الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الجزء الأول من الفصل الثانى: “إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ” (رواية الواقعة)

الجزء الأول من الفصل الثانى: “إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ” (رواية الواقعة)

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 19-5-2018

السنة الحادية عشرة

العدد: 3913

عودة إلى:

جذور إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى

مقدمة:

ورطة جديدة أنزلق إليها: واعيا، مُحرجا، حأمدا، شاكرا، آملا،  صابرا:

بعد خبرتى فى تناول شعرى بالفصحى “ديوان سر اللعبة ” بالشرح على المتن، ردًّا على استثارة المرحوم “صلاح عبد الصبور” أثناء مناقشة الديوان فى البرنامج الثانى فى الإذاعة المصرية فى أواخر السبعينات، هذه الخبرة التى أخرجت كتابى الأم فى الطب النفسى والسيكوباثولوجى “دراسة فى علم السيكوباثولجى” (شرح ديوان سر اللعبة 1979) (1) والذى ناهز الألف صفحة (1050 صفحة) وبعد أن تكرر ذلك بالنسبة لديوانى “أغوار النفس” بالعامية المصرية ، فصدر شرحه فى سلسلة كتب بعنوان “فقه العلاقات البشرية” هى: (1) “العلاج النفسى (مقدمة)، بين الشائع والإعلام والعلم والناس” (2) “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة“؟” (3) “قراءة فى عيون الناس (2)، بعد هذا وذاك، وبرغم مقاومتى البادئة والمستمرة لفكرة تشويه الشعر بالشرح، إلا أننى أقر وأعترف أن فائدة الشرح قد وصلت لزملائى وأبنائى وبناتى المشتغلين معى، وغيرهم، بقدر أكبر وأكثر وضوحا، وغالبا أخطر مسئولية، عما وصل لأغلبهم من المتن مستقلا، أقول بعد كل ذلك، وبرغم اعتراضى الشخصى على ما أصاب “الشعر” مما “لا يليق بالشعر”، وبالرغم من إعلانى أسفى لما اضطـُرِرّت له هكذا مرارا وتكرارا، إلا أننى أجد نفسى الآن أقدم من جديد على تكرار مثل نفس التجربة دون تعلـُّم.

الذى حدث هو أننى وأنا أعيد طبع روايتى الثلاثية “المشى على الصراط” بأجزائها الثلاثة فى طبعة ورقية أحدث، وجدت أن بها مما أسميته “جذور وإرهاصات الطب النفسى التطورى” ما هو أبلغ وأعمق ربما أكثر أصالة من معظم تنظيرى العلمى البحت فى صلب تخصصى، وهو الطب النفسى، والنفسمراضية (السيكوباثولوجى)، والعلاج النفسى.

 وقد بدأت “الورطة بالصدفة” بنشر الفصل الثالت من رواية الواقعة فى الأيام المخصصة لعرض ما أسميته جذور  الطبنفسى التطورى (3)وهو الفصل المعنون “يمامتان” ، لكن الاستجابة  للحوار والتعقيب جاءت محدودة خاصة من الأقرب لى من تلاميذى وزميلاتى الأصغر، حتى أننى اضطررت – آسِفاً بحق- إلى الضغط عليهم لضرورة المتابعة والمشاركة فى النظر فى أصول ما نمارس من خلال هذا المدخل المختلف عما اعتادوا، أعنى منهج التعرف علىمن هو “المريض” من كل المصادر قبل وبعد ومع التعرف على “المرض”.

  نتيجة لهذا الضغط جاءتنى استجابات وتعقيبات وتساؤلات عن ما نشر مؤخرا، وهو الفصل الأول من رواية الواقعة بعنوان “فى البدء كان الكلمة “، وهو ما شغل أغلب ما نشر أمس فى بريد الجمعة ، وقد عقبت فى البريد على كل ما وصلنى من آراء وملاحظات وتساؤلات، بصورة موجزة شعرت أنها غير كافية، وغير مناسبة أيضا، ذلك أننى لا حظت، أوقدرت، أن كثيرا من هذه التعقيبات التى وصلتنى قد  جاءت نتيجة للضغط الأدبى الذى أشرت إليه حالا وقبلا، وبالتالى بدت أغلبها إما:  موجزة، أو مجاملة، أو عابرة، وقد احترمت ذلك جدا، وحمدت الله وشكرت المشاركين ، وأمــِلتُ خيرا.

بناء على هذه الخبرة العاجلة، قررت أن أواصل المغامرة وعلى حساب تشويه إبداعى لحساب فائدة زملائي ومرضاى ومن يهمه الأمر، فهذا عندى أهم وأوْلى، خاصة فى هذه المرحلة من عمرى التى أشعر معها أننى قد أمضى قبل أن أواصل حمل الأمانة كما ينبغى، والله يغفر للجميع.

لكل هذا قررت ما يلى:

أولاً:

سوف أواصل نشر فصول الرواية الأولى “الواقعة” مسلسلة كما حدث فى التجربة الاستطلاعية أملا فى أن تصل إلى أصحابها بهدوء يسمح بالتأمل والتعلم (ولا أطمع وأقول: والنقد) (4) وقد يتيح لى الفرصة للرد بما يفيد تفسير موقفى من ممارسة هادفة لمسئوليات مهنتى، مما قد يوضح فروض تنظيرى، ويزيح من على كاهلى بعض عجزى عن مواصلة حمل الأمانة.

ثانياً: سوف أقوم فى نهاية نشرة كل أثنين بنشر الفصل مكتملا بعد نشر أجزائه الثلاثة أيام السبت والأحد والإثنين، كما فعلت يوم الأثنين الماضى نشرة (14/5/2018) Link

ثالثا: قد أحاول أن أقدم، أو  أعقب فى بعد تلك النهاية بإشارات موجزة لما يمكن أن تحمله كل نشرة أو كل فصل مما يتعلق بفروضى وتنظيرى فى الطب النفسى، وذلك أملا فى إنارة الممارس المنتمى إلى هذا الفكر (والممارس الأصغر عامة أمِلاً أنه لم يتصلب بعد) وأضيف ما يتعلق بذلك من خطوط عريضة نلقاها فى الممارسة (وإن كنت أخشى على النص من التشويه مثلما حدث فى كل من ديوان “سر اللعبة” وديوان “أغوار النفس”

الجزء الأول من الفصل الثانى:

إمّا أنْ تعودَ… أو: نقتلكْ”

   (رواية الواقعة)   (5)

توصية: لكل ذلك فإنى أنصح من يريد أن يشارك فى الحوار أن ينتظر حتى نشرة الإثنين حتى يتمكن من قراءة النص مجتمعا، ثم ربما يفيد من الاستهداء بالملاحظات أو العناصر المطروحة فى نهايته (6)

-1-

فى ‏قرارة‏ ‏نفسى، ‏شعرت‏ ‏بشىء ‏من‏ ‏الراحة‏ ‏حين‏ ‏تصورت‏ ‏أن‏ ‏ما‏ ‏بى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏حمى ‏أو‏ ‏حتى ‏مجرد‏ ‏مرض‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعالجه‏ ‏طبيب‏، ‏ولكن‏ ‏جزءا‏ ‏منى ‏كان‏ ‏يعرف‏ ‏أنى ‏مُسـّهـِمٌ‏ ‏فيما‏ ‏حدث‏ ‏بشكل‏ ‏ما، ‏هو‏ ‏لم‏ ‏يأت‏ ‏هكذا‏ ‏مثل‏ ‏القضاء‏ ‏والقدر، ‏أعلم‏ ‏الآن‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏أسعى ‏إليه‏، ‏أنتظره‏، ‏أو‏ ‏أتمناه‏، ‏ربما، ‏برغم‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏أخاف‏ ‏منه‏، ‏أتحاشاه‏، ‏أهرب‏ ‏من‏ ‏مجرد‏ ‏احتماله‏، ‏غيظى ‏من‏ ‏الأستاذ‏ ‏غريب‏، ‏ضجرى ‏مما‏ ‏كنت‏ ‏فيه‏، ‏تساؤلاتى ‏حول‏ ‏عم‏ ‏محفوظ‏، ‏لو‏ ‏قالوا‏ ‏لى ‏ألف‏ ‏مرة‏ ‏ومرة‏، ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يحدث‏ ‏ما‏ ‏حدث‏، ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يسهم‏ ‏فى ‏اختلال‏ ‏توازنه‏ ‏لهزأت‏ ‏بهم‏ ‏واعتبرتهم‏ ‏قساة‏ ‏القلوب‏ ‏جهلة‏، ‏أما‏ ‏بعد‏ ‏تلك‏ ‏الكلمة‏ ‏ذلك‏ ‏الصباح‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏دار‏ ‏رأسى، ‏وأفرغ‏، ‏وامتلأ‏، ‏وانقلب‏ ‏عاليه‏ ‏سافله‏، ‏عرفت‏ ‏أن‏ ‏وراء‏ ‏الأمور‏ ‏أمورا‏، ‏وحمدت‏ ‏الله‏ ‏أن‏ ‏أحدا‏ ‏لا‏ ‏يعلم‏ ‏هذه‏ ‏الهواجس‏ ‏وإلا‏ ‏اتهمونى ‏بالتمارض‏ ‏والادعاء، ‏لو‏ ‏كنت‏ ‏أعلم‏ ‏أنها‏ ‏كانت‏ ‏ستكون‏ ‏بمثل‏ ‏هذا‏ ‏العنف‏ ‏والرعب‏ ‏والسخرية‏ ‏والغرابة‏ ‏لما‏ ‏سعيت‏ ‏إليها‏ ‏أبدا‏، ‏ولكنى ‏لم‏ ‏أسع‏ ‏إليها، بل‏ ‏هى ‏التى ‏سعت‏ ‏إلىّ.. ‏ولكن‏ ‏يبدو‏ ‏أن‏ “‏هي‏”.. ‏ليست‏ ‏إلا‏ “‏أنا‏”.‏

هل‏ ‏من‏ ‏سبيل‏ ‏إلى ‏التراجع؟ ‏

لعلى ‏أجده‏ ‏عند‏ ‏طبيب‏ ‏الحى ‏حين‏ ‏يكتشف‏ ‏المرض‏ ‏بإذن‏ ‏الله‏، ‏ولكن‏ ‏ماذا‏ ‏سأقول‏ ‏له؟ ‏

شىء ‏عجيب‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏فىّ – ‏كيف‏ ‏يأتى ‏وكيف‏ ‏يذهب؟ ‏لست‏ ‏أدرى، ‏أحيانا‏ ‏أشعر‏ ‏بانقلاب‏ ‏السماء‏ ‏على ‏الارض‏، ‏تتملكنى ‏الرعشة‏ ‏من‏ ‏رأسى ‏إلى ‏قدمىّ ‏أحس‏ ‏كأن‏ ‏رأسى ‏كتلة‏ ‏من‏ ‏السحاب‏ ‏أو‏ ‏من‏ ‏القطن‏ ‏المندوف‏، ‏أو‏ ‏من‏ ‏الدخان‏ ‏القاتم‏ ‏المتكاثف‏، ‏يقوم‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏الناس‏ ‏ساتر‏ ‏غريب‏ ‏وكأنهم‏ ‏يتحركون‏ ‏على ‏بعد‏ ‏لا‏ ‏أعرف‏ ‏مداه، ‏وأحيانا‏ ‏أحس‏ ‏بصفاء‏ ‏كامل‏ ‏مع‏ ‏تغيير‏ ‏شامل‏ ‏فى ‏نظرتى ‏للحياة‏ ‏وكأنى ‏كنت‏ ‏مسافرا‏ ‏لعدة‏ ‏قرون‏ ‏ثم‏ ‏رجعت‏ ‏فجأة‏، ‏وأحتار‏ ‏بين‏ ‏غربتى ‏ووحدتى ‏وأصاب‏ ‏فى ‏فترة‏ ‏صحوى ‏بميل‏ ‏قاس‏ ‏إلى ‏فكاهة‏ ‏عابر‏ ‏السبيل‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يعنيه‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يربط‏ ‏بين‏ ‏الأشياء‏ ‏ربطا‏ ‏خاصا‏ ‏جديدا‏ ‏وفريدا، ‏تتشابك‏ ‏فى ‏عقلى ‏العلاقات‏ ‏والرموز‏ ‏بشكل‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏قفشات‏ ‏الحشاشين‏، ‏أكتم‏ ‏هذه‏ ‏التعليقات‏ ‏فى ‏داخلى ‏خشية‏ ‏أن‏ ‏يضبطونى ‏متلبسا‏ ‏فيصدرون‏ ‏أحكامهم‏ ‏على: ‏إما‏ ‏بالجنون‏، ‏أو‏ ‏بالتمارض، ‏فى ‏كلتا‏ ‏الحالين‏ ‏لن‏ ‏أسلم‏ ‏من‏ ‏أيديهم.

يا‏ ‏ويلى ‏لو‏ ‏راحت‏ ‏عنى ‏الرعشة‏ ‏قبل‏ ‏ذهابى ‏إلى ‏الطبيب‏، ‏ولم‏ ‏يبق‏ ‏عندى ‏إلا‏ ‏هذه‏ ‏السخرية‏ ‏الحشاشة‏، ‏ما الذى ‏سوف‏ ‏يقوله؟ ‏متصنع‏ ‏أنا؟ ‏ربك‏ ‏يستر.

دخلت‏ ‏عيادته‏ ‏وكلى ‏أمل‏ ‏أن‏ ‏أجد‏ ‏حرارتى ‏مرتفعة‏ ‏حتى ‏بدون‏ ‏رعشة‏، ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يكتشف‏ ‏فى ‏عقلى ‏جنينا‏ ‏غير‏ ‏شرعى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يخلصنى ‏منه‏ ‏كما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏فعل‏ ‏مع‏ ‏زوجتى ‏حين‏ ‏خلصها‏ ‏من‏ ‏ضيف‏ ‏الصدفة‏ ‏الذى ‏استقر‏ ‏فى ‏أحشائها‏ ‏على ‏غفلة‏ ‏منا‏ ‏بنية‏ ‏إفشال‏ ‏جهود‏ ‏تنظيم‏ ‏الأسرة‏ ‏وتهديد‏ ‏العالم‏ ‏بالمجاعة، ‏مازلت‏ ‏أذكر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الطبيب‏ ‏الإنسان‏ ‏قام‏ ‏بعمل‏ ‏اللازم‏ ‏فى ‏أمانة‏ ‏وثقة‏، ‏واعتبرته‏ ‏أيامها‏ ‏بطلا‏ ‏وطنيا‏ ‏إذ‏ ‏أسهم‏ ‏فى ‏تخفيف‏ ‏أعباء‏ ‏الوطن‏ – ‏وخصوصا‏ ‏وزارة‏ ‏التموين‏ – ‏بهذا‏ ‏العمل‏ ‏السياسى ‏السرى: ‏إجهاض‏ ‏زوجتى.‏

كان‏ ‏طبيب‏ ‏أمراض‏ ‏نساء‏ ‏وأطفال‏ ‏أساسا‏، ‏وكنا‏ ‏نستشيره‏ ‏فى ‏كل‏ ‏شىء ‏من‏ ‏أول‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏الزائر‏ ‏المشاغب‏، ‏حتى ‏مضاعفات المعدة من‏ ‏كحك‏ ‏العيد، ‏فجأة‏ ‏ضبطت‏ ‏نفسى ‏متلبسا‏ ‏بهذه‏ ‏السخرية، ‏ارتعشت‏، ‏وانزعجت‏، ‏وأخذت‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏ذلك‏ ‏الشخص‏ ‏القديم‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يخاف‏ ‏من‏ ‏زيارة‏ ‏الطبيب‏ ‏ويخرج‏ ‏من‏ ‏قبل‏ ‏السؤال‏ ‏عن‏ ‏الميعاد، ‏ويشغل‏ ‏باله‏ ‏كل‏ ‏الوقت‏ ‏بكل‏ ‏تفاصيل‏ ‏طلبات‏ ‏زوجته‏ ‏غير‏ ‏المفهومة، فلم‏ ‏أجده‏، ‏هدأت‏ ‏قليلا‏ ‏وتجسد‏ ‏أمامى ‏عم‏ ‏محفوظ‏ ‏فوجدتنى ‏أنظر‏ ‏إلى ‏اللافتة‏ ‏المعلقة‏ “‏أخصائى ‏أمراض‏ ‏نساء‏ ‏وولادة‏ ‏وأطفال‏”، ‏أشعر‏ ‏بسعادة‏ ‏غريبة‏ ‏لأنى ‏متأكد‏- ‏بشكل‏ ‏ما‏ – ‏أن‏ ‏مابى ‏لا‏ ‏يتعدى ‏هذه‏ ‏التخصصات‏ ‏الثلاثة‏، ‏إذن‏: ‏فأنا‏ ‏الشخص‏ ‏المناسب‏ ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏المكان‏ ‏المناسب، ‏هذا‏ ‏الطبيب‏ ‏نفسه‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏خلص‏ ‏زوجتى ‏من‏ ‏الجنين‏ ‏الذى ‏كاد‏ ‏يفرض‏ ‏وجوده‏ ‏رغما‏ ‏عنا، ‏هو‏ ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يستطع‏ ‏أن‏ ‏يخلصنى ‏من‏ ‏الطفل‏ ‏الغريب‏ ‏الذى ‏دخل‏ ‏عقلى ‏أيضا‏ ‏دون‏ ‏استئذان‏، ‏والذى ‏أكاد‏ ‏أشعر‏ ‏به‏ ‏أحيانا‏ ‏وهو‏ ‏يخرج‏ ‏لى ‏لسانه‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏، ‏فقد‏ ‏يخمدنى ‏حتى ‏أنام‏ ‏بعض‏ ‏الوقت، ‏أكاد‏ ‏أتذكر‏ ‏أنى ‏تخايلت‏ ‏به‏ (‏الطفل‏ ‏فى ‏عقلي‏) ‏أثناء‏ ‏ذهابى ‏إلى ‏النوم‏ ‏ليلة‏ ‏أمس‏ ‏وهو‏ ‏يكاد‏ ‏يقفز‏ ‏من‏ ‏مخى ‏بالرغم‏ ‏منى ‏ليجرى ‏فى ‏الحجرة‏ ‏حولى، ‏أكذب‏ ‏نفسى ‏وأحاول‏ ‏أن‏ ‏أتناسى ‏هذا‏ ‏الأمر‏ ‏خشية‏ ‏أن‏ ‏يظن‏ ‏بى ‏الظنون، ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أتجاهله‏ ‏فى ‏كل‏ ‏مرة‏ ‏يظهر‏ ‏فيها‏ ‏كما‏ ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أطمسه‏ ‏بالانشغال‏ ‏والتوهان‏ ‏وربما‏ ‏بالرعشة‏، ‏لكنه‏ ‏كان‏ ‏يتقافز‏ ‏داخلى ‏كلما‏ ‏طاردته‏ ‏جادا، ‏ذات‏ ‏مرة‏ ‏أخرى ‏ضبطته‏ ‏ينهنه‏ ‏نهنهة‏ ‏مكتومة‏ ‏فى ‏صدرى ‏بالرغم‏ ‏من‏ ‏أنى ‏ساعتها‏ ‏كنت‏ ‏أكلم‏ ‏زوجتى، ‏وحمدت‏ ‏الله‏ ‏على ‏أنها‏ ‏لم‏ ‏تسمع.

دخلنا‏ ‏جميعا‏ ‏إلى ‏الطبيب‏ (‏الرجل‏ ‏الحامل‏، ‏الذى ‏هو‏ ‏أنا‏، ‏والطفل‏ ‏الشقى، ‏وزوجتي‏)، ‏أكرمنا‏ ‏الممرض‏ ‏فقدم‏ ‏دورنا‏ ‏لصداقة‏ ‏قديمة‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏تأكد‏ ‏من‏ ‏إشفاق‏ ‏الآخرين‏ ‏علىّ ‏لما‏ ‏يصيبنى ‏من‏ ‏رعشة‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏و‏ ‏الحين، ‏ما‏ ‏زالت‏ ‏نظرة‏ ‏الممرض‏ ‏تتابعنى، ‏تلك‏ ‏النظرة‏ ‏التى ‏نظرها‏ ‏إلىّ ‏بشك‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏أخذ‏ ‏حراراتى ‏وهو‏ ‏يعلن‏ ‏نتيجة‏ ‏مقياس‏ ‏الحرارة‏، ‏قائلا‏: “‏ستة‏ ‏وثمانية‏” (‏كدت‏ ‏أرد‏ ‏عليه‏: ‏أربعتاشر‏)، ‏خشيت‏ ‏وأنا‏ ‏داخل‏ ‏إلى ‏الطبيب‏ ‏أن‏ ‏تتكرر‏ ‏تلك‏ ‏النظرة‏ ‏على ‏مستوى ‏أقسى، ‏خاصة‏ ‏وأنى ‏كدت‏ ‏أقفز‏ ‏على ‏كتفه‏ ‏لما‏ ‏نادانى ‏للدخول، ‏تحكمت‏ ‏فى ‏نفسى ‏بسرعة‏ ‏وجهد‏، ‏ولم‏ ‏أحاول‏ ‏أن‏ “‏أنهرنى” ‏أكثر‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏تزداد‏ ‏الرعشة‏، ‏فأتعثر‏، ‏وأقع، ‏توكلت‏ ‏على ‏الله، ‏ودخلنا.

ما‏ ‏إن‏ ‏جلست‏ ‏أمامه‏ ‏حتى ‏نسيت‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏كان‏، ‏حتى ‏الأفكار‏ ‏الخاصة‏ ‏بالأعراض‏ ‏اختفت، ‏تركت‏ ‏لزوجتى ‏المجال‏ ‏لتحكى ‏له‏ ‏قصة‏ ‏لا‏ ‏تعرف‏ ‏عنها‏ ‏شيئا‏، ‏وبعد‏ ‏التحيات‏ ‏والسؤال‏ ‏عن‏ ‏بقية‏ ‏الأولاد، .. ‏اتجه‏ ‏إلىّ ‏مستفسرا.

