نشرة “الإنسان والتطور”
5-8-2010
السنة الثالثة
العدد: 1070
الحلقة الخامسة والثلاثون
الخميس: 16/2/1995
…. فتح جديد ومكان جديدا، سوفيتيل المعادى، سبقتُ الأستاذ لأطمئن على المكان، وأدعى الاطمئنان على الأمان، كان محمد إبنى هو الذى سيصحبه اليوم هو وتوفيق صالح إلى الفندق، بعد أن عاينت المكان الذى أعدَّ بناء على الاتفاق مع ابن أخى مدير سوفيتيل المطار، نزلت – غير مقنع إلى بهو الاستقبال، وجلست فى الانتظار، وجدت شخصا ذا ملامح مألوفة يجلس بجوارى وينظر إلىّ مترددا، بادلته النظر فى تردد، أنتظرُ الأستاذ قادما مع محمد والأستاذ توفيق بعد أن اطمأننت على الجارى نسبيا، هذا الإنسان الطيب الجالس بجوارى فى بهو الاستقبال أكاد أعرفه لكننى لم أجرؤ على بدء التحية أو السؤال، فبدأ هو قائلا: “فلان؟ (د. يحيى الرخاوى؟)”؟ قلت نعم، قال: أنا صلاح فضل!! يا خبر!! أنا لم أره من قبل ولا أذكر حتى أننى لمحت صورته فى الصحف، فمن أين أتت هذه الألفة؟ هذا الناقد المهم أحترمه منذ قرأت له كتابه عن “الواقعية”، ثم إنى أسمع أنه يذكرنى بالخير هنا أو هناك، لكنه لا ينقد أعمالى أبدا، ترى لماذا؟ سألنى عن إنتاجى اللاحق لروايتى فقلت له أننى انتيهت من بعض الكتابات لكننى لا أنشرها، طلبها منى، وذكر أن جهات كثيرة مستعدة لأن تنشر لى، وأن عزوفى عن النشر ليس بسبب عدم وجود ناشرين، ولكنه يرجع إلىّ أنا، ربما خوفا من التعرى أو النقد، قلت فى نفسى: “ربما”، سألته عما أتى به إلى هنا الآن، فقال إنى فى انتظار الأستاذ نجيب محفوظ، لقد علمت أنه يحضر هنا اليوم، سألنى بدوره عن سبب حضورى، فابتسمت، وقبل أن أجيب دخل الأستاذ علينا هو ومحمد والاستاذ توفيق، وحيا الأستاذ جارى صلاح فضل، ويبدو أنه لم يجد صعوبة فى التعرف عليه بالرغم من حالة النظر، وصعدنا إلى حيث أعددنا مكان اللقاء.
المكان بسيط وطيب، صحيح أنه فى الدور الرابع، وأنه إحدى الحجرات الخالية، لكنه يشعرك أنك فى منزل ولست فى فندق، قلقت قليلا خشية أن تنشغل الحجرة يوما فى موسم سياحة مزدحم، والأستاذ إذا الف مكانا ما حَفَرَ له تمثالا فى وعيه يسكن إليه كلما حل به، قررت أن أنبه ابن أخى أن تظل هذه الحجرة بالذات هى مكان لقاءنا باستمرار، أو أن يعدوا لنا ركنا آخر بعيدا عن حجرات النزلاء، (وفعلا اتصلت به لاحقا، وقام باللازم).
حضر على سالم لأول مرة، إنسان يرن صوته الجهورى له صدى فى أرجاء بدنه الجسيم أعلى من رنينه فى أرجاء الحجره، يشعرك أن صوته يحيط بمن يسمعه، بدا لى حضوره بنفس التجسيد، وربما بدت لى ذاته كذلك، ما زلت أذكر له شجاعته فى مسرحية “عفاريت مصر الجديدة” فى عز أيام الضبط والربط، قمت من جوار الأستاذ وأجلسته مكانى لعله يستغنى عن علو صوته الذى خيل إلىّ أنه كان يهز أرجاء الحجرة الصغيرة نسبيا، بدأ توافد أصدقاء جدد، ففرحت أنهم عرفوا المكان من أول لقاء، وقلت فى نفسى: ها هى ثلة جديدة تتكون من محبين قدامى غالبا، وعادت لى فكرة التأمين الخادع، هؤلاء الناس المحّبون الطيبون يعرفون تحركاتنا الجديدة قبل أن نلتقى فى مكان جديد لأول مرة، فما بالك بمن يريد أن يترصد حركتنا قصدا، ربنا هو الحارس حتما، لم أعلن أفكارى هذه خشية أن تثير توجسات لا لزوم لها، مع أن القعيد صاحب فكرة التنقل المستمر للتخفى لم يكن حاضرا، (وهو لم يحضر أبدا إلى سوفيتيل المعادى، فهو “فرحبوتى” دائم، وحضوره سوفيتيل المطار كان مصادفة كما ذكرت، للقرب من بيته)
حضر شخص جديد لا أعرفه، وسلم عليه الأستاذ بحراره، وعرفنى بنفسه د. محمد حسن عبد الله، ياللفرص الطيبة، هو استاذ بكلية الآداب، الذى كتب عن الروحانية أو الإيمانية (أو الاسلام) فى أدب نجيب محفوظ،/ أبلغنى أنه كتبه ردا على كتاب غالى شكرى “اللامنتمي”، أنا لم أحب لا هذا العمل ولا ذاك، وأعتقد أن قراءتى لهما كانا مصدر التعبير الذى استهللت به مقدمة كتابى فى نقد بعض أعمال الأستاذ بهذا التعبير: “خذ من نجيب محفوظ ما شئت لما شئت”، أذكر بالكاد كيف كتب أ.د. عبد الله فى مقدمة كتابه هذا أنه عَرَض أفكار الكتاب على الأستاذ، وأن الأستاذ أقر وجهة نظر الكاتب كلها، ما ضايقنى ليس موافقة الأستاذ كعادته، ولكننى توقفت عند حكاية أن يوافق الاستاذ على “كل ما جاء فى عمل ما”، فمن ناحية هذا ليس من طبعه، ومن ناحية أخرى أعتقد أن هذا ليس مديحا طيبا لعمل جيد، راح الأستاذ الدكتور يحكى للأستاذ نجيب عن آخر أعماله عنه، وكيف أنها ستصدر قريبا فى إصدارات قصور الثقافة، ثم جاء ذكر جائزة الملك فيصل، وأظن أن حمدى السكوت قد حصل عليها عن أعماله التوثيقية عن العقاد، أو شىء من هذا القبيل، لا أذكر التفاصيل، أضاف أ.د. عبدالله أن السكوت يعد السيرة الخاصة بالأستاذ وما نشر عنه وما نشر له، وقيل تعليقا على هذا أنه سوف يواجه فيضا لا يستطيع أن يلم به، فعقب دكتور عبد الله “أن: “فعلا، وأن هذا العمل قد يصدر فى أكثر من جزءين”.
غيّر على سالم الموضوع باقتحام قوى طريف عالى الصوت مازال، وقف واقترب من الأستاذ وكأنه يهم بالسلام للمغادرة، لا حظته من جديد طويلا جسيما، خيل إلى أن سمنته زادت عن لحظة دخوله، فبدا لى مترهلا مخيفا، لكن خفة ظله وصوته الجهورى أبلغانى أنه هو هو المصرى الطيب القوى الواضح برغم كل شىء، تركت له مكانى بجوار الأستاذ ربما لا يحتاج إلى كل هذا الصوت العالى، لكنه راح يصيح منفلتا بالنكات المناسبة وغير المناسبة، مما لا يمكن حكيه كله، والأستاذ يضحك ضحكات مختلفة لا يمكن أن تميز أيها للمجاملة وأيها للمشاركة وأيها للاستحسان، لكن نكتة واحدة كانت ذات دلالة مناسبة يمكن حكيها:
يحكى على سالم بطريقته: إن جماعة خرجوا على عابر سبيل ومعهم الرشاشات يسألونه مهددين مشهرين أحد الرشاشات فى وجهه: ”إنت معانا ولا مع التانيين؟”. فارتج عابر السبيل وقال مرعوبا: “من أنتم، ومن التانيين؟” حتى يتمكن من الرد، فلم يعجبهم هذا التلكؤ، وكرروا بحدة أكثر وتهديد باد: “إنت معانا ولا مع التانيين”، مرة وأكثر، فزاد رعب الرجل وقرر أن ينضم إلى الناحية الأضمن، وينحاز لهم دون التانيين، وأجاب أخيرا “أنا معاكم، طبعا”، وبسرعة فتحو عليه النار وقتلوه وهم يقولون: “إحنا التانيين”،
وضحك الأستاذ طويلا وواسعا، وأعقب ذلك حديث ينبه على مغزى النكته الرائع وأن أحدا لم يعد يعرف “من يحارب من؟”، ومن بين ما قيل إشارات إلى دور أمريكا فى حفز الإرهاب بما فى ذلك إرهاب القاعدة، تاريخا قريبا، وحاضرا ماثلا، وأنها –أمريكا- عميل مزدوج لجماعات ظاهرة وخفية، ولم يدافع أحد عن أمريكا، ولم يعلن أحدهم السيد الحقيقى الذى يستخدم كل هؤلاء العملاء، وإن كنت أشك أن الأستاذ وافق على ذلك كله دون تحفظ.
كان من بين النكات التى أطلقها على سالم نكتا عن الجنة، وأخرى عن الملائكة، وثالثة عن بعض الأنبياء وهذا ما جعلنى أقول فى البداية أننى لن أسجلها، لكننى وجدت ميلا الآن أن أسجل أن النادل سمع طرفا منها وهو يحضر الطلبات، وأن حارس الأستاذ (وهو شاب اصبح صديقا من طول العشرة، حتى أننى حين تزوج لاحقا حضرت حفل عرسه ورقصت له فيه)، أقول إننى كنت أتابع تعبيرات وجه الحارس ووجه النادل وهما يستمعان عن بعد لهذا التجديف، وأرصد الرفض الغاضب وأعذرهما، وكدت أطلب من على أن يخفف من اندفاعه حرصا على مشاعرهم، أو أن أنبه الأستاذ إلى ما يظهر على وجوههم، لكننى عدلت عن هذا وذاك باقتناع أن الاستماع مسئولية من يستمع، وأنه لا يليق ان أشغل الأستاذ بما لم يصله مباشرة فأزيد قلقه، وليكن ما يكون.
تابعت تعبيرات وجه الأستاذ بالنسبة لنكت التجديف هذه، فوجدت أنه لا يضحك، ولا يبتسم، لكنه أيضا لا يغضب ولا يعترض، حتى تعبيرات وجهه اتسقت مع موقفه المتسامح بكل هذا الاتساع، خرجت من الحجرة مصادفة، لا أذكر لماذا، وإذا بى أرى النادل وقد مال على زميل له، وازداد وجهه عبوسا وخيل لى أنه يحكى لهذا الزميل ما يجرى داخل الحجرة من تجديف، تساءلت بينى وبين نفسى: لماذا يدفع الأستاذ ثمن هذه التجاوزات؟ لا أحد سيذكر مثلا على سالم، وأنه هو الذى قال ما قال على مسئوليته، أعتقدت أن رواية بعض ما حدث سوف تنتقل من نادل إلى بواب إلى زوجة إلى جارة إلى سائق ميكروباص وإلى جامع، على أن هذا الكفر هو ما يجرى فى مجلس الأستاذ نجيب محفوظ، ولا أستبعد أن تعاد هذه النكات على أنه هو الذى قالها، ثم خذ عندك …، لم اخَفْ، لكن غيظا جديدا غمرنى فازددت غيظا.
متى يشعر الناس أنهم يعيشون فى مجتمع غير الذى تصوره لهم عقولهم؟ قلب هذا الموقف كيانى، وأشفقت على الأستاذ وعلى النادل، وعلى الحارس، وعلى نفسى، وعلى الناس، لكننى لم أخف.
انفتح حديث الديمقراطية من جديد، الذى فتحه هذه المرة كان على سالم وأعلن أن الديمقراطية سوف تأتى بهؤلاء الإسلاميين لا محالة، لكن صلاح فضل نبهه أن وعى الشعب المصرى الآن يتزايد فى الاتجاه المضاد، حتى أنه لو أتيحت الفرصة الكافية قبل الانتخابات فإنه ربما سقط هؤلاء الإسلاميون فى الانتخابات، وأن الشعب المصرى له ذائقة تاريخية يميز بها الزيف من الحقيقة، ورد الأستاذ بما سبق أن سمعته منه وأثبته فى هذه المذكرات مرات عديدة مما لا يحتاج إلى إعادة، وخلاصته أن علينا أن نقبل واقع الناس حتى لو أساؤوا الاختيار، وكرر أن هؤلاء الناس هم الذين أنجزوا واختاروا عرابى وهم الذين اختاروا سعد زغلول، وجمال عبد الناصر، فلماذا نأتى الآن ونشكك فى قدرتهم على الاختيار، ثم حتى لو أساؤوا الاختيار،فدعونا نعيش الواقع كما هو، وإما نحن قادرون على دفع الثمن حتى نغيره، وإما أننا لا نستأهل إلا ما يحدث، يا أستأذى، يا شيخى الجليل، من أين تأتى بكل هذا الإصرار والتحمل والشجاعة طول الوقت؟ كيف تصر على موقفك هذا البالغ القوة والقدرة والثقة فى ناسك هكذا؟ لكن موقفك هذا، حتى الآن على الأقل، لم يساعدنى أن أتغير، أنت وآراؤك على عينى ورأسى ولكن اسمح لى أن أختلف، وأن أحتفظ بحقى فى الخوف.
مرة أخرى: لست أدرى ما الذى أتى بذكر ثروت أباظة، ربما ذكر أحدهم رأيا فى روايته الجديدة، قال الأستاذ: إن ما يعجبنى فى ثروت أنه من القلائل الذين لا يخجلون (ولم يخجلوا) من انتمائهم للطبقة العليا (لا فى حياته ولا فى كتابته)، وهذه شجاعة وموقف يحسب له، ذلك لأنه جاء علينا وقت كان الواحد منهم يقول (وهو يفخر غالبا) “يا جماعة أنا لست باشا ولا إبن باشا ولا يحزنون، أنا ابن قحـ…..”
وضحك الأستاذ وضحكنا، وفرحت بالملاحظة.
كان الحديث فى البداية قد تناول عملية التشوية التى يقوم بها أولاد السحـار فى قصص إحسان عبد القدوس وغيره، وأنه يشطب ألفاظا ويضيف ألفاظا، فمثلا حين تقول الجملة “وكانت تمشى متثنية (يضيف: لأنها بلا دين).. وهكذا، وقلت للأستاذ إنهم فى السعودية منعوا (أو خاف الموزع أن يمنعوا) دخول روايتى ”المشى على الصراط” لأن عنوان الجزء الثانى منها كان: “مدرسة العراة”، فقال الأستاذ إنهم رفضوا دخول روايته: “بين القصرين” لأن كلمة قصر مكتوبة فيها، وذكر أن هذا موقف تاريخى، وأن مجلة ما (لا أذكر اسمها – ذكره الأستاذ) كانت تصدر عدة طبعات وترسل كل طبعة إلى ما يناسبها من الأقطار العربية، فطبعة للسعودية، وطبعة للمغرب، وطبعة لمصر وهكذا، كما نبه الأستاذ إلى أن”السحارين” (هكذا يسمى ورثه السحار) لايتداولون من قصص إحسان إلا ما يرسل إلى السعودية، لكننى نبهت إلى أن هذا تشوية للتاريخ وليس فقط لنسخ بذاتها، وأضفت: إن اختلاف نسخ عمل ما هو غير اختلاف الرواية الشفاهية لتاريخ ما.
ثم جاء ذكر تأثير المسئول عن الثقافة إن كان محافظا أم مسامحا، وقيل إن عبد القادر القط ربما يكون مسئولا عن بعض ذلك، ذكر صلاح فضل أن القط هو محافظ بطبعه، وأنه ذات مرة أتت له إحدى الشاعرات بشعر به مواجهة قاسية مع “صورة الأب”، فرفض نشر قصيدتها، ونصحها أن تكتب شعرا برا بوالديها صاحبى الفضل عليها، فخرجت من عنده باكية متألمة أكثر منها متعجبة أنه نسى أنها قدمت له قصيدة شعر وليس موضوع إنشاء .
وانصرفت أنا أيضا وأنا لا أكاد أصدق.