نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 12-10-2015
السنة التاسعة
العدد: 2964
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (54)
نعمل حلم (13)
أصل التنظير وراء التجربة
لاحظنا كيف قام أعضاء الجماعة العلاجية بتلقائية وطلاقة بالمشاركة فى التجربة بعد أن استطعنا أن نتغلب على الاستغراب وتوقع الصعوبة، وأن نتخطى الصعوبات المبدئية عند المجموعة ككل ثم عند من يحتاج بعض ذلك حسب موقفه، لكن يظل التساؤل الذى يطرح نفسه يقول: هل ما قام به هؤلاء ينتمى إلى الحلم الذى نحلمه أثناء النوم؟ أم إلى الفرض المطروح عن إبداع الحلم قبيل اليقظة؟ وما مدى قرب “عمل الحلم” من هامش وعى اليقظة (كما أسميناه) من عملية الإبداع عموما، ومن إبداع ما يسمى أدب الحلم خاصة.
وللإجابة عن هذه التساؤلات لابد من الرجوع – برغم ما فى ذلك من تكرار – إلى بعض الأصول الفرضية قبل محاولة تفسير التجربة وربطها بالإبداع، الفرض الأساسى يقول:
”إن الحلم هو نشاط معرفى، يقوم بوظيفة تنظيمية أقرب إلى الإبداع، سواء تم ذلك مع إعلان تأليف حلم يرويه الحالم عند استيقاظه، أم ظهرت نتائجه المعرفية والتنظيمية تؤكد كفاءة أدائه لهذا النشاط المنتظم المعاود، كجزء من الإيقاع الحيوى الشامل. يستتبع ذلك إعادة النظر فى مستويات الحلم من أعمق حركية التنشيط البيولوجى الإيقاعى الراتب، حتى التقاط بعض آثار هذا التنشيط من معلومات هى مادة صياغة الحلم المحكى قبيل اليقظة (هذا إذا حكاه الحالم أصلا)، وما بين هذا وذاك تقع مستويات وسطى من التنشيط العشوائى غير المعلن إلى إعادة التنظيم الإبداعى، مع احتمال تزييف بديلٍ بخيالٍ مصنوع، يحل محل إبداعية الحلم.
الحلم: إبداع الشخص العادى
من خلال ما تابعته فى الممارسة الإكلينيكية، وأيضا من الخبرة الشخصية تبين لى أنه حين يستيقظ النائم ـ أو يوقظ فى أثناء هذا التنشيط الإيقاعى المسمى النوم الحالم (أو النوم النقيضى: فإنه يواجَـه – “وهو يستيقـظ”- بكم غامر من مفردات (معلومات) تم تحريكها أثناء هذا النشاط (الحالم). وهو حين يحكى الحلم إنما يؤلف بين بعض هذه المعلومات حتى يمكن أن ينقلها إلى آخر، أو حتى أن يتذكرها لنفسه، ويتم التأليف (قبل التسجيل) – فى جزء من ثانية- بطريقة غير طريقة التفكير والتأليف فى أثناء اليقظة، ليكون الناتج هو هذه الصورة المكثفة المتداخلة، بما تحمل من سرعة نقل، وتدوير للزمن، أو عكسه، أو تقطيعه……إلخ
إذن فالحلم هو نشاط بيونفسى(1) وهو من تجليات العملية الناتجة عن النشاط الإيقاعى الحيوى المستمر، هذا النشاط الذى يشمل عمليات: القلقلة والتفكيك فإعادة الترتيب والصقل بأى درجة متاحة. إن الحلم المحكى ـ بناء على ذلك ـ هو نتاج عملية إبداعية هائلة السرعة، تتم فى جزء من الثانية، أو فى بضع ثوان(2)، فى حالة بـينية من مستويات الوعى: لا هى وعى الحلم، ولا هى وعى اليقظة.
إن من يستكثر على الإنسان العادى أن يكون مبدعا إلى هذه الدرجة ينسى إن الإنسان الفرد فى دورات نموه وقفزات تغيره الكيفى، يعيد إبداع ذاته بإيقاع منتظم باستمرار حيث أن الإيقاع الحيوى هو أساس الإبداع الحيوى على مسار بقاء الأحياء كلها.
الأحلام فى القص والرواية:
ثم ننتقل إلى ورود الأحلام فى القصّ والحكى الروائى:
“إن الحلم الذى يطلق عليه اسم حلم فى القصة أو الرواية، قد لايكون كذلك، وإنما قد يكون من أسطح خبرات الخيال شبه اليقظ، فى حين أننا قد نجد الحلم الحقيقى الأعمق فى مواجهة التنشيط الحيوى وقد تمثل أمامنا فى صلب السياق الروائى مباشرة، نجده بكل معالم الحلم دون إعلان أو تحديد نوعه الحلمى، وذلك فى الأعمال التى تسمى باسم الحلم مثل أحلام فترة النقاهة لمحفوظ أو التى يعلن تشكيلها هذا النوع من التكثيف والنقلات وتدوير الزمن وكشف الأساطير الذاتية أو العامة”.
وبعد
إذا كان الأمر كذلك فأين نضع ما حدث فى هذه التجربة (اللعبة – العلاج: نعمل حلم)؟ هل هو ينتمى إلى وعى الحلم أكثر أم إلى وعى الإبداع أم أنه فى مرحلة بين هذا وذاك؟
نرجع نتعلم من نجيب محفوظ وهو يصف علاقة إبداعه أحلام فترة النقاهة بالذات بأحلامه أو بتعبير أدق علاقة إبداعه، بما يلتقط من أحلامه، يقول نجيب محفوظ: فى وجهة نظر فى أهرام الخميس 16 نوفمبر2000، ردا على أسئلة الأديب محمد سلماوى حول هذه التجربة “أحلام فترة النقاهة”.
”..إن الأساس المحرك فى هذه القصص هو حلم حقيقى لكنه حلم ليس مساويا للقصة كما تنشر، فالحلم قد يمنحنى الفكرة لكنى أعمل على هذه الفكرة طويلا، إلى أن تتحول إلى قصة، فمثلا ما أخرج به من الحلم قد يكون إحساسى أننى فى مكان عظيم الاتساع، ولكن ماذا يجرى فى هذا المكان وما هى الأحداث التى يمكن أن تنقل للقارئ إحساسى بالمكان خلال الحلم، كل ذلك يجئ فى مرحلة تالية للحلم … ولو التزمت بالحلم وحده لاقتصرت فى مثل هذه القصة على وصف لهذا المكان الذى رأيته فى الحلم، تلك لا تكون قصة، إذن فالحلم قائم فى كل هذه القصص، … كل قصة منهم تتعدى الحلم إلى أن تصبح أدبا… كنت فى السابق تأتينى أفكار الكتابة من حديثى مع الناس، أو من جلوسى على المقهى أو غير ذلك من مخالطتى اليومية للحياة، وقد تصورت بعد أن انقطعت عن هذا الاختلاط بسبب ظروفى الصحية بأن مصدر إلهامى قد ذهب بغير رجعة، لكنى فجأة وجدته يطل على من جديد فى أحلامى وكأنه يقول لى لا تقلق، سآتى لك بالأفكار والقصص دون أن تخرج إلى الشارع”.
أليس هذا أقرب إلى ما افترضناه عند الشخص العادى وهو يؤلف ويبدع حلمه فور أو قبيل الاستيقاظ مهما كان أبعد ما يكون عن هذا الوصف الذى لا يصفه إلا مبدع.
وعلينا طبعا أن نحترم كل كلمة قالها محفوظ، لكن علينا قبل ذلك وبعد ذلك أن ننتبه إلى حدود ربطه (مثل أى مبدع) بين العمليات المنتجة للقص الأدبى وبين مصادرها الأعمق، إذ لا يمكن – مع كل التصديق والاحترام – أن يكون كل ما يخرج به من الحلم هو مجرد “مكان عظيم الاتساع” ثم يروح يملأه بما ليس منه، إن الفرض المطروح يسمح لنا أن نغوص أكثر من تبسيطه وتواضعه، فنتصور أن هذا المكان ملئ بكل ما يحضر فى عمق وعى إبداعه، فيقوم هو بترتيبه وتشكيله وإضافة ما يحضره وحذف ما لا يطاوعه، كل ذلك يجرى بزخم الإبداع الذى لا يدرك عنه صاحبه إلا ما يقدر أن يختزله فى مثل ما قال محفوظ على عظمته وصدقه.
فالحلم الذى تتعداه القصة إنما تتعداه بأن تحتويه تشكيلا فائقا دون علاقة مباشرة أو سببية طبعا.
المهم فى هذا المقتطف أن نتوقف فرحين عند تعبيره “وجدته يطل علىّ من جديد فى أحلامى وهو يقول لى لا تقلق، سأتى لك بالأفكار والقصص فقط دون أن تخرج إلى الشارع…”.
فننتبه إلى أنه لا يأتى له بالأفكار والقصص، وإنما هو مصدر كل حركية الإبداع حين يلتحم جدلا مع الوعى الفائق الذى يحتوى أغلب مستويات الوعى ليكون إبداعا.
* ثم نرجع إلى فرويد وهو يقول:
”لقد عثرت بالصدفة فى رواية “جراديفا. ف. يتزن”، على أحلام متعددة، خلقها المؤلف خلقا، ولكنها كانت مع ذلك صحيحة كل الصحة فى بنائها، وأمكن تفسيرها، كما لو كانت (أحلاما) تصدر عن أشخاص حقيقيين، ولم تكن من بدع الخيال. وقد ذكر لى المؤلف ردا على سؤال من جانبى أنه لم يكن يعلم شيئا عن نظريتى فى الحلم. ولقد اتخذت من هذا التطابق بين مباحثى وخلق الكاتب شاهدا على صحة تحليلى للأحلام”(3).
فهذا نوع من إبداع الحلم فى سياق الرواية بنفس طريقة إبداع المستيقظ حلم مع فارق الوحدة الزمنية (وربما بنفس طريقة التجربة قيد الفرض).
ونختم بجارثيا ماركيز فى “مائة عام من العزلة”:
”….وأخذوا يرون فى هذه الهلوسة، وضوح الرؤية المخيف للصور التى تكوّن أحلامهم… بل أخذ كل منهم يرى صور أحلام الآخرين حتى لكأن البيت امتلأ بالزوار….”(4).
أليس هذا قريب من الذى تابعناه فى جماعتنا العلاجية وهى تمارس حركية الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى أثناء جريان التجربة حين تداخل المدرب وكثير من الأفراد فى أحلام بعضهم البعض “حتى أخذ كل منهم يرى صور أحلام الآخرين”!!! بل ويشترك فيها ويضيف إليها!!
السؤال:
هؤلاء الذين أبدعوا أحلامهم أثناء التجربة، لا هم “جراديفا. ف. يتزن”، (عن فرويد) ولا “نجيب محفوظ” ولا “جارثيا باركيز”، هم من عامة عامة البشر، فكيف فعلوها وهم “فى يقظة معا” هكذا؟
هذا ما سوف نحاول إكماله فى النشرات التالية.
[1] – Psychobiological
[2] – من أهم مايساعد فى فهم ما ترمى إليه هذه الدراسة هو تصور الوحدة الزمنية الأصغر وقدرتها على احتواء تأليف مكثف، يبدو ممتدا عند روايته. ولتوضيح ذلك أورد ملاحظتين: الأولى حلم اقتطفه فرويد (حلم مورى 1878) (تفسير الأحلام ص64، 65) “.. كان مريضا يلزم الفراش وإلى جواره أمه، فرأى فيما يرى النائم أن الوقت هو حكم الإرهاب فى عهد الثورة (الفرنسية)، وجعل يشهد بعض مناظر الموت المروعة، ثم دعى للمثول أمام المحكمة، وهناك رأى روبسبير، ومارا، وفوكييه-تانفيل وسائر الأبطال المفجعين لهذا العهد الرهيب، وسأله هؤلاء الحساب. ثم بعد عدة من التفاصيل لم يعد يذكرها، أدين وسيق إلى ساحة الإعدام، يحيط به جمهور لا حصر له. وصعد مورى على المنصة وشده الجلاد إلى العارضة، وانقلبت هذه، وهوى نصل المقصلة، وأحس مورى برأسه ينفصل من جذعه، فاستيقظ فى رعب، فإذا هو يتبين أن رأس السرير قد سقط، فأصاب عموده الفقرى عند العنق، مثلما يفعل نصل المقصلة .
أوردت هذا الحلم لسبب غير السبب الذى أورده فرويد وهو يحاول الربط بين الحدث الخارجى ومحتوى الحلم. إن هذا الحلم يظهر مدى التناسب الظاهرى بين الحدث المسئول عن محتوى الحلم وبين القصة الممتدة كل هذا الزمن، بمعـنى أن سقوط رأس السرير لم يستغرق سوى ثانية، أو بضع ثوان فى حين أن الحلم كما حكى، استغرق كل ذلك الزمن، بما يدعم فكرة تناهى صغر زمن الحلم، وعدم ارتباطه بالزمن المحكى فى محتوى الحلم، فضلا عن ترجيح ما سيأتى به الفرض من أن الحلم قد يكون قد تم تأليفه كله مع لحظة الاستيقاظ بسبب سقوط رأس السرير.
الملاحظة الثانية من خيرة شخصية أوردها كمثال:
كنت أقود سيارتى ليلا فى طريق مصر- اسكندرية الزراعى، وقبل كوبرى قليوب العلوى بعشرات الأمتار رأيـتنى وأنا أخطب فى جمع من الناس، وأنادى أخا لى، وأتوعد بعض المارقين، وأسمع أغنية سخيفة ثم أستيقظ فزعا-لأنى كنت مازلت أقود السيارة -وأجد السيارة لاتزال تسير مستقيمة وبسرعة، وأنظر إلى جارى الممتلئ يقظة فلا أجده قد لاحظ شيئا، فأعلم أنى حلمت كل هذه الأحداث فى جزء من الثانية، أو أقل أو أكثر قليلا، فأحكى الحلم لجارى فلا يكاد يصدق. أوردت هذا المثال الشخصى لتأكيد زمن الحلم المتناهى فى الصغر من ناحية، وللإشارة إلى عدم ضرورة علاقة محتوى الحلم بالأحداث الخارجية من جهة أخرى. ويمكن ربط هذه الفكرة المزعجة (تناهى صغر لحظة الحلم/ الإبداع) بمفاهيم كثيرة شائعة وصعبة الاستيعاب، مثل مفهوم الميكروجينى (الذى اقتطفه أريتى من فرنر)، و”لحظة” الإلهام عند المبدعين، وربما أصل به لمفهوم “الوثبة” فى إبداع الشعر… إلخ. مما لا مجال لتفصيله هنا.
[3] – هامش أورده فرويد فى “تفسير الأحلام” (الطبعة المترجمة نفسها) ص127
[4]- مائة عام من العزلة ص48.