نشرة “الإنسان والتطور”
15-7-2010
السنة الثالثة
العدد: 1049
الحلقة الثانية والثلاثون
الأحد: 12/2/1995
لم نستقر بعد إلى أين يذهب الأستاذ يوم الأحد، وبعد أن خصصنا يوم الجمعة لمنزلى، أصبح أيضا منزلى هو المكان المتاح حين نحتار فى الاختيار إلى أن نستقر، اليوم يوم الأحد لا الجمعة، واللقاء فى منزلى استثناءً هذا الأسبوع أيضا (أما لقاء الجمعة المنتظم فقد ثبت فى منزلى نهائيا والحمد لله، أهلا ..).
أصبح المكان مألوفا للأستاذ، الحمد لله، توفيق صالح، نعيم صبري، وزكى سالم أيضا، ود. سعاد موسى، ود. منال ، بدا الأستاذ منطلقا سلسا على عادته، هل هذا الرجل هو الحياة؟ إن ما تبقى فيه وبه من حب للحياة، هو كاف أن يبعث فينا جميعا كل الحياة.
لا أعرف من الذى أعاد فتح موضوع تسامح الاستاذ فى نقل رواياته إلى مسلسل أو فيلم سينمائى، دون تدخل منه أو مراجعة، لا بد أنه أحد الحضور الذين لم يشاركونا مناقشة ذلك من قبل، الأستاذ لا يمل تفسير موقفه، ولا يعدل عنه، كرر الأستاذ ما سبق ان قاله لنا أن ”هذا فن” وذاك “فن آخر”، وقد لا تكون هناك علاقة بينهما إلا خطوط الموضوع، وأن أداة الفن قادرة أن تعيد تشكيل النص بحسب قواعدها وأدواتها وآلياتها، فهو يعاد تشكيله رغما عن أية محاولة للتطابق، لأن الشكل هو هو الموضوع فى الإبداع الحقيقى، طالما احترت فى هذه القضية، لكن رويدا رويدا، وبمثل هذه الامثلة صارت المسألة أقرب، قلت له إن الرواية الوحيدة من بين رواياته التى أحسست فيها أن السينما استطاعت أن تستوعب النص الأصلى، وتقدمه بأغلب نبضه وروحه، ورسائله هى “بداية ونهاية”، وقد وافقنى الأستاذ توفيق صالح على ذلك، وقال توفيق إن فريد شوقى قال فى حديث يذاع له إنه اشترى هذه الرواية بمائة جنية من الاستاذ، فى حين أنه يذكر أن شخصا آخر هو الذى اشتراها،(لا أذكر اسم هذا الشخص الآن، أو لا أريد أن أذكره)، وافق الأستاذ على ذلك.
انتقل الحديث إلى فريد شوقي، وكيف فرض حضوره هكذا طوال نصف قرن دون أن يكون فنانا متميزا، وسرى همس أنه صرح ذات مرة أنه كاتب له قامة فى الكتابة تسمح بأن تلهم أو تكمل أو “….” نجيب محفوظ (أو شىء من هذا القبيل)، قال توفيق وجهة نظر وافقه الأستاذ عليها -تقريبا – بين فيها أن فريد شوقى قد ألح بحضوره على المشاهد طول الوقت، فأخذه الناس على علاته، حفظوه وانتظروه بما هو كما هو، وأن مثابرته وإصراره واقتحاماته قد خففا من سطحية أدائه بشكل أو بآخر، وإن كان ذلك لم ينفع فى التخفيف من نمطية تكراره، أضاف توفيق صالح إن فريد شوقى قد طرق كل باب، بما فى ذلك المسرح، وأنه حين لعب أدوار الريحاني، بلغ أعلى مراتب فشله، ونبه توفيق ان فريد شوقى نجح أكثر فى الدور الثانى، وأن للنجم السينمائى مسارا مختلفا عن السنّيد، وأن فريد رقص على السلم، فلم يحقق ما يحققه النجم، ولم يعمِّـق دور السنّيدة، وأن السنّيد يمكن أن يكون له حضور متميز وجيد جدا، لكن بمسار آخر غير مسار النجم، وضرب مثلا للسنيدة وذكر اسمىْ: عبد السلام النابلسى وحسين رياض، واعترضت على ذكر الاسمين فى صف واحد، ووافق على اعتراضي، كان اعتراضى أساسا أن يوصف حسين رياض بالسنيد، وكأن هذا الوصف تقليل من شأن أى شخص كان، فحاول توفيق أن يفهمنى أن السنيد لا يعنى الثانوى، ولكنه فقط يشير إلى أنه ليس بطل الفيلم، وإن صاحبَ البطل فى كثير من المواقف والأحداث.
لم يشاركنا أغلب الحاضرين فى الكلام عن السينما، فعاد الحديث تلقائيا إلى السياسة، فسألت بجدية دون اعتراض واضح، ما جدوى كل هذه الأحاديث التى لا تصب فى أى حركة مغيّرة؟ ولا أذكر من الذى رد علّى بأن حواراتنا هذه كأنها تعلن أننا نعيش الأحداث بصوت مسموع، لا أكثر ولا أقل، أعجبنى التعبير، ولم أعلق عليه، ولكنه لم يشف غليلى فى جدوى حديثنا فى السياسة بهذه الوفرة.
أعاد الأستاذ إيضاح رأيه عن ضرورة التوفيق بين الحرية والعدل، ولم يكن هذا جديدا على أحد، وفرح بعض الجالسين بهذا الرأى وزعموا أن هذا لم يتحقق سوى فى التجربة الديمقراطية الغربية، وتحفظتُ متوقعا الهجوم المنتظر، نبهت إلى أنه فرق بين العدل وهو يمارَس على الأرض بين بشر لهم تاريخ متطور، يجاهدون بوعى يقظ، على مسار إيمان كادح، وبين العدل وهو يقف عند مرحلة تطبيق نصوص مكتوبة، بألفاظ مختنقة فى رسمها، تطبقها سلطة خارجية بالمسطرة، فهى عاجزة مهما اجتهدت،
لم أستطع أن اشرح وجهة نظرى أكثر من ذلك، وبدا لى أن أحدا لم يلتقطها، فاستدركت اننى لا أعنى ان يُترك كل واحد يطبق العدل بقانونه الخاص، وأيضا لا أعنى أن هذا المستوى الذى اشير إليه يغنى عن المستوى المكتوب فى الأوراق، فقط أننى أريد أن أنبه إلى ” إن تنظيم الحقوق وترتيب العلاقات لا ينبغى أن يكتفى بالتوقف عند المستوى الورقى اللفظى، وأن هذا المستوى هو أقل مما يستحق الإنسان ويستطيعه واجتهدت أن أبدو أقرب وأوضح، لكننى عجزت لا فائدة، لا احد يوافق، ولا أنا قادر أن أزيد الأمر وضوحا، فلجأت إلى ربط واهٍ مع موضوع الفن الذى كنا نتحدث فيه قبل أن نعرج إلى ما يشبه السياسة، قلت لتوفيق صالح أن أهم ماجاء فى يوميات نائب فى الأرياف هو تعرية السلطة القضائية فالسياسة، تعرية هذه السلطة لا أقصد به الإشارة إلى فسادها، بل إلى حدودها، أما قصة القتل وغرق البنت الصغيرة فى نهاية الفيلم فقد كانت أرضية جيدة، لكنها لم تمثل لى جذبا محوريا كما فعلت مع غيري، ثم أضفتُ لتوفيق ملاحظة أخرى عن أرضية فيلمه الرائع “المخدوعون”، فقلت له إننى افتقدت العنصر النسائى معظم الوقت، عقـّب توفيق يوافقنى على الانتباه إلى ضرورة عدم تهميش المرأة، ولكن ….، وهنا تدخل الأستاذ الذى كان يتابعنا دون أن أقصد قائلا: “ليس مطلوبا ولا مقبولا أن يحشر المخرج امرأة فى النص لتبرئة نفسه من أنه عدو المرأة، او أنه يهمشها”، ووافقت طبعا، وشرحت بسرعة أننى لم أعن ذلك، أنا فقط كنت أعلن ما افتقدته فى فيلم كامل الأوصاف، لكنه النص الروائى، واكتفى توفيق بشهادة الأستاذ وفرح بها..
يبدو أن المجتمعين الليلة لا يجذبهم الحديث فى الفن بالقدر الكافى، فسرعان ما عاد البندول إلى حيث كنا ونحن نتكلم عن العدل والحرية، وقبل أن يجرونا إلى النّعابَة على “قِـلـّة الديمقراطية” (قياسا على قِـلـّة الأدب) ، وضيق هامش الحرية وهذا الكلام المعاد، حاولتُ ان أنتقل بالحوار إلى ناحية أخرى :
سألت الأستاذ: ألست معى أن القيم القديمة اهتزت بدرجة تسمح لنا أن نتصور أو نأمل أن ثمة قيما جديدة تتكون حتى ولو لم نكن نعرفها؟ قال هذا صحيح بالتأكيد، وحين تطول فترة الانتظار والغموض فقد يعنى هذا أنه سوف تظهر قيم أقدر على استيعاب النقلة التى لا نعرفها، ولم يستطع أغلب الحاضرين احتمال فكرة ألا نعرف طبيعة أو تفاصيل القيم الإيجابية القادمة التى ربما تتكون الآن بشكل غير واضح، وظهر لى أن ثمَّ خوفا يساور أغلبنا أن نتخلى عن القيم الحالية دون بديل واضح فنضيع، حاولت الشرح أكثر، فأخذت مثلا “قيمة الوطنية”، وأشرت إلى أن الانتماء للوطن لم يعد يحمل نفس التقديس القديم، وهذا يعنى أن قيمة ”الوطنية” قد اهتزت بدرجة ما، وفى نفس الوقت قد لا يكون فى ذلك جريمة كبرى كما كان الأمر بالأمس، إذا قد يمكن أن تتحرك الوطنية إلى الإنسانية دون أن تتخلى عن نفسها، ولم أكن واضحا أيضا، فانتقلت إلى مثلا آخر لعل وعسى، قلت إن انهيار الاتحاد السوفيتى بهذه الصورة التى تمت امتدت آثاره إلى مدى أبعد من التنبيه إلى فشل نوع من الحكم، ذلك أنه أثار تشكيكا مبالغا فى النظرية التى وراءه أدى إلى الإقلال من شأن قيمة اسمها الاشتراكية، مع أنها قيمة تظل مرتبطة بالعدل والموضوعية، أكثر من ارتباطها بالمساوات والطبقية، هز الأستاذ رأسه بما طمأننى، فسألته هل عنده إضافة فطلب منى أن أكمل، قلت له إن ما حزنت عليه حين انهار الاتحاد السوفيتى هكذا هو أن كثيرين كادوا يفقدون حقهم فى “الحلم”، وبالذات فى الحلم بالعدل، هذا فضلا عن الشماتة وانحراف التأويلات أدّيا إلى ترجيح كفة انظمة أدنى وأخبث، ودافعت عن حق الإنسان المعاصر فى “حلم ما”، دون أن يكون هربا أو تأجيلا، سألنى الأستاذ إن كنت أعنى حلم يقظة، فنفيت ذلك وقلت إننى أعنى الأمل البعيد التحقيق الآن، لكنه الأمل الممكن أيضا، ثم عدت أكرر حلمى فى ديمقراطية أخرى، واشتراكية أخرى، فوافقنى أغلب الحاضرين على الحلم فى اشتراكية أخرى، ولكن بدى لى أن أغلبهم راضين بالديمقراطية الشائعة الآن والتى أعتبرها أنا ديمقراطية “مضروبة”، أو “سابقة التجهيز”، لا يجوز أن نقيس بها مساحة حريتنا وأبعادها ولا أن نطمئن إلى كفاتيها فى ضمان مشاركتنا فى اختيار مسارنا ومصيرنا، سألنى أكثر من واحد كيف ذلك، وصلتنى الأسئلة بلهجة أغلبها رافض، وبعضها مستطلع، لكننى لم أستطع أن أرد أو أزيد.
واستأذنت لاذهب إلى العيادة، فاليوم الأحد لا الجمعة
وذهبت وأنا أشعر أننى وحيد أكثر هذه اليلة، ربما لم يلتقطنى أحد إلا الأستاذ، أو لعلى أسقط عليه حاجتى للائتناس فأتصور أننى أوصلت له أكثر من غيره ما أريد.
أثناء قيادتى السيارة حل بى غيظ ساخن محل الوحدة الجافّة.
قلت لنفسى: سأتعود على هذا وذاك حتى أضبط جرعة الألم بشكل ما
فأحسست بيده على كتفى تهدهدنى وأنا أقود السيارة
فعرفت أننى لست وحيدا
والتفت برأسى إلى يده أقبلها شاكرا
فهزنى لألتفت إلى قيادة السيارة، وسحب يده برفق من على كتفى إلى خدى يرتب عليه لأفيق على بوق سيارة زاعق، فضغطُّ على الكابح وأنا أبتسم برغم كل ما حولى.
ورجعت إلى الطريق راضياً حامداً.