نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 19-11-2016
السنة العاشرة
العدد: 3368
الأساس فى الطب النفسى
عودة إلى المقابلة الإكلينيكية:
عن التشخيص
فوائده وأنواعه ومدى أولويته
مقدمة:
أنهيت نشرة الإثنين الماضى بوعد بالانتقال إلى الصياغة قائلا “والآن يمكن أن ننتقل إلى الصياغة بدءا من الأسبوع القادم، فهى وثيقة الصلة بكل من النفسمراضية، وبالتالى التخطيط العلاجى، أى الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى”، إلا أننى بالرجوع إلى الأصل، وجدت أن تقديم الصياغة يحتاج إلى تقديم ما يميزها عن “التلخيص” و”التشخيص” و”التقرير”، وبالرغم من شدة رغبتى أن أنتقل للصياغة الآن لأنها وثيقة الصلة بالطبنفسى الإيقاعحيوى، إلا أننى شعرت أن تمييزها ابتداء عن الموجز (التلخيص) وعن التشخيص ضرورة مبدئية وذلك لأنها تعبير غير مألوف لعامة الأطباء، النفسيين، أو على الأقل هو يأخذ دورا ثانويا بالمقارنة التشخيص، وكذلك هو مصطلح يختلط ويتداخل مع الموجز، أما“التقرير” فهو عمل رسمى مهم، لا بد أن يحيط الطبيب بتفاصيل معالمه، وتمييزه عن هذه المصطلحات الثلاث الأخرى.
خلاصة المقدمة أن علينا أن نتعرف على، ونميز الحدود الفاصلة بين هذه المصطلحات الأربعة:
الموجز
التشخيص
التقرير
الصياغة
وحتى نصل إلى نشرة الصياغة سوف تكون هذه النشرات المتتالية أقرب إلى كتاب “الأساس فى الطب النفسى” فقرة المقابلة الإكلينيكية منها إلى الطبنفسى الإيقاعحيوى، وللأسف، فإن هذا قد يستغرق عدة نشرات ، لكن ما باليد حيلة
………
فى ختام الفحص والاستقصاء يجد الفاحص نفسه مطالباً بأن يجمع المعلومات وينظمها بأكثر من طريقة لأهداف مختلفة، ولذلك لا بد من تحديد معالم هذه المرحلة الختامية بما لا يسمح بالخلط أو التداخل.
أولا: الموجز
أ) الموجز: هو عرض ما جاء فى الفحص من البداية للنهاية بنفس الترتيب الوارد فى أوراق “المشاهدة” وهو هو الترتيب الذى اتبعناه فى “المقابلة الإكلينيكية” وذلك فى أقل مساحة ممكنة (يستحسن ألا تزيد عن صفحة بل أقل)، وبالتالى فهو يختلف عن الصياغة الوصفية مما سيأتى ذكره فى أن الصياغة الوصيفة (ناهيك عن الصياغة السببية والصياغة التركيبية) هى إعادة ترتيب المعلومات حسب أهميتها بدء من درء الخطر وتجنب المضاعفات حتى إطلاق النمو ولأمل فى الإبداع (أنظر بعد)
وهو يختلف طبعا عن التقرير الذى هو بيان مختصر، لايشمل من المعلومات إلا ما يحقق غرض طالب التقرير الذى يحدد عادة مطلبا بذاته (مطلب قانونى، أو علاجى، أو اجتماعى.. إلخ) وسوف نعرضه أخيراً.
ونبدأ فى عرض أهم الملاحظات عن:
ثانياً: التشخيص
بدءًا بما جاء فى الموجز، وتعريفه بأن التشخيص “هو آلية تحديد اسم مرض بذاته من العلامات والأعراض التى حصل عليها الفاحص …الخ، وهذا يؤدى إلى تجميع تقريبى لمجاميع من المرضى فى فئات ومجموعات تحمل نفس الاسم، كما يفيد فى التسجيل وأغراض الإحصاء والتبويب، وهدف التشخيص الأساسى هو تحقيق أكبر قدر من الاتفاق (المكتبى!!) بين فاحصين مختلفين أو أكثر، وهذا ما يسمى بالاتفاقية Reliability، ولا يضمن المصداقية Validity أنظر نشرة 6-9-2015.
فوائد التشخيص:
برغم تحفظاتى المبالغ فيها من إعطاء التشخيص أهمية كبرى، أو أهمية أولى إلا أن هذا لا يعنى أنه بلا لزوم، وسوف أعدد بعض فوائده وأنواعه كما يلى:
1- التسمية: فى نهاية النهاية لابد من اسم لكل ظاهرة بغض النظر عما إذا كان هذا الاسم يمكنه أن يحَتوِى مضمون الظاهرة بدقة كافية أم لا، والإنسان هنا ظاهرة بشرية حالة كونها مريضة نفسيا.
2- التقسيم: لا شك أنه لكى تقسم مجموعة من الأفراد أو الأشياء إلى فئات متماثلة ما أمكن ذلك فإنك تحتاج إلى أن تجمع مَنْ تتشابه منهم فيها مع بعضهم البعض أكثر من اختلافاتهم فيما بينهم.
3- الأعمال الورقية الكتابية (الأرشيف والإدارة): لا يمكن مواصلة عمل جماعى نظامى إلا بنظام تسجيلى يُثْبَتُ فيه توصيف التفاصيل، وهذا بديهى وبالتالى فإنه يبدو أن أهم ما يثبت فى هذه الأوراق فى مستشفى أو عيادة أو مركز تأهيلى هو ما يسمى “التشخيص”.
4- المتطلبات التمويلية:(التأمين والدعم الصحى)
لضمان الحصول على حق المريض فى التمويل المناسب لا بد من إثبات التشخيص وإحكامه بما يتفق مع ما له من حقوق فى العلاج أو التعويض أو المعاش أو التأهيل، وتتعاظم هذه الأهمية وبمنتهى الدقة فى البلاد الأكثر تقدما التى تتوفر فيها مظلة تأمين صحى كافية توفر للمرضى حقوقهم فى ظل القانون واللوائح المحددة لها بما يحتاج إلى تشخيص تفصيلى وتوصيفى توقيتى عادة فلكل تشخيص حقوق بذاتها ومبالغ بقيمة كل خطوة علاجية وكل إجراء لاحق.
5- التكهن Prognosis كثيرا ما يساعد التشخيص اثبات فى الإشارة إلى مسار المرض وتوقعات العلاج، وإن كان ذلك قد يترتب عليه أحيانا مواقف سلبية إذا استسهل الطبيب أو الأهل الاعتمادية عليه أكثر باعتباره الأهم أو بانسياقهم للشائع عنه.
6- الانتقاء المهنى والتأهيل المهنى: أحيانا يوضع فى الاعتبار بدرجات متفاوتة الاسم المحدد لتشخيص مرض بذاته، ثم ما يرتبط به فى تحديد لياقة المريض لمهنة بذاتها، وتزداد أهمية ذلك فى المهن الحساسة مثل التى ترتبط بالأمن القومى، أو التى تحتاج إلى درجة خاصة من القدرات التى تقل أو تحتفى تماما (أو يزعم ذلك مع تشخيصات نفسية معينة).
7- فى ساحة القضاء: بالرغم من أن التشخيص لا يكفى وحده لتحديد المسئولية الجنائية من عدمها وإنما الذى يحدد ذلك هو ما يترتب على أى تشخيص من إعاقة تهِدرُ توفّرَ “الركن المعنوى” لأى جريمة (وهو سلامة التمييز والوعى والإرادة). إلا أن كثيرا من رجل القضاء بل والأطباء الفاحصين قد يولون التشخيص فى ذاته أهميه مستقلة برغم ما فى ذلك من تجاوز.
8- فى البحث العلمى: من أهم وأخطر مجالات استعمال التشخيص أنه لا يمكن بداهة عمل بحث علمى تقليدى (اللهم إلا بحوث تقرير حالة Case Report وهى بحوث أصبحت غير مرحب بها فى مجالات البحث العلمى السائد)، ومع ذلك فلا بد من التذكرة أنه مهما اتفق التشخيص فى حالات البحث لمجرد أنها تحمل نفس التشخيص فإن معظم الأبحاث تضع مواصفات أخرى بعد التشخيص ومعه فى محاولة تماثل عينة البحث على معظم المتغيرات إلا المتغير قيد البحث.
……..
كل هذا بالإضافة إلى عدد من المشاكل والظروف التى قد يؤثر فيها التشخيص بدرجات مختلفة حسب وعى وثقافة ونضج من يستعمله وذلك مثل التوجيه الزواجى، والمشاركة التجارية والاعتمادية الأهلية وإن كان ذلك يقع فى عمق الوعى، أكثر من ظاهر الأسباب.
وبعد
فإنه سبق تناول إشكالة التشخيص وتاريخى منعها وحيرتى معها بالتفصيل فى أكثر من نشرة سابقة: نشرة: 12-6-2011 ونشرة: 13-6-2011 ولمزيد من التحديد سوف أقدم هنا محاولة لتحديد أنواع التشخيص بقدر الإمكان:
أنواع التشخيصات:
بالرغم من أن كلمة التشخيص تشير عادة إلى اتفاق مجموع العلامات والأعراض مع محكات محددة واردة فى دليل متفق عليه، إلا أنه توجد تصانيف وتباديل لأنواع أخرى من التشخيص لها فائدة عملية لا مفر من الإلمام بها، ونورد بعضها فيما يلي:
1- التشخيص الإكلينيكى المجمـل:
يقدم هذا النوع وصفا إكلينيكيا مجملا لكل فئة عامة ولفئاتها الفرعية، ويتصف بالاهتمام بالبعد الوصفى والتاريخى للسلوك الظاهر أساسا، كما أنه يحتوى قدرا مناسبا من المفهوم الدينامى والتفاعلى ومن البعد الطولى للعملية المرضية(1)، وقد كان هذا التشخيص هو الشائع قبل ظهور الدلائل المحكمة المغلقة (بند 2) سواء الدلائل القومية (وخاصة الأمريكية من الدليل الأمريكى الأول له 1952 حتى الخامس 14 %) او كانت دليلا عالميا متفق عليه، وهذا هو المتبع فى (الدليل التاسع فالعاشرفالحادى عشر لتصنيف الأمراض الصادر عن منظمة الصحة العالمية)
2- التشخيص ذو المحكات:
فى أغلب هذه الدلائل يجرى التشخيص على محاور متعددة تصف الشخصية، وتحدد المحكات، وترتب ترتيبا تنازليا استبعاديا، وتحقق عادة قدرا مناسبا من “الاتفافية” Reliability، ولكنها تفتقر بإجماع الآراء إلى المصادقية Validity (أنظر نشرة 1-3-2016).
3- التشخيص المحدد لمهمة بذاتها Task Oriented Diagnosis reissues
وهنا يتراجع أولوية إسم المرض ليحل محله ”طبيعة المشكلة المحورية” (أو الوحيدة) التى يدور حولها الفحص والعلاج، ويصبح التشخيص هنا غير ملتزم باسم متفق عليه فى دليل بذاته، وإنما يرتبط بموضوع الفحص والعلاج والهدف منه، ورغم أن هذا النوع من التشخيص غير شائع إلا أنه من أهم الأنواع صلاحية للتطبيق العملى، وترتبط أهميته على مدى تحقيق الغرض من الاستشارة والعلاج، ومثال ذلك التشخيص المحدد بالإعاقة الدراسية فى جانب دراسى بذاته، أو التشخيص المحدد بمشكلة زواجية لها نوعية خاصة.
4- التشخيص الوظيفى:
ويمكن أن يندرج تجت ذلك التشخيص الهادف إلى تحديد مدى كفاءة وظيفة نفسية بذاتها لشخص بذاته خاصة لو كان مريضا (أنظر سابقا).
5 – التشخيص العلّى (بذكر السبب تحديدا):
وهو التشخيص السائد فى كل أو أغلب الأمراض البدنية الأخرى، ومثال ذلك أن “تشخيص حمى التيفود” هى تشخيص يعلن مباشرة باسم سبب الحمى وهو ”ميكروب التيفود”، أما فى الأمراض النفسية فحتى الأمراض العقلية الناتجة من سبب عضوى لا تشخص عادة باسم سببها، اللهم إلا نادرا مثل إضطرابات استعمال العقاقير، أو التهابات المخ أو الأورام المخية المحددة ولكن عادة ما تعرف أيضا باسم مظاهرها وأعراضها.
6- التشخيص التحليلى :
ويشير هذا المفهوم أساسا إلى معطيات التحليل النفسى من حيث المبدأ، وهو لا يرتبط تماما بالتحليل الفرويدى فحسب بل يمتد إلى مدرسة العلاقة بالموضوع وغيرها، ويرتبط هذا التشخيص بالبحث عن أسباب ظاهرة أو غائرة فى الحاضر أو فى الماصى، مما يسمى أحيانا “العقد النفسية” كما يستعمل غالبا لغة إكلينيكية قبل توصيف غلبة حيل نفسية بذاتها فى فترة سابقة، أو حالية، فى ما اسميته لاحقا “الصياغة النفسمراضية السببية”Etiological Psychopathological Formulation (انظر بعدُ فى فصل الصياغة).
7- التشخيص التركيبى:
وهذا التشخيص يرتبط برسم صورة العلاقات التركيبية بين مختلف منظومات النفس ومنظومات العقل والوعى وما وصلت إليه علاقاتها ببعضها “الآن”، لكن هذا المفهوم قد توسع وشمل أكثر من مدارس كثير منها نيورولوجية وأصبح مرتبطا بقراءة تركيب وحركية المخ (الأمخاخ) “هنا والآن” بما يسمح بالتدخل الانتقائي بمراحل محسوبة وبعد استجابات مقدّرة لإعادة حركية المخ فى اتجاه أن يعيد تشكيل نفسه كما سيأتى ذكره فى الصياغة التركيبية لاحقا، وهذا التشخيص أقرب الأنواع للطبنفسى الإيقاعحيوى، كما سيأتى لاحقا.
ومن ذلك ما يسمى بالتحليل التركيبى فى مدرسة التحليل التفاعلاتى (إريك بيرن) حيث ترسم صورة لقوة ونشاط وفاعلية الذات الطفلية مثلا فى مقابل الذات الوالدية مع تحديد موقف الذات اليافعة وهكذا.
ويفيد هذا التشخيص التركيبى فى تحديد مسار العلاج، ومناطق الضعف، وطبيعة العلاقات بين التنظيمات المختلفة، وبالتالى كيفية إصلاحها ودعم المناسب منها أثناء العلاج – وهذا متعلق بطريق مباشر وغير مباشر بقراءة المخ أكثر من قراءة الشخصية كما سيرد لاحقا فى”الصياغة النفسمراضية التركيبية” Structural Psychopathological Formulation .
[1] – وذلك مثل التشخيصات التى وصفها أدولف ماير رائد الطب النفسى الأمريكى الأول حين كان يطلق على الفصام: تعبير نوع التفاعل الفصامى Schizophrenic Reaction Type وعلى العصاب: نوع التفاعل النفسعصابى . Psychoneurotic Reaction Type