الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى العلاج الجمعى (22) علاقة هذا العلاج بالدين والإيمان (كثقافة) (وهامش عن علاقته السياسة)

الأساس فى العلاج الجمعى (22) علاقة هذا العلاج بالدين والإيمان (كثقافة) (وهامش عن علاقته السياسة)

نشرة “الإنسان والتطور”22-4-2013_1

الأثنين: 22-4-2013

السنة السادسة

 العدد: 2061

كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (22)

علاقة هذا العلاج بالدين والإيمان (كثقافة)

(وهامش عن علاقته السياسة)

مقدمة

ثقافتنا المصرية، وإلى درجة لا أعرف مداها: العربية، شديدة الارتباط بما جاء فى هذا العنوان، وقد كان العنوان الأصلى فى الكتيب “المقدمة” هو: “علاقة هذا العلاج بالسياسة والدين”، وبعد كلمة موجزة عن السياسة – سوف أنهى الآن هذه النشرة بها- ألمحت فى ذلك الكتيب إلى مسألة الدين فى ثقافتنا من أبعاد أربعة هى: (1) التصوف ومسيرة النمو الفردى، (2) والتصوف الجماعاتى (الطُّرُق) (3) والدين التواصل (المعاملة) ثم (4) الفرق بين التدين والإيمان، إلا أننى انتبهت الآن إلى أن كل هذا وغيره يندرج تحت ما يمكن أن نتعرف عليه كثقافة شعبية تدينية إيمانية لها حضورها الفاعل طول الوقت فى وعى المشاركين معالجين ومرضى.

أشرت فى مقدمة هذا العمل أننى تعرفت على ثقافة ناسى من خلال هذا العلاج أكثر مما تعرفت عليها عضوا فى لجان المجلس الأعلى للثقافة، أو من قراءاتى أو خبراتى الشخصية الطويلة، ثم إن الشريحة الاجتماعية التى اشتغلت معها هذا العلاج طوال هذه السنوات البضع وثلاثين سنة كانت من الطبقة الوسطى (الشريحة المتوسطة والأدنى) وما تحتها حيث يمارَسَ هذا العلاج فى قسم الطب النفسى قصر العينى بالمجان، وقد وصلنى عن ثقافتنا من هذه الشريحة بالذات عن هذا البُعْد بوجه خاص ما هو هام، ودال:

لاحظت فى بلدنا هذا أثناء ذلك، وغير ذلك أن ممارسة العلاج عامة، والعلاج النفسى خاصة والعلاج الجمعى بدرجة أكثر تخصيصا مرتبطة أشد الارتباط بهذا البعد الثقافى من حيث الدين (فالإيمان أو: والإيمان) هو من أهم، إن لم يكن أهم، مكونات هذه الثقافة ظاهرا وباطنا، بغض النظر عن الالتزام بالتفاصيل!.

عبر نصف قرن، تكونت لدىّ فروض من واقع هذه الممارسة بوجه خاص، وأيضا من واقع تعرية وعيى فى مواجهة وعى مرضاى عموما، وبوجه خاص المرضى الذهانيين فى طور النشاط، تكونت فروضى متلاحقة، تبدو متكاملة، عن مستويات الوعى من ناحية، ومسيرة النمو الفردى فيما بينها إلى ما هو الوعى مفتوح النهاية من ناحية أخرى، وعلاقة هذا وذاك بالبيولوجى والإيمان، هذا بالعرض، أما بالطول فقد وصلتنى أكثر وضوحا وتكاملا جوهرية موقع “الإيقاع الحيوى” عبر تاريخ التطور توازيا مع مسيرة “النمو العلاجى” (تلخيصاً، وإعادة، واستعادة: رحلات النمو والتطور) كل ذلك وأنا أشارك وأتابع وأساهم فى تكوين ما أسميته “الوعى الجمعى”من خلال نشاط هذا العلاج: المجموعة تلو الأخرى. من هذا المنطلق تعرفت على الفرق بين “مسيرة الإيمان” وبين “معتقد التدين”، واهتممت أكثر بالأولى (مسيرة الإيمان) باعتبار أنها أقرب إلى التعامل مع “الإدراك” ومع “النمو المتواصل عبر الإيقاع الحيوى” عبر برنامج (أو برامج) الدخول والخروج.

