نشرة “الإنسان والتطور”
9-9-2010
السنة الرابعة
الحلقة الأربعون
الأحد: 26/2/1995
ذهبت متأخرا إلى موقع اللقاء المؤقت فى فندق الماريوت (حتى نتفق)، ووجدت الأستاذ مؤتنسا فى قاعة أخرى أكبر وأفخم، وكان معه توفيق صالح ونعيم صبري، ود. سعاد موسي، هذا ما توقعته، لم أكن أنقصهم، إلف مألوف هذا الرجل، أفكر بجدية فى مكان آخر اللقاء، لأسباب شكلية مهمة، برغم أنها المرة الثانية فحسب، فإننى أرجح أنه سوف يرفض اقتراح بحث جديد عن مكان جديد؟
وجدت أن الحديث كان يدور حول تحفظ توفيق صالح على التمويل الأجنبى للسينما المصرية (ربما بمناسبة فيلم المهاجر وما أثير حوله)، وكان نعيم صبرى يتساءل عن سبب هذا التحفظ، فانطلق توفيق يشرح أن التمويل لايأتى لكفاءة مخرج أو لدعم موهبة ناشئة أو لتقدير إبداع فائق بقدر ما يتصل بالموضوع الذى يسمح بتمويله، والموضوع المموّل عادة ما يكون إما تشويه لنا أو إعلاء بشأن ثقافتهم وحضارتهم وما يمثلونه، وحكى توفيق كيف أن ثروت عكاشة كان قد جمع بينه وبين شادى عبد السلام ويوسف شاهين قبيل سنة 1967حوالى سنة 1965 وذلك لإمكان تحقيق تعاون معروض من مخرج فرنسى ما، ولكن تأخر التنفيذ والإتفاق حتى قامت حرب 1967 وحدثت الهزيمة ففشلت المساعى احتجاجا على أن التليفزيون الفرنسى كان أول من أذاع الهزيمة (الفضيحة).
ووافق الأستاذ على رأى توفيق. سألته مباشرة: هل تعتقد أن كل تعاون من هذا النوع هو تعاون مشبوه، فأجاب: إن وصف من يحرص على مصلحته ويخدم ثقافته بالمشبوه هو الوصف الذى يحتاج إلى وقفة، وأضاف أنه فعلا لا يرى فى أى تعاون إلا ما يخدم الذى يمد يد العون خدمة أكبر بكثير من متلقى العون (ولو من وجهة نظر المانح) وأن هذا لا يعيب المانح، بل قد يعيبه العكس، وعلى المتلقى أن يحسن حسبته فى إطار هذا الوضوح، وسألته: هل وجدت عبر التاريخ دولة كبرى قادرة كان اهتمامها بالدفع الحضارى لذاته حيثما كان، بمعنى أنها كانت تضع نفع البشر، لا نفعها ، فى المقام الأول، قال إننى أشك فى ذلك، وحكيت له عن الاهتمام الذى رأيته فى إحدى قرى جنوب فرنسا حين كنا فى رحلة نهاية الأسبوع، وتحوطنا حول مائدة عمدة القرية فى “عشاء للمناقشة” وراح جميع المبعوثين (حوالى أربعين من العالم الثالث أساسا) مع مثلهم عددا من أهل القرية يتحاورون أثناء العشاء وبعده حول “محو أمية مجموعة مجهولة” (بعضها مسلمون) فى إحدى مناطق هضبة التبت فى جنوب شرق آسيا، وقد بدأ النقاش يحتد بعد عرض فيلم تسجيلى يظهر مدى التخلف والفقر وسوء الحالة الصحية هناك، وقد تعجبت آنذاك لاهتمام الشخص العادى فى هذه القرية الفرنسية النائية بأمر بدا لى أنه من المستحيل أن يعنيه، أمر شديد البعد عنه، أمر لا يعود عليه بأية جدوى ظاهرة أو مباشرة، فجاءنى الرد من الأستاذ ومن توفيق أن هذا أحد مظاهر تربيتهم على الانتماء لنشر الفكر والثقافة الخاصين بهم، رضعوه منذ الصغر تلاميذا وناشئة، وظل معهم حتى لو لم تتبين لأى منهم فى الأفق فائدة عاجلة له شخصيا.
ثم استشهد توفيق لرأيه الأول بعدة أعمال، وحاول أن يتذكر إسم ممثل أو مخرج، فألمح إلى أعماله، وإذا بالأستاذ أطال الله عمره يقول الاسم “سماريو برجدارد” (على ما أذكر إذا كنت قد أفلحت فى كتابة ما سمعت) ونظرت إلى د. سعاد، وفهمتْ أنها تقول “ملعون أبو ما تعلمناه بشأن تأثير السن على الذاكرة”. وهنا أقر الجميع أن يوسف شاهين عرف ماذا يريد الخواجات، وأنه راح يتخير المواضيع التى تهمهم وتروق لهم، وأنه نجح فى ذلك فعامله بذكاء يناسب ذكاءهم، وذكرت أن بعض المسرحيات التى قدمت من أعمال نوال السعداوى فى الخارج، وفى باريس بالذات، قدمت وراجت نسبيا لأنها تحتج -ضمنا- على ربنا لأنه خلق النساء بغشاء بكارة دون الرجال، وأن الخوجات يعتبرون هذا الاحتجاج بطولة، وهم يروجون لهذا الفكر الذى يعتبرونه ثورة امرأة شرقية، واضيف أن توظيف الفن لترجيح فكر معين يمسخ الفن ويشوهه، بل إن النشر العلمى والمجلات العلمية لم تعد فوق مستوى الشبهات، وقد أصبحت تجارة رائجة تخدم المال وأصحابه فى المقام الأول، بل إنها تُقَوْلِب عقول الباحثين والعلماء عندها بحيث يتوجه كل نشاطهم الذهنى إلى “ما يقبل النشر” وليس إلى “ما يكشف عن الحقيقة، وحكيت عن ما أذكره من فيلم تليفزيونى كنت قد شاهدته مدبلجا أثناء إقامتى فى باريس، وكان عن قصة من ألف ليلة على ما أذكر، وهو فيلم مجهول لنا برغم أن بطله كان “عمر الشريف”، وكان يمثل طالب علم فى مسجد أو فى الأزهر، (على ما أذكر) أو ما شابه ذلك، وقد قام بدور أقرب إلى الهزل والشطارة، لكن ما وصلنى هو استهانة بشعة بديننا وتقاليدنا وتراثنا بما يخالف كل ما أعرف من حقائق تاريخية.
وعاد الحديث إلى يوسف شاهين وإلى فيلم “بياعة الخواتيم” وإلى صوت حسن (…..؟؟) ومقارنته بصوت وديع الصافي، وقلت إن وديع الصافى لا يقدره إلا من سمع خرير الماء فى جبل لبنان أعلى طرابلس أو بحمدون، وقد عشت ذلك مرة بالليل ومرة بالنهار، وصوت الماء بالليل أنقى وأطيب وأقوى وأرخم فى نفس الوقت، وهذا ما يصلنى من صوت بديع، وحكى توفيق صالح كيف أنه كان وهو صبى صغير يتجول فى جبل لبنان وهو حول الثالثه، وكيف أنه كان وحيدا تماما والجبل رائع مشرق خال جليل، وكيف سمع أول مرة أجمل صوت وصداه يتردد “زورونى كل سنة مرة” وأنه لم يكن يعرف أنها أغنية سيد درويش ولا أنها مصرية وأنه حين سمعها بعد ذلك تعجب من هذا الصوت الجميل الذى وصله عفوا، ومازال يرن فى أذنه، وقلت له لعله خيل إليه ذلك فيما بعد، وليس فى هذه السن الباكرة جدا، فنفى وسكت.
ثم أخذ توفيق صالح يقرأ بحثا قامت به إبنة نعيم صبرى فى الجامعة الأمريكية عن القصة القصيرة “زعبلاوي” للأستاذ بالانجليزية وراح يقرأ ويترجم فنبهته المرة تلو الأخرى ألا يقوم بالترجمة فالأستاذ قد قرأ ديستويفسكى بالانجليزية، فأضاف بل قرأ جيمس جويس أيضا (وهذه معلومة أخرى بهرتني) ومع ذلك راح توفيق يقرأ ويترجم، وحين انتهى من القراءة قال الأستاذ: إن هذه القصة بالذات هى سعيدة الحظ جدا، وهى من القصص التى راجت بشكل مذهل عند الألمان بالذات، وحكى كيف أن مترجما وناشرا ألمانيا قام بترجمتها بالاتفاق معه فى كتاب حوى مجموعة من القصص القصيرة لكتاب عرب من مختلفى الأقطار العربية، وأن هذا الناشر قد أعطاه ثمن الترجمة، ثم قال له إن أى نشر لهذه القصة فى أى مجلة أخرى سوف يكون له مقابل آخر، وأنه سيأخذ النصف (فيفتى فيفتى =50% ) وأضاف الأستاذ ضاحكا مشيرا بيده: ”قلت له فيفتى فيفتى موافق، ماشى كلامك، ولو قال إنه سيأخذ 90% لوافقت”، ولم أفهم كيف أن نشر قصة فى مجلة بعد نشرها فى كتاب يستحق أن يجازى هكذا كل مرة، ولكن الأستاذ شرح لى أنه يبدو أن الولايات الألمانية مؤسسات مستقلة تماما بما فى ذلك صحفها ومجلاتها وثقافتها وغير ذلك، وأن كل ولاية لها صحيفتها (صحفها) الثقافية كما تشاء – وأنها إذ اختارت هذه القصة أو تلك لتنشرها فهى قد لا تصل إلى الولايات الأخرى إلا بإذن خاص، وفى مجلة مختلفة، وهكذا، ويكمل الأستاذ: وقد أخذ هذا الناشر الألمانى يرسل لى المرة تلو المرة تلو المرة دون أن أطلب أو أعلم، مبلغ كذا من مجلة كيت بالأمانية، ومعها شيك بالشيء الفلاني، ثم مجلة كيت وفيها خبر عن القصة والشيك، حتى جمعت من هذه القصة المحظوظة أكثر مما أخذت من أى كتاب مترجم ومنشور يعطونى فيه 8% أو 10%، قلت له: يبدو أن الألمان يقدرون ويحسنون الانتقاء، فإن هذه القصة بالنسبة لى تمثل النواة التى تدور حولها فكرة البحث عن الله بصفة دائمة فى كتاباتك، وأظن أنها كانت إرهاصات أولاد حارتنا ثم الطريق ثم الحرافيش (ولم أتذكر حكاية بلا بداية ولا نهاية، ولا حارة العشاق إلا وأنا أكتب الآن)، لكن الأستاذ صححني، قائلا أولاد حارتنا صدرت مسلسلة قبل كتابة الزعبلاوى سنة 1963.
قال الأستاذ إنه لاحظ أن الألمان يهتمون بالقصص ذات الطابع الفلسفى والبحث العقلي، فى حين أن الانجليز يهتمون بالطابع الاجتماعى والعملي، وأن الانجليز حين يترجمون ينتقون ما يتفق مع هذا التوجه، وحتى إذا لم يكن فيه هذا التوجه فإنهم يفترضونه أو يفرضونه.، وتحفظت على هذا التعميم، وإن كان ليس لدى أى دليل يدعم تحفظى، وفوّتها لى الأستاذ.
الأثنين: 27/2/1995
العدد قليل اليوم، صوفيتيل المطار، محمد إبنى صحب الاستاذ بدلا من حافظ عزيز، وعادل عزت (الشاعر) وصل بعدهما ثم لحقت أنا بالثلاثة، ولم ألحظ أى ضجر عند الأستاذ من هذا العدد القليل، بل لعل العكس هو الصحيح، لمحت لونه اليوم باهتا بعض الشيء فجزعت، لكننى أرجعت ذلك إلى ضوء النيون، فاطمأننت، يبدو أننى أحب الأستاذ حبا جما، هل هو حب والدى أم حب بنوى، يبدو أننى جمعت فى هذا الموقف الاثنين معا.
كان الحديث مازال يدور حول ما فعله “أولاد السحار” بأعمال احسان عبد القدوس. قبل الأستاذ كعادته – اعتذار السحارين (هكذا يسمِّى أبناء عبد الحميد جوده السحار) كما نشر فى الصحف، اعتذارهم عن التشويه الذى لحق بقصص إحسان عبد القدوس وبعض قصص الأستاذ، وجرى حديث أثاره عادل عزت عن جلسة الاسكندرية فى الصيف ومشاركة توفيق الحكيم وكيف أن الأستاذ استراح حين جاءت جائزة نوبل إليه بعد وفاة الحكيم، وسألته مرة أخرى أن يزيدنى شرحا لموقفه هذا ؟ فقال متعجبا “وهل هذا يصح؟” قلت له ماهذا الذى يصح أو لايصح؟ هل أنت الذى تعطى نفسك الجائزة؟ وهل فى التقدير العالمى يوجد ما يصح وما لا يصح؟ أصر على أنه: أبدا، هذا لا يجوز، فتوفيق الحكيم هو الرائد وهو السابق”، قلت له: إن هذا لا يمنع أن يبز اللاحق السابق، أصر أنه “أبدا.. لا .. لا، هذا لا يجوز ” ، قالها بصدق نقى حتى حسبت أنه يتصور أنهم كانوا عليهم أن يستأذنوا توفيق الحيكم فى قبره قبل أن يتجرأوا ويمنحوه الجائزة، وذكر عادل عزت كيف أن توفيق الحكيم كان يلمح (ويرجو وينتظر) ترشيحه ثم اختياره لنوبل العام تلو العام – وشرح الأستاذ كيف أن الترشيح من الهيئات عبر العالم شيء، أما ترشيح اللجنة نفسها لحوالى 150 كاتبا وأديبا على مستوى العالم شيء آخر، وأن هذا الترشيح الأخير يظل سرا أبدا، لأن مجرد الترشيح وإعلانه ثم حجب الجائزة عن المرشح قد يمس منزلته ويلحق به ضررا أدبيا بالغا، ضررا قد يحفزه إلى التقاضى وطلب التعويض، وحكى عادل عزت زيارة اثنين من الألمان للأستاذ فى كازينو قصر النيل وكيف أنها كانت زيارة قبل القول الفصل فى نيل الجائزة، وكأنهما على حد تعبير عادل عزت مندوبين لهيئة الجائزة، ولم ينف الأستاذ ما قاله عادل، لكن يبدو أنه نسى، أو لم يقـر التفسير، لكن عادل ذكر أشياء كثيرة عن موقف هذين الألمانيين، ومدى انبهارهما بالأستاذ وأعماله، ولم ألاحظ على الأستاذ فرحة خاصة بذلك، وشعرت بأننى أفخر بموقفه هذا، دون استهانة بتقدير الخوجات.
لست أدرى كيف جاء ذكر اتجاه عدد من الأطباء لتعاطى الأدب، وقال أحدهم، لا أذكر من، يبدو أن فرصة الطبيب تكون أفضل للإحاطة بالنفس البشرية، إذ أنه بعد أن يملك ناصية العلم، يقدم على الأدب وهو على معرفة أرحب بالإنسان، فيتناول الأدب من منطلق أوسع. عارضت هذا الرأى بشدة، فالعلم والمعلومات قد يصبحان أوصياء على الملكة الأدبية إذا سمح لهما الأديب أن يتداخلا فى إبداعه، اللهم إلا فيما يسمى بالخيال العلمى، الأمر الذى يقع عندى فى مرتبة غير طيبة من الإبداع، وذكرت أسماء أطباء أدباء كُثر، من أهمهم يوسف إدريس والمخزنجى والمنسى قنديل وقلت للأستاذ إن الاثنين الأخيرين يعملان فى مجلة العربى ولست أدرى ماذا أصابهما ليصبحا محررين صحفيين يعملان تحقيقات صحفية لأقطار هنا وهناك، دون ذكر للحركة الأدبية أو الثقافية لما يزوران من بلاد، فهما الآن أقرب إلى المخبر الصحفى منهما إلى الأديب الرحالة، وهذا محزن. وهز الأستاذ رأسه. (وقد تغير الحال بعد ذلك بالنسبة لمحمد المخزنجى –على الأقل- والحمد لله، وعاد إلى إبداعه 2010)
ثم جاء ذكر رواية “هموم شخصية” (للكاتب اليابانى بورو نوبل 1994) ومدحت فيها للأستاذ مرة أخرى، وكيف أننى حسبتها خبرة معايشة طفل معاق عقليا لكننى وجدتها غير ذلك. فهى حكاية خبرة عميقة لولادة طفل عنده عيب خلقى (فتق فى الدماغ) قد يؤدى إلى تخلف عقلى يحتاج أن تجرى له عملية غير مضمونة لعل وعسي، وأن الوالد كان يرجو وفاته وأنه – الوالد – السكير السابق قد رفض إجراء العملية أملا فى وفاة الرضيع، ثم قرر أن يذهب به إلى طبيب مختص فى الإجهاض وقتل الأطفال غير المرغوب فيهم من الأهل، وذلك بأساليب طبية لا تكتشف، حدث ذلك بعد عودة الأب إلى صديقة قديمة، كانت رفيقته من قبل، ثم صاحبته فى محنته حتى قرار قتل الطفل، ولولا النهاية الضعيفة التى تزينت بكلمتى “الأمل” (التى سمعها البطل من منشق) والتى أضيف إليها “الصبر” (ولم يبق إلا أن يلوح للقاريء أن “مع السلامة” مثل أفلام زمان) لولا هذا لبلغت الرواية غرضها كأروع ما يكون العمل الأدبى، كان هذا رأيي. وأضفت تعميما ينبه إلى أهمية خاتمة أى عمل إبداعى أدبي: رواية كانت أم قصة قصيرة أم قصيدة، وقلت للأستاذ أننى تحفظت على كثير من نهاياته بما فى ذلك أروع أعماله فى نظرى وهو “الحرافيش”، فما أعجبتنى خطابة عاشور الناجى الحفيد، ولا فرحت لحكاية التوت والنبوت، فقال الأستاذ هل كنت تريده نبوتا فقط بلا توت؟ وذكرت تحفظى حتى على خواتيم روايته ليالى ألف ليله التى حرقت أحيانا قوة بداياتها، وأعلنت تفضيلى للنهايات المفتوحة، وسألت الأستاذ عن رأيه، فأقر أن الخاتمة هى من أهم ما يميز العمل الأدبي، وأن عدم التوفيق فى بعض الخواتيم له أكثر من تفسير، فقد يفتر حماس المؤلف، وقد ينطفيء إبداعه، وقد يتراجع – دون أن يدرى – عن توجه دوافعه الأولي، وقلت له: إن من أروع ما وصلنى من خواتيم رواياته كانت خاتمة زقاق المدق “بلى لكل شيء نهاية” وخاتمة السراب، وحين جاء ذكر السراب قلت له: إن هذا العمل لم يأخذ حقه أبدا فى النقد، فالتفت الأستاذ إلى عادل عزت وقال له إن “الدكتور” هو الذى كشف عن جانب لم يلتقطه النقاد ولا أنا كنت منتبها له، وهو أن عقدة السراب كانت فى الأم لا فى الولد، استسهل النقاد التحليل النفسى وهات يا عقدة أوديب، وعقدة أورست، وما شابه، وأضاف الأستاذ : إن بعض النقاد كلما وجدوا ولدا وأمه وثمة تعلق واضح، هات ياتحليل وهات يا أوديب، وهكذا فتح ملف نقد تعميم عقدة أوديب، ولى فيها باع طويل، وذكرت مرة أخرى اعتراضى فى اختزال السراب إلى أوديب إذْ كيف يتنافس كامل رؤبة لاظ (بطل السراب) مع والده اصلا وهو غير موجود، ووافقنى الأستاذ مضيفا أن الدكتور (مشيرا إلى شخصي) كشف عن جانب استحواذ الأم وأنها هى السبب فيما حل بالإبن من أحداث ومضاعفات، ولم أكن متأكدا – رغم الإشارة – أنه يتحدث عني، لكننى تأكدت بعد قليل، وفرحت أن الأستاذ قد تتبع هذا الرأى الذى أبديته داخل مقال قديم نشر فى مجلة فصول ثم أعيد نشره فى كتابى عن قراءات فى نجيب محفوظ، لكن كتابى غالبا لم يصل إلى الأستاذ لأنه ظهر بعد أن كف الأستاذ عن القراءة والكتابة (والاستماع الطويل) – لكنه مازال يذكر تلك الفقرة فى مقال لى عن “إشكالية العلوم النفسية والنقد الأدبي”، والتى عارضت فيها رأى د.عز الدين إسماعيل فى السراب، وذكرت فيها رؤيتى لموقف كامل رؤبة لاظ وخاصة فيما يتعلق بعلاقته بأمه ومشاكله الجنسية، وعلى ذكر النهاية المفتوحة، عدت أذكر نهاية قصة زعبلاوى التى تحدثنا عنها، والتى جاءت نهاية دائرية ممتدة حيث كانت النهاية حتى فى ألفاظها مثل البداية (بدأت القصة: “اقتنعت أخيرا بأن علىّ أجد الشيخ زعبلاوى” وانتهت: “اقتنعت تماما بأن علىّ أن أجد زعلاوى”) نعم علىّ أن أجد زعبلاوى.
انتقل الحديث إلى تمويل الأفلام التى تخدم أغراضا وطنية حقيقة فعلا، مثل حرب 73، وقال أحدنا : من البديهى أن فيلما كهذا لن يجد تمويلا إسرائيليا!! أما التمويل الغربى فقد أكد توفيق ومعه الأستاذ أنه تمويل مشروط بالضرورة بما سبقت الإشارة إليه، بل إنه مشروط ومشبوه معا، أو ينبغى أن يكون كذلك، دون تفسير تآمري، ويجيء ذكر نوال السعداوى مرة أخرى فأقول للأستاذ أنها تدرس فى جامعة فى كاليفورنيا عن تحرير المرأة وكلام من هذا، وأننى سمعتها أمس فى الــBBC وهى تفتى عن أول فيلسوفة ظهرت فى القرن الرابع قبل الميلاد، ويحكى توفيق شيئا عن علاقتها بيوسف إدريس وهما طلبة فى كلية الطب، وأنه نتيجة لإحباطها فى هذه العلاقة راحت تنافس يوسف إدريس بلا جدوي، ثم لجأت إلى الطريق الأسهل، وهات يا صراخ حول المرأة، ولم أوافقه ، وتحفظت على هذه الحكاية، ولم أذكر لا للأستاذ ولا لتوفيق خبرتى معها حين كنا نشترك فى إصدار مجلة الصحة من وزارة الصحة، وكيف حركتُ فيها ، دون قصد، طفلة وديعة، وإذا بها تكشر عن أنياب عدوانيتها وتهاجمنى حتى خرجت من زيارة عيادتى، زيارة غير مهنية، ترفضنى وترفض فكرى وترفض تحريكى وترفض جنونى المقتحم، ورجولتى المغرورة، وربما تخلفى أو عقدى، وقلت للأستاذ إنى أتصور هذه الكاتبة الدكتورة وهى تزعم أن البكارة اختراع اخترعته الأمبريالية وسربته إلى ربنا سبحانه وتعالى ليفسد به تشريح جسد المرأة ثم راحت تعايرنا نحن الرجال أننا بدون غشاء نتيجة هذه المؤامرة وأن حل مشكلة المرأة هو فى إزالة آثار هذا العدوان ليصبح النساء بلا بكارة مثل الرجال، مع أننى – شخصيا– حللت هذا الإشكال عندى بأن اعتبرت أن للرجل بكارة دون غشاء، وبذلك يصبح مسئولا نفس مسئولية المراة تماما، وشرحت رأيى هذا للأستاذ، فهز رأسه، ولم أفهم موقفه، ولم استوضح.
ثم تطرق الحديث إلى سلمان رشدي، فأقول له إننى سمعت أنه كاتب ”أى كلام”، وأن عندى كتابه “آيات شيطانية بالانجليزيه” ، وإنى لم أستطع أن أكمله (ولكن: متى أكملتُ رواية بالانجليزية؟؟) وأسأل الأستاذ عن رأيه فى سلمان وحكايته، فيقول إنه سمع عنه خيرا قليلا، وإنه يجوز أن يكون كاتبا متميزا، وأن له أعمالا قيل له أنها مناسبة أو جيدة، أو واعدة، وذلك قبل إصداره هذا الكتاب”آيات شيطانية”، لكنه لما أصدر هذا الكتاب – لم يكن يقصد تحديدا مكسبا أو دعاية أو تجديفا، أو ربما قصد إلى بعض هذا أو كل هذا دون أن يدري، ثم إن الكتاب فى طبعته الأولى فشل فشلا ذريعا ولم يسوق، لكنه بعد ذلك أهدى نسخة منه إلى رئيس جمعية إسلامية فى لندن (أو كما قيل)، وإذا بهذا الرئيس ينزعج وينشر ويهاجم ويشجب، فتثور الثائرة وينتبه الناس، ولم يكن القاريء الإنجليزى يعرف ما ترمز إليه اسماء الرواية، فأضيف فى الطبعة الثانية جدولا يترجم الاسماء إلى أصولها، وانقلبت الدنيا، وحين صدرت الفتوى بإعدامه، جاء للأستاذ أحد أصدقائه الناشرين (لا أذكر الاسم ولكنه ليس من السحارين) وقال هذه دعاية بمليون جنيه، وكان رأى الأستاذ موافقا لما تصورته وهكذا خرجت المسألة عن حدود الدين أو الأدب معا إلى ألعاب التسويق والتكفير جميعا.
لست أدرى كيف جاء ذكر صدقى باشا سنة 1930، وكيف أنه كان قد أصدر مرسوما أو قرارا بتجريم من يهتف ضده أو بسقوطه، وحكى لنا الأستاذ حكاية أشبه بنادرة، قال: إن مكرم عبيد قام يخطب قائلا إننى إذا صَدقَتكم فقد أجرحكم وإن كذبت عليكم فإنى مخفف عنكم، وفى هذه الحال دعونى أقول، أو لعل لسان حالكم يقول: يحيا كذبى و “يسقط صدقي”، وهكذا هتف بسقوط صدقى دون باشا، وهو يتلاعب باللغة العربية التى كان يحبها جدا، ويتقنها جدا جدا.
كنت قد أنهيت قراءة كتاب هوفمان عن اسلامه، وكان سفيراً لألمانيا فى المغرب وهو الدبلوماسى الذى أسلم بسلاسة نتيجة لأمانته مع نفسه بعد رحلة استكشافية، وصل فيها إلى يقين إن هذا الدين (الإسلام) متين، وأنه يمثل سائر الأديان النقية قبل التشوية، وأنه أقرب الأديان – التى عرفها إلى الفطرة، وبالتالى فقد رأى هوفمان أنه إذا كان الأمر كذلك فمن الأمانة أن يعلن هذا الرأى، وبالتالى فإن إعلان رأيه هذا كان – ببساطة- يعنى إسلامه، وقد شرحت للأستاذ كيف أن الذى أعجبنى فى الكتاب هو سلاسة التفكير وشجاعة المعايشة ثم أمانة المواجهة والإعلان عن الرأى بهذا الترتيب، ونبهت أننى أعتقد إلى أن إسلام هوفمان هذا لا يكتمل إلا إذا كانت أمامه فرصة للتراجع – كما تراجع عن المسيحية – أى أن الطريق ينبغى أن يكون ذهابا وعودة، وإلا فتهليلنا له حين أسلم (وقد ترك دين أهله) لا يتماشى – عدلا – مع إعدامنا له إذا رجع عن إسلامه، وقلت للأستاذ أن هوفمان نفسه نبـه إلى أن الردة التى تستوجب القتل هى الردة التى تحمل إفشاء الأسرار للعدو أثناء الحرب، وهى أشبه بتهمة الخيانة العظمى فى أى من القوانين والخيانة عقوبتها الإعدام فى كل ملة ودين، أما تغيير المعتقد من موقف شخصى فليس عليه عقوبة، وهذا الرأى الذى وصل إليه هوفمان هو رأى بعض الفقهاء المسلمين فى مسألة الردة ومازلت أؤكد أنه لا مناعة ولا قوة للإسلام إلا بالمواجهة بما فى ذلك إلغاء حد الردة، اللهم إلا كانت فى ظروف تساوى الخيانة العظمى فعلا – كما قال هوفمان وأخرون- أثناء الحرب عادة.