نشرة”الإنسان والتطور”
4- 11 – 2010
السنة الرابعة
الحلقة الثمانية والأربعون
الاثنين: 2/4/1995
ذهبت إلى صوفتيل المعادى قبله، لم يكونوا قد أعدوا المكان بعد، أخلوا لنا سويت فى الدور الحادى عشر، حضر فى الموعد تماما فاستطعت أن أمضى معه نصف ساعة كاملة، اشبعتنى لأجوع أكثر، جاءت سيرة الوسام الذى سيحضر سفير فرنسا لتقليده للاستاذ يوم السبت، مع سلماوى، فعلا هو وزير خارجيته كما أسماه مرارا، قال لى إنه لا يدرى أين سيستقبل السفير، فإن الصالون فى بيته ضيق، ثم إن الكراسى ذهبت للإصلاح، ثم أردف ضاحكا : أحسن لنا نقابله فى بئر السلم أمام باب الشقة، ونأخذ منه الوسام، وسلام سلام، مع السلامة ياخواجه، قالها وهو يمثل الاستقبال الــ “قوام قوام” مثل أولاد البلد الذين يحرجون من زيارة باشا أو حاكم أو أى أحد من علية القوم فى الشارع وهم يعزمون عليه أن يتفضل نصف نصف، وهم يخفون خجلهم القوى الشريف من مظهرهم ومن منزلهم المتواضع، طبعا قالها هو يضحك ويتبسط، ويتواضع جدا دون ادعاء. تحدثنا عن الجو، وقلت له إن المرحوم عبد الرحيم غنيم الذى كان النائب العام الذى حقق فى حريق القاهرة، يناير 1952 وكان ابنه صديقى وكنا نذاكر معا عنده فى بدروم فيلته فى مصر الجديدة، وكنا فى سنة خامسة طب، فكان عبد الرحيم بك يدخل علينا فى مثل هذا الوقت من العام ينبهنا ألا نتخفف من ملابس الشتاء بسرعة، ويقول لنا مثلا بالفرنسية أن إبريل شهر التقلبات غدار، وأن عليك ألا تنزع خيطا واحدا من ملابس الشتاء فيه، أما مايو، فافعل فيه ما تريد(1)، وقال نعيم صبرى، وكان قد حضر قبل أن أغادر، إن ت – إس – إليوت قد وصف إبريل فى الأرض الخراب بأنه “ذلك الشهر المجنون المتقلب”.
حكيت للاستاذ حكاية طريفة حدثت فى اجتماع لجنة الثقافة العلمية بالاشتراك مع اللجنة القومية لمشروع اليونسكو + 2000 للنوعية الثقافية والعلمية، وقلت له إن عميد كلية جميل شاعر عالم كان يجلس بجوارى، أثناء الاجتماع وأن الكلام كان فاترا ومعادا وتحصيل حاصل، وتبادلنا الهمس والنظرات، وشعرت معه كيف أن المجتمعين يبدون مثل جماعة من موظفين تجاوزت أعمارهم العمر الافتراضى للتفكير، ناهيك عن التجديد والإبداع، وبعد أن عجزنا –سيادة العميد وأنا- أن نتابع ونساهم ونأمل، رحنا نتبادل حوارا جانبيا همسا، وعلى الورق، قال العميد الصديق أن مثل هذا النقاش قد يدور أحيانا هكذا حتى فى مجلس الجامعة، وأن جلسته فى المجلس تقع عادة بجوار عميد كلية لغة عربية، وهو شاعر ظريف أيضا، وحين يشعران بمثل ما نشعر به الآن يتبادلان كتابة بعض الشعر على الورق الموضوع أمامهما، أغلبه شعر قديم فكه، قلت له، والمناقشة على أشدها: مثل ماذا؟ فراح يكتب على ورقة أمامه شعرا كتبه شاعر يصوّر عنّته ويتعاطف مع عجزه قائلا:
ينام على طرف الفتارة خامدا له حركات لا يحس بها الكف
كما يرفع الفرخ ابن يومين رأسه إلى والديه ثم يدركه الضعف
وغير ذلك مما هو أكثر صراحة وأدل معنى، وضحك الاستاذ بطيبة وسماح، فاطمأننت أننى لم أتجاوز، واستأنفت أقول له: إن العنة الفكرية التى نعانيها قد يليق عليها وصف هذا الشاعر لعجزه، وأننى أتصور أن هذه العنة قد أصابت أدمغة بعضنا حتى لم نعد نقدر على التفكير المغامر المقتحم، ولاحظت أن الأستاذ لم يعلق، ربما لأننى قلت هذا التعقيب السخيف وأنا واقف أودعه لأنصرف، وربما التقط هو ذلك وخشى أن يعطلنى، أو يؤاخذنى.
ما أكرمه وأرقه.
الجمعة 7 / 4 / 1995 (فى بيتى)
منذ زمن لم أجلس مع الاستاذ فى لقاء الجمعة فى بيتى، كل هذه الساعات الثلاث على بعضها!!، عدت من سيناء صباح اليوم بعد أن سافرت لإحضار العربة التى كنت تركتها للإصلاح فى نويبع، وكان ابنى قد حضر إلينا بعد عطل السيارة الذى أشرت إليه سابقا ونقلنا ورجعنا بعربته أنا ووالدته إلى القاهرة، ، وكان لا بد أن أعود معه لأستعيد عربتى بعد اصلاحها وكل يقود عربته، ففاتتنى جلسة الحرافيش أمس، وقلت لنفسى: أعوضها اليوم، كنت فعلا فى حاجة إلى جلسة طويلة، ومناقشة عميقة، وحضور محيط، وقد تحقق كل ذلك، د. رمضان بسطاويسى حضر بعد غيبة طويلة، وقلت له إننى محتج على غيابه بعد مقابلة واحدة مع الاستاذ، كذلك حضر قدرى (أدريان) وأولاده الأطفال معه، وتحفظت أن يشاركونا الجلسة كلها حتى لا تصبح المسألة فرجة من ناحيتهم، وربما حرجا من ناحيتنا، وقد رضوا بذلك، وطلبوا التقاط صورة مع الأستاذ فرحب كالعادة، وانصرفوا، كذلك حضر الصديق ياسر المحامى وزوجته، ياسر هذا يمثل لى برنامج حاسوب محاماة محكم، أظنه متخصص فى موضوع العقود، وهناك فى خلفية ذلك برنامج اتفاقية عاطفية محدودة مع زوجته وأولاده، وربما معنا، ربما كل هذا هو ما يحكم مستوى مناقشاته بشكل أو بآخر، فيخيل إلى أن كل ما عدا ذلك من مساحة فكره غير جاهز للاستعمال، ما هذا؟ أعتقد أننى أبالغ فى حكمى على الناس، هذا عكس ما يفعله الاستاذ تماما!! ما هذا؟
“حافظ” هو الذى أحضر الاستاذ من بيته ولحقنا محمد يحيى، ثم أ.د.مجدى عرفه زميلى فى قصر العينى.
أعدت على الاستاذ هذا الفرض (أو الشطح): القائل إن وراء غربة الملايين الخمسة من المصريين إيجابيات قابلة للتراكم مع الأيام، وهى تتجمع فيما بينها عرضا، على مساحة العالم العربى وربما تمتد إلى ما أبعد من ذلك، وقد تتجمع طولا مع مرور الأيام، وتكلمت عن تفاؤلى باحتمال غلبة إيجابياتٍ قد لا تظهر آثارها إلا بعد حين، لم يوافقنى أحد من الحاضرين، تماما مثلما فعل زكى سالم فى بيت الأستاذ يوم السبت الماضى، وهز الاستاذ رأسه (سبق الكلام عن هذه الهزة وحيرتى معها فى كثير من الاحيان)، ذكرت بعض الإيجابيات التى لاحظتها على من قابلت من مصريين أثناء رحلتى مثل الذى سجلتها من قبل، فراح حافظ يعدد عينات من الإهانة التى يتلقاها المصرى فى الخارج، والنذالة التى يبديها المصرى ليقطع عيش زميله المصرى هناك، وبالمقارنة لا يفعل ذلك لا السودانى ولا الفلسطينى ولا التايلاندى ولا الهندى، أصررت على موقفى، وقلت إننى لم أنكر هذه السلبيات، ولم أنكر أنهم يعودون لا لينتجوا وإنما ليبنوا بيتا من المسلح فى الأرض الزراعية، يجلسون أمامه، وفى داخله، يتفرجون على أفلام الجنس والمسلسلات، أو يتزوجون الزوجة الثانية بلا مبرر، ومع ذلك فمازال الفرض الذى طرحته يملؤنى، فالمصرى له تاريخ، وله عواطف، وله رؤية، وهذه السلبيات الكثيرة التى تظهر بإلحاح على السطح، هى التى تغطى كل ذلك بغطاء سميك لكنه ليس له حيوية ولا مرونه، وأن هذا الغطاء سوف يتشقق حتما ليخرج ما وراءه بعد أن يكون قد تجمع إيجابيا، وأعلنت صراحة أننى لم أستبعد احتمال أننى أخدع نفسى، وأقحم عليها تفاؤلا يبرر استمرارى فى هذه الحياة على هذه الأرض مع ناسى هؤلاء جدا، تفاؤلا ليس له ما يبرره على أرض الواقع، لكننى لا أملك الفكاك منه، وحتى لو أننى وافقت على الرؤية التى طرحها حافظ عزيز، وهى رؤية واقعية عارية تماما فلابد أن أضيف: إن ذلك يعنى أن أتحمل مسئولية المشاركة فى معالجة هذه السلبيات والتخلص من آثار أغلبها، أما لو صحت رؤيتى (فروضى) فإن هذا يعنى أن الإيجابيات – وسط كل هذا القهر – موجوده وفى ذلك ما يشجعنى على البقاء حيا، إذْ يبرر استمرارى، وكررت أننى أعترف بكل هذا القهر، ولكن هل وراء فرط القهر – هكذا – إلا التحريك فالتغيير، فيقول محمد يحيى إن صحت فروضك هذه فإن التحريك والتغيير قد حدثا فعلا، ولكن فى الاتجاه الآخر، فى تغذية هذا الشكل من ”التدين السلبى” الحالى، وراح يشرح ما يعنيه من تعبير “التدين السلبى” وأنه أشمل من نشاط “الجماعات”، وأوافقه من حيث المبدأ، لكننى أتجاوزه إلى أننا لابد أن نحترم الدور الاقتصادى للمصرى المهاجر، وأنه يمكن أن يمثل البنية التحتية للتغيير الإيجابى القادم، وفى نفس الوقت هو قد يكون المسكٍّن الأساسى لآلامنا الراهنة، ويفتح ”قدرى” زاوية البرجل على الآخر، فيعلن أننا فى عصر الكيانات الكبيرة، وأن التفكير فى الحلول الجزئية لم يعد يصلح لأحد، فالعمالقة يتجمعون وينظمون أمورهم فيما بينهم، ويقسمون الأرزاق، وعلينا أن نبحث عن موقفنا ونصيبنا من هذه الزفة العالمية، بدلا من أن نرهق انفسنا بحلول جزئية ومرحلية، لابد أن تفشل إن هى انفصلت عن النظام الأشمل. رحّبَ الاستاذ بهذا الاتجاه العالمى، وبدا أنه ينتظر أن نكون أعضاء عاملين فى مجتمع واحد واسع رحب متسامح، لكننى سارعت بالتحذير من الاستسلام للأدوار التى ترسم لنا، والتى تبدأ بتقسيم (وتنظيم) الأرزاق، ثم تنتهى بتشكيل العقول والوعى، وسألت “قدرى” وهو يدعم الرأى المستقبلى التجمعى العالمى، سألته عن نصيبنا من الصناعات المستقبلية، قال مثلا: هناك صناعة شرائح الكمبيوتر (فيما يخص اللغة العربية) وهى التى ستمثل ثالث صناعة فى عالم المستقبل على مستوى العالم، وهناك الصناعات ذات العمالة الكثيفة مثل صناعة السيراميك، وتوقف الحديث قليلا والأستاذ منشرح الصدر أننا أخيرا سوف نجد مكانا فى التقسيمة العالمية الجديدة، هذا الرجل يأخذ كل الأمور مأخذ الجد حتى كأننا مجلس وزراء مصغر وهو رئيسه، قلت لقدرى: إذن، أنت تريد أن تبلغنا أن قدرنا الآن هو أن ننتظر توزيع الأنصبة، وأن نبدأ وننتهى بالضبط حيث يضعونا، ورفضت ذلك وحذرت منه، حاول قدرى أن ينفى هذه المبالغة لكن لم يكن لديه بديل، أعدت السؤال: أليس عندنا مبادأة نقترحها تصلح لنا؟ وأنه لامانع أن نعرضها على أسيادنا العالميين، لعلهم يجدوا لها مكانا فى خططهم العملاقة؟ وسألت قدرى مرة أخرى أستوضح: أى الصناعات تتصور أنها تليق بقدراتنا، فقال إنها الصناعات القذرة، مثل صناعة الأسمدة والأسمنت، قلت يعنى إنهم ينظفون بيئتهم على حساب بيئتنا، ثم أضفت: حتى لوكنا نستأهل ذلك أو لا نملك غيره، ألا تخاف من أن يكون هذا النموذج فى تقسيم الصناعات وتوزيع الأرزاق هو هو النموذج المطروح لتثبيت الأفكار، وتوزيع المعتقدات؟ نبه د. مجدى عرفه على هذا النوع من النقاش الذى قد يؤدى بنا إلى خطأ الوقوع فى نوع من التفسير التآمرى، ووافقته على هذا التحذير، لكننى أضفت أن تجنب التأويل التأمرى لا يعنى بحال من الأحوال الاستسلام للثقة الطفلية، إن علينا أن ندرس أحوالنا فى نفس الوقت الذى يدرسون فيه أحوالنا (ضمن أحوال العالم) ونرى ما نتميز به فكرا ووعيا وتاريخا، وفى نفس الوقت قدرة ومهارة وعمالة، ثم نقترح ما هو أليق بنا ولو فى اطار ما يخططون لنا.
انتقل محمد يحيى إلى جوار الاستاذ ليقترح شيئا ما عن هو نحن قائلا: إنه ينبغى أن نبحث أولا وقبل كل شيء على ما نتتميز به لدرجة تقرب من استبعاد المنافسة، فنحن نتميز بالجو المعتدل طول العام، والشواطيء، والآثار، والموقع الجغرافى، وبالتالى ينبغى أن يكون دخلنا الأول من السياحة لا من الصناعة، فقلت له إنها صناعة السياحة، قال، ليكن، يلى ذلك الزراعة، أو صناعة الزراعة إن شئنا، وافقه الأستاذ فرحا بافكاره، وقال: ولكن ما العمل قد بدأنا نحن نضرب ما نتميز به، ألم نضرب سياحتنا بأيدينا وكأننا بذلك ننتحر؟ وطأطأ رأسه بحزنٍ واضح آسفاً.
رجع قدرى إلى التنبيه إلى أنهم (فى العالم الجديد) لايصنفون الدول بالتقدم والتخلف، ولا بالعالم الأول أو الثانى، وإنما يصنفونها على أساس الطريقة التى يتبعها ساسة دولة من الدول فى اتخاذ القرار، وضرب مثلا: القنبلة الذرية، فهم لا يخشون من دولة متقدمة أو دولة غنية، وإنما يخشون من دولة تملك أسرار القنبلة الذرية، أو تملك القنبلة الذرية، وفى نفس الوقت يحكمها فرد (أو حكم شمولى يتبع فردا مثل صدام حسين) هنا يصبح الخطر فى أن يصدر هذا الفرد قرارا تترتب عليه حرب ذرية، وبالتالى يتضح مدى الرعب الذى يصيبهم من تصور احتمال امتلاك أية دولة للقنبلة الذرية أو أسرارها طالما أنها ليست ديمقراطية، فبدا الكلام مقنعا للاستاذ خاصة، فهو فى صالح معبودته “الديمقراطية”، ولم أتردد فى العودة إلى التحفظ على المبالغة فى تقديس هذه الديمقراطية الغربية، وكررت اعتراضى أن نرضى طول الوقت أن نقاس بمسطرتهم، وأن نتواجد تحت لافته تعريفهم للديمقراطية، أو لحقوق الإنسان، وهكذا، وقلت إنهم أنفسهم يراجعون الديمقراطية التى يمارسونها حاليا، كما يراجعون مسألة “الديمقراطية بالإنابة” التى كادت تصبح أقرب إلى النكته أو الخدعة، وأن الاتجاه الآن يتجه إلى البحث عن ديمقراطية تتماشى مع اللامركزية المتزايده، والحلول الذاتية المتكاملة فى الكل، والتى تتيح الاشتراك المباشر لكل المشتغلين فى موقع بذاته من واقع الممارسة، أن يسهموا فى اتخاذ القرار، وهنا بدأ الكلام متناقضا مع الاتجاه إلى تصور اتجاه العملقة وتقسيم الأرزاق (ذُكرت طبعا اتفاقية الجات عدة مرات أثناء النقاش)، فقال د.رمضان بسطويسى إن هناك اتجاها مستقبليا يعد بالعكس تماما، هذا الاتجاه يشير إلى أن أوربا تسير أكثر فأكثر نحو المزيد من اللامركزية، وراح يؤكد أن الكيانات الصغيرة تتشكل بعدد أكبر، وبنتظيم أكثر استقلالا، حتى ربما فى النهاية محل النظام العالمى المشار إليه، كل هذا يحدث دون انفصال عن الكيان الكلى، بل إن بعض الكيانات تنظر إلى ضعف دور الدولة فى الدول النامية مثلنا باعتباره مزية لا عيبا، حيث تمضى الحلول الذاتية إلى تحقيق غايات لا تستطيع الدولة القيام بها أولا ينبغى أن تقوم بها، فيقتصر دور الدولة على ان تصبح بمثابة شبكة الاتصالات التى تجمع هذه الجزئيات المستقلة بأقل قدر من التدخل، وألتقط الخيط لأعلن أن علينا من الآن أن نبحث عن تميزنا، وأن نحدد هويتنا، وأن نؤكد دورنا المحتمل، اقتصادا وفكرا، ووعيا فماذا عندنا يمكن أن نضيفه إليهم من موقفنا الخاص فعلا؟ قال الاستاذ دون تردد: عندنا الإسلام، ليس عندنا شيء متميز ومختلف غيره، فالحرية هم رواد الحرية، والديمقراطية: هم الذين صنعوها ويحافظون عليها، وحقوق الانسان: هم أيضا روادها، فلو حاولنا أن نصدر أو ندعى ملكية أيا من هذه المنظومات لوجدنا أنفسنا مقلدين متأخرين عنهم بمراحل كبيره، فليس عندنا سوى الاسلام، لم أكد أفرح بالعوده: إلى الحديث القديم حتى قفز محمد يحيى قائلا، وحتى فى الاسلام، هم متقدمون عنا فيه، من واقع الحس والوعى والممارسة، وليس بالضرورة من واقع النص والفقه والتفسير، وافقت فى داخلى بشروطى، لكننى أعلنت الحذر والرفض خشية الاستسهال والنكسة، وفى نفس الوقت تعجبت للاستاذ الذى يضع الاسلام هكذا فى بؤرة وعيه باعتباره منظومة متميزة فعلا يمكن أن تضيف إلى الإنسانية ما تحتاجه، الأرجح أن هذا الرجل يعرف إسلاما آخر غير ذلك “الإسلام” الذى “هو الحل”، يعرف إسلاما حقيقيا وصله من إبداعه وعلاقته بربه بقدر ما وصله من نقد واقع ما انحدر إليه سلوك ناسه، لم أعلن أيا من ذلك، وخشيت أن ننزلق إلى نقاش معاد حول ما إذا كان هؤلاء المسمون إسلاميون يمثلون الاسلام الذى يعنيه الأستاذ أم لا، وينبه د. رمضان بسطاويس إلى قدرات الانسان المصرى التى تتضاعف أضعافا كثيرة إذا ما وضع تحت ضغط، فى الداخل أو فى الخارج، فيقول الاستاذ ولماذا تخص المصرى بذلك، ألا ينطبق هذا على الإنسان فى كل زمان ومكان، ويقول قدرى إن معادلة الانتاج تحتاج إلى: إنسان جيد (القدرة والأداء والمهارة) ونظام جيد (يستوعب هذه القدره والآداء والمهارة)، وأنه إذا اختل أحدهما (الإنسان أو النظام) توقف الانتاج وتحقق الفشل، فالإنسان المصرى الجيد يفشل فى مصر (عادة) لأن النظام سيء، فإذا خرج وانضغط انطلق وأنجز، وأوافق بتردد، لأن الخواجة الذى يحضر إلى مصر قد يبذل جهدا مناسبا حتى ينجح ويحقق القدر الملائم مما يريد، إذن فنظامنا يسمح بأن يُظهر هذا الخواجة جودته وسطنا، ثم إن الانسان الجيد حقيقة لا يكتفى أن يكون ترسا فى نظام جيد، ولكن عليه أيضا أن يجتهد ليقيم نظاما جيدا إن لم يوجد، وهذا أمر أصعب ، لكنه وارد، بل واجب.
ويسألنى – د. رمضان بسطويسى سؤالا شخصيا مباشرا يسمعه الأستاذ بوضوح : هل يسافر للخليج ليجمع ثمن الشقة التى دفع أول قسط لها مؤخرا، أم يستمر هنا يواصل الليل بالنهار وهو لا يكاد يسدد ديونه؟ ولا يتردد الاستاذ فى الإجابة: أن سَافرْ سَافرْ، فهذا عمل شريف سبق إليه كل أساتذتك: زكى نجيب محمود مثلا، ثم يضيف مشجعا أن د. زكى نجيب يذكر هذه الفترة بالخير، وأنها كانت من أثرى فترات إنتاجه، ويتحفظ د. رمضان على نوع انتاج زكى نجيب محمود فى هذه الفترة، برغم إقراره بوفرته، وتثار احتمالات أن المصرى المسافر يتمثل ثقافة أخرى وقد تحركه إلى وجودا ثْرَى، فأضيف وهو بهذا قد يساهم فى تحقيق الفرض (أو الحلم) الذى افترضته فى بداية الجلسة، وهو أن المسافرين المصريين يمكن أن يمثلوا مشروع الطفرة القادمة فى تاريخ مصر، يستوى فى ذلك العامل الماهر المشارك فى رمى الخرسانة، وأستاذ الجامعة المساهم فى التنظيم العقلى وتشكيل الوعي.
كان الاستاذ قد سأل قبل مدة عن الساعة فظن الضيوف الجدد (مثل د. مجدى عرفه) أنه سئم الجلسة، لكننا حين أجبنا انها الثامنة انفرجت اساريره وقال “كويس”، وحين بلغت التاسعة والنصف إلا دقيقتين، سأل ثانية فأجبناه بما هى، فعلق تعليقه المكرر أنه: “يا سلام علىّ“، رنت فى أذنى أغنية من بلدنا تنغم هذا المقطع تقول: “آانا بنت عمك - فنرد نقول “ايوه” – فتكمل: ، يا سلام علايّا”، وهكذا، ومن فرحتى بما قال، كدت أغنى له الأغنية، لكننى تراجعت، إلا أن الإغنية لم تتراجع وأكملت” لالْبِسْلَكْ قطيفة،( أيوه)، واقلع لك قطيفه، (أيوه) واقعد لك نضيفة (أيوه)، يا سلام علايّا”، وأعود أنظر إليه وأتذكر قوله – يا سلام علىَّ- فرحا بساعته البيولوجية، وهو يقول الذى جلب إلىّ كل هذه الفرحة والذكرى، وأقول لنفسى منغما: يا سلام علااايّا”
على السلالم، وهو يهم بركوب العربة، ينبهنى مؤكدا أن أحضر إلى منزله غدا قبل السادسة، لأننى و”توفيق” لابد أن نكون فى استقبال السفير وصحبه وهو قادم ليقلده النيشان، ووعدته أنى سأجتهد تماما فى ذلك، لكننى كنت مترددا وأنا أتساءل: ما هو دورى أنا فى هذا، وخاصة وقد علمت أن آخرين يحرصون أو يتكالبون على حضور مثل هذا الحفل المحدود، وأضمر اعتذارى، وأمتنع عن الوعد الصريح المحدد، قلت لمحمد إبنى بعد انصراف الاستاذ، ما هو دورى أنا فى مثل ذلك؟ فقال فى احتجاج طيب: هل من الضرورى أن تعرف دورك دائما قبل أن تبدأه، إذهب وخلاص، مادام دعانا، فلنذهب، وأعرف ضمنا أنه دعاه أيضا، هو وحافظ، وأحسب أنه ذكر زكى سالم طبعا،
قلت لنفسى ستكون زحمة لا مبرر لها، لكننى من بعد آخر شعرت بسخف اعتذارى،
ولم أقرر شيئا.
[1] – April n’enlève pas un fille, Mai fait comme vous voulez