كل هذا يحتاج إلى عودة منهجية تفصيلية مستقلة لا مجال للاستطراد إليها الآن، لكن كان من اللازم أن أشير إلى هذا البعد من حيث أنه يميز ثقافتنا بوجه خاص، وهى حاضرة طول الوقت فى ممارسة هذا العلاج الجمعى هكذا، وذلك حتى أعود إليه فى عمل مستقل متى سنحت الفرصة.

الخطوط العريضة لهذه الثقافة أثناء ممارسة هذا العلاج وحولها:

أولا: إن الغالبية العظمى من مرضانا يتعاطون العلاج، بكل أشكاله، فى مجال الطب النفسى وغير النفسى (بما فى ذلك الجراحة!!) فى عمق معين من وجودهم بقين مختلف الدرجات: أن “الله هو الشافى” بغض النظر عن نوع دينهم أو نوع مرضهم كما ذكرت.

ثانياً: إن هذا الاعتقاد ليس له علاقة مباشرة، فى أغلب الأحوال، بالعلاج الدينى (بالقرآن مثلا أو الرقى الشرعية أو المباركة الكنسية). بل إنه يمثل خلفية ثقافية فى كل الممارسة الطبية المهنية فى بلدنا بشكل عام، حتى لو لم نتحدث عنه أو نذكره صراحة.

ثالثاً: إن هذا الاعتقاد ليس معتقدا فكريا نظريا، ولكنه يقبع فى مستوى وعى غائر أشمل وأعم يمثل ما هو ثقافة عميقة “وشاملة” فى نسيج الوعى العام بشكل أو بآخر.

رابعاً: إن هذه الأرضية الثقافية ليس لها علاقة مباشرة، أو تناسب طردى، مع أداء العبادات اليومية، ولا مع الإلتزام بزى معين (مثلا: الحجاب أو النقاب للإناث) أو بمظهر معين (مثلا: إطلاق اللحى للرجال).

خامساً: بالرغم من ذلك، فإن استعمال الأبجدية الدينية، واللغة الدينية عامة أثناء العلاج، يظل طول الوقت محدودا، اللهم إلا إذا تطرق إليه المعالج عفوا، لكننا كنا سرعان ما نتحول عنه بحسم (أنظر بعد).

سادساً: إن السماح بالاختلاف شكلا وموضوعا كان ظاهرا وغالبا، وبرغم ندرة عدد المشاركين المسيحيين إلا أن الاختلاف فى درجة الإلتزام الدينى التقليدى لم يكن مطروحا للمناقشة ولا كان حائلا دون عمق التواصل طول الوقت.

سابعاً: حين كنت أضطر إلى استعمال اللغة الدينية من أبسط صور حضورها مثل “ربنا موجود” إلى أعمق احتمالات تجلياتها، مثل مخاطبة ربنا “هنا والآن” بضمير المخاطبْ: مثلا أثناء لعبة من الألعاب” كنت أسارع بالتنبيه إلى أننى أشير إلى ربنا الحاضر معنا فى جلسة العلاج، وليس إلى أى افتراض مغترب أو تجريدى أو ميتافيزيقى، ولم يعترض أحد من المتشددين طوال هذه السنوات، ولم يبتعد عن “هنا والآن”، ولا عن زملائه والمعالجين، بل كان العكس هو الذى يحدث حين تنجح المجموعة فى استحضار هذا الوعى الجمعى التصعيدى “إليه” بهذا الأسلوب المباشر.

ثامناً: تطور بى الأمر فى الأربع سنوات الأخيرة-تقريبا- إلى التعامل المباشر مع كتلة الوعى المتكونة فيما بيننا، فى وسطنا عادة، وهى التى عادة ما تتجدد رأى العين فتقوم بدور أكبر فى توثيق التواصل بين أفراد المجموعة، حتى أننا كنا نستعمل أحيانا تعبير “اجتمعوا عليه وافترقوا عليه”، ونستلهم منه كيف أننا نلتقى حول ما هو مشترك، وحين نفترق إلى الأسبوع التالى، نفترق على ما هو مشترك أيضا تحت مظلة واسعة ممتدة تشمل الجميع دون ترتيب محدد، وذلك دون إحالة دينية تفسيرية مباشرة.

تاسعاً: كانت الحاجة إلى هذا التجمع الضام حول التخليق المركزى للوعى الجمعى، تظهر أكثر فى مواقف عدم الأمان، فيتم استحضار هذا الوعى الجمعى مع احتمال تصعيده إلى ما بعده حاضرا، دون ألفاظ دينية عادة، ولكنا كنا نتبادل بعض الإشارات المحدودة إلى احتمال ارتباط ذلك بالوعى الفوقى فالفوقى… دون ذكر حدوده ولا إحالته للدين أو الإيمان بشكل مباشر.. الخ.

عاشراً: تأكد الشعور بهذا الرابط المشترك الأعظم (الوعى الجمعى) تدريجيا مع ممارسة التدرج فى توثيق تلك الوصلة التى تضمن فاعلية التواصل مع وعى أبقى وأوسع إحاطة وأكثر شمولا: يضم كل أفراد المجموعة غالبا، وهذا التواصل “بالعرض”، والمحتمل تصعيده “طولا” كان يبدو الأقرب إلى هذا البعد الثقافى الإيمانى الحاضر تحت سطح الوعى الظاهر معظم الوقت.

حادى عشر: بدا أن مقياس حضور الآخر فى الوعى يتوقف بدرجة جوهرية على حضور هذا الرابط المشترك الأعظم الذى ينتمى فى ثقافتنا إلى ما هو “الله” بشكل أو بآخر، دون تسميته كذلك بالضرورة.

ثانى عشر: لم ينفصل ذلك عن إبداعية الوعى الثقافى الشعبى المرتبط بالدين الشعبى، مثل “أن الناس لبعضها و”إن الجنة من غير ناس ما تنداس“…إلخ

ثالث عشر: لاحظنا أنه كلما زاد الانتماء إلى هذا الوعى الجمعى (فى المجموعة) تراجع الاحتياج اللحوح إلى المبالغة فى التمسك بالعلاقات الثنائية المعطلة (الثنائية Pairing أو الطرح Transference)

رابع عشر: بدا أن الأمر لا يتعلق بدرجة التزام المعالج الدينية شخصيا بقدر ما يتعلق بموقفه من الممارسة الجماعية وحضور هذا البعد الثقافى فى طبقات وعيه المختلفة.

خامس عشر: ندر حتى كاد لا يظهر أبدا أى استشهاد بنصوص دينية محددة مثل الاستشهاد بآية قرآنية بذاتها أو حديث نبوى أو مقولة مقدسة، سواء من المعالج أو من المشاركين، بل إن مثل هذه الاستشهادات إذا ما ظهرت مصادفة كانت تحَجّم فورا، وأحيانا يرفض التمادى فيها أو العودة إليها ما أمكن ذلك.

سادس عشر: وصلتنى شخصيا علاقة وثيقة بين حركية النمو التى أشرنا إليها بوضوح فى تناولنا لحركية تكون الديالكتيك المتصاعدة، وبين التواصل الحركى والإيقاعى مع هذا الوعى الجمعى فى حركته التصعيدية إلى وعى أشمل فأشمل دون استعمال اللغة الدينية مباشرة.

سابع عشر: توصلت إلى فروض لا أريد أن أتطرق إليها هنا الآن خشية سوء الفهم نتيجة الاختزال، لكننى أشرت إليها فى تناولى لحركية “الديالكتيك” من حيث أن حركية التصعيد بالولاف الأكبر فالأكبر نحو الواحدية من خلال ديالكتيك التعددية فالتشكيل يكاد يكون موازيا للنمو الارتقائى المسمى عند بعض الصوفية “الكدح” للوصول إلى ما يشبه الوجود شبه الآلهى، وقد حذرنا من استعمال مثل هذه اللغة كما فعل أبراهام ماسلو، حتى لا نُستدرج إلى ما شطح إليه بعض المتصوفة حتى كُفِّروا.

ثامن عشر: بدا أن برنامج الدخول والخروج In – and – Out Program سواء فى العلاقات الثنائية عبر هذا الوصل الثقافى (الإيمانى) أو فى علاقات الذهاب والإياب من وإلى الوعى الجمعى الذى يتكون وسط المجموعة وبها بالتدريج، بدا أنه الأكثر تناسبا مع ما تتجلى به الطبيعة البشرية فى ثقافتنا فى مسارها المنتظم بين الوعى الشخصى والوعى الجمعى فالوعى الكونى بما تسهله العبادات الراتبة المتناغمة غالبا مع الإيقاع الحيوى الشخصى والإيقاع الحيوى الكونى بشكل أو بآخر.

تاسع عشر: كنا – ومازلنا – نتجنب فى المناقشات بعد كل جلسة علاجية، وهى مناقشات منتظمة تعليمية تدريبية، كنا نتجنب الحديث عن الحلال والحرام، وأيضا نتجنب محاولة الخوض فى أية تفسيرات دينية تقليدية أو إدعاء تفسير الجارى بنصوص بذاتها دون رفض احتمال الربط التلقائى فى التلقى بين الوعى الجمعى والتصعيد الواقعى المحتمل “هنا والآن” ولكن دون مناقشته أو تفسيره أو الاحتجاج به.

عشرون: لم يحدث أى تعارض بين بعض اللغة الدينية المستعملة أحيانا (اضطرارا) وبين بعض مفاهيم التطور التى أنتمى إليها والتى كانت تعرض فى المناقشات بعد كل جلسة.

وبعد

أعتقد أن هذه الممارسة وتطورها بهذه الصورة لها علاقة بفروضى المتعددة حول هذه المسألة مثل فروضى عن “الأسس البيولوجية للإيمان” “والغريزة التوازنية الممتدة” “والموت كنقلة من الوعى الشخصى، إلى الوعى الكونى” وأيضا عن كثير مما ورد فى “ملف الإدراك” مما قد أعود إليه مستقبلا.

هامش عن السياسة:                                        

فى إيجاز أقول: إن من يمارس هذا العلاج (معالجاً أو متعالجاً) لا يستطيع بحال أن ينسلخ عن التفاعل السياسى اليومى، إلا أننا لاحظنا أن بعض ممارسى العمل السياسى من أفراد المجموعة أو غيرها قد يتخذونه مهربا فرديا من مواجهة مشكلة وجودهم ومسؤولياتهم على أرض الواقع بالنسبة للعمل الجماعى الذى هو محور السياسة – وقد نوقش هذا الاحتمال فى إحدى جلسات هذا البحث (الكتيب الباكر).

وفى نفس الوقت فإن العكس وارد بمعنى أن بعض الذين يركزون على هذا العلاج يفعلون ذلك من بعد سياسى تكميلى بمعنى أنهم قد يعتبرونه نوعا من التدريب على الانتماء للجماعة الأصغر فالأكبر حتى تعم الوطن (وأحيانا الأوطان)، فهى السياسة.

وعموما فإن هذا العلاج مرتبط بعموم الناس أشد الارتباط، ولكنه ليس عملاً سياسياً فى ذاته، برغم أنه يسهم فى العمل السياسى بطريق غير مباشر إذ هو بمثابة إعداد إنسان قادرا على الحكم الموضوعى، والاختيار المسؤول، والمساهمة اليومية باللغة العادية المتواضعة، وقد انتبهنا ألا يدفع هذا العلاج بنا وراء وهم طوبائى مثل الذى أغرى “إريك فروم” فترة من الزمن حين تصور أن إعداد الساسة ينبغى أن يتم من خلال كوادر علاجية، حتى لا نتيح الفرصة لهارب فى السياسة من أزمة وجوده أن يستولى على سلطة تسمح له بتشوية نفسه والناس.

 لكننا ظلنا نأمل طول الوقت أن يمثل هذا العلاج نوعا من الأمل فى اضطراد النمو البشرى أفراد فجماعات الأمر الذى يتيح فرصا أكبر لمشاركة كافة مستويات الوعى فى اتخاذ القرار وتحمل المسئولية ولو فى المستقبل البعيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *