالتهام بمجرد أن يمد يده، ولو كان يبحث عن الجميلة فى القاع وراء البرميل، والساحرة منتظرة متحفزة تلوّح بمنديلها (مستنى تمدّ: إيدك تسحبها تروح فيها، ولا مين شاف حد).
ثم ها هو يتراجع عن التراجع (لأ مش حاهربْ) ويبدو أن موقفه ورؤيته وحنينه إلى تجاوز هذا الظاهر المغرى، قد وصل إلى صاحبة الشأن فى الداخل، إليها صاحبة النداء الهامس،
ولكن هل ثمَّ سبيل؟ وصاحبتنا على السطح تقف شامخة ساحرة بكل هذه الغواية والقوة؟
والطفلة تشاوِرْ وتعـافرْْ،
بتقـّربْ، ولاّ بـْتـِتاَّخـِرْ؟
وانّ مدّيت إيدى ناحيتها، بتخاف وتكشْ.
والتانية تنط تخلــّـيها: تـهـْرَبْ فى العـِشْ.
دى غيامةْ كــِدب وتغطــيّة، ومؤامرة غِشْ.
مثلما ذكرنا فى الجزءالأول ، فإن الوعى الداخلى، مهما بدا أنه يحتج على هذه الصفقات الخارجية ويعرّيها، فإنه أضعف من أن يتجاوزها أو يحتويها، وهو بهربه هذا، يشارك فى إتمام صفقة الخارج، بطريق غير مباشر، وهاهى الأخرى “تخاف وتكش”، وكيف لا، والتى على السطح بكل هذا العنفوان الاستبعادى “(والتانية تنط تخليها تهرب فى العش)، فهل يرضى صاحبنا بما تيسر من الظاهر، وهو مغر ولذيذ (راجع لذة الوجبات السريعة) ، وهل يقتنع أن الأخرى الداخلية لم تعد فعلا فى المتناوّل؟ هل يصدّق؟
لا؟ إنه يبدو أشد إصرارا، فهى مهما بعدت ما زالت هناك، لم تمـُتْ، ولن تموت :
وماصـدّقشى،
ولا اسلّمشِى،
أنا واثق إنها ما مَـتِـتْـشٍى
أنا سامع همس الماسْكِـتْشِـى
مش حاجى، لو هيه ما جَاتْـشِى.
نعم, لم يسلم، وواصل نداءه الصامت، كما واصل استماعه إلى صمتها الذى لم يسكت “أنا سامع همس الماسكتشى“، والأخرى – على السطح – تتصور أنه وهو يقترب، يقترب منها، من أجل غوايتها، لكنه يعلن شرطه بوضوح، أنه إن تقدم فإنه يتقدم للأخرى “مش حاجى لو هيا ما جاتشى“، ولا يوجد ما يشير إلى أنه يستبعد هذا الظاهر، وإنما يبدو أنه قبلهما معا.
تنبيه واجب هنا : إن المسألة هى ليست “إما أو “، اللهم إلا إذا أصر “السطح” على استبعاد كل ما عداه، إن علاقة الحب الحقيقية هى حب لكل المستويات، بكل المستويات، بما فى ذلك حب الغاوية السطحية، ولو بابا إلى العمق، ولكن ليس على حسابها،
لكن التى على السطح هنا لا تعترف إلا بنفسها، ولو وصل الأمر إلى تفضيل أن “تلعب حبا” بدلا من أن “تحب” ، ها هى تنبرى لتحول بينهما، بالمنع والتحذير والتشريط:
- جرى إيه يا أخينا؟ عَـلى فـِينْ؟
حَاتْـصـَحّى النايـِمْ؟ بـِـضمانْ إيه”؟
جَـرَى إيهْْْ؟
مش عاجـْبـَك رسمى لـِحـَواجـْبى، ولاََ لُـونْ الُّروجْ؟
مش عاجبك تذكرةِِ الترسو، ولا حتى اللوجْ؟
ما كَفاكشى زِواق البابْ؟
هيّه وكالة من غير بّوابْ؟
ننتبه هنا إلى أن هذه الغاوية ليست راضية تماما عن هذا الانشقاق حتى لو حقق لذة الوجبات السريعة، وعلينا أن نتذكر أنه “إيش رماك على أن تلعب حبا، قال قلة الحب“. هذه التى على السطح تريد ضمانا (بضمان إيه؟)، وهى مهما قدم لها من ضمانات (بما فى ذلك ورقة الزواج، فى الأغلب) لن تسلـّم – طالما هى منفصلة هكذا– ولا تسمح لجميعها أن يشاركوا فى العلاقة المتعددة المستويات، أى فى علاقة حب. وليس لعبة حب، فهى تتعجب من عدم رضاه بكل ما فعلت لإغوائه ليكتفى بهذا الظاهر (ما كفاكشى زواق الباب، هيا وكالة من غير بواب؟)
وبرغم ذلك، فهى لا تخشى تحريك الداخل لمجرد الخوف من أن يحل هذا الداخل محلها، هى تخشى أن ترتبك حسبتها التى اكتفت بالظاهر، والتى هى قادرة ومستعدة أن تتمتع به مهما كانت مدته قصيرة، أو نهايته التهاما (مستنى تمد :… إيدك تسحبها تروح فيها، ولا مين شاف حد)، هى تخشى إذن أن تتـقلب هى نفسها، أن تتألم وهى تحاول أن تتكامل، أن تضع فى الاعتبار هذا الاحتمال الآخر، هى تخشى الحب الحقيقى الذى يقلّب ويؤلم ويدهش ولا يكتفى بالإغواء اللذيذ السريع الأضمن
أنا مش ناقصة التقليبهْ ديّــةْ،
ولا فيش جوّاىَ “الْـمِشْ هيّةْْ”،
ولاَ فيه بنّـوتــة بـْمَـرايلْهـَا،
ولا فيه عيّـل ماسك ديلهاَ،
ولا يتحقق لها (التى على السطح) ما تريد إلا بمحو كل احتمال آخر، ليس فقط بإنكار عروس البحر الطيبة الحلوة بداخلها، وإنما بإنكار أن أحدا يريد هذه الأجمل والأطيب ليلعبا معا (ولا فيه بنوتة بمرايلها، ولا فيه عّيـل ماسك ديلها)
لكن يبدو أن صاحبنا ينكر إنكارها هذا، فهو يستمر فى النداء الخفى من ورائها، لكنها تضبطه متلبسا فتسمعه، فتنبهه إلى التاريخ الصعب الذى اضطرها أن تفضل الرضا بلذة الجزء عن المغامرة بجدل الكل، فهى تنهره منعا باتا أن يتخطى حدوده، مذكرة إياه أن الباب المقفول ليس وراءه إلى فراغ الخواء بلا حدود، وما لا يدرى م سدود.
إوعى تخطّى، أبْعـَدْ منّى، حاتْلاقى الهِـِوْْْ.
البيت دا مالوهْشـى اصْـحـَاِبْ.
دُولْ سـَافروُا قَـبـْلِ ما يـِيـِجـُوا.
من يوم ما بنينا السدْْ.
السد الجوّانى التانِى.
وانْ كان مش عاجبكْ، سدّى البرّانـِى.
تبقى فقست اللعبة،
ومانيـِشْ لاعبةْ.
هنا وقفة مهمة :
أنا لا أميل إلى التركيز عليها نظرا لما شاع فى التحليل النفسى من تبرير وتوقف عند التفسير بدلا من الانطلاق من الموجود، لكنها وقفة شديدة الأهمية مهما كان احتمال سوء فهمها، أو سلبية استعمالاتها. إن العلاقات البشرية تنبنى فعلا على أساس سلامة لبِنَات التواصل الأولى التى توضع فى محلها، فى وقتها، لغرضها، والتى يبنى بها بيت الثقة فالكيان، إن التى (أو الذى) تستطيع أن تطلق داخلها ليشارك فى (لا ليستقلّ بـ) عملية الحب، لا بد أن تكون قد اطمأنت طفلةً (أو بعد ذلك فى أى ولادة جديدة فى أزمات النمو) إلى أنها ليست وحيدة، إلى أنها جزء من آخرين يريدونها ويعترفون بها فتريدهم وتعترف بهم، هكذا تتاح لها الفرصة أن تبنى نفسها “بيتا” (وليس لنفسها بيتا) ، بيتا له أصحاب، هى أولهم، وليست آخرهم،
فهى بإعلانها هنا أن “البيت دا ما لوهشى اصحاب” إنما تعلن سبب هذا الهروب الكبير، وإحلال المنديل على سطح الترعة، محل جنية البحر الطفلة الفطرة الجميلة، أما أن البيت ليس له أصحاب فلأنهم كانوا أشباحا لم يحضروا واقعا مغذّيا أمانا أبدا، مهما تحركوا يلعبون لعبة تشبه الحياة، يلعبونها سرا مع أنفسهم، ويختفون قبل أن يظهروا “دول سافروا قبل ما ييجوا“
لكن هل يعقل أن يبنى طفلا ذاته (بيته) دون أن “ينتمى” أصلا؟ وكيف ينتمى وهو منذ وُجد لم تواجهه إلا الحواجز التى أقيمت لتحول دون التواصل الحقيقى (القبول والاعتراف والأخذ والعطاء) فحالت فعلا منذ البداية، بل قبل البداية، دون إلقاء بذرة الحب التى يمكن أن تؤتى أكلها كل حين “حبا حقيقيا متجددا” ؟ ذلك الحب المتعدد المستويات التى قررت صاحبتنا الاستغناء عنه من يوم أن أقاموا السد (السد الجوانى التانى) ، إذن: فالحاجز الذى تقيمه من الغواية الآن فيحول دون العلاقة المتكاملة ليس هو السبب الاساسى فى الإعاقة الحالية، وإنما السبب التى يرجع إلى الحاجز القديم “السد الجوانى التانى“، أما هذا السد البرانى، فكان المطلوب منه أن يقوم باللازم ليحقق المراد الجزئى فى وجبة سريعة، أو فى وجبات رسمية راتبة، كنظام الوجبات المستخرجة من “الديب فريزرعلى طول المدى.
أما إذا جاء أحدهم –مثل صاحبنا- واكتشف السر، وهو يستشعر ما وراء حاجز الغواية هذا، فقد رأى ما كان ينبغى له ألا يراه، وبالتالى فليذهب ليبحث عما يريد بعيدا عنها”، فها هى تنبهه – ساخرة – إلى أن من تقبل منه أن يلعب معها هذه اللعبة التى تبدو له أجمل وأولى، هى ليست إلا مُنشقّـةٌ أيضا (عبيطة، هبلة)، حث أنها لا تعرف مايتنظرها، ولا تعرف حدود لذتها، ولا تعرف مخاطر رحلة تكاملها، فهى سوف تستجيب مسحورة (بتسورق) لأى إشارة واعدة، إذ من أين لها بحسابات المعلّمة الأخرى (التى تحتل السطح).
دوّر على واحدة تكون هبْلهْ،
بتْسوُرَقْ مِنْ حَصْوِة نِبْلهْ.
تديلك قلْب الخسّاية!!
ومالكشِى دعوة بْجُوّايَا
…..
يا ما كان نفـِسى،
بس ياروحْ قلبى “ما يُحْكمشِى”.
وبعد
لست أدرى هل وصلكم كمّ الأمانة والصدق اللذان يبرران موضوعيا : الخوف من الحب، حتى الرفض، برغم الرغبة فيه رغبة لا شك فيها “يا ما كان نفسى،” رغبة تموت بالسخرية قبل أن تظهر ” بس يا روح قلبى ما يحكمشى“.
يبدو أن من يريد أن يحب، ولا يكتفى بأن يلعب حبا ، عليه أن يغامر بأن يعطى ويأخذ “قلب الخساية، ولايكتفى بأوراقها أو رأسها.
ولكن هل يكون للخساية قلب إلا إذا أحاطته كل هذه الأوراق التى ذبلت وجفت من فرط قيامها بدورها الرائع فى الحماية والدفاعات؟ إن من يريد أن يلقى بهذه الأوراق الصلبة ليكتفى بقلب الخساية هو أيضا ليس محبا، وإنما هو قناص مستسهل.
وبعد (مرة أخرى):
خيل إلى أن المسألة أصبحت أصعب. ليكن.
قلنا من البداية، حتى لو لم يكن لدينا بديلا: “نستعمل الواقع (الخطأ)، لا نستسلم له، ونرفضه حتى نغيره”.
فهل نستطيع ذلك فى مسألة الحب هذه؟ (ربما مثلها مثل مسألة الديمقراطية والحرية والمال، وأشياء أخرى كثيرة)، وإذا لم نستطع فهل يمكن أن نرضى بالموجود باعتباره النقص الواجب، أم نستسلم له باعتباره البديل الدائم طالما لا يوجد غيره.
أمس : سألتكم هل أكمل فى هذه المواضيع التى لا يبدو لها حل فى الأفق القريب، ولم أنتظر الإجابة، فخرج من هذا الجزء رغما عنى ولقد عددت –أمس أيضا- مخاطر هذا المستوى من التعرية، واعتذرت (لا ، فأنا عادة لا أعتذر، أصحح إن أخطأت، ولا أعتذر)
تـُرى هل أصبحتْ المسألة أسهل أم أصعب؟
وهل سنصل إلى معالم حل فى نهاية النهاية، ولو حتى لنتعرف على اتجاه أسهم نحو المسار الصحيح
آمل
ولا أعتقد
لكن دعونا نحاول،
وإلا – مرة أخرى – فلماذا هذه اليوميات هكذا؟ ولماذا الإنسان والتطور؟