نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 20-1-2015
السنة الثامنة
العدد: 2699
الثلاثاء الحرّ:
مازلنا نقول ونعيد!! أنا آسف: هل من جديد؟ (الجزء الأول) (1)
1- كيف تقيم الشخصية المصرية بعد أربع سنوات من بداية أحداث الثورة؟
د. يحيى:
تقييم الشخصية المصرية ليس أمراً سهلا بشكل عام، ولا ينبغي أن نفتى فيه بانطباعات عابرة أو شخصية، وتقييم الشخصية المصرية بعد أربع سنوات غير تقييمها خلال أربع سنوات، وهذا وذاك غير تقييمها خلال أربعين أو ستين سنة مضت، ثم إنه لا يوجد نمط واحد يمكن أن نجمع تحته مصطلح باسم الشخصية المصرية، فالثقافات الفرعية، واختلاف الأعمار، واختلاف الطبقات يلزمنا أن نحذر التعميم طول الوقت، عموما فإن هذه السنوات الأربع كانت فرصة لنتعرف على ما خفى منا، وأيضا لنكتشف قدرات لم نكن نتصور أننا نمتلكها.
2- ما التغيرات التي شهدتها الشخصية المصرية في سنوات الثورة؟ وهل صحيح أن الثورة أخرجت أسوأ ما في هذه الشخصية من طباع؟
د. يحيى:
الذى يقول أن الثورة أخرجت أسوأ ما فى هذه الشخصية من طباع ينبغى ألا يتعجل الحكم، فالتغيرات تجرى بسرعة يصعب ملاحقتها، وحتى الحديث عن ثورة أو ثورتين، يحتاج أن ننتظر لزمن أطول حتى تتم مراحل الثورة الحقيقية قبل أن نتكلم عن ثورات متلاحقة هكذا، لا يمكن اليقين بأن ثورة قد اكتملت إلا بالنجاح فى إرساء معالم دولة مستقرة، ذات أنتاج قوى، قادرة أن تصحح أخطاء الماضى لتسهم فى الحضارة الإنسانية التى يعاد تشكيلها عبر العالم رضينا أم لم نرض، إن ما ظهر مما يسمى “أسوا ما فى الشخصية المصرية من طباع” هو أمر متوقع، وهو ثمن لا بد أن ندفعه ونحن نمر بمرحلة التفكيك التى لم تنته بعد إلى مرحلة إعادة التشكيل، لا توجد ثورة بلا ضحايا، ولا يوجد مكسب ثورى بلا ثمن، حتى الآن وفى حدود أربع سنوات علينا أن نحذر من ترديد مثل هذه الكلمات بسهولة، حتى التعبيرات السائدة ليل نهار عن آثار الثورة وما بعد الثورة وما قبل الثورة علينا أن نتواضع فى ترديدها حتى تتشكل معالم الثورة بمعنى بناء الاقتصاد وبناء الإنسان معا، وهو أمر يحتاج سنين عددا، علينا أن نتحمل مسئولية إعادة تشكيل ناسنا وأنتاجنا مستقلا ، إذن فالقول بأن هذه السنوات اظهرت أسوأ ما فينا هو قول غير دقيق، وعلينا أن نتذكر أن السوء هو طبيعة بشرية موجودة فى كل البشر منذ قابيل وهابيل، منذ الهم الله سبحانه وتعالى النفس البشرية فجورها وتقواها، والذى ينظم الفجور ويبارك التقوى هو الممارسة الايمانية والاجتماعية والثقافية والحضارية المتاحة، فإذا اهتزت كل هذه الممارسات مع غياب الدولة وتشويه الدين وتمزق المجتمع لعدة سنوات، فمن ذا الذى يهذب الشر فينا ؟ ثم إن غياب الحس الحضارى أثناء مرحلة التفكيك يجعل العقل البدائى الجمعى هو المتحكم فى تصرفات الجماعات العشوائية، بما يشل العمل ويعطل الإنتاج بما يترتب عن هذا وذاك من مضاعفات
3- ما هي التغيرات الأكثر حسما في مزاج (من الممكن تعريف المزاج) المصريين قبل الثورة وبعدها؟
د. يحيى:
أتعجب من السؤال عن المزاج والحالة الانفعالية بهذا الإلحاح، نحن فى موقف حياتى يتجاوز النظر فى المزاج والبحث عن العواطف الرخوة المزاجية، نحن فى موقف جاد ومؤلم معظم الوقت، ولن يحسم هذا الموقف تطمين سطحى، أو وعود طيارة، الذي يعدل المزاج – ولا مؤاخذة- هو أن يصل الأمان إلى كل خلية من خلايا وجودنا بما يتجلى فى الأسرة والمدرسة والشارع ودور العبادة ومواقع العمل ليل نهار، المزاج عقب الثورات يتعلق بقدر الموضوعية والأمان والانتاج حتى يصل كل ذلك للشخص العادي حيثما كان، وأنا أفضل أن تحل هذه الكلمات عن الأمان والإنتاج محل الكلام عن ، مزاج المصريين هكذا بشكل عام، أتمنى أن تصبح هذه هى الترجمة السليمة لما نعنيه بـ “المزاج المصرى الثورى”، فيتحول الصياح إلى صلاة العمل، وتصبح الفرحة المزاجية هى الطمأنينة للأمن، وتنقلب المطالب الفئوية إلى وعى بالمشاركة، وهذا يحتاج عدلا حقيقيا على كل المستويات، وإن صح ما أشعر به فالمزاج الذى ينتظره كل المصريين بشوق بالغ هو العدل.
4- ما الذي يؤثر على المزاج العام؟ وهل يمكن للفن والسياسة أن تلعب دورًا في هذا السياق؟
د. يحيى:
كما قدمت أفضل ألا استعمل تعبير “الذى يؤثر على المزاج” واستبدله بتعبير: “الذى يشكل الوعى العام”، المسألة ليست مزاجا عاما، وإنما هى حالة الوعى الجماعى الذى هو جماع عقول ووجدان وإدراك كل فرد على حدة ثم الامة مجتمعة، وإذا كان الوعى العام قبل أربع سنوات كان قد استسلم إلى الاكتفاء بإلقاء اللوم والتأجيل والاعتمادية والانتظار، فإن الذى نأمل أن ننمية من كل فرد وفى كل اتجاه هو الحزم والإصرار والفعل وحمل الأمانة، مرة أخرى تحت مظلة عدل مطلق، أما دور الفن فهو دور جوهرى وأساسى، شريطة ألا نكتفى بفن التحريض ودغدغة المشاعر، وأن يكون الإبداع الأصيل المستمر هو الدليل على نجاح الثورة على طريق بناء الحضارة.
5- ما رأيك في الحديث عن تفرد الشخصية المصرية عما حولها من بلاد وشعوب؟
د. يحيى:
كل فتاة بأبيها معجبة، وكل شعب بشخصية ناسه فخور لدرجة الغرور أحيانا، لم يعد لائقا فى هذه الأيام ونحن فى القرن الواحد والعشرين مع كل ثورة التواصل والمواصلات الجارية أن نتحدث عن تميز شخصية وطنية بذاتها على تفرد شخصية وطنية أخرى، الفروق الآن تتضاءل بين الأمم، والحدود تكاد تتلاشى نتيجة نشاط التكنولوجية العملاقة التى يعيشها الفرد العادى، التفاهم بالأقمار الصناعية أصبح أيسر من أحلام الخيال العلمى فى القرن الماضى، ولذلك ينبغى أن نحذر من حكاية تميز الشخصية المصرية بشكل خطابىّ نظرى منفصل عن ما هو نحن “هنا والآن”، وحتى التفاخر بالشخصية المصرية التاريخية، برغم أنه من حقنا، فإنه لا ينبغى أن يكون مبررا للتمادى فى فخر لا يدعمه عمل وإنتاج وإبداع طول الوقت، ، لابد أن نعترف أن لكل أمة ما يميزها رغم اشتراكها مع سائر الأمم فى الانتماء إلى الجنس البشرى جغرافيا وتاريخيا.
وكما تختلف بصمات اليد، تختلف سمات الأفراد ولا يوجد فرد مثل الآخر تماما حتى التوائم المتشابهة، وعلى ذلك فإن من حق الشخصية المصرية أن تتميز ولكن ليس بمعنى قرض فصائد الفخر، وإنما بمعنى مدى قدرتها على الإسهام فى المسيرة البشرية جمعاء بالإنتاج والإبداع، وعن نفسى فأنا فخور بهذه الشخصية، لكن ليس لدرجة “إنى لو لم أولد مصريا لوددت أن أكون مصريا” وكلام من هذا، وقد أجريت تجربة على ذلك، وطلبت من عينة من المصريين أن يكملوا الجملة الأولى بعد أن حذفت الثانية، ولم يكرر قول مصطفى كامل إلا عدد قليل من العينة، وليس عندى رغبة أن أذكر بعض الإجابات التى أدهشتنى وهم يكملون: لوددت أن أكون …..، ثم يذكرون أسماء بلاد لم أكن أتصور أنها يمكن أن تخطر على بال مصرى أبدا!!! حتى أحزنتنى بعض الإجابات جدا!! أنا ما زلت أفخر بشخصيتى المصرية ، وأتحسس طبعها الحضارى المنطبع فى خلايا الدنا DNA الذى شكل المصريين أجيالا بعد أجيال، وتصلنى قدرتها على الصبر والمثابرة بما يشمل: بعد النظر واحتواء الكوارث، لتقوم منها أقوى وأقدر.
6- كيف تفسر خروج الملايين المصريين في لحظات الاستدعاء التاريخي بصورة مبهرة ثم سرعان ما تختفي؟ هل ذلك راجع لما يتميز به الشعب المصري من مخزون تاريخي؟
د. يحيى:
حين أردت أن أستدرك فى الإجابة على نهاية السؤال السابق لألطف نفى تميزنا، ذكرت التاريخ كما تلاحظ، لكن علينا أن نتذكر أن المخزون التاريخى وحده لا يكفى لتفسير غضب أمة بأكملها فى وقت بذاته، طبعا المخزون التاريخى للشعب المصرى يسمح بالثقة فى قدراته مهما غلبت عليه علامات التدهور والنكوص فى فترة بذاتها، وبالتالى فإن هذه العلاقة بالحياة وبالأرض، وقبل هذا وذاك بالله، هى المحور الجوهرى الذى يمكن العثور عليه فى جوهر الأفراد أو الجماعات المصرية على اختلاف مظاهر عقائدهم وثقافتهم، لكن المتابع للتاريخ لابد أن يلاحظ أن صبر الشعب المصرى يمكن أن يمتد عشرات السنين لكنه حين يفيض به الكيل، يقوم ويقلبها عاليها سافلها وليكن ما يكون
7- من ملاحظاتك الشخصية هل تغيرت طبيعة الأمراض النفسية قبل ثورة يناير وطوال سنوات الثورة؟
د. يحيى:
الحديث عن ظهور أمراض نفسية جديدة أو مختلفة بشكل عام فى فترات الطفرات التاريخية بما فيها التحولات الثورية هو حديث وارد مهم، لكننى أحذر تماما من وصف شعب بأكمله بأنه مصاب بالمرض النفسى الفلانى أو العلانى، فأنا أعتبر مثل ذلك وصفا بعيدا عن الدقة، وقد اعترضت مرارا على من يصف شعبى بأنه مصاب بما أسموه “اكتئاب قومى” لمجرد غلبة الصرامة والجدية فى أوقات الأزمات، كما رفضت بكل حسم الكلام عن الفصام عند مجاميع الناس لمجرد تناقض تصرفاتهم أو مواقفهم فى مواجهتهم لضغوط غامضة ومربكة كل هذا ينبغى أن يتوقف فلا هو علم ولا هو مفيد.
أما عن تغير طبيعة الأمراض النفسية مؤخرا فلا أنا لاحظت ولا زملائى فى حدود علمى أبلغونى بمثل ذلك اللهم إلا فى محتوى الضلالات مثلا أو تزييف الذاكرة بما يتماشى مع الأحداث الجديدة واللغة السياسية الجديدة، لكن يظل الفصام هو الفصام والاكتئاب هو الاكتئاب والقلق هو القلق كلمات تصف أمراضا، ولا تصف شعبا بأكمله
8- لماذا انتشرت الكآبة وعدم التفاؤل بعد الثورة مباشرة رغم عظمة أحداثها؟ أم أن الأمر مرتبط بما حدث فيما بعد على الصعيد السياسي؟
د. يحيى:
بعد الثورة مباشرة كان التفاؤل غالبا، لكن صاحبه الاستعجال فى قطف الثمار، وعندما تأخرت عملية القطاف خصوصا فيما يتعلق بالأمان والعدل ورفع مستوى المعيشة، أصيب الكثيرون بالاحباط ، فضلا عن الآثار المترتبة على ما أصاب هيبة الدولة من اهتزاز وما لحق بالجهاز الأمنى من خلخلة واضطراب قبل ان يتعافى مؤخرا، أما على الصعيد السياسى فلابد من الاعتراف بأننا لم نمارس السياسة بحقها منذ ستين عاما، وبالتالى فنحن ما زلنا فى سنة أولى سياسة وأننا ما زلنا فى سنة أولى روضة KG1 ولا مؤاخذة، والأزمة التى تمر بها الأحزاب الكثيرة الآن دليل على ذلك، وعلينا ألا نلوم أصحاب النوايا الطيبة والحماسة المتوقعة لتكوين الأحزاب، ولكن علينا فى نفس الوقت ألا نستعجل “سلق” تخليق الوعى السياسى حتى لا ينزل الجنين مبتسرا، النضج السياسى يحتاج وقتا، وهو ليس مشكلة عاجلة مثل مشكلة أطفال الشوارع أو أنابيت البوتاجاز
(بقية الحديث غدًا).
[1] – حديث لمجله اخر ساعة