الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الحلقة الأربعة والأربعون الجمعة: 11/3/1995

الحلقة الأربعة والأربعون الجمعة: 11/3/1995

نشرة “الإنسان والتطور”

7-10-2010

السنة الرابعة

العدد: 1133
Photo_Mafouz

الحلقة الأربعة والأربعون

الجمعة: 11/3/1995

كادت القاعدة تصبح ألا أحضر يوم الجمعة بوجه خاص، بسبب سفرى المنتظم نهاية الأسبوع كما ذكرت، حين أقول له إنه أصبح بيته أكثر من بيتى، لا اقولها مجاملة، وإنما فرحة، هذا‏ ‏الأسبوع‏ ‏هو فى بيتى أيضا، أعنى بيته، الحمد لله، لم أحضر لقاءه الأسبوع الماضى، دون أدنى حرج، ‏كان‏ ‏الأستاذ‏ ‏طيبا‏ ‏”ملعلعلا”‏ هذه الليلة، ‏ربنا‏ ‏يخليه‏، جرى ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏التاريخ‏ ‏وتدوينه ومدى المصداقية ‏ ‏فى ذلك كله، ياه!! لن ينتهى هذا الحديث أبدا، مثله مثل حديث الديمقراطية، وأيضا موضوع احتمال أن يتولى الإخوان الحكم، ضربت مثلا لأبين مدى اهتزاز مصداقية التاريخ:‏ ‏كتابة‏ ‏هذه‏ ‏المذكرات مثلا، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏واحدا‏ ‏طلب‏ ‏من‏ ‏الجلوس‏ ‏معنا‏ ‏الآن‏ ‏أن‏ ‏يسجل‏ ‏ما‏ ‏حدث‏ ‏هذه‏ ‏الليلة‏ ‏لمدة‏ ‏ساعة‏ ‏واحدة، ‏بعد‏ ‏سبع‏ ‏دقائق‏ ‏من‏ ‏انتهاء‏ ‏الحديث‏ ‏فكم‏ ‏منا‏ ‏سيتفق‏ ‏مع‏ ‏كم منا فى حكى نفس الحكاية؟ فما بالك إذا طالبناه بحكيها بنفس الألفاظ، ‏ ‏وهنا‏ ‏ثارت‏ ‏قضية‏ ‏كتابة‏ ‏الأناجيل‏ (‏والأحاديث‏ ‏النبوية‏ الشريفة): ‏قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏إن ‏الأناجيل‏ ‏كتبت‏ ‏بعد‏ ‏سبعين‏ ‏سنة‏ ‏من‏ ‏موت‏ ‏المسيح، ‏وباسترجاع‏ ‏تاريخ‏ ‏المسيح‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏تستمر‏ ‏رسالته‏ ‏سوى ‏أربع‏ ‏سنوات‏ ‏قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنظر‏ ‏ ‏ماذا‏ ‏بقى ‏للناس‏ من ذلك ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏شىء‏: ‏الرومان‏ ‏بهيلمانهم‏ ‏وسلاحهم‏ ‏ينتهون‏ ‏هكذا‏ ‏أمام‏ ‏شاب‏ ‏وديع‏ ‏يعيش‏ ‏فى ‏حارة‏ ‏ويشفى ‏بعض‏ ‏المرضى، ‏لا بد أن الأمور كانت مهيأة لهذه النقلة، مثلما‏ ‏حدث‏ ‏فى ‏الإتحاد‏ ‏السوفيتى، ‏فحين‏ ‏همس، ‏ثم‏ ‏قال، ‏ثم‏ ‏أعلن‏ ‏جورباتشوف‏ ‏بأنه‏ “‏لا‏” ‏ليس هكذا، وتصدى لما‏ ‏يجرى ‏من‏ ‏حكم‏ ‏شمولى، ‏وشيوعية‏ عمياء ‏قاسية، ‏إنهار‏ ‏الإتحاد‏ ‏السوفيتى، ‏ربما كان مثل ذلك هو ما فعله‏‏ ‏ابن‏ ‏الامبراطور‏ ‏الرومانى ‏حين‏ ‏آمن‏ ‏بالمسيحية، ‏لكنه‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏طاح‏ ‏فى ‏غير‏ ‏المسيحين‏ ‏نساء‏ ‏ورجالا‏ ‏وأطفالا‏ ‏فانعكست‏ ‏الآية، ‏قلت‏ ‏له‏ ‏ألا‏ ‏يطمئننا‏ ‏هذا‏ إلى ‏أنه‏ ‏فعلا‏ “‏لا‏ ‏يصح‏ ‏إلا‏ ‏الصحيح‏” ‏وأنه‏ ‏لا‏ ‏الحكم‏ ‏حاليا، ‏ولا‏ ‏حكم‏ ‏الجماعات‏ ‏إياها‏ ‏لو‏ ‏جاءت‏ ‏ ‏مهما‏ ‏اشتد‏ ‏عودها‏ ‏وعلا‏ ‏صوتها، سوف يدوم أى منهما، مادام‏ ‏توجه‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏هو‏ ‏ضد‏ ‏التاريخ‏ ‏وضد‏ ‏صالح‏ ‏البشر، ‏فأقرّ ‏كلامى ‏الذى ‏تعلمته‏ ‏منه‏ ‏أصلا‏. ‏

انتقل‏ ‏الكلام‏ ‏إلى ‏غلبة‏ ‏التفكير‏ ‏التآمرى ‏فى ‏الشرق‏ ‏خاصة، ‏وقال أحدهم أن‏ ‏جمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏نفسه ليس إلا صنيعة‏ ‏الأمريكان، ‏وحتى ‏حرب‏ 67 ‏قيل‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏للتخلص‏ ‏من‏ ‏عبد‏ ‏الحكيم‏ ‏عامر، ‏نبّهنا الأستاذ بوضوح: أنه ليس إلى هذه الدرجة، وإلا لصدقنا الإشاعة التى ‏أشاعها‏ ‏الإخوان‏ ‏أن‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏كان‏ ‏يهوديا‏ ‏وكان‏ ‏يسكن‏ ‏فى ‏حارة‏ ‏اليهود‏ ‏مع‏ ‏أبيه،‏ ‏ولا‏ ‏يسكن‏ ‏فى ‏حارة‏ ‏اليهود‏ ‏إلا‏ ‏يهودى، ‏فى حين أن المسألة كلها هى ‏ ‏أن‏ ‏حى ‏الخرنفش يقع‏ ‏بجوار‏ ‏حارة‏ ‏اليهود، ويبدو أن نافذة ‏ ‏منزل‏ ‏ ‏والد‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏كانت تطل‏ ‏على ‏حارة‏ ‏اليهود، ‏لكن‏ ‏خذ‏ ‏عندك‏.‏

فجأة‏ ‏قال‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏أثناء‏ ‏نوم‏ ‏القيلولة‏ ‏هذه‏ ‏الظهيرة‏ ‏حلم‏ ‏بجمال‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏وكان‏ ‏الحلم‏ ‏هكذا‏:‏

‏”‏هو‏ ‏جالس‏ ‏يتكلم‏ ‏أو‏ ‏يهم‏ ‏بأن‏ ‏يتكلم‏ ‏فى ‏التليفون‏ ‏وإذا‏ ‏بعبد‏ ‏الناصر‏ ‏يدخل‏ ‏عليه‏ ‏فأسرع‏ ‏بإنهاء‏ ‏المكالمة‏ ‏أو‏ ‏قطعها‏ ‏ليترك‏ ‏التليفون‏ ‏لعبد‏ ‏الناصر‏ ‏الذى ‏تكلم‏ ‏فعلا‏ ‏وطلب‏ ‏رقما‏ ‏يذكره‏ ‏الأستاذ‏ ‏بوضوح‏ ‏وهو‏ 1616، (‏ستاشر‏ ‏ستاشر‏) ‏ثم‏ ‏سمع‏ ‏صوت‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏الردهة‏ ‏يقول‏: ‏إن‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏يكلم‏ ‏واحدة، ‏وأنه‏ ‏لابد‏ ‏متزوج‏ ‏من‏ ‏أخري‏”.‏

إنتهى ‏الحلم‏.‏

فرحت‏ ‏أن‏ ‏يتطوع‏ ‏الأستاذ‏ ‏بحكى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏هكذا‏ ‏بهذه‏ ‏البساطة، وتعجبت بينى وبين نفسى من هذا الوضوح، ‏واجتهد‏ ‏الجلوس‏ ‏فى ‏التفسير، ‏دعابة‏، ‏وجِدَّا، “‏ستاشر‏ ‏ستاشر‏” ‏هذه‏ ‏واحدة، ‏وزكى ‏سالم‏ ‏يقول‏ ‏لعل‏ ‏هذا يبين‏ ‏أن‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏الذى ‏نعرفه غير عبد الناصر الذى وصفه الأهرام ‏مؤخرا‏ ‏وأكد على مرحه‏ ‏حتى ‏كاد‏ ‏يقارنه‏ ‏بسعد‏ ‏زغلول (على ما أذكر)، وأن ‏عبد‏ ‏الناصر‏ ‏- مثل أى بشر-‏ ‏له‏ ‏جانب‏ ‏آخر، ‏أو ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏الحلم‏: ‏زوجة‏ ‏أخرى، ‏و‏لم أشارك فى تفسير الحلم تأكيدا لموقفى من حكاية تفسير الاحلام مما ذكرته مكررا، كل ما عقبت به – ربما لنفسى- هو أن ما بلغنى هو أن بداخل الأستاذ طفل جميل، له خيال بديع، وأن مستويات وعيه هى‏ ‏حقل‏ ‏خصب‏ ‏مليء‏ ‏بعبد‏ ‏الناصر‏ ‏وغيره، ‏وفى نفس الوقت يصلنى من حكى الحلم وسلاسة النقلات نوع الحركية الدمثة بين مستويات وعيه، وأستنتج كم أن‏ ‏ظاهر‏ ‏الاستاذ‏ ‏قريب‏ ‏جدا‏ ‏من‏ ‏باطنه، ‏وأن‏ ‏خياله‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ ‏مازال‏ ‏نشطا‏ ‏تماما، ومتناغما مع أفكاره ومواقفه.

 على ‏ذكر‏ ‏السن، ‏نسيت‏ ‏أن‏ ‏أثبت‏ ‏ما‏ ‏حدثنا‏ ‏الأستاذ به‏ ‏أمس‏ (فى لقاء الحرافيش) ‏عن‏ ‏أولاد‏ ‏أخيه‏ ‏إبراهيم‏ ‏الذين‏ ‏ماتوا‏ ‏الواحد‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏ ‏وهم‏ ‏بعد‏ ‏فى ‏العقد‏ ‏السادس‏ ‏أثناء‏ ‏العمل‏ ‏رغم‏ ‏أن‏ ‏والدهم‏ ‏معمر‏، ثم‏ ‏عرج‏ ‏إلى ‏والدته‏ ‏التى ‏عمرت‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يناهز‏ ‏المائة سنة، ‏أو‏ لعلها ‏تخطتها‏، وقد ‏كانت‏ ‏تتبع‏ ‏جميع‏ ‏العادات‏ ‏السيئة‏ (‏الغذائية‏ ‏والصحية‏) ‏المشهورة‏ ‏بتقصير‏ ‏العمر، ‏وحتى ‏السجائر‏ ‏لم‏ ‏تكن‏ ‏تدخنها، ‏لكن‏ ‏الأخ‏ ‏الأكبر‏ ‏راح‏ ‏يداعبها‏ ‏فى ‏سن‏ ‏الثمانين‏ ‏ويعزم‏ ‏عليها‏ ‏بالسجائر، ‏فتمسكت‏ ‏بها‏ ‏حتى ‏الوفاة.

‏وأمس‏ ‏أيضا‏ ‏(فى جلسة الحرافيش كذلك) جاء‏ ‏ذكر‏ ‏وفاة‏ ‏أمينة‏ ‏زغلول‏ ‏صاحبة‏ ‏محلات‏ “‏فلفلة‏”، ‏ماتت‏ ‏ثانى ‏أيام‏ ‏العيد، ‏وكانت‏ ‏إمرأة‏ ‏لها‏ ‏تاريخ زاخر، ‏أحبها‏ ‏توفيق‏ ‏صغيرا‏، من بعيد لبعيد، ‏فهى ‏من‏ ‏الاسكندرية، ‏وتزوجت‏ ‏إبن‏ ‏أخت‏ ‏الأستاذ‏ ‏واسمه‏ ‏نبيل على ما أذكر،‏ ‏واتهموا‏ ‏الأستاذ‏ ‏أنه‏ ‏شجعه ‏على ‏ذلك، ويعقب‏ هو ‏على هذه الإشاعة أنه:‏ “‏والله‏ ‏العظيم‏ ‏تلاتة‏ ‏لا‏ ‏شجعتُه‏ ‏ولا‏ ‏حاجة‏” ‏ويحكى ‏القصة‏: ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏جاء‏ه بصفته خاله يسأله عن‏ ‏رأيه‏ ‏فى ‏امرأة‏ ‏جميلة‏ ‏يحبها، ويريد أن يقترن بها، ‏فقال‏ ‏له‏ ‏: أنت‏ ‏تسافر‏ ‏إلى ‏الخارج‏ ‏كثيرا، ‏فانتظر‏ ‏حتى ‏ترجع بعد‏ ‏أن تبتعد‏ ‏‏عنها‏ ‏مدة، ‏ ‏وعن‏ ‏زوجتك‏ ‏وأولادك أيضا، ‏ثم‏ ‏فكر‏ ‏بهدوء‏.‏ وقد فعل، وسافر، وفكر‏ ‏بهدوء، ‏وتزوجها‏، ‏أنا‏ ‏مالي‏!!‏؟‏”، ويضحك، ونضحك.‏

كانت‏ ‏تيمة‏ فيلم “‏إبنة‏ ‏ريان”‏ ‏قد‏ ‏أخذت‏ ‏حيزا‏ ‏أمس‏ ‏جعلنى ‏أتوقف‏ ‏أمام‏ ‏ذكريات‏ ‏الأستاذ‏ ‏وهو‏ ‏يحكى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏التيمة‏ ‏المكررة‏ ‏تيمة ‏ ‏الذى ‏يذهب‏ ‏للانتقام‏ ‏فيقع‏ ‏فى ‏حب‏ ‏غريمه‏ – ‏تكررت‏ ‏فى ‏دعاء‏ ‏الكروان‏ ‏لطه‏ ‏حسين، ‏وفى ‏كيلوباترا، ‏وكذلك‏ ‏تيمة‏ ‏زوجة‏ ‏الأخ‏ ‏التى ‏تغوى ‏شقيق‏ ‏زوجها‏ ‏أو‏ ‏إبن‏ ‏زوجها‏ ‏ثم‏ ‏تتهمه هو أنه الذى أغواها، ‏من‏ ‏أول‏ ‏إمرأة‏ ‏العزيز وأنت قادم، ‏فذكرته بأن‏ ‏هذه‏ ‏التيمة‏ ‏ربما هى التى جاءت فى ملحمة ‏الحرافيش‏ ‏(ربما عزيز الناجى..)‏ ‏.. ‏ولم أستطرد، ولم يعقب.

رجعنا إلى حديث الإشاعات ومصداقية التاريخ وقال لنا الأستاذ كيف أن السلطة والإنجليز كانوا قد منعوا اسم سعد زغلول من التداول، ‏حتى كان‏ ‏ساعى ‏البريد‏ ‏يكتب‏ “‏سعد‏ ‏زغلول‏” ‏على ‏الخطابات، ‏وكان‏ ‏بائع‏ ‏البيض‏ ‏يكتب‏ “‏سعد‏ ‏زغلول‏” ‏على ‏البيض، ‏فسارت إشاعة ‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏الفراخ‏ ‏تبيض‏ ‏بيضا‏ ‏مكتوبا ‏عليه‏ “‏سعد‏ ‏زغلول”، ورفضها سعد باشا طبعا، ونفاها، وأوصى بعدم تداولها.

وعلى ‏ذكر‏ ‏تليفون‏ ‏عبد‏ ‏الناصر‏ – ‏فى ‏الحلم‏- ‏ورقم‏ ‏”ستاشر ستاشر”‏ ‏الذى ‏تكرر‏، ‏تذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏أغنية‏ لا أعرفها لسيد‏ ‏درويش تقول:‏ “‏خمسة‏ ‏فى ‏ستة‏ ‏بستاشر، ‏وباريس‏ ‏فى ‏الوجه ‏البحرى‏” ‏وعقب‏ ‏عليها‏، وربما تذكر أحدنا أغنية شادية: “خمسة فى ستة بتلاتين يوم غايب عنى وغاب النوم”، وقلت له إنه كانت عندنا أغنية تسخر من المدرسين بظُرف، كنا نرددها رسميا فى احتفالات المدرسة الابتدائية فى زفتا، بسماح  اساتذتنا ومشاركتهم وفيها فقرة تقول:

جه أستاذ الحصة الساتة، أستاذ هندسة ويّا حساب،

 قال لى اضرب لى خمسه فْ ستة، ولا اتفضل برّه الباب،

 قلت يا بيه أضرب مين فيهم،

 دول تلاتين ما اقدرشى عليهم،

 أنا غلطان؟

 مش غلطان؟

 إمال يعنى اتعاقب ليه؟

 الأستاذ الحق عليه،

 ويضحك الأستاذ، وأعيد عليه كيف أن المدارس الآن تزيّف وعى الأطفال بأغان مديح ماسخه من أول “مدرستى أيا محلاها، أهواها وأدوب فى هواها” حتى “والفضل كلّه لباب جمال.. ثم الفضل كله لبابا سادات” وربما أحسوا أن البيت سوف ينكس لو قالوا “والفضل كله لبابا مبارك” .. وربما لهذا أرجعوا حاليا “الفضل كله لماما سوزان..”، ولا يعقب الأستاذ، ويصلنى من جديد احترامه الحقيقى لمن فى موقع مسئولية حقيقى، برغم سماحه بالضحك على بالنكت أحيانا، فأنتبه إلى صمته الآن وأقترح اقترابا من الواقع واحتراما لمشاعره، وحفاظا على الأولاد والبنات أن يقلبوا الأغنية هكذا: “والفضل بعضو لبابا جمال …الخ” ويضحك الأستاذ عاليا على إحلال “بعضو” مكان “كله”، وكأنه قبل اعتذارى. ‏

ثم تواصل‏ ‏الحديث‏ ‏عن‏ ‏سعد‏ ‏زغلول، ‏وهل‏ ‏له‏ ‏أخطاء‏ ‏جسيمة‏ ‏أم‏ ‏لا، ‏وأردت‏ ‏أن‏ ‏أعفى ‏الأستاذ‏ ‏من‏ ‏الاضطرار‏ ‏للحديث‏ ‏عن‏ ‏أخطاء‏ ‏هذا‏ ‏الزعيم‏ ‏الذى ‏يحبه‏ ‏حبا‏ ‏شديدا، ‏فإذا‏ ‏به‏ ‏يكشف‏ ‏محاولاتى ويرفضها ‏ويحكى ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏أخطاء‏ ‏سعد، ‏مثل‏ ‏إصراره‏ ‏أن‏ ‏يرأس‏ ‏الوفد‏ ‏دون‏ ‏عدلى ‏يكن‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏رئيسا‏ ‏للوزارة، ‏وكان‏ ‏من‏ ‏البديهى ‏أن‏ ‏يرأس‏ ‏الوفد‏ رئيس الوزارة

وعلى ‏ذكر‏ ‏التاريخ‏ ‏ومفارقاته‏ ‏ذكر‏ ‏الاستاذ‏ ‏ثانية‏ ‏كيف‏ ‏أنه كثيرا ما‏ ‏تسمى ‏عصر ما‏ ‏باسم المستضعفين فيه وليس باسم الطغاة‏، ‏فمثلا: نسى ‏الناس‏ ‏الرومان‏ ‏التى ‏خلت‏ ‏طيبة‏ ‏تماما‏ ‏منهم‏ ‏بعد‏ ‏قتلهم‏ ‏جميعا، ‏فلا‏ ‏أحد‏ ‏بذكرهم (لا أذكر تفاصيل أكثر).‏ كذلك‏ ‏بالنسبة‏ ‏لرمسيس‏ ‏الثانى ‏الذى ‏ذكر‏ ‏أنه‏ ‏انتصر‏ ‏على ‏الحيثيين‏، ‏ثم‏ ‏تمضى ‏ستين‏ ‏سنة‏ ‏لا‏ ‏يحارب‏ ‏فيها‏ ‏وتظهر‏ ‏معاهدة‏ ‏بينه‏ ‏وبين‏ ‏الحيثيين، ‏وأيضا‏ ‏يثبت‏ ‏أن‏ ‏إحدى ‏زوجاته‏ ‏كانت‏ ‏إبنة‏ ‏ملك‏ ‏الحيثيين‏ (لا أذكر ما العلاقة تحديدا!!).

وعلى ‏ذكرسعد‏ ‏زغلول‏ ‏يحكى‏ ‏الاستاذ‏ ‏أنه‏ ‏حين‏ ‏كان‏ ‏سكرتيرا‏ ‏لعلى ‏عبد‏ ‏الرازق‏ (‏عرفه‏ ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الشيخ‏ ‏مصطفى ‏عبد‏ ‏الرازق‏)، ‏يذكر‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ عنده فى مكتبه ليوقع‏ ‏بعض‏ ‏الأوراق، ‏ودخل‏ ‏عليه‏ ‏أحد‏ ‏وزراء‏ ‏”عدلى ‏يكن”، ‏وعرّفه‏ ‏الوزير‏ ‏بالاستاذ، ‏فحسبه‏ ‏من‏ ‏عائلة‏ ‏محفوظ‏ ‏أحد‏ ‏أقطاب‏ ‏الأحرار‏ ‏الدستوريين، ‏فقال‏ ‏له‏ ‏بالحرف‏ ‏الواحد‏ “‏شوف‏ ‏يا‏ ‏سيدى ‏عايزين‏ ‏يخرّجوا‏ ‏الإنجليز!!! ‏دول‏ ‏هـمّا ‏يخرجوا‏ ‏النهارده، ‏واحنا‏ ‏وراهم‏ ‏بكره”، ‏ويضيف الاستاذ:‏ ‏إن‏ ‏نسبة‏ ‏كثيرة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الصفوة‏ (‏أصحاب‏ ‏المصالح‏) ‏كانت‏ ‏تقول‏ ‏إن‏ ‏أعباء‏ ‏الاستقلال‏ ‏كبيرة‏ (‏جيش‏ ‏وأسطول‏ ‏وطيران‏.. ‏الخ‏)، ‏وكانت‏ ‏تفكر‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏مثل‏ ‏صور‏ ‏الدمينكون، ‏وأن‏ ‏كثيرا‏ ‏منهم‏ ‏كانوا‏ ‏يستكثرون‏ ‏الإستقلال‏ ‏على ‏مصر‏، فذكرت‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏كان‏ ‏موقف‏ ‏بعض‏ ‏العامة‏ ‏أيضا، ‏وحكيت‏ ‏له ما حكاه لى والدى عن زميل له مدرس لغة عربية كان ما زال معمما،  زميله فى مدرسة العباسية الابتدائية فى الثلاثينات، وقد أعلن هذا الشيخ من موقع العارف بحقائق الأمور عن رأيه فيما ما ينتظر مصر بعد هذا الاستقلال، أعلن تحفظه على قدرة مصر لإدارة شؤونها، (ربما بمناسبة معاهدة 1936)‏ ‏وقال‏ الشيخ زميل والدى ‏فى ‏ذلك‏ ‏كلاما‏ ‏أشبه‏ ‏بما‏ ‏قاله‏ ‏وزير عدلى يكن فى مكتب على عبد الرازق للأستاذ من حيث أننا لسنا أهلا لتحمل مسئولية الاستقلال، وساء موقف هذا الشيخ زملاءه فى المدرسة، وكان من بينهم شاعر ظريف نظم فيه شعرا حكاه لى والدى، وما زلت أذكر نصه، وطلب منى الأستاذ أن روايته إن كنت أذكره، فقلته:

خَرِفَ‏ ‏الشيخٌ‏ ‏فضلا‏َّ ‏        رام‏ ‏يعلو‏ ‏فتدلى

ماله‏ ‏وهو‏ ‏إبن‏ ‏مصر‏         ‏ساءه‏ ‏أن‏ ‏تستقلاَّ

من‏ ‏لـِِِرِجْلى ‏بقفاه‏           ‏إنه‏ ‏يصلح‏ ‏نعلا

ويضحك‏ ‏الأستاذ‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الهجاء‏ ‏الظريف، وبالذات من وصف الشاعر لقفا الشيخ الذى يصلح نعلا‏، ولم‏ ‏أذكر‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏والدى ‏كان‏ ‏يربط‏ ‏هذه‏ ‏الحادثة‏ ‏باستجابة‏ ‏جدتى ‏لأمى (‏حماته) ‏حين‏ ‏دخل‏ ‏عليها‏ ‏فرحا‏ ‏مهللا‏ ‏فى نفس المناسبة وهو يصيح‏: ‏”مصر‏ ‏استقلت‏ ‏يانينة”، ‏فمصمصت‏ ‏شفتيها ‏آسفة وقالت وهى تخبط صدرها‏: “‏يا‏ ‏عيني‏!!” (‏وكان‏ ‏والدى ‏قد فسر‏ ‏لنا ذلك‏ أنها‏ ‏فهمت‏ ‏كلمة “استقلت”‏ ‏على ‏أنها‏ ‏من‏ ‏القليل‏ ‏والقلة)

وانتقل‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏عرابى، ‏وأنه‏ ‏أيضا‏ ‏اتهم‏ ‏بأنه‏ ‏استُُعْمِلَ‏ ‏ضمن‏ ‏مؤامرة‏ ‏ما‏، وقلت‏ ‏رأيى فى أن ‏‏هؤلاء‏ ‏الناس‏ التاريخيين ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نكتفى ‏بتقييم‏ ‏حماسهم‏ ‏وحسن‏ ‏نيتهم،‏ ‏كما‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نتغافل عن أخطائهم ‏‏‏مهما‏ ‏بدت‏ ‏الشهامة‏ ‏ووعدت‏ ‏البدايات، ‏وأثار أحدهم احتمال ‏ ‏مقارنة‏ ‏تثبت‏ ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏شبه‏ ‏بين‏ ‏عرابى ‏وعبد‏ ‏الناصر، ‏وأن‏ ‏عرابى – ‏مثلا‏- ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏يفهم‏ ‏لا‏ ‏فى ‏الحرب‏ ‏ولا‏ ‏فى ‏السياسة‏، وأنه أقدم على ما ليس فى قدرته مثلما فعل عبدالناصر سنة 67، وأن ثورة عرابى لم تكن ثورة بل كان “هوجة” تماما مثلما كانت ثورة 1952 “حركة مباركة” وليست ثورة. ودافع‏ ‏بعض‏ ‏الجلوس‏ ‏عن‏ ‏فكرة‏ ‏الثورة‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏خابت، ‏وانتقل الحديث إلى ‏عبد‏ ‏الناصر ‏وكيف‏ ‏أنه‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏حرك‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏القوّات‏ ‏قبل‏ 5 ‏يونيو، ‏عاد‏ ‏يؤكد بعد أن حدث ما حدث ما معناه: أنه “ما كنشى قصده”، و:‏ “‏أنه‏ ‏والله‏ ‏العظيم‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏ينوى ‏الحرب‏” ‏ولم يوافق أكثر الجلوس على هذا الهجوم هكذا بعد كل هذه السنين والإنجازات، وقرأت وجه توفيق صالح وشعرت أنه من أكثر المعارضين للهجوم على عبد الناصر هكذا.

وعلى ‏ذكر‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏إلا‏ ‏الصحيح‏ ‏قلت‏ ‏للأستاذ‏: ‏ألا‏ ‏يظن‏ – ‏مثلما‏ ‏أظن‏- ‏أن‏ ‏إسرائيل‏ ‏تحمل‏ ‏مقومات‏ ‏هدمها‏ ‏حين‏ ‏تجمعت‏ ‏هكذا‏ ‏بعد‏ ‏شتات، ‏فجمعت‏ ‏خليطا‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏بلا تجانس ثقافى كافٍ، وكل ما يجمع ناسها ليس إلا‏‏ ‏‏مزاعم‏ ‏دينية‏ ‏‏هشه‏، وأضفتُ أننى أتصور أنه مهما بلغت قوتهم المادية والحربية، أنه سوف يظل أساس تجمعهم هكذا ضد التاريخ، فرد علىّ الأستاذ قائلا: إن ‏هذا‏ ‏يتوقف‏ ‏على ‏ماذا‏ ‏يفعلون، ‏وماذا‏ ‏سيفعلون، ‏لا‏ ‏أحد‏ ‏يحصل على ‏ ‏مقومات‏ ‏وجوده تبعا ‏لما‏ ‏يقوله‏ ‏التاريخ منفصلا عن الحاضر، ‏وإنما‏ ‏الذى ‏يحدد‏ ‏مصير‏ ‏الأمم‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏تقوم‏ ‏به‏ ‏فعلا‏ ‏الآن‏، ومدى تناسبه‏ ‏مع‏ ‏مقتضيات‏ ‏العصر‏ ‏ومع‏ ‏خير ‏ناسهم واحتياجاتهم، قلت‏ ‏له‏ ‏إن‏ ‏مجرد‏ ‏الشعور‏ ‏بالتميز‏ ‏يحكم‏ ‏عليهم‏ ‏بالفناء، ‏فما‏ ‏لا‏ ‏يصلح‏ ‏لكل‏ ‏الناس‏ ‏لن‏ ‏يصلح‏ ‏لأحد بما فى ذلك ناسهم، وأن التاريخ ينحاز لمن ينحازون لصالح المجموع، أى أن استمرار أية مجموعة من الناس إنما يتوقف على اتجاه سهم ما ‏يتجهون‏ ‏نحوه‏ ‏وما‏ ‏يعدون‏ ‏به البشر كافة فى نهاية النهاية، ‏وقال‏ ‏”حافظ”‏ ‏مندفعا‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏القبـَلية‏ ‏مرفوضة‏ ‏حتى ‏على ‏المستوى ‏البيولوجى، ‏فلو‏ ‏أن‏ ‏خلية‏ ‏من‏ ‏خلايا‏ ‏الجسم‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏تتميز‏ ‏و‏أن‏ ‏تتفوق‏ ‏على ‏الخلايا‏ ‏اللاتى ‏لا‏ ‏تمثلها‏ ‏لماتت‏ ‏لتوها، ونبهته‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏يحكم‏ ‏علاقة‏ ‏خلايا‏ ‏الجسم‏ ‏ببعضها‏ ‏ليس‏ ‏التماثل‏ ‏وإنما‏ ‏التكامل والتكافل،‏ ‏فمن‏ ‏المستحيل‏ ‏‏أن‏ ‏تكون‏ ‏الخلية‏ ‏الكبدية‏ ‏مثل‏ ‏خلية‏ ‏المخ‏ ‏مثل‏ ‏خلية‏ ‏الأظافر، ‏لكن‏ ‏الذى ‏يجمع‏ ‏هذه‏ ‏الخلايا‏ ‏هو‏ ‏الوجود‏ ‏الحيوى ‏المتكامل‏ ‏فى ‏جسد‏ كائن حى ‏يقال‏ ‏له‏ ‏إنسان، وأن الخلية التى تختلف عن جارتها دون تكافل، ليس بالضرورة أن يكون مصيرها الموت فهى قد تتوحش بغباء حتى تنقلب سرطانا يقضى على حياة الكائن كله بكل خلاياه، وهى ضمن ذلك.

ثم يعود الحديث إلى التاريخ ويدور ‏حول‏ ‏كتابة‏ ‏الأناجيل، ‏ويقال أنها‏ ‏تربو‏ ‏على ‏الأربعين، ‏وإلى درجة أقل تناقش كتابة‏ ‏الأحاديث، ‏ويذكرنا أحدهم أن ‏ ‏حادثة‏ ‏المائدة‏ ‏التى ‏نزلت‏ ‏من‏ ‏السماء‏ ‏لم‏ ‏ترد‏ ‏أصلا‏ ‏فى ‏بعض‏ ‏الأناجيل، ويقول‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏إنه‏ ‏أجرى ‏تجربة‏ ‏على ‏طلبة‏ ‏معهد‏ ‏السينما‏ ‏أيام‏ ‏كان‏ ‏يحاضر‏ ‏فيها‏ ‏وذلك‏ ‏بأن‏ ‏عرض‏ ‏عليهم‏ ‏مشهدا‏ ‏قصير‏ (‏بضع‏ ‏دقائق‏) ‏ثم‏ ‏طلب‏ ‏منهم‏ ‏أن‏ ‏يعيدوا‏ ‏هذا‏ ‏المشهد، ‏فكانت‏ ‏النتيجة‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏تتماثل‏ ‏حكاية‏ ‏واحد‏ ‏منهم‏ ‏مع‏ ‏الآخر‏.‏

وينبهنا‏ ‏الأستاذ‏ ‏أن‏ ‏المقارنة‏ ‏تحتاج إلى وقفة لنتبين الفرق، وأنه‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏الرواة‏ ‏قديما‏ ‏كانوا‏ ‏يتمتعون‏ ‏بذاكرة‏ ‏خاصة‏ ‏وفائقة، ‏لانعدام‏ ‏وسائل‏ ‏التسجيل‏ ‏الأخرى، ‏فأذكر‏ ‏له‏ ‏إسم‏ ‏الكتاب‏ ‏المترجم‏ ‏الذى ‏قدمناه‏ ‏فى ‏ندوتنا‏ ‏الثقافية‏ ‏منذ‏ ‏شهرين عن الحضارة ‏الشفاهية‏ ‏والحضارة الكتابية، ‏ولا ننتهى إلى اتفاق جامع،‏ و‏تظل‏ ‏مصداقية‏ ‏التاريخ‏ ‏رهن‏ ‏المناقشة‏.‏

ونعود‏ ‏إلى ‏الإشارة‏ ‏التى ‏ذكرتها‏ ‏عقب‏ ‏عودتى ‏من‏ ‏أسيوط‏ ‏ ضمن ممثلى لجنة الثقافة العلمية Link عن‏ ‏ ‏اللغة‏، وكيف أن اللغة هى نبض‏ ‏غائر‏ ‏فى ‏البيولوجيا، ‏وأنها ‏تتشكل‏ ‏فى ‏الكلام‏ ‏حسب‏ ‏اللسان، ‏وأن ‏ ‏القرآن‏ الكريم حين ‏نزل‏ ‏فى الجزيرة العربية ‏ ‏أطلق‏ ‏سراح هذه‏ ‏البيولوجيا‏ ‏اللغوية‏ لأهل‏ ‏هذا‏ ‏اللسان‏ ‏فاقتربوا‏ ‏من‏ ‏فطرتهم‏ ‏فأسلموا، ‏وأكرر دهشتى وإعجابى بهؤلاء الذين لا يتقنون العربية ثم يسلمون، وأعيدت الإشارة إلى إسلام السفير الألمانى “‏مراد‏ ‏هو‏فمان‏” وما وصلنى من كتابه الذى أشرت إليه سالفا، وكيف أنه التقط نبض القرآن الكريم هكذا وهو ليس عربيا، وأعلن خجلى من، وأسفى على، ‏أهل‏ ‏اللسان‏ ‏العربى ‏الذين‏ ‏تنازلوا‏ ‏عن‏ ‏إعادة‏ ‏معايشة‏ ‏لغة‏ ‏قرآنهم‏ ‏وأهدروا‏ ‏هذه‏ ‏الفرصة‏ ‏النادرة، ‏ولم‏ ‏يعجب‏ ‏الكلام‏ ‏بعض‏ ‏الجلوس، ‏ووصلنى‏ ‏تعليق‏ ‏الأستاذ‏ من درجة هزة رأسه كنوع‏ ‏نوع‏ “‏الموافقة‏ ‏المحدودة‏”، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏طبعه‏ ‏الغالب‏ ‏حين‏ ‏لا‏ ‏يريد‏ ‏الإعتراض‏ ‏الصريح‏.‏

كانت‏ ‏معنا‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏اليوم‏ ‏د‏. ‏مها‏ ‏وصفى ‏وزوجها‏ ‏الطيار‏ ‏محمد، ‏وقد‏ ‏ذكرت‏ ‏بعض‏ ‏حوارها‏ ‏مع‏ ‏شخص ‏مسيحى ‏لم‏ ‏تجد‏ ‏بينها‏ – ‏وهى ‏المسلمة‏ ‏المحجبة‏ – ‏وبينه‏ ‏فروقا‏ ‏تذكر‏ ‏إذا‏ ‏قيست‏ ‏المسألة‏ ‏بمقاييس‏ ‏الفطرة‏ ‏والبسط‏ ‏والإبداع‏ ‏والتوجه‏ ‏للخير، ‏وقلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏هل‏ ‏يذكر‏ ‏مسألة‏ ‏القيم‏ والأخلاق ‏الجديدة‏ ‏التى تصورتُ، أو أملتُ أنها قادمة لا محالة وكنت قد ‏عددتها له، وبينّت كيف أننى أعتقد أنها ‏على ‏وشك‏ ‏الولادة‏ ‏مع‏ ‏هذه‏ ‏التغيرات‏ ‏العملاقة‏ ‏فى “‏الوسائل‏” الحديثة، ثم الأحدث فالأحدث، ‏وأكملت‏: ‏إننى ‏أحسب‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏القيم‏ ‏الجديدة‏ ‏سوف‏ ‏تقع‏ ‏فى ‏منطقة‏ ‏ما‏ من الوعى البشرى بحيث ‏تكرس‏ ‏كلا‏ ‏من‏ “‏الإيمان”‏ ‏و”الواقعية‏” ‏حالة‏ ‏كونهما‏ ‏متجهين‏ ‏إلى ‏”عدل‏ ‏ممكن‏” (‏ولو نسبى‏) ‏إذ‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ ‏العدل‏ (‏وهو‏ ‏اسم‏ ‏الله‏) ‏هو‏ ‏قيمة‏ ‏جاذبة‏ ‏إليه (إلى الله)، ‏لكن يبدو أنها ‏ليست‏ ‏ممكنة‏ ‏التحقيق‏ ‏”هنا‏ ‏والآن” (حالا). وأضيف أن ‏العدل‏ ‏هو‏ ‏احتمال‏ ‏دائم‏ ‏الحضور، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏ناقص‏ ‏التجلى، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏كل‏ ‏حال‏ ‏دائم‏ ‏الجذب‏ ‏إليه، ‏والله‏ (‏العدل‏ سبحانه) ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏كذلك، ‏دائم‏ ‏الحضور‏ ‏دائم‏ ‏النداء‏ ‏إليه، ‏وهذا غير‏ ‏الوصول‏ ‏إليه، ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك، ‏وحين‏ ‏يصل‏ ‏الحوار‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التنظير‏ ‏يتوقف‏ ‏الأستاذ‏ ‏عن‏ ‏التحاور، ‏فقد‏ ‏لاحظت‏ ‏أنه‏ ‏ذو‏ ‏حضور فلسفى، ‏وتوجه‏ ‏فلسفى، ‏وإيحاءات‏ ‏فلسفية، ‏لكنه‏ ‏قادر‏ ‏على ‏أن‏ ‏يصيغ‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏لغة‏ ‏غير‏ ‏فلسفية، ‏لغة‏ ‏عادية‏ ‏أشد‏ ‏ما‏ ‏تكون‏ ‏العادية، ‏وهذا‏ ‏من‏ ‏أروع‏ ‏ما‏ ‏عرفته‏ ‏من‏ ‏تجلياته‏ ‏فى ‏الفعل‏ ‏اليومى، ‏فى ‏القول‏ ‏اليومى، ‏فى ‏السرد‏ ‏اليومى.‏

ونرجع‏ ‏إلى ‏حضور‏ ‏الدكتورة‏ ‏مها‏ ‏وصفى ‏وما‏ ‏جرنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏حديث‏ ‏عن‏ ‏خبرة‏ ‏وروعة‏ “‏الولادة‏” (‏البيولوجية‏) ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏التدخل‏ ‏الطبى ‏الحديث‏ ‏بالتخدير‏ ‏شبه‏ ‏الحتمى ‏عند‏ ‏الولادة‏ ‏قد‏ ‏حرم‏ ‏الأمهات‏ ‏من‏ ‏معايشة‏ ‏هذه‏ ‏الخبرة، ‏ويعترض‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏محتجا‏ ‏من‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏آلام‏ ‏الولادة‏ ‏كما‏ ‏عاينها‏ ‏ويسمع‏ ‏عنها‏ ‏هى ‏خبرة‏ ‏رائعة كما تقول د. مها، ‏وأنبهه‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏الألم‏ ‏ليس‏ ‏مناقضا‏ ‏لروعة‏ ‏الخبرة‏ ‏وعمقها، ‏وأحيله‏ ‏إلى ‏الدكتورة‏ ‏مها‏ (‏وعندها‏ ‏طفلان‏)، ‏فتتحدث‏ ‏عن‏ ‏خبرتها‏ ‏أثناء‏ ‏الولادة، ‏وأنها‏ ‏كانت‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏الفرج القريب، ‏ومن‏ ‏عبور‏ ‏القادم‏ ‏المضيق‏ ‏بسلام‏ ‏بفضل‏ ‏الله، ‏فيؤكد‏ ‏توفيق‏ ‏صالح‏ ‏أن‏ ‏ذلك‏ ‏تفسير‏ ‏عقلانى ‏يستند‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏دينى، ‏لكن‏ ‏الألم‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يخففه‏ بالضرورة ‏هذا‏ ‏اليقين‏ ‏الدينى ‏هو‏ ‏ألم‏ ‏بكل‏ ‏ما‏ ‏تحمل‏ ‏هذه‏ ‏الكلمة‏ ‏من‏ ‏معنى، ‏فأعود‏ ‏أحاول أن أوصّل له‏ ‏موقفى ‏من‏ ‏أن‏ ‏الألم‏ ‏لم‏ ‏يصبح‏ ‏كذلك‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏حالات‏ ‏الولادة‏ ‏العادية‏ ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏انفصلت‏ ‏الأم‏ (‏الانثى‏) ‏عن‏ ‏الطبيعة، ‏وافتقدت‏ ‏الأم‏ ‏إلى ‏التدريب‏ ‏على برامج الحركية المرنة، بما فى ذلك ‏حركية‏ ‏الدخول‏ ‏والخروج، ‏التى تتجلى فى مخاض الولادة الذى يتراوح بين الاحتواء‏ ‏والسماح‏.. ‏الخ‏.‏ ‏وحكيت‏ ‏عن‏ ‏معلوماتى فى باريس عن مراكز التدريب على ‏ ‏الولادة‏ ‏بدون‏ ‏ألم، ‏ ‏وعن‏ ‏الخبرة‏ ‏التى ‏وصفتها ‏بعض‏ ‏الأمهات‏ من ‏أنهن يصلن‏ ‏إلى “‏ذروة هزة‏ ‏الجماع‏” ‏أثناء‏ ‏الولادة، ‏ثم عن‏ ‏خالتى “‏صِدّيقة‏” (سديقه) ‏التى ‏ذهبت‏ ‏تجمع‏ ‏بعض‏ ‏الملوخية‏ لأمى ‏من‏ ‏حقول‏ ‏القطن‏ وهى فى شهرها التاسع، ثم عادت‏ ‏تحمل‏ ‏وليدها‏ ‏الذى ‏ولدته‏ ‏وحدها‏ ‏فى ‏الحقل، ‏فلفته‏ ‏فى ‏طرحتها، ‏وربطت‏ ‏الحبل‏ ‏السرى ‏بنفسها، ‏وتخلصت‏ ‏من‏ ‏”الخلاص” فى الترعة‏ ‏بمعرفتها، ‏ثم‏ ‏وضعت‏ ‏طفلها‏ ‏فى “المشنة‏”ـ فوق ‏الملوخية‏، ‏وعادت‏ ‏تحمله‏ ‏على ‏رأسها‏ ‏إلى ‏الدار‏ ‏سائرة‏ ‏على ‏قدميها.

ويجرنا‏ ‏هذا‏ ‏الحديث‏ ‏إلى ‏تفسيرى ‏لطقوس‏ ‏السبوع، ‏وكيف‏ ‏أن‏ ‏الولادة‏ ‏النفسية‏ ‏تتأخر‏ ‏كثيرا‏ ‏عن‏ ‏الولادة‏ ‏الجسدية، ‏وأضيف أن‏ ‏هذا‏ ‏أيضا‏ ‏من‏ ‏ضمن‏ ‏التشوهات‏ ‏التى ‏لحقت‏ ‏بالعملية‏ ‏الإنجابية، ‏إثر‏ ‏الإنفصال‏ ‏عن‏ ‏الطبيعة، ‏فراح‏ ‏الحدْس‏ ‏الشعبى ‏يستلهم‏ ‏وجدانه‏ ‏فألف‏ ‏هذه‏ ‏الطقوس‏ ‏التى ‏يريد‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏يشحذ‏ ‏إنتباه‏ “‏الأم‏” ‏حتى ‏تدرك‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏بداخلها‏ ‏قد‏ ‏أصبح‏ ‏خارجها، ‏قلت‏: ‏إن‏ “‏دق‏ ‏الهون‏” ‏هو‏ ‏للأم‏ ‏وليس‏ ‏للطفل، ‏ثم‏ ‏إنهم‏ ‏يطلبون‏ ‏من‏ ‏الأم‏ ‏أن‏ ‏تخطى ‏وليدها‏ ‏فى ‏الغربال‏ ‏سبع‏ ‏مرات، (أنظر تفاصيل ذلك فى نشرة السبوع بتاريخ 22-1-2008‏) وكأنهم‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏دقة “هون”، ‏ومع‏ ‏كل‏ ‏خطوة (وتخطية) ‏ ‏يقولون‏ ‏لها‏ “‏هذا‏ ‏هو‏ ‏طفلك‏ ‏خارجك‏ – ‏صـدّقى ‏أن‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏بالداخل‏ ‏ملكك‏ ‏وحدك، ‏أصبح‏ ‏كيانا‏ ‏مستقلا‏ ‏منفصلا‏ ‏عنك”، ‏وأضفت‏ ‏أننى ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أعمل‏ ‏بحثا‏ ‏علميا‏ ‏لأثبت بعض هذا، ‏فظهرت‏ ‏النتائج‏ ‏مضحكة، ولم تثبت شيئا، ‏وعزوت ذلك ليس‏ ‏لقصور‏ ‏فى ‏الفرض، ‏ولكن‏ ‏لخيبة‏ ‏فى ‏الطريقة‏ (‏المنهج‏) ‏فسؤال‏ ‏الأم‏ (‏مثلا‏) ‏عن‏ ‏معنى ‏كذا‏ ‏أو‏ ‏كيت، ‏أو‏ ‏عن‏ ‏ما‏ ‏تشعر‏ ‏به‏ ‏إزاء‏ ‏هذا‏ ‏الطقس‏ ‏أو‏ ‏تلك‏ ‏الأغنية‏ “‏برْجَالاتَكْ… برْجَالاتَكْ ‏” ‏”إسمع‏ ‏كلام‏ ‏أمك”‏ (‏ربما تطمن بباًلها‏ ‏أنه‏ ‏مازال‏ ‏طوع‏ ‏إشارتها‏)، ‏”ولا‏ ‏تسمعشى ‏كلام‏ ‏أبوك، ‏عشان‏ ‏أمك‏ ‏بتعرف‏ ‏عن‏ ‏أبوك‏”.. ‏إلخ‏ ‏حين‏ ‏تُسأل‏ ‏الأم‏ ‏بالألفاظ‏ ‏أثناء‏ ‏إجراء‏ ‏بحث‏ ‏علمى ‏عن‏ ‏كل‏ ‏هذا‏، ‏لابد‏ ‏أن نتوقع أنها سوف تجيب عن أى شىء إلا عن ما يعنيه هذا الفرض من التأكيد على حركية الوصل/الفصل، وعلى برنامج الدخول والخروج، وعن الولادة النفسية ..إلخ.

(ملحوظة: أكتب‏ ‏هذه الإضافة‏ ‏يوم‏ 22/3/1995 ‏فى ‏أنطاكيا‏ ‏بتركيا، ‏فى ‏شرفة‏ ‏فندق‏ ‏متواضع‏ ‏اسمه‏ “‏سارة‏”، ‏وقد وجدت‏ ‏فى ‏أوراقى ‏مقتطفا‏ ‏عن‏ ‏نجيب‏ ‏محفوظ‏ ‏لا أعرف متى أثبتّه، حين قال لى: أن ‏‏بعض‏ ‏الأتراك، ‏أو‏ ‏الذين‏ ‏من‏ ‏أصل‏ ‏تركى، ‏كانوا‏ ‏يرددون‏ ‏مازحين‏ ‏أو‏ ‏جادين‏ ‏ردا على ‏من‏ ‏يفخر‏ ‏أن‏ “‏النبى ‏عربى‏” ‏كانوا‏ ‏يردون‏ ‏قائلين‏: ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏النبى ‏عربى.. ‏فربنا‏ ‏تركى).

  المقالة التالية المقالة السابقة  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *