الأحد: 3-3-2013
السنة السادسة
العدد: 2011
الأساس: الكتاب الأول:
الافتراضات الأساسية (154)
الإدراك (115)
عودة إلى “اضطرابات الإدراك” (15 من ؟)
كيف تتكون الهلاوس (3)
المقدمة:
ننتقل اليوم إلا موضوع يعتبر من صلب السيكوباثولوجيا، (كيف تتكون الأمراض التى تظهر كأعراض) أكثر من انتمائه إلى وصف الأعراض فى ذاتها، وهو ما يسمى “سيكوباثولوجيا أيضا، وقد حاولت أن أميز بين هذه وتلك، فقبلت أن تسمى عملية وصف الأعراض بالسيكوباثولوجيا “الإمراضية الوصفية” Descriptive Psychopathology وأسميت عملية تكوينها لإحداث المرض: (السيكوباثولوجيا) “الإمراضية التكوينية” Formative Psychopathology
وقد فضلت أن أضمّن هنا نظريات وفروض كيفية تكوين الهلاوس حتى تتكامل مع فروض “العين الداخلية“، وأيضا تنويعات كثير من الهلاوس السابق وصفها.
كيف تتكون الهلاوس؟
فيما يلى عرض موجز للفروض الأرجح فى هذا الصدد: وأغلب هذه الفروض على اختلافها مبنية على أساسين رئيسيين:
أ- مدى كفاءة وتلاؤم المعلومات الداخلة فى عملية اعتمال المعلومات Information Processing ، ثم درجة تمثلها وتآلفها
ب- مدى التـناسق والتكامل بين منظومات النفس (الدماغ) المختلفة. (المرادفة لكل من: ا- منظومات الوعى ب- مستويات الوعى جـ ـ حالات الذات ء- الواقع الداخلى …إلخ)
وعادة ما يتضفر الأساسان.
وفيما يلى بعض الفروض المطروحة لتفسير تكوين الهلاوس.
1- الانشقاق الوظيفى: ويعنى الانفصال بين منطقة الحس الأولى ومنطقة الحس النفسى (مثلا بين المنطقة 17، والمنطقة 18 فى االقشرة البصرية)
2- اختلال التوازن بين النشاط الحسى والنشاط الحركي، ويرتبط بذلك:
ا- ظهور هلاوس الحلم خلال النوم النقيضى، نوم الريم (REM)، وما يصاحب ذلك من اختلال التوازن بين النشاط القشرى عامة ونشاط العضلات (كما يظهر فى نقص توتر العضلات مع هذا الدور النشط من النوم)
ب- وهن الترابط association : وقد تدعم هذا الفرض بملاحظة أثر المواد المهلوسة hallucinogen ، ذلك لأنه مع تعاطى حامض الليسرجيك 25 LSD 25 يتعطل أو يثبتط التوصيل بين النيورونات فيحدث الفصل فاختلال التوازن.، وانطلاق المحتويات مستقلة بعد ضعف أو انعدام آلية التوصيل المسئول عن واحدية الأداء فى لحظة بذاتها، ومن ثم يحدث التفكيك بين المستويات الذى على أثره تظهر الهلاوس.
3 – نقص فى الـمُدخل من المعلومات من العالم الخارجى (بلغة اعتمال المعلومات) ويحدث هذا فى الأمثلة التالية:
ا) فى الحياة العادية: أثناء النوم، تطلق الهلوسات فى الحلم نتيجة لانغلاق بوابات الإحساس التى هى مدخل المعلومات الحسية من العالم الخارجى.
ب- نتيجة لتجارب (أو وقائع) الحرمان من المؤثرات الحسية، sensory deprivation هذا وتعتمد نوع ومحتوى الهلوسات الخارجة نتيجة لهذا الحرمان من الإحساس على تكوين الشخص وتنظيماته اللاشعورية ومحتوى عالمه الداخلى (= كل إناء بما فيه ينضح)
جـ- مع نقص مستوى الصحو (الانتباه) مثل:
- حالات الوسن، قبيل النوم Hypnagoguic أو قبيل الاستيقاظ Hypnopompic.
- حالات الهذيان، والخلط، حيث يتغيم الانتباه، بالإضافة إلى تنشيط الداخل
ء- حالات الانفصال عن الواقع نتيجة للانسحاب الذهانى (وظيفيا أو فعليا) حين تقل المعلومات الواصلة للأحاسيس :
(أ) فعلا (إذا كان الانسحاب جسديا واجتماعيا: فى حالة العزلة فى حجرة مظلمة أو شبه معتمة لمدد طويلة) أو
(ب) وظيفيا إذا فقدت المعلومات مفعولها الاتفاقى consensual أو الوظيفى لحمل المعنى، مثل أن تكون مغتربة فى أرضية تواصل فاتر، فيترتب على ذلك أن تنشط معلومات الداخل كنوع من تعويض النقص فى
- استثارة الحس، أو
- تنشيط فعلنة المعلومات وتوظيفها
4– تنشيط المُـخرج من معلومات الداخل نتيجة لفرط نشاط داخلى فى حالات تفسر ذلك مثل :
أ- فرط الانفعال
ب- الحمى
جـ- المنبهات (مثل الأمفيتامينات)
ء – الذهان النشط: مثل حالات الذهان الحادة عموما، والتى تتميز بظهور كل من الهلوسات والضلالات معا فى معظم الأحوال.
نشاط الداخل بسبب عضوى أو وجدانى
5- فشل الإيقاع الحيوى الفسيولوجى، وخاصة أثناء الحلم فى استيعاب حركية الداخل
يقوم الحلم كما ذكرنا بعملية إعادة التشكيل Re-patterning وبالتالى يواصل المخ بكل مستوياته هضم وتمثيل ما لم يتم تمثيله قبلا، فإذا لم ينجح هذا الإيقاع الحيوى الفسيولوجى فى أداء مهمته بانتظام، فإن محتوى الداخل يتراكم ويضغط باستمرار، وهذا المحتوى لا يظهر فى صورته الصريحة عادة، لكن فى الحالات المستهدفة، وفى ظروف خاصة يظهر محتوى الداخل فى شكل هلاوس وبشكل مباشر وهو يعلن ضمنا فشل حركية الإيقاع الحيوى الطبيعى فى تحقيق الهارمونية التناغمية .
تعقيب:
فى كل هذه الأحوال يتم تحريك الداخل حتى بدون وهن التربيط، ويتقافز المحتوى ليخترق قواعد الاستعادة والتفعليل فى عملية اعتمال المعلومات، وتظهر الهلاوس فى وعى اليقظة نتيجة لفرطالتفكيك ونشاط الداخل معا
قراءة فى بعض دلالات الهلاوس
تختلف قراءة الهلاوس باختلاف تمركزها فى الإمراضية وطبيعة المرض الأصلى ومدة المرض واستتبابه ثم مصاحباتها
1) فقد تكون أولية، حين تكون هى التى تستدعى أعراضا أخرى لتدعمها وتفسرها، مثل الضلالات المتسقة معها، مثل أن يسمع الشخص أصواتا تسُبّه أو تعايره بنقص رجولته، فينظم حولها منظومة ضلالية مناسبة بأن بعضهم قد عمل له سحرا وهو السبب فى كل ذلك ..إلخ
2) وقد تكون ثانوية، مثل أن يبدأ ضلال الاضطهاد والتصنت بآلات التجسس المعلقة فى سقف المنزل أو فى الحمام، ثم بعد ذلك يبدأ يسمع المريض أصوات تركيب هذه الآلات عقب دخوله أماكن التصنت المعينة من المنظومة الضلالية
3) وقد تكون فى صورة تحقيق رغبة مثلما يحدث فى أحلام اليقظة أو الحلم العادى، مثل أن ترى المصابة بهوس العشق معشوقها رأى العين، وفى هذه الأحوال لا بد من محاولة التأكد من طبيعة الهلاوس لأن مثل هذا المحتوى قد يكون أقرب إلى الصور التخيلية كما ذكرنا
4) وقد تكون تفعيلا لتثبيت صدمى تم فيه نوع من الطبع imprinting المُقحَم الذى لم يـُتمثل فى حينه بدرجة كافية، فظل مثل الجسم الغريب الذى لم ينجح فى هضمه الاجترار أثناء نشاط نوم الريم التنظيمى والإبداعى، ولم يكف لاحتوائه وتمثله أن يظهر فى شكل حلم متكرر
