نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 7-4-2013
السنة السادسة
العدد: 2046
كتاب: الأساس فى العلاج الجمعى (16)
علاقة هذا العلاج بأنواع العلاج الجمعى الأخرى: (؟)
(؟) التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis
مقدمة:
تناولنا فى النشرة السابقة العلاج الجمعى الجشتالتى بإيجاز شديد، وكذا سوف نتناول اليوم العلاج من منظور مدرسة التحليل التفاعلاتىTransactional Analysis
الواقع أننى بدأت هذه الخبرة فى العلاج الجمعى متأثرا بهذه المدرسة ، من الناحية النظرية على الأقل، بشكل مباشر، ولم أكن قد قرأت عن إسهاماتها فى العلاج الجمعى (1) بوجه خاص، وإنما كنت مشدودا بشكل أكثر لنشأة هذه المدرسة من الحدس المباشر لصاحبها، ومن بساطة واستقامة لغتها، ثم من إمكانية تطبيق بعدها التركيبى: التحليل التركيبى Structural Analysis بشكل مباشر دون الحاجة إلى كل ما يحتاجه التحليل النفسى التقليدى، وقد بلغ من فرط مباشرتها وبساطتها أن أسىء فهمها كما أسىء استعمالها فى العلاج وغير العلاج.
فكرة تعدد الذوات فكرة مباشرة وذكية ، يؤيدها التطور والتاريخ والتطبيق جميعا، ومن فرط حماسى للفكرة ، كان من السهل عمل انشقاقات بين ذوات الفرد فى كثير من المواقف فى خبرتنا الباكرة فى العلاج الجمعى منذ أوائل السبعينيات، إلا أن حماس الشباب الذين اشتركوا فى تجربة المتطوعين حول هذا التاريخ وكانوا طلبة من كلية الطب جعلت هذا الانشقاق أغلب ما يكون بين الذات الطفلية فى مواجهة الذات الوالدية ، وكنا نفرح حين تنتصر الأخيرة على الأولى (الذات الطفل على الذات الوالد) فى كثير مما يجرى فى السيكودراما، أو المينى دراما التى تجرى وإلى درجة أقل فى الألعاب. انتقل هذا التحيز وهذا الحماس إلى خبرتنا فى علاج المرضى بشكل واضح، وإن كان أقل تصفيقا وأقل دعما للذات الطفل.
مع تعميق الخبرة فى مجال العلاج الجمعى تحديدا والنظر فى نتائجها بدءا من مجموعة الطلبة التجريبية، امتدادا إلى المرضى، ومع مرور الزمن والتتبع لكثير من الحالات التى شاركتنا هذه المحاولات البادئة ، اكتشفت أن تجارب الانشقاق واللعب والدراما على أساس هذا التقسيم الثلاثى كانت لا تنتهى بولاف جديد كما نرجو، كما أننا لم نكن ندعو – الذات اليافع (Adult Ego State)، إلى المشاركة للتصالح والتوفيق ثم التناسب والإبدال، أو للولاف والنمو معا، ومن ثم كانت النتائج تسير فى اتجاه نوع خاص من التلوث التلفيقى الذى وصفناه وليس الذى وصفه إريك بيرن أو بيرلز، وكان الناتج نوعا من “اضطراب الشخصية” بها معالم كثيرة من النكوص والبعد النسبى عن الواقع، كل هذا جعلنا نتراجع ونقلل من هذا الاندفاع فى نفس الاتجاه.
ثم إنه بتقدم الألعاب والمنيدراما تبينا كيف أن تعدد الذوات لا يقتصر على هذا الثالوث، بل يمتد إلى ما يقابل ما اسماه إريك بيرن “وحدات الذات” Ego Units ، ومع تقدمنا أكثر فى التعرف على ماهية تعدد مستويات الوعى (بما يقابل أحيانا تعدد العقول بلغة دانيال دنيث) استطعنا أن نوسع قاعدة الانشقاق إلى ما تجاوز هذا التثليث التفاعلاتى، حتى وصلنا الآن (2013) إلى ندرة السماح بالأنا الطفلية أو الوالدية بالمثول فى المينى دراما إلا لضرورة ترتبط بإمكانية احتواء أى منهما فى الكل النامى.
