نشرة “الإنسان والتطور”
4-2-2010
السنة الثالثة
العدد: 888
الحلقة التاسعة
الثلاثاء 3/1/1995
رويدا رويدا أصبحت – وسمحت لنفسى أن- أضيق بهذه الجلسة، جلسة الثلاثاء، لكننى أنظر فى وجه الأستاذ وهو يستمع إلى يوسف القعيد يدش الأخبار بسرعة وتمثيل وكاريكاتيرية، وهو يضحك ويشارك، وهو يعلق ويهتم، فأعجب له ومنه، كيف يحتمل كل هذا التنوع من الفروق الفردية بين كل هؤلاء الناس، كلما نظرت فى وجهه وجدته مسرورا بالجلسة حريصا عليها، كما أعلم أنه ينتظرها، ربما مثل سائر اللقاءات وأكثر، (عكس توفيق صالح الذى يشاركنى شعورى بالتحفظ على جلسة الثلاثاء، وليس تماما عكس زكى سالم الذى يفرح لفرح الأستاذ مهما كانت مشاعره الخاصة). كلما رأيت ذلك مكررا هكذا، تعلمت أن الإنسان الحى كما خلقه الله هو الذى لا يضيق بأحد، هو الذى يجد مع كل لقاء متعة، هو الذى يعرف كيف يضبط موجة تواصله مع موجة تواصل من يتواصل معه أيا كان، ولِمَ لا؟ أليس هكذا خلقنا، وليس معنى هذا أن الأستاذ يساوى بين الناس بطريقة فوقية مائعة، فهو يحب هذا، ويضيق بذاك، ويعلق على زيارة أحدهم، ويسخر من وصولية آخر، لكنه يحافظ على العلاقة صادقة نقية، بعيدة عن الأحكام الفوقية، بما فى ذلك هذا اللقاء العوّاماتى الثلاثائى، إذن ما دام هو مسرور هكذا بهذا فليكن ذلك مصدر سروري، ولأحاول أن أتقمص زكى سالم، ولأشارك بالقدر الذى أستطيع، لكننى لا أستطيع كثيرا، ثم إنها جلسة تضم رجال أعمال مثل عماد العبودى، وحسن ناصر، ومحمود كمال، وجها لوجه مع رجال إعلام يمثلون اليسار والناصرية والثقافة، وكلنا فى ضيافة أ. د. إبراهيم كامل فى عوامته “فرح بوت”، كان الأستاذ قد حكى لى أن د. إبراهيم كامل أستاذ الهندسة ورجل الأعمال المشهور وصاحب هذه العوامة “فرح بوت” قد جعل ضيافة هذا اليوم هدية منه للأستاذ وصحبه، وحكى لى الأستاذ بعض النوادر التى تتعلق بالأكل والشرب مجانا، مما لا أذكرها تفصيلا، لم أر هذا المضيف الطيب، ولا مرة واحدة، ولا سمعت أنه جاء يعود الأستاذ بعد سلامته، ربما فعل ولم يذكر ذلك أحد أمامى، وإن كنت قد علمت فيما بعد أنه كان دائما يستأذن حين يحضر لزيارة المجموعة والترحيب بالأستاذ والاطمئنان عليه.
فى لقاء الثلاثاء هذا الأسبوع أشار الغيطانى إلى تحفظه على أن يوقع محمد سلماوى على الأحاديث التى يجريها مع الأستاذ، وهى التى يأخذها سلماوى مشافهة من الأستاذ كل سبت، (اليوم الوحيد الذى لا يخرج فيه الأستاذ ويخصصه للقاء الزوار، وأهمهم سلماوى، بانتظام)، كنت قد عرضت على الأستاذ أن يعود لإملاء “وجهة نظر” لتنشر فى نفس الركن الذى كان ينشر فيه وجهة نظره الأسبوعية فى الأهرام، وإذا به يخبرنى أن سلماوى قد اقترح نفس الاقتراح، وأنه وعده بأن يفى به، وقد كان. كان سلماوى يوقع تحت الحديث باسمه دون ذكر صفة المحاور، وهذا ما أشار إليه الغيطانى فى تحفظه. لكن الأستاذ أصر أنه “وماله”؟ يوقع كما يشاء مادام لم يقل أن هذا كلامه هو، قلت له أنه كان يمكن أن يكتب قبل توقيعه: “أجرى الحديث فلان” بعد أن يوقع “نجيب محفوظ” حتى يستقبل الناس كلماتك بتوقيعك من جديد، بدلا من أن يضع توقيعه هو، أو أنه كان يمكن أن يترك الحديث بدون توقيع، مكتفيا بالعنوان: وجهة نظر نجيب محفوظ”، ومع ذلك أصر الأستاذ أنه ابدا وأنه: “ما يضرش”
أحسست بالتحفز الجاهز من الغيطانى والقعيد كلما ذكر اسم سلماوى، واعتبرته من قبل هذا التنافس الظريف الذى كنا نسمع عن بعضه بين شعراء وأدباء ومفكرين فى العشرينات والثلاثينات، ولم أعتبره خلافا قاسيا، بل إنه أصبح مادة طريفة للمداعبة و”النكش”، وذكر الأستاذ أنه لم يكن يعرف سلماوى قبل نوبل، وأن تكليفه بإلقاء كلمته عندما استلمت كريمتاه جائزة نوبل كان مصادفة، حيث أن قريب سلماوى (ربما شقيق زوجته أو زوج أخته، كان سفيرا لنا فى السويد)، وأنه يتذكر أيضا أن ثمة علاقة مصاهرة بين سلماوى وبين توفيق الحكيم، فتبرع أحد الجالسين يذكر أن أخته كانت زوجة لابن توفيق الحكيم، مال الأستاذ إلى الخلف وكأنه وجدها وقال “هكذا”!!.
جرى تعليق على كتاب نشر حديثا (ليس حديثا جدا) عن خطابات توفيق الحكيم إلى زوجة ابنه، واعترض البعض على ما جاء فى هذا الكتاب من تسطيح أحيانا، ومن حرارة مفرطة أحيانا أخرى، وأنه كتاب لا موقع له: لا فى الأدب ولا فى السيرة الذاتية، ولم يذكر المتحدث اسم جامع الخطابات ولا ناشرها، ولم يعلق الاستاذ، وتذكرت حساسيته المفرطة نحو أى حديث عن شؤونه الخاصة او شئون أسرته، فكيف لو عبث عابث بهذه المنطقة مثلما صنع كاتب هذا الكتاب عن توفيق الحكيم، واحترمت تحفظه وحذره وامتناعه عن التعليق.
فتح موضوع طلب وزير الداخلية حسن الألفى تصوير لقطة (ربما تليفزيونية) مع الأستاذ بمناسبة عيد الشرطة، وتصورت أنه سيحضر ليبادله الحديث أو التهنئة أو ما شابه، وتحفظت إزاء هذا الطلب، كما تحفظت قبلها – ونجحت- على زيارة المفتى (مفتى الديار) للأستاذ (بعد ما سمعت عن زيارة محمد الغزالى – ثم د.أحمد فؤاد أبو المجد) وكانت وجهة نظرى أن نجيب محفوظ هو نجيب محفوظ، ولا ينبغى أن نسمح باستقطابه فى أى ناحية، فإذا زاره المفتى – والحالة كما نعلم بينه وبين شيخ الأزهر، فنحن نضعه فى جانب فى مواجه الآخر، وهذا نوع من الاستعمال ينبغى الحرص على تجنبه، وبالقياس رأيت أن ظهوره مع حسن الألفى سوف يضعه فى جانب واحد مع الحكومة فى مواجهة الجماعات وغيرهم، وتذكرت الهمس الذى أثاره الدفاع من أن الحادث ملفق من قبل الحكومة عملا على زيادة كره الناس للجماعات من خلال تعاطفهم وحبهم لنجيب محفوظ، وبرغم عبثية هذا الكلام الذى ناقشناه سالفا، وبرغم أننى أعرف يقينا أن موقف محفوظ لا يقاس بأنه مع الحكومة أو ضد الحكومة، أية حكومة، وإنما هو له موقفه الخاص من كل حدث، ومن كل شخص ثم إن موقفه من الجماعات التى حاولت قتله هو شديد التسامح والعطف والدعاء لهم بالهداية، لكل ذلك اعترضت على طلب وزير الداخلية، وثار خلاف، وغلب الرأى لمعظم (أو ربما كل) الجالسين أنه لا مانع، وأنهم يوافقونى على رفض الاستقطاب الأول (المفتى مقابل الأزهر) لكنهم لا يوافقون على أن ثمة احتمال لأى استقطاب لما هو: “الحكومة مقابل الناس”، بعد أن استمع الأستاذ إلى ما استطاع من هذا النقاش الحاد، راح يقول إنه مدين للشرطة بلا أدنى شك، سواء من ناحية الأمن بصفة عامة أو من ناحية ما نال من رعاية فى مستشفى الشرطة، وأنه لا يستطيع أن يرفض لهم طلبا، ثم إن الوزير كلم السيدة حرمه وأخذت رأيه ووافق، وهو لا يملك أن يتراجع – ولأننى بدأت أعرف طبعه فقد سارعت بالتراجع عن موقفى احتراما وتعلّما، تعلمت كيف نهتم بآداب السلوك الصغيرة قبل الكبيرة، وكيف أنه يفى بالوعود البسيطة وغير البسيطة، وهو يحرص على المجاملات العادية فى حدود نظامه المحكم، ومعانى العرفان بالجميل والألتزام بردّه ورأفة باعتراضاتنا أراد أن يخفف الأستاذ الموقف فأثار تحفظا فكها يقول: إن الحرج الوحيد بالنسبة لمقابلة الوزير هو أن يتكلم معه بصوته هذا المتحشرج، فيصبح دعاية سيئة للشرطة ومستشفى الشرطة وكأنهم لم ينجحوا فى شفائه تماما!!
وضحك عاليا، فضحكنا فرحين.
ثم أثار الغيطانى أساسا، ثم العقيد مسألة ضرورة الحذر فى الخروج فى نفس الموعد المرات القادمة، ومحاولة تغيير الميعاد، والمكان باستمرار، وخاصة بعد صدور الحكم الذى يرجح أن يكون فيه إعدام واحد أو أكثر، وانقبض قلبى من هذا الاحتمال، رفضت المبالغة فى الخوف هكذا، فما زلت أعتبر أن ما حدث حادث عابر، من شاب أعمى نال أو سينال جزاءه، فهو ليس موقفا عاما من جماعة قَتَلة. حاولت أن أقاوم التيار أنا وزكى وسالم، ولم أنجح، وقلت دعوا لى هذا الأمر، فأنا المتعهد بتدبير الأماكن والتوقيت، وسوف أخطركم بالتغيير إن لزم الأمر، ولم يكن فى نيتى أية محاولة لتغيير مااعتدنا عليه، ولو بعد بضعة أسابيع، فقد عرفت طبعه، وكم هو يتعلق بنفس المكان، ونفس الكرسى، وأحيانا نفس الجار فى كل جلسة، فحرصت أن أحافظ على تثبيت إيقاع مواعيد الأستاذ مهما بدت المخاطرة، ليس استهتارا، ولكن رفضا للحياة تحت سيف خطر لا يمكن تجنبه إذا صمم القدر، ولم أحاول أن أشرح تفاصيل نواياى له حتى لا أثير مخاوفه التى تغذيها بشكل ما مخاوف هؤلاء الصحبة، وتحفظات السيدة الكريمة زوجته الفاضلة الحريصة على سلامته أكثر منّا جميعا.
الأربعاء 4/1/1995
الأستاذ منزعج انزعاجا متوسطا، ومتحفز ومستعد للدفاع عن رأيه، أخبرتنى السيدة زوجته أنه سيذهب ابتداء من غد إلى المستشفي، لأنه توجد آلات هناك لابد أن يستعملها أثناء تدريبات العلاج الطبيعي، ولم أفهم دوافع رغبة السيدة زوجته وإصرارها على مثل ذلك، وقد سبق أن طرحَتْهُ وعارضتُ، المهم أن الأستاذ كان خائفا تماما من أن يفرض هذا الاجراء عليه، وكان فى ذلك مثل طفل يخشى العودة إلى مدرسة تخرج منها بنجاح متوسط، وقارنت تمسكه بالمستشفى سابقا وخوفه من العودة للبيت، بتمسكه بالبيت حاليا ورفضه التردد على المستشفى، وتأكدت من علاقته بالأمكنة والاستقرار فيها لدرجة الاحتماء بها أيا كانت، وطمأنته والسيدة حرمه إلى درجة أقل، ووعدته أنه إذا كان فى الأمر أجهزة، فالدولة أبدت استعدادها لنقلها إليه أو حتى لشرائها له، ثم يتبرع بها لأى مركز تأهيل بعد انتهاء العلاج، وكل ذلك كان من تأليفى لطمأنته، ولو أننى كنت مصرا فى نفسى على أن هذا محتمل ولو على حسابى الخاص، وأصررت على رأيى رغم الاعتراض المتكرر من الزوجة الفاضلة الحريصة على أفضل فرص للتأهيل، وحين تأكد الأستاذ من إصرارى وقدرتي على تحمل المسئولية، انفرجت أساريره وقبـّلنى وأنا منصرف هاتفا:
“يا مفرج الكروب”
وأحببته كثيرا جدا.
*****
الجزء الثانى
من كراسات التدريب (1)
صفحة (10)
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
تبارك الذى بيده الملك
والعصر إن الانسان لفى خسر
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
نجيب محفوظ
4-2-1995
القراءة
فى هذا اليوم، كتب اسمه: “نجيب محفوظ” ثلاثا دون كريمتيه، لم ينسهما، هو لا ينساهما أبدا، أكرمهما الله، وفى نفس الوقت لا يذكرهما كثيرا فى أحاديثه، طمأنه الله عليهما فى كل حال.
ثم
“تبارك الذي بيده الملك….” هذا ما ظهر مما نعتبره قمة جبل الوعى، لا أكثر، هذا الفرض الذى يسمح لى أن أكمل بنفس المنهج (الحلقة الأولى نشرة 27-9-2007):
“تبارك الذى بيده الملك، وهو على كل شيء قدير، الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا “
لماذا جاء الموت قبل الحياة فى هذا التنزيل الكريم، توقفت طويلا أمام هذا الترتيب، فالمنطق السطحى يعتبر الموت هو لاحق للحياة، نحن نعيش ثم نموت وليس العكس، وبالتالى يمكن ببلاهة أن ننتظر أن يكون التسلسل هكذا “الذى خلق “الحياة والموت” لكن الحق تعالى فى تنزيله الحكيم، أن الذى بيده الملك قد خلق الموت، الحياة، وليس خلق الحياة فالموت.
كتبت فى نقدى لملحمة الحرافيش فصلا كاملا عن الموت، بل لعل كل نقدى كان ينبعث من ذلك، أكتفى هنا بنص موضح ذلك :
“….. الموت لا الولادة الجسدية هو البداية، الحياة هى إرادة التخلق من يقين الموت والوعى به، منذ السطر الأول يعلن محفوظ أن ملحمته تدور “… فى الممر العابر بين الموت والحياة” (“دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق فى الحرافيش” قراءات فى نجيب محفوظ)
(لم يقل “فى الممر العابر بين الحياة والموت) فالموت هو الأصل، والحياة احتمال قائم،
وهذا الترتيب هو ما جاء فى الآية الكريمة “الذى خلق الموت والحياة”
ما قمت به وأنا استعمل المنهج الذى أتبعه، هو أننى رجعت إلى الآية الكريمة فوجدت أن لها وضع خاص حتى فى الأحاديث النبوية الشريفة، قدّرت أن سورة “تبارك” قد حضرت فى وعيه كلها أو على الأقل بدايتها، وأن هذه القمة التى ظهرت لنا فى تدريبه هذا اليوم، إنما تعبر عن كل ما تلى هذه الآية الكريمة، من أن الموت هو أصل الحياة وهو باعثها، وأن الرحلة بين الموت والحياة هى ليبلونا أينا أحسن عملا، وأعتقد أن الذى يرجع إلى الحلقات السابقة مباشرة يمكن أن يرصد موقع العمل فى وعى محفوظ، من أول “الإخلاص فى العمل” (الحلقة السادسة بتاريخ 14-1-2010) حتى “العمل عبادة”
الآية الثانية التى كتبها بعد ذلك مباشرة، هى بداية سورة العصر، وهى تأتى فى نفس السياق من أنه لا ينجو من الصفقة الخاسرة فى هذه الحياة (إن الإنسان لفى خسر)، إلا من يؤمن، ويعمل ، وأذكر أننى أشرت إلى كيف أن والدى أخبرنى وأنا حول الثامنة، أنه حين كان يضيق بضيف يضيع وقته، أو يفسد مزاجه كان يقرأ صورة العصر لا أذكر كم مرة ، أو لعله يظل يقرأها فى سره حتى ينصرف الضيف الثقيل، وحين كبرت وحضرتنى مراجعة معنى ذلك، تصورت أن والدى بانصرافه عن ضيفه الثقيل بقراءة هذه السورة هكذا مكررا، قد يوصل رسالة “عدم الانتباه”، فينصرف الضيف، ما علينا، عذرا للتكرار إن كنت قد ذكرت ذلك سالفا.
أن تتلاحق بداية سورة تبارك، بما وصل إلينا الآن مع بداية سورة العصر، ربما لا يحتاج إلى بيان التكامل فيما بينهما أكثر من ذلك.
يلى ذلك شطر بيت أبى نواس فى إيوان كسرى المهجور:
“ودار ندامى عطلوها وأدلجوا”
فى الصفحة الأولى من التدريب، (الحلقة الرابعة 31-12-2009) كان شطر هذا البيت قد جاء هكذا “ودرا ندامى غادروها“، لكنه هنا يثبت الأصل وكأنه يصحح نفسه تلقائيا عطلوها غير غادروها. (عطل الأبل: خلاّها بلا راع ، عطّل البئر: ترك وردها، وفى التنزيل وبئر معطلة وقصر مشيد”، عطل الدار: تركها ضياعا “وكل ذلك يختلف عن مجرد غادروها” عادت ذاكرة الأستاذ حادة كالسيف وبرغم غرابة وندرة استعمال مثل هذه الألفاظ، فهو قد صحح نفسه وراح يكتبها اليوم كما هى “ودار ندامى عطلوها وأدلجو”
السياق فى المرة الأولى فى ذكر دار الندامى فى المرة الأولى (الصفحة الأولى) كان يتكامل مع ما جاء معه فى التدريب من أن “الصبر جميل” ثم “إن الله مع الصابرين”، وقد عقبنا فى (الحلقة الرابعة 31-12-2009)على ذلك قائلين:
“……كل ذلك متسق تماما مع موقف هذا العظيم الواعى جدا، بربط الموقف الذى نحن فيه، بأن له نهاية، كما أن لهذه الدار نفسها نهاية، وأن من يتعلق بها هو يندم عليها (أو لا يندم) يغادرها حتما، فلا أفضل من الصبر، والصبر هنا له صفة عشتها معه بكل فرحة هى صفة الجمال فعلاً، للصبر مرارة، وللصبر جمال، وأنا لم أشاهد مرارة الصبر معه أبدا، حتى فى أزمات مرضه قبل الأخير (إذ لم تتح لى فرصة معايشة مرضه الأخير)، والذى يجعل الصبر جميلا، هو ما أنهى به يوميته هذه: “إن الله مع الصابرين”
السياق هنا الآن يختلف، فهو يرتبط من ناحية بربنا وهو يبلونا أينا أحسن عملا، وبأن الإنسان لا ينجو من الخسران المبين، إلا إذا آمن وعمل، وبالتالى يأتى هذا البيت بأصله أقرب إلى أن يحضر إلى ذاكرتنا أو إلى وعينا إيوان كسرى المهجور الذى قال فيه أبو نواس هذا البيت بعد أن عطلوا إيوان كسرى، ثم غادروه بليل (“أَدْلَجَ” القوم ساروا من أول الليل، “أدَّلَجَ” القوم: ساروا فى آخر الليل”)، البيت كله يقول:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس
حكاية هذا البيت أنه يروى أن أبا نواس ونفر من أصحابه -كما يروى عن الصولي في زهر الآداب وثمر الألباب- أنهم رأوا في قصر كسرى آثاراً في مكان حسن تدل على اجتماع كان لقوم زاروه قبلهم، فأقاموا خمسة أيام يشربون ثم سألوا أبا نواس ليصف لهم هذه الحادثة فقال أبياتا منها:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الرقاق على الثرى وأضغاث ريحان جني ويابس
إلى أن قال:
تدار علينا الراح في عسجدية حبتها بأنواع التصاوير فارس
…………….
…………….
بعد أن قلب الصفحة إلى الصفحة التالية رقم (11) أكتشفت أن ذكر أبو نواس، وصحبه ومزاجه ولهوه هو أقرب إلى ما جاء فى التدريب فى اليوم التالى، وكأن مزاج الاستاذ الرائق الطروب قد امتد فى نفس الجو حتى كتب ما يلى:
*****
من كراسات التدريب (1)
صفحة 11
نجيب محفوظ
أراك عصى الدمع
امتى الهوى
من قد إيه كنا هنا
سلمى ياسلامة
خفيف الروح بيتعاجب
نجيب محفوظ
5/2/1995
القراءة
ربما هذا ما كنت أعنيه حين قلت عن كتابة التدريب فى اليوم السابق أنها انتهت بأبى نواس وهو يصف آثار ما جرى فى إيوان كسرى، فى جو من البهجة والأنس والصحبة والشرب، وأنه امتد عند الأستاذ إلى اليوم التالى ، فيلاحظ هنا أنه
أولا: كتب “نجيب محفوظ” مرة واحدة (ربما لم يكن محتاجا إلى تسخين اليوم)
ثانيا : أن كل التدريب كان أغان جميلة ، غرام، وعتاب، وشوق وبهجة ، بحيث لا يحتاج ما ظهر على قمة الوعى اليوم إلى البحث عن بقية أعماقه :
“أراك عصى الدمع”، “امتى الهوى”، “من قد إيه كنا هنا”، “سلمى ياسلامة”، “خفيف الروح بيتعاجب”
ولو أعدنا ترتيب هذه البهجة، وربطنا احتمال أن يكون هذا اليوم قد حمل له رسالة قرب السلامة، فاستجلب كل هذا الحب والطرب ، فإن الأمر يمكن يبدأ باستشعار السلامة لينتهى بخفيف الروح وهو يتعاجب فيكون الترتيب:
سلمى ياسلامة
من قد إيه كنا هنا
أراك عصى الدمع ،
امتى الهوى ….
خفيف الروح بيتعاجب
الذى يسمع عن شيخ ، فى هذا العمر، أصابه ما أصاب شيخى، وعن ظروف مقاومته، وصعوبة حياته اليومية، لا يمكن أن يخطر على باله أى احتمال أن يكون هو هو “خفيف الروح بيتعاجب”، أو أنه يتذكر “من قد إيه كنا هنا”، أو أنه ينتظر أن “الهوى ييجى سوا”،
هذا الرجل “العصى الدمع”، حين تنسم رائحة السلامة،(سالمة يا سلامة) راح يرقص بالكلمات هكذا
……..
ياه ، يا شيخى الجليل
لماذا ذهبت هكذا مبكرا ونحن أحوج ما نكون إلى أن نتعلم منك كيف الحياة”؟؟
لم قلتها شيخى “كفى” ؟؟!
لكنَّ ما قدّمتَ علَّمنا “الطريق” إليه عبر شعابها:
لمّا عرفتَ سبيل دربك نحوه،
كدحاً إليه :
ودخلتَ فى عمق العباد تعيد تشكيل الذى غمرتْه أمواجُ الضلالْ، حتى تشوّه بالعمى والجوع والجشع الجبانْ،
شيخى الجليل:
ما دمت أنتَ فَعَلتْهاَ
فانعم بها
واشفعْ لنا
أن نَحمل العهدَ الذى أوْدَعْتنَاَ
*******
شيخى الجليل:
نمْ مطمئنا،
وارجع إليه مُبْدعاً،
عبر البشر،
وادخل إليها راضيا،
أهلا ً لهاَ.
هذا هو ما أنهيت به قصيدتى فى رثائه، وقد عاد إلىّ الآن وأنا ألومه فى نهاية قراءتى لصفحة التدريب رقم (11)
ياه، ياشيخى الجليل
لماذا ذهبت هكذا مبكرا؟