5) وقد تكون الهلاوس ذات دلالات تعويضية، بمعنى أن تظهر لتعوّض استقبال المريض لما يصله من معلومات (متضمنا العواطف والمعانى والوعود..إلخ) أنه غير صادق، وبلا معنى، ولا جدوى له فى تحقيق أساسيات تواصله ووجوده، فيصبح كأنه نوع من من “الحرمان من المعنى “meaning deprivation”، الذى يكاد يكافئ “الحرمان من الإحساس” Sensory deprivation، وبالتالى يتحرك العالم الداخلى ليعوض هذا النقص وينشىء عالما من الهلاوس لعلها تعوض (تؤدى الواجب)، مما يشير إلى أن المهم هو تناسب “معاني” المعلومات “ووظيفتها” لاحتياجات الجهاز المخى فى مرحلة معينة من نشاطه، فإذا لم تف المعلومة – من الخارج – بهذا الاحتياج، تخلخل جهاز الأستقبال، ومن ثم أثار تعتعه المعلومات المخزونة، وتحركت لتغذى هذا الأحتياج من الداخل، حتى يظل هذا الجهاز محافظا على توازنه، بغض النظر عن الناتج المرضى الذهانى عادة، ومن هذا المنطلق تقوم أغلب الهلوسات بصفة عامة – وفى حالات البارانويا خاصة – بوظيفتها التماسكية من خلال ثلاث عمليات:
أ- أنها تعوض الجهاز المخى وتوفر له احتياجاته من “كم” المعلومات المطلوبة لكفاءة تماسكه الداخلى ولو على مستوى مرضى.
ب- أنها تفرغ المحتويات المشحونة القابلة للتعتعة بحيث لا تهدد بالتناثر إذا استمر شحنها ضاغطا ضغطا عشوائيا فى الكتلة المخية من الداخل.
ج – أنها تؤكد معتقدا خاطئا وتثبته باعتباره مدركا حيا بحيث يسهم – مثل الضلال – فى دعامة الشخصية وتأجيل – أو إلغاء- التدهور نحو التفسخ فالضمور
تطور طبيعة الهلاوس مع الإزمان خاصة
تتوقف طبيعة الهلاوس أيضا على المرحلة التى تظهر فيها، وما يصاحب ذلك من مدى النشاط النيورونى الحيوى من ناحية فى مقابل مدى تناولها بالحيل العقلية لتحويلها من خبرة معيشة إلى ما يقرب من تخليقها بخيال معقلن، وهذا المسار ليس واقعا حتميا بالضرورة، فقد يتوقف المسار عند أية مرحلة، فمن الجائز مثلا أن يحل عالم الهلاوس محل الواقع تماما لمدد طويلة، دون أن ينتقل كلية إلى الصور التخيلية، كما قد تتذبذب النوعية على مدار المسار تبعا لنوبات الطباق وفترات الإفاقة، لكن بصفة عامة يمكن تمييز نوعية الهلاوس من حيث النشاط والإزمان على الوجه التالى:
1) فى البداية النشطة للذهانات تكون الهلاوس حقيقة بيولوجية معيشة، إذ أنها عادة ما تعنى فى هذه الحالة أن مستوى من المخ يستقبل مستوى أخر قد تـُعْتِع Dislodged ثم تباعد حتى “الملخ” Dislocation , فاستقبل أحد الأمخاخ وجود نشاط مخ آخر على مستوى حسى يسمى الهلوسة
2) أما فى حالات الذهان المستقر المستتب (حالات البارانويا الهلوسية المزمنة مثلا), فإن الهلاوس تصبح -كما ذكرنا- اقرب إلى الصور التخيلية، وأحيانا تقترب من الضلالات من خلال العقلنة المرضية. وهذه الحالات الأخيرة تستعمل الحيل النفسية بإفراط وخاصة التخيل والإزاحة، وقد لا تظهر المنظومة الهلوسية التخيلية إلا فى حالات حالة خاصة من الوعى حتى تقترب بذلك إلى درجة من الأنشقاق بحيث يمكن أن تقارب درجة تشبه العصاب الأنشقاقى (الهستيرى) بوجه خاص .
****
وننتقل الأسبوع القادم إلى “ملاحظات تطبيقية” لبعض هذه الفروض أثناء العلاج