‏- ‏كيف‏ ‏الحال؟ ‏

شتان‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏وتلك‏، ‏فليأت‏ ‏الأستاذ‏ ‏غريب‏ ‏ليتعلم‏ ‏كيف‏ ‏يسأل‏ ‏الناس‏ ‏الطيبون‏ ‏عن‏ ‏الحال، ‏أجبته‏ ‏نفس‏ ‏الإجابة‏:‏

‏- ‏الحمد‏ ‏لله

يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يسمعنى، ‏كان‏ ‏مجرد‏ ‏تلطف‏ ‏عابر‏ ‏يسمح‏ ‏له‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏يعرينى ‏ويضع‏ ‏آلاته‏ ‏على ‏جسدى ‏وكأنه‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏شىء ‏يمكن‏ ‏العثور‏ ‏عليه‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ ‏مشغول‏ – ‏على ‏أحسن‏ ‏الفروض‏ – ‏بعدد‏ ‏الكشوف‏ ‏المتبقية فى الصالة‏، ‏أو‏ ‏بميعاد‏ ‏زوجته‏ ‏التى ‏تنتظره‏ ‏أمام‏ ‏الكوافير‏، ‏كنت‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏أخشى ‏التمادى ‏فى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التصور‏ ‏وأتهم‏ ‏نفسى ‏بسوء‏ ‏الظن‏، ‏أما‏ ‏اليوم‏ ‏فأنا‏ ‏أكاد‏ ‏أقرأ‏ ‏أفكاره‏، ‏أكاد‏ ‏أقسم‏ ‏أنه‏ ‏أصدر‏ ‏قراره‏ ‏بطردى ‏لتفاهة‏ ‏حالتى ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏اطلع‏ ‏على ‏الورقة‏ ‏المكتوب‏ ‏عليها‏ ‏نتيجة‏ ‏قياس‏ ‏الحرارة، ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏على ‏يقين‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏عندى ‏أمل‏ ‏فى ‏حدوث‏ ‏شىء ‏آخر‏ ‏يفسر‏ ‏الأمور‏، ‏شىء ‏أقرب‏ ‏إلى ‏السحر. ‏

‏- ‏مم‏ ‏تشكو؟ ‏

‏- ‏لا‏ ‏شئ.

‏”‏زغرت‏” ‏لى ‏زوجتى “‏زغـرة‏” ‏المذعور‏ ‏وكأنها‏ ‏تقول‏”: ‏كسفتنا‏ ‏الله‏ ‏يخيبك‏”، ‏نظرت‏ ‏إليها‏ ‏بارتباك‏، ‏وأحسست‏ ‏أنى ‏فى ‏امتحان‏، ‏وينبغى ‏أن‏ ‏أقوم‏ ‏بتسميع‏ ‏ما‏ ‏حدث‏، ‏وهى ‏لا‏ ‏تدرى ‏أن‏ ‏ما‏ ‏حدث‏، ‏هذا‏ ‏مازال‏ ‏حادثا‏ ‏فعلا‏، ‏ولكنه‏ ‏يأتى ‏بمزاجه‏ ‏الخاص‏، ‏يفعل‏ ‏بى ‏الأفاعيل‏، ‏وينتهى ‏فجأة‏ ‏دون‏ ‏تدخل‏ ‏منى.‏

أنهـى ‏الطبيب‏ ‏الموقف‏ ‏بأن‏ ‏قال‏:‏

‏- ‏على ‏كل‏ ‏حال‏، ‏دعنى ‏أطمئن‏ ‏عليك‏، ‏هيا‏ ‏إلى ‏الكشف.

حمدت‏ ‏الله‏ ‏ ‏أنه‏ ‏أنقذنى ‏من‏ ‏تحقيق‏ ‏طويل‏ ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏واثقا‏ ‏من‏ ‏نهايته‏ ‏السلمية، ‏خلعت‏ ‏ملابسى ‏من‏ ‏على ‏نصفى ‏الأعلى ‏وفرحت‏ ‏حتى ‏كدت‏ ‏أضحك‏ ‏لأنى ‏تصورت‏ ‏أنى ‏فى ‏الحمام‏ ‏مثل‏ ‏زمان‏ ‏حين‏ ‏كانت‏ ‏خالتى ‏أم‏ ‏صبحى ‏تدخل‏ ‏معى ‏ليلة‏ ‏العيد‏ ‏الصغير‏، ‏تليـّفنى، ‏كنت‏ ‏أسعد‏ ‏سعادة‏ ‏غامرة‏ ‏حين‏ ‏أتخلص‏ ‏أمامها‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏ملابسى ‏وصوت‏ ‏وابور‏ ‏الغاز‏ ‏يتماوج‏ ‏تحت‏ ‏الطشت‏ ‏النحاس‏ ‏ذى ‏الوسط‏ ‏المخنصر‏ ‏القائم‏ ‏فوق‏ ‏الوابور‏ ‏فى ‏شموخ‏ ‏وأنفة‏، ‏وبخار‏ ‏الماء‏ ‏والدخان‏ ‏ورائحة‏ ‏الغاز‏ ‏تختلط‏ ‏بغناء‏ ‏أم‏ ‏صبحى ‏فى ‏كتلة‏ ‏واحدة‏ ‏تملأ‏ ‏جو‏ ‏الحمام‏، ‏وأنا‏ ‏سعيد‏ ‏بهذا‏ ‏العرى، ‏وسعيد‏ ‏أكثر‏ ‏بأنى ‏عريان‏ ‏أمامها‏ ‏بالذات، ‏كنت‏ ‏ألمح‏ ‏أحيانا‏ ‏نظراتها‏ ‏تقول‏: “‏والله‏ ‏كبرت‏ ‏ومابقى ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏تتزوج‏” ‏فأحس‏ ‏بفخر‏ ‏الرجال‏، ‏حتى ‏أكاد‏ ‏أقفز‏ ‏إلى ‏رقبتها‏ ‏وأقبلها‏، ‏وأنتظر‏ ‏حتى ‏ينتهى ‏الحمام‏ ‏فتلفنى ‏فى “‏البشكير‏”، ‏وتحملنى ‏فوق‏ ‏ظهرها‏ ‏الطرى ‏فألتصق‏ ‏بها‏ ‏فى ‏فرحة‏ ‏التصاقا‏ ‏لا‏ ‏يبرره‏ ‏خوفى ‏من‏ ‏الوقوع‏، ‏ويدى ‏تحيط‏ ‏بعنقها‏ ‏من‏ ‏خلف‏ ‏حتى ‏أكاد‏ ‏أضمها‏ ‏حتى ‏تضعنى ‏بجوار‏ ‏أمى ‏مازحة‏ “‏اسم‏ ‏الله‏ ‏عليه‏، ‏بسلامته‏ ‏عايز‏ ‏يتجوز‏”. ‏يشرق‏ ‏وجه‏ ‏أمى ‏بالفرحة‏ ‏النسائية‏ ‏الخاصة‏ ‏التى ‏تـُرَى ‏على ‏وجوه‏ ‏نسوة‏ ‏ذلك‏ ‏الزمان‏ ‏حين‏ ‏تصل‏ ‏قفشاتهم‏ ‏إلى ‏تلك‏ ‏المنطقة‏ ‏الخاصة‏ ‏التى “‏تدغدغ‏” ‏وجدانهم‏ ‏وتهيئهم‏ ‏لأعمال‏ ‏الليل‏ ‏الممتعه‏ ‏فى ‏تسليم‏ ‏وانتصار‏ ‏معا. ‏

انتهيت‏ ‏على ‏صوت‏ ‏الطبيب‏ ‏وهو‏ ‏يحدث‏ ‏زوجتى ‏عن‏ ‏اختفاء‏ ‏الصابون‏، ‏وكأنهم‏ ‏قد‏ ‏ضبطونى ‏متلبسا‏ ‏بخيالات‏ ‏الحمام‏ ‏ودفء‏ ‏ظهر‏ ‏أم‏ ‏صبحى، ‏والإشراقة‏ ‏الجنسية‏ ‏على ‏وجه‏ ‏أمى، ‏تقدم‏ ‏الطبيب‏ ‏ووضع‏ ‏السماعة‏ ‏على ‏أجزاء‏ ‏مختلفة‏ ‏من‏ ‏صدرى، ‏تلك‏ ‏الآلة‏ ‏السحرية‏ ‏التى ‏ينحنى ‏أمامها‏ ‏وتحتها‏ ‏أعظم‏ ‏عظيم‏ ‏فى ‏تسليم‏ ‏واحترام، ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏مهتما‏ ‏إلا‏ ‏بقراءة‏ ‏أفكار‏ ‏الطبيب‏ ‏وهو‏ ‏يضع‏ ‏السماعة‏ ‏على ‏صدرى، ‏رأيته‏ ‏فى ‏خيالى ‏مشغولا‏ ‏بحساب‏ ‏الميكانيكى، ‏وهو‏ ‏يشك‏ ‏فى ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏غير‏ ‏قطعة‏ ‏الغيار‏ ‏كما‏ ‏وعده‏، ‏ويتساءل‏: ‏هل‏ ‏ستسير‏ ‏العربة‏ ‏بعد‏ ‏هذه‏ ‏السرقة‏ ‏دون‏ ‏عطل‏، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏مـَوّال ما لن‏ ‏ ‏ينتهى؟.

‏- ‏خـذ‏ ‏نفسا.

ترى: ‏هل‏ ‏يقولها‏ ‏لى ‏أم‏ ‏للميكانيكى؟ ‏كدت‏ ‏أضحك‏ ‏بالرغم‏ ‏منى ‏وأنا‏ ‏أكاد‏ ‏أمد‏ ‏يدى ‏إلى ‏مطاط‏ ‏السماعة‏ ‏كأنها‏ ‏نرجيلة‏ ‏فى ‏قهوة‏ ‏الفيشاوى ‏آخذ‏ ‏منها‏ ‏نفسا‏، ‏نظرت‏ ‏إلى ‏وجهه‏ ‏لاتأكد‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يقرأ‏ ‏أفكارى ‏كما‏ ‏أقرأ‏ ‏أنا‏ ‏أفكاره، ‏اطمأننت‏ ‏إلى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏تصل‏ ‏إليه‏ ‏إلا‏ ‏طاعتى ‏العمياء، ‏أفكارى ‏وذكرياتى ‏ونزعاتى ‏هذه‏ ‏تتم‏ ‏فى ‏أقل‏ ‏من‏ ‏ثانية، ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أقارن‏ ‏بين‏ ‏هذا‏ ‏الطبيب‏، ‏وبين‏ ‏الميكانيكى ‏الذى ‏تصورت‏ ‏فى ‏خيالى ‏أن الطبيب‏ ‏يتهمه‏ ‏بالسرقة، ‏الميكانيكى ‏يتعامل‏ ‏مع‏ ‏مئات‏ ‏الماركات‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏يسمع‏ ‏شكواها‏، ‏أما‏ هذا ‏الطبيب‏ ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يتعامل‏ ‏إلا‏ ‏مع‏ ‏الآلة‏ ‏البشرية‏، ‏وهى ‏ذات‏ ‏تركيب‏ ‏واحد، ‏أعظم‏ ‏ما‏ ‏فى ‏حالتى ‏أنها‏ ‏حالة‏ ‏سرية‏، ‏فعلى ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏اعتقادى ‏بأننى ‏أقرأ‏ ‏أفكار‏ ‏الناس‏، ‏أصبحت‏ ‏متأكدامن‏ ‏أن‏ ‏أحدا‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏اختراق‏ ‏أفكارى، ‏إذ‏ ‏من‏ ‏ذا‏ ‏الذى ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتابع‏ ‏هذا‏ ‏السيل‏ ‏من‏ ‏الشطحات‏ ‏والهرج‏ ‏العظيم، ‏خطر‏ ‏ببالى ‏أن‏ ‏أذهب‏ ‏إلى ‏ذلك‏ ‏الميكانيكى ‏أستشيره‏ ‏فى ‏حالتى ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏فشل‏ ‏هذا‏ ‏الطبيب‏ ‏فى ‏إجهاضى، ‏أو‏ ‏علاج‏ ‏طفلى، ‏أو‏ ‏اكتشاف‏ ‏حمى ‏الفلسفة‏ ‏التى ‏أصابتنى.‏

أخذت‏ ‏نفسا‏، ‏ونفسا‏، ‏وسعلت‏، ‏وتقلبت‏ ‏على ‏الجنبين‏، ‏وحين‏ ‏انتهى ‏دور‏ ‏السماعة‏ ‏وبدأ‏ ‏ينقر‏ ‏على ‏ظهرى ‏كدت‏ ‏أسمع‏ ‏ذلك‏ ‏الطفل‏ ‏بين‏ ‏ضلوعى ‏يقول‏:‏

‏- ‏مين؟ ‏

ولم‏ ‏يرد‏ ‏عليه‏ ‏أحد.

‏- “‏مين‏ ‏اللى ‏بيخبـّط‏”.‏

ولم‏ ‏يرد‏ ‏عليه‏ ‏أحد.

انتبهت‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يدور‏ ‏حولى ‏بوعى ‏عادى، ‏وبسرعة‏ ‏اختفى ‏كل‏ ‏شىء ‏فى ‏الداخل‏، ‏عاد‏ ‏الغمام‏ ‏يظلل‏ ‏فكرى ‏وانتبهت‏ ‏إلى ‏موقعى ‏من‏ ‏الحجرة‏، ‏وإلى ‏وجود‏ ‏الطبيب‏ ‏بجوارى، ‏وأحسست‏ ‏أننى ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏متى ‏جئت‏ ‏وكيف‏، ‏وكدت‏ ‏أعتذر‏ ‏له‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏أفكارى، ‏نظرت‏ ‏إلى ‏وجهه‏ ‏أستفسر‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏قد‏ ‏وصل‏ ‏إليه‏ ‏أى ‏شئ‏، ‏لم‏ ‏أجد‏ ‏إلا‏ ‏هذا‏ ‏الجمود‏ ‏الطبى ‏الباسم‏ ‏فى ‏حرفية‏ ‏حتى ‏يحمى ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏شطحات‏ ‏أمثالى.‏

الصداع‏ ‏يكاد‏ ‏يقتلنى، ‏اختفت‏ ‏كل‏ ‏أعماقى ‏ولم‏ ‏تبق‏ ‏إلا‏ ‏قشرة‏ ‏جافة‏ ‏داخلها‏ ‏خواء‏ ‏يتردد‏ ‏فيه‏ ‏الصدى، ‏بدأت‏ ‏أرتجف‏ ‏بعنف‏ ‏وبدت‏ ‏على ‏زوجتى ‏مسحة‏ ‏من‏ ‏فرح‏ ‏حتى ‏يرى ‏الطبيب‏ ‏الحالة‏ ‏بنفسه‏ ‏ولا‏ ‏تضيع‏ ‏أجرة‏ ‏الكشف‏ ‏هباء، ‏لاحظت‏ ‏بدورى ‏بعض‏ ‏الاهتمام‏ ‏على ‏وجه‏ ‏الطبيب‏، ‏ولكنه‏ ‏اهتمام‏ ‏العارف‏ ‏ببواطن‏ ‏الأمور‏ ‏مسبقا.

قال‏ ‏فى ‏هدوء‏:‏

‏ – ‏إنك‏ ‏ترتجف‏ ‏من‏ ‏البرد‏، ‏لستَ‏ ‏متعودا‏ ‏على ‏التخلى ‏عن‏ ‏ملابسك‏ ‏فى ‏حجرة‏ ‏واسعة‏ ‏مثل‏ ‏هذه.

لم‏ ‏أرد‏، ‏ولكن‏ ‏زوجتى ‏اعترضت‏ ‏قائلة.

‏- ‏هذه‏ ‏هى ‏الحالة‏ ‏يا‏ ‏دكتور‏، ‏وهى ‏تأتيه‏ ‏بنفس‏ ‏الشدة‏ ‏وهو‏ ‏متدثر‏ ‏بكل‏ ‏ملابسه‏، ‏حتى ‏وهو‏ ‏تحت‏ ‏اللحاف.

‏- ‏لا‏ ‏تخافى، ‏فهى ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الحساسية‏ ‏للجو.

كنت‏ ‏أتابع‏ ‏الحديث‏ ‏عنى ‏فى ‏استسلام‏ ‏وتحد‏ ‏معا، ‏استسلام‏ ‏من‏ ‏لا‏ ‏يملك‏ ‏من‏ ‏أمره‏ ‏شيئا‏، ‏وتحد‏ ‏لثقتى ‏فى ‏أن‏ ‏أيا‏ ‏منهم‏ ‏لن‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏داخلى ‏ولو‏ ‏بأشعة‏ ‏الليزر، ‏لكن‏ ‏الرعشة‏ ‏اشتدت‏ ‏بى، ‏وملأ‏ ‏الغيام‏ ‏عقلى ‏حتى ‏أخذت‏ ‏أصر‏ ‏على ‏أسنانى ‏بعنف‏ ‏لأوقف‏ ‏هذه‏ ‏الدوامة‏ ‏من‏ ‏الفراغ‏ ‏التى ‏تلف‏ ‏فى ‏رأسى، ‏ولم‏ ‏يلاحظ‏ ‏الطبيب‏ ‏شيئا.

فى ‏الوقت‏ ‏الذى ‏كنت‏ ‏مطمئنا‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏أحدا‏ ‏لا‏ ‏يرانى، ‏كان‏ ‏جزء‏ ‏منى ‏يتمنى ‏أن‏ ‏يرونى ‏بأية‏ ‏درجة‏ ‏فيها‏ ‏ظل‏ ‏مما‏ ‏يجرى، ‏تمنيت‏ ‏أن‏ ‏يسألنى ‏أكثر‏، ‏وألا‏ ‏يدعنى ‏أزوغ‏ ‏منه‏، ‏أن‏ ‏يتبين‏ ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏نارا‏ ‏تغلى ‏فى ‏داخلى ‏حتى ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏حرارتى ‏صفرا‏، ‏كنت‏ ‏أعرف‏ ‏أنه‏ ‏رجل‏ ‏طيب‏ ‏وماهر‏ ‏فى ‏صنعته‏، ‏وكم‏ ‏انبهرت‏ ‏بذكائه‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏، ‏ولكنه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المرة‏ ‏لم‏ ‏يكد‏ ‏يلـمحنى ‏أصلا.

تناول‏ ‏قلمه‏ ‏وأخذ‏ ‏يكتب‏ ‏بعض‏ ‏الأشياء‏ ‏التى ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏أتناولها‏ ‏قبل‏ ‏الأكل‏ ‏أو‏ ‏بعده‏، ‏كما‏ ‏أخذت‏ ‏زوجتى ‏تستفسر‏ ‏منه‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏التفاصيل‏، ‏ورد‏ ‏عليها‏ ‏بأن‏ ‏كل‏ ‏شىء ‏مبيــن‏ ‏بالتذكرة.

سألته‏ ‏سؤالا‏ ‏أخيرا‏:‏

‏- ‏والنوم؟ ‏

‏ ‏قال‏:‏

‏- ‏كل‏ ‏شىء ‏سيعود‏ ‏كما‏ ‏كان‏ ‏بعد‏ ‏استعمال‏ ‏هذه‏ ‏المقويات‏، ‏ضعف‏ ‏عام‏ ‏وإرهاق‏، ‏ليس‏ ‏إلا.

***

* انتهى الجزء الأول وننشر الثانى غدًا والثالث والأخير بعد غد

* أنصح بتأجيل التعقيب حتى نهاية الجزء الثالث (الذى قد يلحق فى نفس اليوم نشر الفصل بأكمله مثل الإثنين الماضى).

* أرجو أن أتمكن من كتابة الملاحظات والإشارة الفاتحة لنقاش محتمل فى نشرة الإثنين بعد غد.

***

 

[1] – يحيى الرخاوى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى  1979

[2] – يحيى الرخاوى – “العلاج النفسى (مقدمة) بين الشائع والإعلام والناس” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى 2018       

– “هل العلاج النفسى “مَكْـلـَمَة؟” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى  2018       

– “قراءة فى عيون الناس” منشورات جمعية الطب النفسى التطورى  2018         

[3] – كنت قد عدلت عن وضع نفس العنوان “جذور الطبنفسى التطورى” على هذا العمل الأدبى ثم هأنذا أعدل عن العدول فأواصل نشر الرواية تحت نفس العنوان.

[4] – نالت هذه الرواية نصيبها من التقدير والنقد، فقد حصلت (الجزئين الأول والثانى) على جائزة الدولة التشجيعية لسنة 1980 ، كما أولاها النقاد الأفاضل ما تستحق، وأكثر، وأخص بالذكر المرحوم الناقد يوسف الشارونى سكرتير المجلس الأعلى للفنون والآداب وهذا بعض رأيه :” “أنا أعتبر هذه الرواية علامة من علامات أدبنا المعاصر تقف على مستوى حديث عيسى بن هشام للمويلحى، وزينب لهيكل، وعودة الروح لتوفيق الحكيم. بحيث يمكن اعتبارها رواية السبعينات”  آخر ساعة 19 سبتمبر 1979 .

[5] – يحيى الرخاوى: رواية  “الواقعة”  ثلاثية المشى على الصراط: الجزء الأول. الطبعة الثانية 2008 (الطبعة الأولى 1977)  والكتاب متاح  فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم.

[6] –   وددت لو لم أكن أنا مؤلف هذه الرواية، إذن لقمت بنقدها نقدا مفصلا تحت مقولة “التفسير الأدبى للنفس” كما فعلت فى معظم نقدى وخاصة أعمال محفوظ وديستويفسكى.

النشرة السابقة 1النشرة التالية 1

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *