نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 17-10-2015
السنة التاسعة
العدد: 2969
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (55) “عن إبداع الحلم”
نهاية حتمية لبداية ضرورية
مقدمة:
بدءًا من اليوم، وبناء عن تجربة الأسبوع الماضى، وما تبع ذلك من استجابة طيبة لتقديم ما هو أبسط وأنفع، وفى إطار إعادة النظر فى ترتيب أيام الأسبوع بالنسبة للموضوعات المختلفة.
انتقل باب “حوار مع مولانا النفرى” إلى يوم الأربعاء لنخصص يومَىْ السبت والأحد لكتاب “الأساس فى الطب النفسى”، ثم يومَىْ الأثنين والثلاثاء لمواصلة باب حالات وأحوال” أو “التدريب عن بعد” (الإشراف) فيبقى الأربعاء والخميس للنفرى ونجيب محفوظ، والجمعة لبريد الجمعة.
دعونا نجرب ونرى. الحمد لله
وبعد
أنهينا آخر نشرة فى هذا الملف الأسبوع الماضى بتساؤل يقول:
هؤلاء الذين أبدعوا أحلامهم أثناء التجربة، لا هم “جراديفا. ف. يتزن”(1)، (عن فرويد) ولا “نجيب محفوظ” ولا “جارثيا ماركيز”، هم من عامة عامة الناس المصريين، فكيف فعلوها وهم “فى يقظة معا” هكذا؟
هذا ما سوف نحاول الإجابة عليه فى النشرات التالية.
وهأنذا أحاول، فأجد أننى، وقد كنت فى بؤرة التجربة شخصيا أنا وزملائى الاصغر، أجدنى لا أستطيع أن أجيب إجابة شافية تقنع أيا من الباحث النفسى (خاصة لو كان أكاديميا) الذى لا يعترف بمثل هذه التجارب، ولا يقبل أخذ نتائجها مأخذ الجد، إلا إذا أعادها وأتت بنفس النتائج(2)، ولا المحلل النفسى الملتزم بأبجدية ومنهج ترجمة الرموز، وهو يبدأ من حيث شَّككْنا وينتهى إلى حيث رفضنا، ولا الطبيب النفسى الذى لا يأخذ الأحلام مأخذا يليق بمعناها ووظيفتها ودورها سواء فى الكشف، أو النمو، أو التعلم، أو التفريغ، وبرغم كل ذلك فقد بدت تجربة صادقة واقعية قبلها الشخص العادى ومارسها بتلقائية سَلِسَة قبل أن يطلب دليلا عقليا أو إثباتا علميا.
فإذا كان الأمر كذلك، فما هو السبيل الذى أوصل به مصداقية ما جرى، وأهمية ومغزى ما خرجنا به منه، وما يمكن أن يضيف إلى معرفتنا عن الأحلام ومصدرها وطبيعتها من خلال ما يمكن أن يتخلق من هذه الفروض وقبلها؟
الناس البسطاء:
بداية لا بد أن أعلن احترامى لكل هؤلاء، وفهمى لمنطقهم، وتقديرى لمنطلقاتهم، ولكن فى نفس الوقت علىّ أن أعلن أننى لا أخاطبهم ابتداء، بقدر ما يهمنى توصيل ما عاينت، وسجّلت رأى العين، إلى من هم مثل من قاموا به فى جلسة العلاج الجمعى المذكورة، هؤلاء الناس البسطاء الأقرب إلى ما هو “ربى كما خلقتنى” “ربى كما خلقتنى”.
إن مثل هذه الفروض، ومحاولة إثبات بعض جوانبها من واقع خبرة الممارسة، وخاصة الممارسة التى تتبع منهج “نقد النص البشرى” أكثر من “تطبيق المتن النظرى” ، خليقة بأن يتلقاها الذى لم يعايش خبرات النقد أو الإبداع (بالمعنى اليومى العادى، وليس بالضرورة بمعنى التفرد والإنتاج المسجل) باعتبارها اجتهادات شخصية، غامضة، وطبعا مقولة بالتشكيك، وجاهزة للرفض.
وقد حاولت أن ألتمس العذر لكل هؤلاء دون استثناء، ومن أهم ما يسمح لى بذلك أن أقر وأعترف باضطرارى لاستعمال “لغة خاصة”، (لغة لها دلالات خاصة) لأعبر بها عن منطلقاتى الخبراتية المباشرة ، أكثر من الرجوع إلى مرجعيات علمية أو معجمية محددة.
عموما فإن هذه المنطقة، منطقة الوعى (والحلم) والإبداع، هى منطقة متحدية وأحيانا مستعصية، فمثلا: إن مفهوم الوعى ما زال غامضا برغم المحاولات الرائعة والمثابرة لتحديد معالمه وسبر غوره. لا بد أن نقر أن الوعى لازم كأرضية أساسية لكل نشاط عقلى آخر، وذلك باعتباره ‘الوساد الذى تتم فيه العمليات العقلية الأكثر تحديدا، والتى تمثل الشكل بالنسبة لهذه الأرضية الأشمل”، إلا أن هذا الفهم للوعى غير كاف لأن الوعى ليس أرضية منفصلة عن الشكل أو متبادلة معه بقدر ما هو حاضر فى كل هذه العمليات حضورا شاملا فاعلا متميزا فى آن.
وقد توارت حقيقة الوعى عند الدارسين (بل والعلماء) والكافة “إما بالإنكار أو بالإهمال أو بالنفي- كما يقول الطبيب النفسى الفرنسى هنرى إى(3)– فالبعض أنكر الوعى تماما كمادة للدراسة والتقييم مثل السلوكيين، والبعض نفخ فيه حتى أصبح هو كل شئ، فلم يعد شيئا، والبعض نزع منه التحديد الذاتى حين جعله شبكة معقدة من التركيبات البينشخصية، والبعض جعل الوعى -اختزالا- مرادفا للصحو مرة (ضد النوم) ومرادفا للشعور مرة أخرى ( ضد اللاشعور)
وقد حاولت تحديدا باكرا لما هو “الوعى” كما يلى (ولم أكن راضيا تماما عن ذلك، ومازلت) قلت:
الوعى هو العملية الحيوية التى يتم من خلالها تشكيل منظومة عقلية فى تركيبها الكلى فى لحظة ما، فإذا استمر هذا التشكيل لفترة من الزمن أصبح يمثل مستوى منظوميا كليا خاصا يمكن استحضاره وتنشيطه وإعادة تشكيله ككل.
وبالتالى فإننى أستعمل كلمة الوعى بهذا المفهوم الأخير من هذا المنطلق، وهكذا يوجد أكثر من وعى، وأكثر من مستوى طول الوقت، وهى ليست مستويات متبادلة فحسب، وإنما هى حركية متضفرة، ومتكاثفة، ومتجادلة، طول الوقت، وكل ذلك يجرى بتلقائية بيولوجية نابضة أساسها الإيقاع الحيوى وجدلية النمو ، التى هى فى أصول اصولها: إبداع الذات المستمر، قبل أى إنتاج إبداعى خارجها.
وكما ذكرت سالفا فأننى تعرفت على طبيعة الحلم من الإبداع والنقد الإبداعى، كما أننى تعرفت على طبيعة الإبداع من الجنون باعتباره إبداعاً مجهضا (نشرة 31/8/2015 أحلام محفوظ تنطلق من: إبداع الشخص العادى).
ثم تأتى صعوبة أخرى نابعة من علاقتى بالاعتراف بالوحدة الزمنية بالغة القصر كما وصلتنى من الممارسة والنقد والمراجع الكوانتية والخبرة الشخصية وهو ما لا أستطيع نقله إلى القارئ بسهولة، هذه الوحدة التى برغم صغرها تمثل لى لبنة حيوية غاية فى الأهمية فى الإبداع – كما فى الحلم والجنون- ينقلب الزمن مكانا دون أن ندرك ذلك، وحين تتداخل الأمكنة بما تحمل من معلومات تتداخل الأزمنة وتحدث نقلات نوعية مختلفة القيمة أو تكثيف محيط متداخل حتى يتجادل أو …… غير ذلك.
من هذا المنطلق، رأيت أن النقلة من وعى اليقظة إلى وعى النوم لا تتم فجأة، وحتى لو تمت فجأة حسب رصد النائم (حين يصحو) أو المحيطين، فإنها تتم عبر حساب وحدات الزمن الأصغر، وهى تتم على مراحل متلاحقة متتابعة، وهذا ما يحدث أيضا فى النقلة من وعى اليقظة إلى وعى النوم، وعلى ذلك فكل المعلومات المُقَلْقَلَةْ ليست فى متناول الحكى المباشر، ولا هى مرتبة وجاهزة لذلك، وما يحدث أثناء تلك النقلات عبر درجات الوعى المتلاحقة من النوم إلى الاستيقاظ هو أن المعلومات المتعتعة تكون فى متناول وعى أقرب فأقرب إلى وعى اليقظة لكنه ليس تماما وعى اليقظة، لكن ذلك يتم فى وحدات زمنية أقرب إلى أجزاء الثوانى مما لا يمكن رصده، فما بالك ما يحدث أثناءها.
تذكرة:
الفرض الاساسى يقول: إن الشخص يلتقط ما تيسر مما هو أقرب إلى وعى اليقظة لحظة استيقاظه،وينسج منه حلمه، ليس عشوائيا تماما لكنه أقرب إلى العشوائية على كل حال.
التجربة والفرض:
وأنا أحاول إغلاق هذا الملف اليوم أو غدا ، ولو مؤقتا، سوف أحاول أن استرجع وأوجز الخطوط العامة لمجمل التجربة كالتالى:
المرحلة الأولى: أثناء التجربة
(1) حين التقطت الدكتورة دينا زميلة (متدربة) الدعوة إلى محاولة تأليف حلم فى جلسة العلاج الجمعي ، بقولها “نعمل حلم“، وليس “نحكى حلما” ، لم يكن فى متناول انتباهى الظاهر أى من هذه المقدمات، أو الصعوبات، أو الفروض التى عشتاها معنا ونحن نجرب، لكننى فرحت بتعبيرها فرحا حقيقيا، وعبّرت عن ذلك مما سبق ذكره، وبدأنا على الفور الدخول فى التجربة
(2) بصراحة: كنت أول المندهشين، وأكثر المرحِّبِين فى نفس الوقت، بالاستجابة التلقائية لكل أفراد المجموعة أطباء ومرضى، برغم بعض المقاومات البدئية
(3) انتهت التجربة فى وقت قصير (حوالى 25 دقيقة تقريبا) بسرعة غير متوقعة، ولم نناقش كالعادة أى معنى لمغزاها تفسيرا لما جرى، برغم تنشيط الوعى البينشخصى والجمعى كالتالى، ولم نطرح محاولة تفسيرها لا بفروضى، ولا بغيرها
(4) لم يعلق أى فرد فى المجموعة على غرابتها أو يصفها باللعبة أو يزغم استحالتها أو يعتذر بعدها عن واقعه الآنى أو أى واقع لأى شريك مشارك
(5) تداخل أداء (وإبداع) أفراد المجموعة – بدءا بالقائد المدرب- فى أحلام بعضهم البعض: حثا، أو اعتراضا، أو تعديلا، أو إضافة
المرحلة الثانية: ملاحظات بعْديّة
(بعد التسجيل السمعى البصرى ثم مطالعة التفريغ على الورق)
* لاحظت – كما ذكرت سابقا- أن مفتاح نجاح التجربة كان مرتبطا نسبيا بالتركيز على “فعل التأليف (الإبداع) فى “هنا والآن”، (بالتأكيد على البدء بـ “أنا دلوقتى”) كما بيّنا مرارا
* انتبهت إلى أن حالة الوعى أثناء إبداع الحلم كانت بالوصف الذى أميل إلى استعماله، بمعنى أنه يتم فى حالة خاصة من الوعى الموازى وليس الوعى المتبادل.
* أنتبهت إلى تكرار الأعلان عن صعوبة التمييز بين أننا “نتخيل” مقابل أننا نعمل، نعايش (نبدع) توليفا جديدا “هنا والآن”.
* هذه الحالة أسميتها “ميّل الوعى”، Tilted consciousness (ولست متأكدا من سلامة الاسم حتى الآن)، إنما أعنى بها “حالة من تغير نوعى فى الوعى(4)، ليس على حساب وعى اليقظة، ولا هى أقرب إلى وعى النوم” ، وهذا ما أطلقت عليه أثناء الشرح: “وعى الحلم على حافة وعى اليقظة”
*إنه يمكن استنتاج – ولو من تجربة واحدة- أن الشخص العادى قادر على إبداع ما هو حلم، مهما كان مستوى ثقافته أو قدراته أو خبرته فى أنه فعلا يبدع ليل نهار ما لا نعرف تحديدا.
* أن ما تم إبداعه من أحلام – كما ذكرنا حالا، وأكرر- ليس خيالا أو تخيلا، لكنه إبداع آنىّ فى وعى حالىّ آخر، مواكب وملامس لوعى اليقظة، وهذا ما يميزه عن ما يسمى أحلام اليقظة من جهة، وأيضا عن حالات اشقاق الوعى(5) من جهة أخرى.(وقد ميزناه عن أحلام اليقظة تفصيلا فى (نشرة 16-8-2015).
* أن مواصفات ما حصلنا عليه من أحلام، بكل تلقائيتها، وتواضعها، هى نفس مواصفات ما يسمى “أدب الحلم ” (برغم تحفظى على الاسم فى كتاباتى النقدية السابقة)
* إن نجيب محفوظ هو أكرم وأبدع من التقط إبداع الشخص العادى وأعلنه (أنظر نشرة: 31/8/2015) فقد التقط قدرة الشخص العادى أن يبدع دون أن يسمّى مبدعاً أو يصنف كذلك
* إن مقارنة عينة محدودة من إبداع أحلام نجيب محفوظ مع بعض ما حصلنا عليه من إبداع هؤلاء البسطاء الذين مارسوا بتلقائية ما هو “ربى كما خلقتنى” ” ربى كما خلقتنى” ،هو أمر وارد، وهوما لوحنا به فى بريد الجمعة الماضى مباشرة حيث قلنا ردا على الزميل السائل : د. جون جمال ما نصّه:
د. جون جمال
إذا كان الإنسان العادى مبدعا بالضرورة مثل أى شخص فما الفرق بين المبُدع نجيب محفوظ وبين أى إنسان آخر لماذا هذا له إنتاج إبداعى ملحوظ وهام ومميز والإنسان العادى وكمثال “أنا” ليس له؟!!
د. يحيى:
أشكرك يا جون على هذا التساؤل الرائع، ولعلمك فكل ما أحاوله (أو أغلبه) فى هذه المنطقة هو أن أكشف للشخص العادى – كما خلقه الله- قدرته الابداعية التلقائية، دون أن يكتب رواية أو يقرض شعراً أو يرسم لوحة أو يقسّم لحنا، (وأنت بصدقك هذا تمثله).
وقد خطر لى أن أنشر حلما من أحلام فترة النقاهة أو غيرها لمحفوظ، وأنشر معه حلما من الأحلام التى أبدعناها فى المجموعة العلاجية من أفراد عاديين بعضهم لا يفك الخط، وسوف تجد الشبه دون إقلال ولا واحد فى المليون من عبقرية إبداع محفوظ، ولعلمى به فقد كان هو أول من سيفرح بهذه المقارنة فأنت لا تتصور احترامه وتقديسه لما هو “عادى” مؤمنا ومبدعا،(كما خلقه الله)
وإلى الغد أمل أن نحتمل المغامرة
[1] – أنظر نشرة 12-10-2015: ” أصل التنظير وراء التجربة”
[2] – والإبداع لا يمكن إعادته وإلا أصبح ماسخا سخيفا، أنظر محاولة “رضا” فى جلسة 25/8/2010، وجلسة 29/9/2010 فى نشرة 7/10/2015 ، وحين أعادتها فأتت بإبداع جديد.
[3] – د. يسرية أمين “هنرى إى والمرض النفسى والتطور“ مجلة الإنسان والتطور – عدد أبريل 1981
[4] – لعلها أقرب إلى ما أسميناه الحلة الحلمية فى بداية الذهان Onerohrenia، وأيضا إلى تغير نوعى عند المبدعين، خاصة فى بداية دخولهم إلى حالة الإبداع ، ويصفونها بألفاظ مختلفة متعددة لا مجال لتعدادها هنا، وإن كانت قد وردت بعضها فى أطروحتى النقدية “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول (المجلد الخامس-العدد الثانى-1985) وأصلا فى أطروحتى تحت فقرة قراءة فى “من شهادات النقاد” مجلة فصول – المجلد التاسع عدد 3-4 فبراير 1991
[5] – Dissociated Consciousness