لغة ومبادىء مدرسة التحليل التفاعلاتى:
بصفة عامة فإن لغة هذه المدرسة يمكن إيراد رؤوس مواضيعها كالتالى:
(1) التفاعلاتية Transactions ، وهو ما اشرنا إليه حالا من أن الحوار بين اثنين هو فى واقع الحال حوار بين ستة، ويمكن تحليل ذلك فى أى مقطع تفاعل
(2) اللعبة The Game(الدور) وتشير إلى سلسلة من النقلات بين حالات الذات تفاعلاتيا، لكن ليكون دورا قابلا للتحليل فإن الذات الظاهرة (على السطح) عادة ما تخفى الذاتين الأخريتين
(3) النص Script وهو يشير إلى برنامج مزروع منذ الطفولة على مستوى الوعى غالبا يرسم خطة لحياة الفرد بشكل أو بآخر، ويقول بيرن أن هذا البرنامج هو الذى يحدد معظم أنواع تفاعل الفرد طوال عمره، ويوجز تصنيفات البرامج الأساسية باسم “مواقع” على الوجه التالى:
- أنا على صواب، وأنت كذلك ( الموضع الصحّى)
I am O.K. you are O.K. (Healthy position).
- أنا على صواب وأنت على خطأ (الموضع البارنوى)
I am O.K. you are not O.K. (Paranoid position).
- أنا على خطأ وأنت على صواب (الموضع الاكتئابى)
I am not O.K. you are O.K. (Depressive position).
- أنا على خطأ وأنت على خطأ (الموضع الشيزيدى).
I am not O.K. you are not O.K. (Schizoid position).
ويمر العلاج التفاعلاتى عموما بخطوات متتالية فى العلاج النفسى كالتالى :
1) التحليل التركيبى Structural Analysis: وهو بمثابة تخطيط فرض إمراضى من واقع التشريح التركيبى لحالات الذات وعلاقتها ببعضها البعض بما يسمح بالتحليل التفاعلاتى .
2) التحليل التفاعلاتى Transactional Analysis: ويعنى به بيرن تفعيل هذه العملية بفض التلوث، وتحديد الحدود بين الذوات، ومنع توْه الطفل (الذات الطفلية) وحل الصراع بين الطفل والوالد وترجيح قيادة الذات اليافع معظم الوقت ، وبعد هذه المرحلة يمكن أن يتواصل التحليل النفسى أو التحليل التفاعلاتى (حسب بيرن!!)
3) تحليل “الدور” (اللعبة Game) وهى خطوة تكميلية يقوم بها المعالج أو المريض، بل كلاهما بعد التفاهم على اللغة، بعد القبول المبدئى بفروض التحليل التركيبى.
4) تحليل النص Scrip : عادة لا يظهر النص بوضوح إلا فى مرحلة متأخرة من العلاج (بعد عدة جلسات من العلاج الجمعى مثلا) ، وعموما فإنه يمكن تحقيق تفوق الذات اليافع قبل أو حتى بدون تحليل النص
وخلال كل ذلك يستعمل المعالج كلا من:
- الأسئلة
- والمواجهة
- والشرح
- والتوضيح
- والتأكيد
والهدف عموما من هذا العلاج هكذا هو الوصول إلى مرحلة التفاعل بلا حاجة إلى لعب الأدوار Game Free Existence، فإن كان ذلك مستحيلا، وهو كذلك فى كثير من الأحيان، فيمكن الرضا بمرحلة يمكن للشخص فيها أن يحذق اختيار “الدور” الذى يلعبه ويحسن أداءه.
التعقيب:
بعد ممارستنا المحدودة لبعض هذه القواعد ، وبصفة عامة كانت لنا مواقف نقدية بلغت حد الرفض إزاء هذا الأسلوب العلاجى وبعض التنظير لهذه المدرسة، نورد أهمها كما يلى :
1) أسمى إريك بيرن، ولو عفوا، أن هذا العلاج هو “العلاج بالكلام” Treatment by Talk وفى خبرتنا لم يكن الأمر كذلك تماما، فالكلام يكاد يفقد أولويته فى التفاعل فى العلاج الجمعى، برغم أنه الوسيلة الأوضح والأسهل، فنحن فى العلاج الجمعى نعتبر الكلام “وسيلة للشغل” ونبدأ الجلسة كما أشرنا سابقا بالتساؤل : مين اللى عايز يشتغل” وليس “مين اللى عايز يتكلم”، ثم نحاول فى معظم المواجهات والتفاعلات أن ننبه إلى التعبير بأكثر من قنوات للتواصل، بدءا بالوجه والجسد، وليس انتهاء بالإشارة البديلة التى نعتبرها نوعا من الكلام.
2) نحن لا نعتبر أن التحليل التركيبى خطوة نحو العلاج التحليلى النفسي ، بل إن ثمَّ تعارض جذرى بين الطريقتين، ربما لاعتماد التحليل النفسى على الكلام ، فى حين اعتماد العلاج الجمعى (كما نمارسه) على غير ذلك، حتى يصبح الكلام غير ذلك
3) نحن نستعمل التحليل التركيبى كقاعدة تقريبا، بعد توسيع مفهوم تعدد الذوات معتمدين على تحديد الذوات بما يقابل الأمخاخ تطوريا، فعندنا المخ قبل العدوانى المتفرد (الذات الشيزيدية) والمخ البارانوى (الذات الهروبية العدوانية = الكر/الفر)، والمخ الاكتئابى (العلاقة البشرية الصعبة الضرورية بالموضوع) ثم الذات العادية (أو العصابية أو فرط العادية بدرجات متفاوتة من استعمال ميكانزمات التكيف حتى الامتثال)، وكل ذلك يمكن رسمه بقطاع مستعرض فى الشخصية، سواء قبل العلاج النفسى أو بدونه، ويفيدنا كل ذلك ليس فقط فى العلاج النفسى، أو العلاج الجمعى، وإنما فى رسم الإمراضية لأى مريض من البداية، الخطوة التى هى نعتبرها أهم من لافتة التشخيص فى التخطيط العلاجى والمتابعة.
4) نحن نحترم فكرة ما هو برنامج ممتد موجه “نص” script (خطة حياة) لكن نختلف مع هذه المدرسة فى كل التفاصيل كما يلى:
* نولى اهتماما بالغا بالبرامج الوراثية، ليس بمعنى وراثة مرض بذاته، وإنما بالبحث عن أى نص (برنامج بيولوجى يمكن أن يورث مثل: (القابلية المفرطة للإيقاعية النوابية، أو مثل الاستهداف للتفكك، أو مثل الميول التوجسية..إلخ) ، ويمتد احترامنا لهذه البرامج إلى النظر فى أثر التنشئة الباكرة فيها حتى تكوين الشخصية فى كل مرحلة من مراحل النمو، ويتغير النص تلقائيا فى النمو السليم مع كل مرحلة نمو ونضع ذلك فى الاعتبار باستمرار.
* لا نعتبر أن “النص” تكوّن شعوريا أثناء الطفولة كما تصور إريك بيرن، فهى مزروع وبيولوجى وغائر، وجزء كبير منه لاشعورى ويعتبر من سمات الشخصية السوية أو غير السوية
* لا يقتصر النص – إذن – على هذه الأوضاع الأربعة التى وضعها إريك بيرن، وقد وجدنا أنها مرتبطة بثقافته الغربية بشكل ما، حتى أننا قمنا بتعديلها من واقع خبرتنا بما يجرى فى ثقافتنا، مع أننا لا نلجأ إلى استعمالها، لا فى التوصيف الإمراضى التركيبى (التحليل التركيبى)، ولا فى العلاج النفسى الفردى أو الجمعى، ومع ذلك نورد التحويرات المقترحة التى قد تتفق أكثر مع ثقافتنا وخبرتنا أو ما نأمله فى ثقافتنا بشكل أو بآخر
نحن نعتبر النص Script برنامجا بيولوجيا يشمل تشكيلات نيورونية، وداخل خلوية مزروعة فينا من قبل أن نولد، وهى برامج بيولوجية قابلة للتطوير كما أنها قابلة للتشويه، وهى نشطة على مستوى اللاوعى غالبا، لكنها تتجلى فى السلوك وفى نوع الشخصية أساسا، ثم تظهر فى المرض بتحوير شديد حسب مسار المرض ونوع العلاج ، وفيما يلى ما نقترحه من تعديل:
- أنا على صواب وعلى خطأ، وأنت على صواب وعلى خطأ (الموقف الصحّى)
- أنا على صواب وأنت على خطأ (الموقف البارنوى)
- أنا على خطأ وأنت لست كذلك وأحتاجك (الموقف الاكتئابى)
- أنا على خطأ وأنت كذلك، ولا يحتاج أى منا للآخر (الموقف الشيزيدى).
وبالرغم من ذلك فنحن لا نستعمل هذه النصوص أصلا، مكتفين بالتعامل مع حالات الذات باعتبارها أمخاخا بيولوجية، وحسب علاقتها بالموضوع (تطوريا وحسب مدرسة العلاقة بالموضوع) كما ذكرنا، ويتم التركيز على المواجهة فالجدل فالولاف الأعلى فى رحم المجموعة.
خلاصة القول:
v إننا نمارس العلاج الجمعى من منطلق ثقافتنا، ويغلب عليه مبادىء علاج الجشتالت دون الالتزام بالمبدأ الوجودى، مع استلهام تقنياته غالبا
v إننا نأخذ من علاج التحليل التفاعلاتى فكرة التعدد فقط، دون بقية التقنيات والتفاصيل غالبا
v إننا نتبنى الفكر التطورى الممتد ونفسر من خلاله مراحل ومواقف النمو، ومن ثم الإمراضية ، ومنها العلاج (النفسى وغير النفسى، الجمعى وغير الجمعى)،
* * * *
تمهيد مهم لتقديم مفهوم تعدد الكيانات
(الذوات- العقول- مستويات الوعى…)
بالرغم من حماسنا الشديد فى البداية لهدية إريك بيرن للعلاج الجمعى، ثم نقدنا المتعدد النواحى لتفاصيل نظريته وتطبيقاتها، إلا أن مفهوم التعدد ما زال يمثل لدينا محورا جوهريا يدور حوله كل من التنظير والممارسة جميعا، لهذا رأيت لزاما أن أتوقف هنا قليلا لأوضح هذا المفهوم لأنه ما زال يمثل منطلقا إلى معظم الفروض الإمراضية (السيكوباثولوجية) لجميع مرضانا دون استثناء بما فى ذلك الذهانيين، علما بأن من أهم ما يميز أغلب العلاج الجمعى الذى نمارسه هو عدم التجانس فى كل شىء بما فى ذلك التشخيص، وبالتالى فكل مجموعة عادة تحتوى ما يقرب من ثلث عددها من الذهانينن.
…..
وغداً أعيد نشر مقال بعنوان: “الوحدة والتعدد فى الكيان البشرى” وهو مبحث مهم تعجبت وأنا أعيد قراءته متسائلا: إذا كنت قد عرفت كل ذلك فى هذا الوقت المبكر 1981، فكيف يخيل إلىّ أنه لم يصلنى ما به إلا حالا؟
[1] – وإن كنت قد اكتشفت الآن أنه يوجد كتاب لرائدها إريك بيرن عن مبادئ العلاج الجمعى Principles of Group Treatment 1966 وهو صادر بعد كتابه التحليل التفاعلاتى والعلاج النفسى Transactional Analysis and Psychotherapy 1961 ، أتعشم أن أحصل عليه وأقرأه قبل إصدار النسخة الورقية من هذا العمل.
اريد التطلع ع ماهو جديد