نشرة”الإنسان والتطور”
2-12-2010
السنة الرابعة
الحلقة الثانية والخمسون
الاثنين 24 / 4 / 1995
اليوم شم النسيم، صوفيتيل المطار، كان الفندق قد نسى المسئولون به أن يعدوا الحجرة الخاصة بلقائنا مع الاستاذ (والتى سوف تسمى باسمه حسب طلب رئيس مجلس الإدارة الذى جاء واستأذنه اليوم فى ذلك) لم يكن إهمالا لكنهم طنوا أن الاستاذ لن يحضر يوم شم النسيم، لكن الذى حدث هو أن الاستاذ حضر وحضرنا نشم معه النسيم الحقيقى، فارتبك الجميع وجهزوا الحجرة بسرعة، وصلت متأخرا قليلا وكان عدد الحضور لا بأس به: عادل زكى ود. فتحى هاشم (لم أره من زمن) وواحد إسمه محمد عبد الحميد أو عبد الوهاب (يحضر لأول مرة)، وواحد إسمه الهامى (غالبا حضر قبل ذلك) وحافظ عزيز، ود. حسين حمودة، وزكى سالم، ثم حضر بعد ذلك اسماعيل النقيب وجلس مدة قصيرة، كذلك لحق بنا ريمون الأمريكى، أقول: حضرت متأخرا بعض الشىء، وكان الحديث يدور عاما بشكل لم يشجعنى أن أسأل أو أشترك فى البداية .
ذكر د.حسين حمودة أنه قد ظهرت مؤخرا ثلاث روايات تتفق فى لون واحد: “مراعى القتل لفتحى امبابي” (ورواية (؟)……، ورواية (؟) ……، لا أذكر الأسماء) وأن هذه الروايات الثلاث هى مراثى من أكثر المراثى إيلاما، وقد علقتُ على “مراعى القتل” من قبل، وأشرت فى هذه الخواطر إلى ما قيل حولها المرة تلو المرة، سألت حسين حمودة: هل هو يذكر أية رواية مصرية أخرى يمكن أن تكون عكس ما هو مراثى، أعنى هل يذكر رواية مصرية تمثل تجليات “الفرحة” بما ينبغى كما ينبغى، وأطرق وفكر وتردد وقبل أن يرد (بالنفى على ما يبدو) وجهت السؤال للباقين، ثم عممت السؤال حتى يشمل الأدب المصرى، ثم امتد السؤال إلى الأدب غير المصرى، وجاءت معظم الإجابات بالنفى، مع تحفظات هنا وهناك، اعتذرتُ عن السؤال وأنا أراجع نفسى قائلا: إنه سؤال سخيف أصلا لاينبغى أن يـُطرح، ذلك أنه لا ينبغى أن يوصف عمل من الأعمال بالفرحة وآخر بالمرثية، فإذا كان ولا بد مع التقريب والتجاوز فقد يصح أن يوصف عمل بالمرثية، لكن وصفه بالفرحة أصعب، ألمحت للأستاذ كيف أن وصف الفرحة اصعب من وصف الفَرَحْ، وأن المريض الهوسى الذى يملأ الدنيا بهجة وصياحا هائصا لا يعيش الفرحة التى أعنيها، وذكرت له خبرة فرحة حاولت أن أصفها فلم تخرج إلا شعرا، لست متأكدا إن كنت قلت للأستاذ كله أو بعضه، جاء فيه: “واهتز كيانى بالفرحة، ليست فرحة، بل شىء آخر لا يوصف، شىء مثل الهمسة، أو مثل النسمة فى يومٍ قائظ، أو مثل الموج الهادئ حين يداعب سمكة، أو مثل سحابة صيف تلثم برَدَ القمّة، أو مثل سوائل بطن الأم تحتضن جنينا لم يتشكل، أى مثل الحب، بل قبل الحب وبعد الحب، شىء يتكور فى جوفى لا فى عقلى أو فى قلبى، وكأن الحبل السرى يعود يوصلنى لحقيقة ذاتى، هو نبض الكون، هو الروح القدسى أو الله”، أضفت أننى أعتقد أن الفرحة يمكن أن توصف شعرا، أما أن تصاغ فكرة جوهرية لرواية، فهذا نادر على ما أظن، ربما الذى ذكرنى بهذه القضية أمران: أمر وقتى حيث طرح محمد رأيا يعلن من خلاله حاجتنا – كشعب – إلى ممارسة البهجة، وكنت قد ألمحت إلى أن الشعب المصرى يحتفل جميعه بشم النسيم معا بفرحة جماعية أكثر من أى عيد آخر، كما ذكرت كيف أننى لاحظت وأنا فى الطريق إلى العين السخنة ذهابا وإيابا فى أيام شم النسيم بالذات فى أعوام سابقة، لاحظت هذا العدد الهائل من العربات والناس من كل نوع وعلى كل مستوى، كل ذلك يعلن أن الفرحة لم تنته من مصر رغم كل شىء، ومع هذا أصررت بينى وبين نفسى أن سؤالى سخيف، وأنه لا ينبغى أن يطرح أصلا، وأعلنت بعض ذلك من أنه لو حاول كاتب رواية مثلا أن يجعل عمله مفرحا فسوف يجد نفسه عرضة لأن يمسخ عمله بنهاية مفتعله مثل نهاية الافلام المصرية السعيدة (أو نهايات “الجريمة لاتفيد”) – وأثرت فى هذا السياق وقفتى أمام بعض نهايات روايات الأستاذ وخاصة ملحمة الحرافيش (وقد راجعت موقفى بعد ذلك)، وقد سبق أن قلت للاستاذ رأيى هذا اعتراضا على “التوت والنبوت، بل إننى كتبت مثل ذلك أيضا فى نقدى لروايته ليالى ألف ليلة، وهنا قال الاستاذ: بالنسبة للموضوع الأول أوافق على أن الرواية لا يصح أن توصف بالفرحة، وإن كان يمكن أن تكون مرثية أو شيئا من هذا القبيل، ذلك أن تعرية الألم الانسانى هو أقرب تواترا من إثارة البهجة، ولكن الألم لا يحضر فى القص الروائى لذاته، وقد تكون الرواية مليئة بالألم لكنها تساق فى سياق فرح إبداعى، فإظهار الألم لايكون رائعا إلا بنبض إبداعى فائق، لكل هذا يبطل (أو يسخف) تصنيف الروايات هكذا.
أما عن النهايات، فالحكى الروائى لا ينبغى أن يفهم على أنه عمل غير منته، فأغلب الروايات تنتهى إلى وقفة وليست إلى نهاية، والوقفة تترك القارئ ليبدع النهاية، أى أنها تدعوه أن يكملها إذا أراد فتكون من إبداعه، وسعدت بالتفرقة بين الوقفة “والنهاية”، وإن كان هذا لاينفى تحفظى على بعض نهايات روايات الأستاذ، وقلت إن القاص قد يترك نفسه طول الوقت حتى إذا قارب النهاية (أو حتى ما أسماه الأستاذ الوقفة) قد تغلب عليه (ولو لاشعوريا) موقفا وصيا، أو أيديولوجيا أو حتى شخصيا، فيجد نفسه قد لمَّ التدفق فى اتجاه هذا الموقف بالذات (ربما دون أن يدرى) فيفتر الدفق الإبداعى، ويتعسف النهاية حتى لو سميت” وقفة”.
وأثناء ذهاب الاستاذ لتحريك النشاط الثقافى (تسديد الرأى)!!، ذكر بعض الجلوس تفضيلهم لبعض أعمال الأستاذ عن أخرى له، فأعلنت أنا انبهارى “بحضرة المحترم” بعد الحرافيش طبعا، وأنه غير كل ما كتب، ولاحظت أن قليلا من الحضور هو الذى شاركنى الرأى، وتحفظت على اللص والكلاب رغم أن أغلب الحضور وضعها فى المقدمة، واتفقت مع الأغلبية على “ثرثرة فوق النيل، والحرافيش طبعا ثم الثلاثية، وتحفظ عادل عزت على ”الطريق”، وغير ذلك كثير، وقد شملنى هذا الاختلاف بفرحة موضوعية لأننى شعرت أن هذا المجتمع صحى، ومختلفٌ مزاج أفراده مما يثرى حركية الحوار فعلا.
وحين عاد الاستاذ أخبرته ببعض ذلك وسر هو أيضا للاختلاف، وأننا لا نأخذ كل أعماله سواسية، وحين رجعت إلى “حضرة المحترم” ذكرت الجانب الصوفى فيها، والذى ظهر فى أسلوب ومحتوى عبادة الوظيفة والترقى لدرجة التأليه، فقد استعمل الاستاذ فيها نفس طقوس وألفاظ العبادات حتى فى ممارسات الجنس والشرب، وقلت للأستاذ إن ثمة دراسة ظهرت فى مجلة “فصول” تناولت هذا الموضوع الذى تناولته مستقلا فى دراستى التى لم تنشر حول هذا العمل، وتساءل الاستاذ عن كاتب هذه الدراسة فلم أذكره لا أنا ولا د. حسين حمودة.
وعلى ذكر التصوف أشار محمد إلى أنه الزهد، وأشار غيره إلى أنه يشمل العزلة، وأشار ثالث إلى لغة المتصوف الخاصة، وأصررت أن كل هذا وارد أثناء رحلة التصوف لكنه ليس هو التصوف، ذلك أن المتصوف الحقيقى – بما فى ذلك التصوف البوذى والهندى – لا يتم إلا بالرجوع إلى ممارسة الحياة العادية، باللغة العادية وسط الناس، مع الاحتفاظ الكامل بخبرة الرحلة وآثارها وحضورها الفعلى فى السلوك اليومى دون أية لغة خاصة أو أوراد سرية.
وذكرت الاستاذ باللقاء الوحيد الذى تم معه فى الأهرام سنة 1972 والذى سألته فيه عن خبرة عمر الحمزاوى، وهل مر بها شخصيا، لأنه لا يصفها هكذا إلا من عايشها (هذا على حد رأيى) وقلت له إننى صدمت حين أصر على نفى أن يكون التصوف هو الحل، وقال لى آنذاك: إن ما لا يصلح لكل الناس ليس حلا”، وخرجت وأنا أفكر فى هذا الذى قاله الاستاذ حتى كدت أقتنع به، لكننى بعد مضى حوالى ربع قرن وما دامت الفرصة قد أتيحت لى – لنا – هكذا، شعرت أن من حقى أن أعلن تراجعى عن هذا التسليم لرأى الاستاذ، لأن حل كل فرد فى نهاية النهاية، هو فردى، وهو مختلف عن حل أى فرد آخر، بالرغم من ظاهر أننا نعيش جماعة طول الوقت، وأن ما يصلح لواحد لا يصلح للآخر، واستوضحت الأستاذ فى ذلك، وفسرت سؤالى الباكر بأننى لم أقصد أن التصوف هو حل مشاكل الوجود أو مشاكل المجتمع، فقال إنه لم يعن حينذاك بنفيه أنه الحل، لكنه أراد أن يوضح نفيه أن يكون الحل واحدا بمعنى التماثل بين خبرات الناس الأفراد، وإنما هو يعنى أن يكون ما يسمى الحل الواحد متاحا لكل الناس على السواء، ثم كل واحد وشطارته، فمن يقف بعد خطوة له ذلك، ومن يكمل حتى النهاية أو قرب النهاية له ذلك، قلت له: هكذا اتفقنا، فإذا اعترفنا أن التصوف هو جهاد ذاتى متصل، وأنه عمل فردى مؤتنس بعمل فردى آخر لتصب مجموع هذه الأعمال الفردية فى توجه كلىّ، يصبح التصوف حلا بمعنى أنه “نوعيه حياة” تحترم الحضور الداخلى لكل فرد بقدر ما تؤكد الظاهر التعاملى له ،ولم نختلف أو نتفق أكثر من ذلك
ويرجع إلينا إسماعيل النقيب بجلبابه وعباءته وشعره الأبيض ولهجته الشرقاوية المصر عليها، ويقول كلاما كثيرا ظريفا وفقط، ويذكرنى بخطاب أرسلته له أقول فيه السيد فلان صاحب الأسلوب الرشيق الجميل (أو ما شابه)، ويضيف ساخرا أنه لم ينقص هذه الأوصاف إلا أن أضيف أن أسلوبه “مدر للبول” يُقرأ ولا يُشرب، ولم أعرف إن كان هذا مدحا لما قلته أم ذما.
وأشير للأستاذ عن بعض ما قاله النقيب فى برنامج ”حوار صريح جدا” فى رمضان الماضى، وعن تفسيره لتمسكه باللهجة الشرقية، ويسأله أحد الحضور عن توقفه عن الكتابة فى مجلة كاريكاتير، فيقول إنها مجلة “لبَط”، وأن إدرارتها غير منضبطة لا من ناحية التحرير ولا من ناحية التعاملات ولا من ناحية تقدير القلم بما هو، ويحكى أنه لا يحتفظ لما يكتب بالأصل والصورة، ولأنه لا يطلب أجرا بذاته، ولا يفاصل فيما يعطى له رغم شدة حاجته للقرش وكلام من هذا، وعلى ذكر التليفزيون يقول الأستاذ إنه كان من الصعب عليه دائما أن يرفض طلبا لأهل الإعلام خصوصا أولئك الذين زاملهم ردحا من الزمن، وما أن تحضر المذيعة حتى يفاجأ بالموضوع، أنه كلام لا لزوم له، ولا جدوى منه، فيضطر أن يكمل حيث لم تعد ثمة فرصة للاعتذار.
ويحكى محمد – دون مناسبة – عن صديق بذاته، فشلت كل محاولات إسكاره، وقبل تحدى كل المنازلين، فيذكر الاستاذ مشهدا فى فيلم كان مجموعة قصص قصيرة لإدجار آلان بو، وكان هناك ممثل قزم قبل تحدى الذواقة حتى أسكرهم دون أن يسكر، وعجبت – كالعادة – لهذا الحضور الانتقائى للذاكرة عن لقطة فى فيلم من مجموعة قصص قصيرة، ويسأل ريمون الأمريكى الأستاذ إن كان قد قرأ آلان بو، فيجيب الأستاذ بالإيجاب، لكنه لا يدخل فى تفاصيل إجابة.
لأمر ما، وجدنا أنفسنا نناقش تنوع علاقات الاستاذ، واختلاف نوعية حضور جلساته على مدار الأسبوع هذه الأيام وقلت للاستاذ إنه من أروع ما تعلمته منه هو تحمل الاختلاف واحترام الحقوق الفردية، ويتدخل عادل عزت فى ثورة يضبطها بالكاد ويقول: إن ذلك مقبول لكن الأمر يتعدى ذلك، قلت له يتعدى ماذا؟ قال أن يحب الاستاذ أو يطيق أن يجالس أعداء مصر، وهنا ذهب بى الظن إلى أنه يعنى مقابلاته العابرة لبعض الإسرائيلين حتى لو كانوا من الذين يسمونهم اليساريين الإسرائيليين أو محبى السلام الاسرائيلين إلا أن عادل يمضى ليؤكد أن هذا الموقف من الأستاذ غريب (أو مرفوض) فدعوته لتغيير مكانه وتوضيح الأمر للأستاذ لأننى عجزت عن توصيل ما يعنى تماما.
انتقل عادل عزت وجلس بجوار الأستاذ وذكر من يعنى بأعداء مصر مثل جمال الغيطانى ويوسف العقيد، وأن جمال الغيطانى - مثلا - يقبض من السفارة العراقية، وكتب كتابا يدافع فيه عن صدام حسين، ويتقاضى مبالغ ثابته من السعودية، ويسافر على حساب لست أدرى من، قال ذلك والاستاذ يستمع لذكر اصدقائه بهذه الأوصاف، وأنا أخاف عليه من جرعة الهجوم، ثم إنى كنت قبل أن أعرف الأستاذ وأصدقاءه عن قرب متحفظا ضد جمال الغيطانى هو خاصة حين بلغتنى لمزاته لمّا أخذت جائزة الدولة التشجيعية معه سنة 1980، لكننى عدلت عن رأيى بعد أن أتاحت لى صحبة الاستاذ أن أرى الجانب الآخر منه، ونبهت عادل عزت إلى حب الأستاذ له، ولم أقل إنه يناديه كثير بيا” “جيمي” ولم أقل له كم ولا كيف فرح بنجاح روايتة الزينى بركات حين ظهرت مسلسلا فى رمضان الماضى، ولكن عادل عزت مضى يؤكد معلوماته المتهمة للغيطانى والقعيد بكذا وكيت، ثم راح عادل يعترض بالذات على الثللية التى استولت على أخبار الأدب، وعلى الشعراء الذين يأخذون أكثر من حقهم، وكيف أن شاعرا إسمه أحمد الشهاوى نفخوا فيه دون وجه حق حتى نصبوه أميرا للشعر، وأنه بالتالى – أحمد الشهاوى – راح يمجد فى الغيطانى ويذكر أنه أفضل من فلان وعلان، بل ومن نجيب محفوظ شخصيا، – مازلت محتارا لا أعرف كيف أوقف تدفق هذا السيل العارم من الهجوم، والعجيب أن أغلب الحضور (هكذا قرأت الوجوه) مالوا إلا الأستاذ وقلة قليلة مالوا إلى تصديق كل أو أغلب ما قال عادل عزت، لست متأكدا، وختم الاستاذ هذا الهجوم برد متواضع يقول: يا عادل، خليك متسامح، التسامح لايمنعك أن تكوّن رأيا، لكن رأيك هذا لا يمنعك، أولا ينبغى أن يمنعك من أن ترى بقية الشخص لعل عنده شيئا آخر، لكن عادل يظل ثائرا ويكمل والاستاذ صابر يهدئ من ثورته، أنا أرى الاستاذ مع جمال الغيطانى ومع يوسف العقيد، وأراه مع الحرافيش (توفيق صالح واحمد مظهر أساسا، وجميل شفيق وبهجت عثمان أحيانا) وأراه مع ثلة الإثنين هذه، وهى هى ثلة الأربعاء مع بعض التعديل (يضاف إليها أحيانا د.محمد حسن عبد الله وصلاح فضل)، وأراه يوم الجمعة مع ثلة منزلى: سبق الكلام عليها مرارا، وكذلك تنويعة الأحد، إذن توجد ست مجاميع مختلفة الهويات والأمزجة، وأتعجب وأفرح به، وأحاول أن أتعلم منه بلا طائل، أحاول أن أصنف هذه الجماعات فتتلخص عندى فى ثلاثة: الحرافيش (الخميس) – اليسار الاعلامى والأدبى جنبا إلى جنب مع رجال الأعمال (الثلاثاء) – المريدين والهواة والمحبون والأصدقاء (بقية الأيام): الأحد – الأثنين – والأربعاء، أما الجمعة فى بيتى فهو سوق عكاظ)، ولا أشعر أن الاستاذ يفضل ثلة على ثلة، ولا هو يفضل يمينا على يسارا ولا هو يفضل محبا عن معاندا، صحيح أنه قد يأخذ بعضنا على قدر عقله أحيانا أو كثيرا، لكنه لا يفعل ذلك من موقع حكمى فوقى، وإنما من موقع عمل وتقبل واحترام واحتمال فائدة من الاختلاف
مازال الأستاذ يطلب من عادل عزت أن يكون متسامحا، وهو يعمل بالطباعة والنشر، وينصحه ألا يجعل عواطفه أو آراءه تدخل كثيرا فى الانتقاء والمعاملات على أرض الواقع، ويلومه لخصومته أو قطيعته – مثلا – مع خيرى شلبى يقول الأستاذ: يا أخى إنت مالك؟ أنت ناشر، جاءك هذا ينشر كتابه وهو ضمن ما تتصدى لنشره، وله قيمته فى ذاته، أنت مالك بشخص المؤلف أو بمواقفه الذاتية أو ميوله الأيديولوجيه، ثم إنك مع تكرار وتعميق المعاملة سوف تكتشف فى كل واحد من هؤلاء الجانب الذى لا تعرفه عنه، ولعلك تكتشف خيرا كثيرا وطيبة حقيقية. وغير ذلك مما لا تسمح لك انفعالاتك العاطفية أن تراه من بعيد، يا عادل: حاول أن تتحلى بالسماح والتأنى فى الحكم، وأعترض (فى نفسى) على حكاية السماح هذه، السماح لا يأتى إلا من فوق والقضية ليست هكذا تماما، المسألة ليست مسألة سماح، المسألة هى أن الناس هم ناس، لا أكثر ولا أقل، وأن الثروة الحقيقية هى فى التعامل مع كل البشر، ليس بالتفويت والمساواة، وإنما بالمثابرة والبحث عن بعد آخر، بعد يتخطى الظاهر، هكذا تعلمت من مهنتى ثم من الاستاذ، ومع ذلك شعرت أن جرعة الهجوم على من يحب كانت أقسى من اللازم وخفت أن يكون شعوره قد أوذى بشكل أو بآخر.
ونحن فى طريقنا للانصراف، مال علىّ د. فتحى هاشم وقال لى بيقين: لاتثق كثيرا فى هؤلاء الناس (يعنى الغيطانى والقعيد) إن من تكلم عنهم عادل عزت هم فعلا أناس ليسوا كما تظن، إنهم يلمزون الأستاذ شخصيا، وأمامى فى غيابه، وقلت فى نفسى: ياخبر!! إلى هذه الدرجة.
لم أغير موقفى الداخلى كثيرا.
الحمد لله لقد تعلمت من الأستاذ أشياء غالية: أن أقبل وأعامل الناس بماهم كما هم، وأنا الكسبان.