الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الإدراك (96) تجليات الإدراك فى الحياة المعاصرة (3) الإدراك والوجدان والتلقى المبدع

الإدراك (96) تجليات الإدراك فى الحياة المعاصرة (3) الإدراك والوجدان والتلقى المبدع

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 9-12-2012

السنة السادسة

 العدد:  1927

7-9-2011

 الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (135)

 الإدراك (96)

تجليات الإدراك فى الحياة المعاصرة (3)

الإدراك والوجدان والتلقى المبدع

فى النشرة السابقة فى سلسلة الإدراك (الإثنين 3/12) قدمت بعض أدوات الإدراك وتجلياته فيما أسميته الحياة العادية، وكنت أنوى تأجيل الحديث عن علاقته بالوعى والوجدان والإبداع، لحين الانتهاء من تقديم بعض أشكال اضطرابه، إلا أن الصديق الشاعر أ.د. صادق السامرائى عاجلنى بقصيدة أصيلة، اضطرتنى إلى التعجيل فى محاولة تقديم الجانب الخاص بالإبداع فى علاقته بالإدراك(1)

حين التقطت ما كتبه شيخى نجيب محفوظ فى صفحة التدريب رقم  “106” التى نشرت يوم الخميس الماضى، بعد أن عدد بعض قراءاته دون ترتيب محكم، كان فقط يدرب يده المصابة (اليمنى) على العودة للكتابة، كتب فى نهاية الصفحة ما نصه: “وقد قرأت ما قرأت بوجدانى، ولم أدرسه“، فعقبت أنا على ذلك كما يلى:

“…. الفرق بين أن تقرأ للدراسة، وأن تقرأ بالوجدان هو الفرق فى نوع التلقى ودور المتلقى فى إبداع النص، ليس عندى أدنى شك أن الأستاذ كان يبدع كل أو أغلب ما يقرأ وهو يقرأه بوجدانه، واستسمحه بأن أقول يقرأه بإدراكه بالشكل الذى قدمنا إيجابياته فى الملف …، وقد أرجع لاستشهد بهذه الجملة تحديدا عندما أربط بين الإدراك والوجدان والإبداع لاحقا (فى ملف الإدراك أيضا).

وهأنذا أرجع:

لكلمة “وجدان” عندى موقع خاص جدا، وأنا أتعرف على حضارة أهلى من هذه اللغة العبقرية التى يكاد يدل كل لفظ فيها على تاريخ نشأته وتطوره بشكل لا يمكن أن يخرج إلا من حضارة متكاملة دون شك، (برغم ما آل حالنا إليه) وقد بحثت عما يقابل لفظ “وجدان” فى اللغتين الإنجليزية والفرنسية، فلم أجد ما يرضينى،(2)

اليوم، انطلاقا من كلمة شيخى وتعقيبى أجدنى مضطراً إلى إعادة بعض ما سبق أن سجلته فى أطروحتى عن “مخاطر‏ ‏الترجمة‏ ‏بين‏ ‏تسطيح‏ ‏الوعى ‏واختزال‏ ‏المعرفة” للتعرف على أبعاد مشاعرنا.

 انطلاقا من وقفتى عند لفظ “وجدان” هذا، قلت ما يلى:

أين‏ ‏تقع‏ ‏مسألة‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏  ‏من‏ ‏المستقبل؟‏ ‏هل‏ ‏هى ‏لغة‏ ‏متاحف‏ ‏وعبادة‏ ‏وشعر‏ ‏قديم‏‏‏ ‏أم‏ ‏أنها‏ ‏معمار‏ ‏حى ‏مرن‏ ‏متجدد‏ ‏قابل‏ ‏للإبداع‏ ‏بالإضافة‏ ‏والحذف‏ ‏وإعادة‏ ‏التشكيل؟ والجواب‏ ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الاجتهاد‏ ‏الآمل‏ ‏منه‏ ‏إلى ‏الحقائق‏ ‏الحاضرة‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏أغلب‏ ‏المدافعين‏ ‏عن‏  ‏اللغة‏ ‏العربية‏، ‏مثلهم‏ ‏مثل‏ ‏الفخورين‏ ‏بالحضارة‏ ‏العربية‏، ‏يبدون‏ ‏لى ‏وكأنهم‏ ‏أمناء‏ ‏متحف‏، ‏أو‏ ‏شعراء‏ ‏يقفون‏ ‏على ‏الأطلال‏ ‏يبكون‏ ‏الديار‏ ‏ومن‏ ‏هجروها‏، ‏فإذا‏ ‏صح‏  ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏كذلك‏، ‏وأن‏ ‏الدعوة‏ ‏إلى ‏التعريب‏ ‏أوالعودة‏ ‏إلى ‏العربية‏ ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مثل‏  ‏ذلك‏، ‏فالأوْلى ‏بنا‏ ‏أن‏ ‏نتمسك‏  ‏باللغات‏ ‏المستوردة‏ ‏القادرة‏ ‏على ‏صياغة‏ ‏الحياة‏ ‏الآن‏، ‏فغدا‏ .‏

أما‏ ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏الوعى ‏بمسئولية‏ ‏الوجود‏ ‏هوالذى ‏يدفعنا‏ ‏إلى ‏تغيير‏ ‏التعبير‏ ‏من‏ “العودة‏ ‏إلى ‏العربية‏” ‏إلى “الانطلاق‏ ‏من‏ ‏العربية‏ ‏وبها‏..” ‏فهنا‏ ‏تستحق‏ ‏المسألة‏ ‏أن‏ ‏نجتهد‏ ‏فيها‏ ‏ونبذل‏  ‏فى ‏سبيلها‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏تستأهله‏.‏

“…… لقد‏ ‏وجدت‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏معايشتى ‏لتخصصى ‏ولغتى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏ظواهر‏ “تحضر‏” ‏فى ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏بما‏ ‏هى ، ‏بنية‏ ‏مكثفة‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏وعى ‏خاص‏ ، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏البنية‏/ ‏الوعى ‏إنما‏ ‏تحضر‏ ‏بلغتها‏ ‏طبعا‏، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏بمعنى ‏حكى ‏الأعراض‏، ‏وإنما‏ ‏بمعنى ‏الحضور‏ ‏الفعلى ‏لصورة‏ ‏المرض‏  ‏الكلية‏ ‏بما‏ ‏يسمح‏ ‏به‏ ‏تركيب‏ ‏اللغة‏،  ‏ثم‏ ‏تترجم‏ ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏من‏ ‏لغتها‏ ‏الفجة‏  ‏إلى ‏أقرب‏ ‏تعبير‏ ‏علمى ‏يستعمل‏ ‏فى ‏وصفها‏ ‏وتشخيصها‏، ‏فأجد‏ ‏أننا‏  ‏نقترب‏ ‏من‏ ‏التعرف‏ ‏على ‏الظاهرة‏ ‏المعنية‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏صغناها‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏اللغة‏ ‏التى ‏حضرت‏ ‏فى ‏الوعى ‏الخاص‏ ‏بها‏ ‏…..

وبدءا‏ ‏من‏ ‏منطقة‏ ‏بالغة‏ ‏الحساسية‏ ‏شديدة‏ ‏الأثر‏ وهو منطقة العواطف والانفعالات …. ‏سيكون‏ ‏انطلاقى ‏لمناقشة‏ ‏لفظ‏ ‏الوجدان‏ ‏فى ‏أصله‏ ‏اللغوي‏، ‏بالمقارنة‏ ‏بمحاولة‏ ‏اختراله‏ ‏إلى ‏مصطلح‏ ‏علمى(3)، ‏وذلك‏ ‏كمثال‏ ‏لما‏ ‏أعنى ‏من‏ ‏أسبقية‏ ‏الظاهرة‏ ‏الكيانية‏ ‏اللغوية‏ ‏على ‏ما‏ ‏يليها‏ ‏من‏ ‏محاولات‏ ‏علمية‏ ‏إختزالية‏ ‏خاطئة‏ غالبا، ‏كما‏ ‏سأحاول‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏هذا‏ ‏اللفظ‏ ‏ابتداء‏ ‏فى ‏حركته‏ ‏المتشعبة‏، ‏وتوليده‏ ‏المتفجر‏، ‏لإثبات‏ ‏خطورة‏ (‏أو‏ ‏استحالة‏) ‏اختزاله‏ ‏إلى ‏ماهو‏ ‏دونه‏، ‏فضلا‏ ‏عما‏ ‏هو‏ ‏غيره‏، ‏ولعلى ‏بذلك‏ ‏أنجح‏ ‏فى ‏بيان‏ ‏قدرة‏ ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏على ‏الإيحاء‏ ‏بالوافر‏ ‏من‏  ‏التوجهات‏ ‏الواجب‏ ‏الاستجابة‏ ‏لها‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏أريد‏ ‏الاقتراب‏ ‏الأدق‏ ‏من‏ ‏حقيقة‏ ‏الظاهرة‏ ‏البشرية‏ ‏كما‏ ‏أحاطت‏ ‏بها‏ ‏لغتنا‏ ‏القادرة‏.‏

لفظ‏ “‏وجدان‏” ‏هو‏ ‏مصدر‏ ‏من‏ ‏فعل‏ “‏وجد‏” (‏بفتح‏ ‏الجيم‏ ‏وكسرها‏: وجَدَ& وجِدَ) ‏ويختلف‏ ‏مفهوم‏ ‏مشتقات‏ ‏هذا‏ ‏الفعل‏ ‏واستعمالاتها‏ ‏باختلاف‏ ‏رسمه‏، ‏وتشكيله‏، ‏وحرف‏ ‏الجر‏ ‏الملحق‏ ‏به‏، ‏ثم‏ ‏السياق‏ ‏الوارد‏ ‏فيه‏.‏

فهو‏ ‏يتضمن‏ ‏أبعادا‏ ‏متعددة‏ ‏فى ‏مجالات‏ ‏مختلفة‏، ‏لكنها‏ ‏متداخلة‏ ‏بالضرورة‏:‏

‏1 – ‏ففى ‏مجال‏ ‏ماهو‏ ‏انفعال‏/‏عاطفة‏، ‏نجد‏ ‏أنه‏ ‏قد‏ ‏يعنى(4)

‏(1) ‏الحزن‏: ‏وجد‏ ‏فى ‏الحزن‏ ‏وجدا‏، ‏وتوجد‏ ‏لفلان‏: ‏حزن‏ ‏له‏، ‏وبدون‏ ‏حرف‏ ‏جر‏: ‏أنا‏ ‏أجد‏ ‏وجدا‏: ‏وذلك‏ ‏فى ‏الحزن‏.، كما‏ ‏يعنى:

 (‏ب‏) ‏الغضب‏: ‏وجد‏ ‏عليه‏ (‏فى ‏الغضب‏)، ‏فى ‏الحديث‏ الشريف: ‏إنى ‏سائلك‏ ‏فلا‏ ‏تجد‏ ‏علىَ‏، ‏كذلك‏ ‏يعنى:

 (‏جـ‏) ‏الحب‏: ‏وجد‏ ‏به‏ ‏وجدا‏، ‏فى ‏الحب‏، ‏وله‏ ‏بها‏ ‏وجد‏: ‏وهو‏ ‏المحبة‏. ‏وأيضا‏ :

 (‏د‏) ‏الكراهية‏: ‏أوجده‏ ‏على ‏الأمر‏: ‏أكرهه‏.‏

‏2 – ‏وفيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بمعنى ‏المعرفة‏ ‏والتبيّن‏: ‏نجد‏ ‏أنه‏ ‏يستعمل‏ ‏عادة‏ ‏بلا‏ ‏حرف‏ ‏جر‏: ‏وجد‏ ‏زيدا‏ ‏ذا‏ ‏الحفاظ‏، “‏ووجدك‏ ‏عائلا‏ ‏فأغني‏”، ‏وقريب‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏معنى ‏العثور‏ ‏على‏، ‏أو‏ ‏الحصول‏ ‏على: ‏أوجده‏ ‏الشيء‏ ‏جعله‏ ‏يجده‏: ‏يظفر‏ ‏به‏.‏

‏3 – ‏لكن‏ ‏ثمة‏ ‏معنى ‏يتعلق‏ ‏بالإبداع‏ ‏والخلق‏: ‏أوجده‏ ‏الله‏: ‏أنشأه‏ ‏من‏ ‏غير‏ ‏سابق‏ ‏مثال‏، ‏ثم هو‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏الوجود‏ ‏بما‏ ‏هو‏ ‏ضد‏ ‏العدم‏، ‏وَجَد‏: ‏خلاف‏ ‏عدم‏.‏

‏4 – ‏وتمتد‏ ‏المعانى ‏إلى ‏ما‏ ‏يتضمن‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏أكثر‏ ‏عيانية‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالإشارة‏ ‏إلى: ‏السعة‏، ‏والكثرة‏، ‏والبسط‏، ‏ومن‏ ‏ذلك‏: ‏أوجده‏ ‏الله‏: ‏استغنى ‏غنى ‏لا‏ ‏فقر‏ ‏بعده‏، ‏ثم‏ ‏الوجد‏ ‏السعة‏ “‏أسكنوهم‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏سكنتم‏ ‏من‏ ‏وجدكم‏”، ‏وأخيرا‏ ‏فالوجد‏: ‏منقع‏ ‏الماء‏.‏

فإذا‏ ‏كان‏ ‏لفظ‏ ‏الوجدان‏ استطاع ‏أن‏ ‏يحمل‏ ‏كل‏ ‏تلك‏ ‏المعانى ‏فكيف‏ ‏نرضى ‏أن‏ ‏نقصره‏ – ‏حتى ‏كمصطلح‏ ‏علمى – ‏على ‏استعمال‏ ‏أقره‏ ‏المجمع‏ ‏اللغوى ‏اصطلاحيا‏ ‏ليعنى: ‏أولا‏: ‏كل‏ ‏احساس‏ ‏أولى ‏باللذة‏ ‏أو‏ ‏الألم‏، ‏وثانيا‏: (‏يدل‏) ‏على ‏ضرب‏ ‏من‏ ‏الحالات‏ ‏النفسية‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏تأثرها‏ ‏باللذة‏ أو ‏الألم‏ ‏فى ‏مقابل‏ ‏أخرى ‏تمتاز‏ ‏بالإدراك‏ ‏والمعرفة‏ – ‏وما‏ ‏جاء‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏الاستعمال‏ ‏فى ‏الفلسفة‏ ‏لا‏ ‏يستبعد‏ ‏الاستعمال‏ ‏ذاته‏ ‏فيما‏ ‏يسمى ‏بعلم‏ ‏النفس‏.‏

(إن الاقتصار على المعنى المعجمى)…. ‏سيبعد‏ ‏لفظ‏ ‏الوجدان‏ ‏بكل‏ ‏إيحاءاته‏ ‏السابقة‏ ‏وشموله‏ ‏المترامى ‏عن‏ ‏أى ‏معنى ‏سوى ‏هذا‏ ‏التعريف‏ ‏الخامل‏، ‏فهو‏ (‏لفظ‏ ‏الوجدان‏) ‏سينفصل‏ – ‏بذلك‏ – ‏عما‏ ‏هو‏ ‏نبض‏ ‏إنسانى ‏أعقد‏ ‏تركيبا‏ ‏وأشمل‏ ‏إحاطة‏، ‏وأعلى ‏وُلافا‏، ‏ثم‏ ‏هو‏ (‏الوجدان‏) ‏سوف‏ ‏يثلم‏ ‏كأداة‏ ‏معرفية‏ ‏أسبق‏ ‏من‏ ‏واحد‏ ‏مما‏ ‏يسمى ‏تفكيرا‏ (‏تجريديا‏)، ‏ثم‏ ‏أين‏ ‏يذهب‏ ‏تاريخ‏ ‏اللفظ‏ ‏وتوجهاته‏ ‏المعقدة‏ ‏المتضفرة‏ ‏فى ‏ذات‏ ‏اللفظ‏ ‏بين‏ ‏الدفع‏ ‏العاطفى ‏المختلف‏ ‏الإتجاه‏، ‏وبين‏ ‏الإبداع‏ ‏من‏ ‏العدم‏ ‏مغلــفا‏ ‏بالقدرة‏ ‏المعرفية‏ ‏المدركة‏ ‏إدراكا‏ ‏سبقيا‏ ‏متصلا‏ ‏بالسعة‏ ‏والقوة‏ ‏والرى ‏والطمأنينة؟؟‏، ‏ألا‏ ‏يبدو‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏حركة‏ ‏اللفظ‏ ‏كما‏ ‏تجلت‏ ‏لنا‏ ‏مما‏ ‏سجلته‏ ‏بضعة‏ ‏معاجم؟‏ ‏فما‏ ‏بالك‏ ‏بتاريخه‏ ‏الحقيقى ‏حتى ‏تضمن‏ ‏ذلك‏، ‏أفلا‏ ‏يشير‏ ‏ذلك‏ ‏إلى ‏أننا‏ ‏لو‏ ‏رضينا‏ ‏بالاستعمال‏ ‏المعجمى الأحدث‏ ‏للفظ‏ ‏الوجدان‏ ‏بهذه‏ ‏الصورة‏ ‏المختزلة‏ ‏فإننا‏ ‏نتنكر‏ ‏لحقيقة‏ ‏اللفظ‏ ‏وتاريخه  ‏إذ‏ ‏ ‏ ‏نبتعد‏‏ ‏عن‏ ‏الظاهرة‏ ‏التى ‏نشأ‏ ‏أصلا‏ ‏مواكبا‏ ‏لها‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏احتوائها‏ ‏أو‏ ‏الدلالة‏ ‏عليها‏.

 ‏ولا‏ ‏يحتجّ‏ ‏محاور‏ ‏بأن‏ ‏الاستعمال‏ ‏الأدبى ‏والعام‏ ‏شىء‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الاستعمال‏ ‏الفلسفى ‏والعلمى ‏شيء‏ ‏آخر‏، ‏لأنه‏ ‏إذا‏ ‏جاز‏ ‏هذا‏ ‏الفصل‏ ‏التام‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏البحتة‏، ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يجوز‏ ‏إطلاقا‏ ‏فى ‏العلوم‏ ‏الانسانية‏، ‏والنفسية‏ ‏خاصة‏، ‏ثم‏ ‏إننا‏ ‏بهذا‏ ‏الاختزال‏ ‏إنما‏ ‏نلصق‏ ‏لفظا‏ ‏عريقا‏ ‏كلافتة‏ ‏على ‏ظاهرة‏ ‏لم‏ ‏نتبين‏ ‏معالمها‏ ‏أصلا‏، ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏نستلهمه‏ ‏ما‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏فيه‏، ‏لأن‏ ‏اللفظ‏ ‏إذ‏ ‏نشأ‏ ‏وتطور‏، ‏إنما‏ ‏نشأ‏ ‏وهو‏ ‏يلامس‏ ‏ظاهرة‏ حية، ‏ثم‏ ‏هو‏ ‏يحاول‏ ‏احتواءها‏، ‏فيكشف‏ ‏ويكتشف‏ ‏تعدد‏ ‏وجوهها‏، ‏وثراء‏ ‏عطائها‏، ‏فيتحرك‏ ‏فى ‏سياقات‏ ‏متعددة‏ ‏ومتنوعة‏، ‏ثم‏ قد ‏يلحق‏ ‏به‏ ‏حرف‏ ‏مساعد‏، ‏أو قد‏ ‏تسبقه‏ ‏أداة‏ ‏موضحة‏، ‏فيقترب‏ ‏ويبتعد‏، ‏ويجتهد‏ ‏لاحتواء‏ ‏مضمون‏ ‏مناسب‏ ‏لما‏ ‏يريد‏ ‏وصفه‏، ‏ثم‏ ‏يعجز‏ – ‏عادة‏ ‏فتفيض‏ ‏عن‏ ‏حدوده‏ ‏تولدات‏ ‏الظاهرة‏ ‏الأرحب‏، ‏فيلاحقها‏ ‏باستعمال‏ ‏جديد‏، ‏أو‏ ‏يساعده، (أو يحل محله)‏ ‏لفظ‏ ‏جديد‏، ‏وهكذا‏.‏

ولقد‏ ‏قلنا‏ ‏سابقا‏ ‏إن‏ ‏الظاهرة‏ ‏أسبق‏ ‏من‏ ‏تسميتها‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏أسبق‏ ‏من‏ ‏لغتها‏ ‏الأساسية‏، ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏التركيب‏ ‏اللغوى ‏الغائر‏ ‏هو‏ ‏أسبق‏ ‏‏من‏ ‏التحديد‏ ‏اللفظى (‏المعجمى ‏بالذات‏) – ‏ونذكر‏ ‏القاريء‏ ‏هنا‏ ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏التحديد‏ ‏اللفظى ‏المتنوع‏ ‏فى ‏السياق‏ ‏هو‏ ‏أسبق‏ ‏من‏ ‏التحديد‏ ‏العلمى ‏المصطلحي‏، ‏لكن‏ ‏التحديد‏ ‏العلمى ‏فى ‏هذه‏ ‏المنطقة‏ ‏بالذات‏ ‏من‏ ‏العلوم‏ ‏النفسية‏ – ‏يرتد‏ ‏‏بالأثر‏ ‏المختزل‏ ‏والمشوه‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏أشمل‏ ‏لغة‏ ‏وأرحب‏ ‏وجودا‏.‏

……..

وبعد

فقد بلغ من اقتناعى بأهمية ودلالات ما هو “وجدان” أن ضمنته بحروف لاتينية (ما دام ليس له ما يقابله فى لغاتهم) ضمن ما اقترحته من أبعاد Dimensions تضاف لاحقة إلى أى تشخيص تقليدى، والأبعاد التى اقترحتها فى أطروحتى ونشرت فى المجلة العربية للطب النفسى كافتتاحية سنة 1990(5) غير المحاور Axes الموجودة فى التقسيم الأمريكى الرابع حتى الآن، وأرى من المناسب أن أقدم ما كتبته فى مقدمة تقديم هذا البعد على الوجه التالى:

البعد الفرعى الثانى : “وجدانى مقابل لاوجدانى”

 “إن هذا البعد الفرعى فريد، وهو أصيل نسبيا حيث أن مصدره هو الكلمة العربية “وجدان”، وهى كلمة لم أجد لها ما يقابلها فى الإنجليزية، فهى لا تقابل ببساطة ما تعنيه لفظ affect ولاemotion ، وهى أكثر تضمينا لما يعنى نغمة وجودية سائدة بدرجات متفاوتة من النزوع العاطفى بما يشمل توظيفات معرفية وإرادية معا (6).

‏ثم أواصل ما  جاء فى الفرض الأول: إن الحكم على زملة مرضية أنها وجدانية أم “لاوجدانية” لا يعنى العثور ضمن الأعراض على اضطرابات معينة فى مجال اضطراب العاطفة بما يشير إلى غلبة عاطفة معينة لدرجة مرضية. الفصام مثلا، لا ينبغى تصنيفه على هذا البعد أنه وجدانى لمجرد وجود أعراض انفعالات الاكتئاب أو الهوس جنبا إلى جنب مع أعراض الفصام، وإنما هو يوصف بذلك حين يسهل التعاطف (المواجدة) بين الفاحص والفصامى بشكل دافئ وعلى مسافة قريبة متغيرة، والعكس صحيح، فالفصامى فى الأغلب يصنف على هذا البعد أنه “لاوجدانى” لأن تبلده وبروده (الظاهرى) ولا ميالاته تحول دون التواصل وتشيع البرودة فى العلاقة وتتثبت المسافة الهامدة، على نفس القياس يمكن تصنيف حالات البارانويا المزمنة (الضلالات الثابتة المنظومية) على أنها “لاوجدانية” فى الحالات التى تتصف بالجفاف والقسوة والجمود، فى مقابل  حالات البارانويا الوجدانية التى تبتسم وتقترب خفيفة الظل برغم المنظومة الضلالية الثابتة، وحتى الاكتئاب الذى اعتدنا أن نعتبره اضطرابا وجدانيا أساسا، يوجد فيه ما يصنف على هذا البعد على أنه “لاوجدانى”، وهو ما يسمى أحيانا الاكتئاب اللزج Sticky depression، أو الاكتئاب الطفيلىParacytic depression، أو الاكتئاب النعّاب Nagging depression وفيه يحكى المريض عن كآبته، وغمه، وهموده،  وربما ميوله  الانتحارية، بطريقة لزجة اعتمادية مسطحة، فى مقابل “الاكتئاب الوجدانى” الذى يكون فيه المريض متألما ألما حيويا متحركا مُعْديا حتى للفاحص، وهو يحكيه بالألفاظ بالكاد إذا طلب منه، لكنه يعيشه فى صمت وهو يشع منه تلقائيا عادة.

وبعد

كل هذا الاستطراد كان لتبيان علاقتى بما هو “وجدان” تلك الكلمة التى استعملها شيخى محفوظ وهو يكتب: “وقد قرأت ما قرأت بوجدانى، ولم أدرسه”،

 فما علاقة ذلك بالإدراك؟

ألم أعقب على ذلك باحتمال أنه كان يشير إلى نوع من التلقى المبدع، الذى يقوم به الإدراك غالبا، بعيدا عن التلقى “الدراسى” على حد تعبيره، وبالتالى يأخذ شيخنا بيدنا إلى ما نريد توضيحه وهو “علاقة الإدراك بالتلقى المبدع”؟

وإلى الغد نكمل إن شاء الله تعالى. 
 

[1] – ولست متأكدا كيف سيكون الترتيب حين يكون هذا العمل جاهزا فى صورة تسمح بظهوره فى طبعة ورقية

[2] – ولم أحاول أن أعرف ماذا تم فى شأن هذا اللفظ فى إطار المعجم الموسع للعلوم النفسية، هذا النشاط المعجزة الذى يتواصل بروعة وإتقان، والذى لم أستطع أن أساهم فيه لإصرارى على البدء من الممارسة بعيدا عن وصاية المعاجم، لكن استلهاما من أصول لغتى (لغتنا) وهى تحضر فى وعيى ووعى ناسى “هنا والآن”، مع دعواتى للزملاء المجاهدين لإتمام هذا المعجم بالتوفيق بريادة صاحب الفكرة والأفضال أ.د. جمال التركى

وبحق سبق حائزٍ تفضيلا   مستحوذ ثنائىَ الجميلا.

[3] – ‏سبق‏ ‏لى ‏محاولة‏ ‏مراجعة‏ ‏ونقد‏ ‏ثلاثين‏ ‏تعريف‏ (‏بالإنجليزية‏) ‏لما‏ ‏هو‏ ‏انفعال‏، ‏أو‏ ‏عاطفة‏ ‏مبينا‏ ‏قصورها‏ ‏جميعا‏ ‏عن‏ ‏الوفاء‏ ‏بتحديد‏ ‏الظاهرة‏ ‏المعنية‏، ‏وحين‏ ‏لجأت‏ ‏إلى ‏استعمال‏ ‏لفظ‏ “وجدان” ‏تبين‏ ‏لى ‏أنه‏ ‏لفظ‏ ‏أكثر‏ ‏احتواء‏، ‏وأدق‏ ‏نبضا‏ ‏من‏ ‏أغلب‏ ‏الألفاظ‏ ‏المقابلة‏ ‏والقريبة‏ ‏فى ‏لغات‏ ‏أخرى، ‏حتى ‏أننى ‏اقترحت‏ ‏نقله‏ ‏كما‏ ‏هو‏ ‏إلى ‏اللغات‏ ‏الأخرى ‏متى ‏ما‏ ‏نجحنا‏ ‏فى ‏استلهام‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يحدد‏ ‏الظاهرة‏ ‏التى ‏يحتويها‏، ‏أو‏ ‏يشير‏ ‏إليها‏، ‏انطلاقا‏ ‏من‏ ‏موقعه‏ ‏فى ‏لغتنا‏ ‏نحن‏، ‏وحينذاك‏ (‏كما‏ ‏اقترحت‏) ‏سوف‏ ‏يكتب‏ ‏بالإنجليزية‏ ‏مثلا‏ ‏هكذا‏ : Wijdan ‏دون‏ ‏ترجمة: ‏الإنسان‏ ‏والتطور‏ – ‏السنة‏ ‏الخامسة‏ – ‏ابريل‏ 1983 ‏ص‏ 108 – 150‏

[4] – أعتمد‏ ‏فى ‏الرجوع‏ ‏إلى ‏معنى ‏اللفظ‏ ‏هنا‏ ‏وفيما‏ ‏بعد‏ ‏على ‏المعاجم‏ ‏التالية‏: ‏لسان‏ ‏العرب‏ (‏ابن‏ ‏نظير‏)، ‏القاموس‏ ‏المحيط‏ (‏الفيروزبادي‏) ‏أساس‏ ‏البلاغة‏ (‏الزمخشري‏) ‏ثم‏ ‏الوسيط‏ (‏المجمع‏ ‏اللغوي‏).‏

[5] ‏- Rakhawy, Y. T. (1990) Breakthrough The Current Psychiatric Nosology- Part I. The Arab Journal of Psychiatry, 1: 81-.92‏

‏Rakhawy, Y. T. (1990) Breakthrough. The Current Psychiatric Nosology- Part II. Multi-axial vis- a- vis Multidimensional Approach to Psychiatric Nosology, The Arab Journal of Psychiatry,.‏

[6]-  Wijdanic<=>Non-wijdanic‏ dimension

‏This subscale seems to be unique and rather original since it is basically derived from the Arabic word wijdan which has no exact translation to English. It does not simply ‏mean: affect, mood or emotion. It is more inclusive referring to some holistic existential tone with variable affective connotation as well as definite cognitive and volitional implications(Rakhawy, 1987).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *