أخبار الأدب
نشرت بتاريخ: 17 مارس2013
نبض الناس
الحرية للإبداع، أم حرية نشرالإبداع! (4)
الحديث عن حرية الإبداع يجرى هذه الأيام على قدم وساق، وهو يتركز على الخوف من قيود النشر، وفرط الرقابة ومصادرة المتجاوز بعد تخفيض السقف بما يناسب طول الأقزام، لكن ياليت المسألة تقتصر على هذا، فثم حرية أخرى مهددة أكثر، وهو أن يصل القهر إلى داخلنا فتختنق حركية الابداع أصلا ولا يظهر منا إنتاج طليق وأصيل إلا فى حدود ما تسمح به أسوار السجن الذى سجنونا فيه أو سجنا أنفسنا داخله ونحن لا ندرى.
الحرية فيما يتعلق بحركية الإبداع لا تبدأ بحرية التعبير، ولا تنتهى بحرية النشر فالنقد، لا إبداع بلا حرية حقيقية. ولا حرية بغير حركية مرنة مغامرة، ولا حركية مرنة مغامرة بغير جدل غامض، ولا جدل إلا فى حضور عدد من المتناقضات المتضفرة فى رحاب وعى خلاق ، يتخلق مع “آخر” يمارس نفس العملية من زاويته بطريقته، وهكذا…
كل الأحياء قبل الإنسان تمارس حريتها وإبداعها بطفرة تطور للنقلة من نوع إلى نوع، وهو أمر محكوم ببرامج وطبيعة وقيود تحرمه من الوعى باختياره، ولا يحدد نجاحه إلا نجأته من الانقراض، الإنسان هو الكائن الوحيد الذى عنده الفرصة للإسهام فى التخطيط لنقلته التالية من خلال ممارسته حرية الإبداع واستشراف المستقبل.
الإبداع البشرى كما نعرفه ونمارسه أصبح محنة الإنسان وشرف تمتعه بالوعى فى آن، وهو فى نفس الوقت اختبار لأحقية الإنسان فى المشاركة فى مسار تطوره. الشروط الواجب توافرها لحرية حركية العملية الإبداعية غير الشروط اللازمة لإمكان الإعلان عن ناتج العملية وتسويقه، لكن العلاقة بينهما وثيقة ودالة.
حتى تتحقق العميلة الإبداعية فى رحاب الوعى والإرادة، ثمة شروط وفاعليات لا بد من توفرها بدرجة مناسبة، نورد أهمها كما يلي: 1- مساحة كافية لاستيعاب حركية الوعي. 2- تنشيط لأكثر من مستوى من الوعي”معا”. 3- القبول بدرجة من المخاطرة. 4- حركية مناسبة ذات توجه جدلى ضام. 5- قدرة على التناوب بين الكمون والبسط.
كل هذا ليس علاقة مباشرة بحرية النشر والتواصل من خلاله، وإنما هو يتعلق أساسا بالحرية الداخلية للمبدع للإنسان، أهمية هذا الفصل بين الحرية الضرورية لتحريك عملية الإبداع، والحرية اللازمة لنشر أو تسويق ناتجه ليست أهمية نظرية. إن الاهتمام بالأخيرة دون الأولى يمكن أن يترتب عليه ما يخدع المبدعين الحقيقين إذا رضوا بها واكتفوا بذلك.
الحرية اللازمة للإبداع الأصيل إنما تتعمق أكثر فأكثر وهى تحاول اختراق الحواجز الخارجية، بعد، ومع الحواجز الداخلية طول الوقت، وقد تقوم المؤسسات الفوقية الخبيثية باختلاق قضايا زائفة، أو فرعية، تلهى المبدع بها وتغريه بخوضها، وهو يتصور أنه يصارع من أجل حريته، فى حين أنه لا يخدم إلا تشويهها، وتزييفها. نتذكر مثلا سماح السينما الأمريكية بشجب حرب فيتنام لتفريغ طاقة معارضيها، فتستمر الحرب أطول، أو ونحن نتابع حاليا تسويق الحرية الأمريكية المعوْلمة لتفكيك العالم العربى لصالح استغلاله وتبعيته، أو كما يجرى قصدا أو مصادفة من تصنيع غرائز تستولى على الحرية فى حين أنها مانعة للحرية مسايرة لما يغلب عند القطيع البشرى فى وقت بذاته. ثم العمل على تقديسها تسليما، وعادة ما تحمل هذه الغرائز المانعة للحرية أسماء تغرى بأنها تنتمى إلى ما هو حرية وتحرر مثل منظومة العقل الظاهر، ومنظومة العلم المؤسسى، ومنظومة الديمقراطية الصناديقية، ومنظومة حقوق الإنسان المكتوبة، ومنظومة احتكار تفسير الدين، ومنظومة الطب التقليدى، كل ذلك قد يخلق رقابة داخلية زائفة وخانقة معا.
ولهذا حديث آخر.