نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 27-9-2015
السنة التاسعة
العدد: 2949
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (45)
نعمل حلم (4)
مزيد من العينات والتعقيبات
(حلم “محمد”)
مقدمة:
أولا: النص من جلسة العلاج نفسها 25/8/2010
د. يحيى لـ د. مروة(1) (بعد أن أنهت حلمها)
……………….، واحده واحده، تدى الكوره لمين من العيانين (2)
د. مروة: لمحمد
محمد:
انا دلوقتى حاسس ان انا ماشى فى طريق مالوش ملامح خالص، مش عارف الصح من الغلط، وماشى وحاسس ناس كتير عايزه تضيعني، وماشى برضه فى طريقى باحاول اجتهد وبرضه ماشى بتقابلنى عقبات من الماضى بتيأَّسنى شويه وارجع اقف تاني، وبرضه ماشى من غير عقبات المره دي، بس فيه استفزاز، ناس بيستفزونى وباحاول برضه
رضا: دى قصه دى مش حلم
محمد: مش عارف
د.يحيى: وصلت لفين فى الطريق ده
محمد: قابلت الدكتور محمد (الزميل المتدرب الثالث) واديته الكوره
تعقيب الآن: (26/9/2015)
نلاحظ فى حلم محمد وما أثاره من مشاركات ما يلى:
(1) أنه انطلق مباشرة وتلقائيا فبدأ بالتعبير الذى أكد عليه المعالج وهو “أنا دلوقتى“
(2) أنه لم يتردد ولم يتساءل عن كيف “يعمل حلم” وهو فى كامل يقظته
(3) أنه أعلن غموض الجو العام فى الحلم كخلفية، بما يدعم أنه فى وعى آخر (لعله ما أسميناه وعى الحلم على حافة اليقظة) “ماشى فى طريق مالوش ملامح خالص، مش عارف الصح من الغلط”،
(4) أن شخوص الحلم حضروا كتلة مجتمعة دون تمييز شخص بذاته ,ان هذه الجموع التى حضرت كانت تريد أن تضيّعه ” وحاسس ناس كتير عايزه تضيعني“
(5) أن تفاعله لم يكن هربا بل مقاومة وإصرارا على مواصلة السير “وماشى برضه فى طريقى باحاول اجتهد وبرضه ماشى “
(6) أن الزمن تحرك تلقائيا، فالعقبات ليست فقط آنية، بل آتية من الماضى تحاول أن تعيق مسيرته ” بتقابلنى عقبات من الماضى بتيأَّسنى شويه وارجع اقف تاني“
(7) أنه انتقل إلى فصل آخر من مسرحة الحلم :”مرة أخرى” ، “وبرضه ماشى من غير عقبات المره دي” إذن فقد كانت هناك “مرة أولى”، وهذه “مرة أخرى”. (كل ذلك فى ثوانٍ: أنظر بعد).
(8) وبرغم التخفيف من العقبات والإقلال من التعطيل، إلا أن التحدى لم يختفِ لكنه أصبح استفزازا بدلا من إعاقة، لكنه استفزاز لم يحُل دون موصلته السير فى طريقه ” بس فيه استفزاز، ناس بيستفزونى وباحاول برضه
ثم نلاحظ تدخل المريضة رضا بشكل يحتاج وقفة، إذ يبدو أنها افتقدت ما كانت تنتطره مما هو “نعمل حلم“، ربما بالمقارنة بالمحاولات الثلاثة السابقة من د. دينا، وصبرى، ود. مروة، فقالت (ناقدة):
“دى قصة دى مش حلم“، وقد رد عليها محمد: “مش عارف“، فاكد لى صدق نوع محاولته للتشكيل التلقائى دون وصاية من خيال، ثم إن المعالج حين تدخل بدعوة هادئة لدفع محمد لإكمال حلمه قائلا له ” وصلت لفين فى الطريق ده“، بادر بإنهاء الحلم فجأة وحسما ، بأن أعطى الدور لزميل متدرب”، ولكن بعد أن أدخله فى الحلم، فتداخل الواقع مع الحلم بسهولة تحتاج لملاحظة، وكان رد محمد على دعوة د, يحيى للإكمال أنه:
قابلت الدكتور محمد (الزميل المتدرب الثالث) واديته الكوره
وبرغم عدم موافقتى شخصيا على نقد “رضا” لمحمد، ووصفها له بأنه يحكى قصة وليس حلما ، فقد فرحتُ به ، ولم أعترض، فهذا رأيها، ولا بد أن لها تصوّر للفرق بين “الحلم”، وبين “القصة”، مع أننى شخصيا وجدتُ فى حلم محمد صدقا وعمقا وإبداعا، لكننى فرحت بتعقيب رضا ، حيث وصلنى أن الشخص العام له تصور عام (3) فى اتجاه الفروض التى تخطر لى من واقع الممارسة، وأن القصة (التى يمكن أن تقترب أكثر مما يسمى “حلم اليقظة”) هى غير الحلم كما أشارت رضا، برغم مبالغتها فى ذلك ثم نرجع إلى محمد.
(9) فنلاحظ أنه أنهى حلمه فى أقل من دقيقة (حسب الرصد فى التسجيل: 42 ثانية بالضبط) ودون توقف، مع تنوع النقلات والمشاعر.
من كل ذلك يمكن الاطمئنان إلى أن هذه التجربة “نعمل حلم” برغم غرابتها لأول وهلة، فهى ببساطة تكاد تدعم التفرقة بين الخيال والإبداع، وبين حلم اليقظة الذى يتم فى وعى اليقظة وبين هذه المعايشة التلقائية مع التحول الإرادى (فى مستوى معين) إلى “وعى الحلم” على هامش “وعى اليقظة” ، وقد ثبت من واقع ما جرى أن إبداع الحلم هو “فعل” يمارسه أى شخص لا يقال عنه أنه مبدع أو ما شابه، وهو ما عنيته من البداية وأنا أدافع عن فرضى الأساسى وهو أننا “نبدع أحلامنا” لا نتذكرها او نستعيدها من تسجيل مشكوك فى مصداقيته (مما سنعود إليه لاحقا)
وبعد
ثم نعرض – كالعادة- لبعض ما جاءنا فى بريد الجمعة تعقيبا على التجربة ككل، وكيف ناقشناه، مع إضافة ما ينبغى أن يضاف بعد هذه المدة (أكثر من خمس سنوات):
جاءنا فى بريد الجمعة ما يلى:
د. أحمد عثمان
رغم غموض ما نحن بصدده سواء الفرض او موضوع الفرض الا أننى لم أستطع ايقاف إلحاح رغبتى في المشاركة فى “عمل حلم” انا كمان و اكتشفت الاتى:
– البداية رغم عدم الفهم هى صعبة ولكنها صعوبة فى الابتداء اساسا.
– تختفى الصعوبة فجأة وتبدأ رحلة او شىء اخر متدفق لم اجده كالخيال “كما كنت أتوقع” فهو أكثر حيوية ومتعة .
– الإحساس بالزمن جاء مختلفا ومدهشا ومفرحا ايضا وكاننى خبرت خبرة الخلق اللى بحق.
– لم أدر ما الذى دفعنى للتوقف وأن أقول: “كفاية كده”
– هناك حالة من الاستمرار: حالة ايجابية مفرحة بعد الخبرة و رغبة ملحة أيضا فى تكرارها.
فرددت عليه – فى البريد – قائلا:
د. يحيى:
البدء بالغموض أمر رائع، وهو يحتاج إلى الصبر قبل الإسراع إلى التفسير والتأويل، والصعوبة أيضا كانت – كما وصلتنى منك – حافزاً إلى رحلة المعرفة المفرحة، وقد كدت أرفض وصفها بالمفرحة لولا أنك لحقتنى فوصفت أنها خبرة الخلق، أما توقفك فهو رائع أيضا لأنه ضد ما يسمى “استرسال الخيال”، لأنك – لأننا – بهذه التجربة تجاوزنا مجال الخيال، وأيضا تجاوزنا أن نُسْجَن فى الواقع الخارجى المحكَم، تجاوزنا هذا وذاك، إلى رحابة الإبداع غالبا.
والآن (26/9/2015) أجد الرد غير كاف، فأضيف:
- لم يذكر لنا الزميل المعقّب نص محاولته البديعة، وإن كان وصفه للخبرة، وبالذات خبرة الإبداع جاء وصفا شديد الدقة والصدق، وهو وصف يؤكد أن الإبداع ليس حكرا على من يسمون المبدعين، ولا هو بكل ما يصفونه به من تعقيد وصعوبة وخصوصية، وقد ظهر من التجربة ومن التعقيب أنه يحتاج إلى الطلاقة والسماح أكثر مما يحتاج إلى المهارة والحذق، وخاصة فى مجال ما اسميه “إبداع الشخص العادى”، وأعنى به الذى لا يصنّف عادة بين صفوة المبدعين
- ثم إن وصف المعقب الفاضل لمشاعره كان وصفا شديد الحساسية والدلالة “وكاننى خبرت خبرة الخلق اللى بحق“.
- ثم نلاحظ إدراكه لاختلاف نوعية إحساسه بالزمن دون الاستطراد فى وصف ذلك (فهو غالبا غير قابل للوصف لاختلاف نوعية الوعى)
- كذلك نلاحظ صدق المعقب وهو يقول: “لم أدر ما الذى دفعنى للتوقف وأن اقول “كفاية كده”، ولعل فى ذلك ما يقارب خبرة “محمد” صاحب حلم اليوم حين توقف فجأة، بعد نيف وأربعين ثانية، وقرر أن يسلم الدور (يعطى الكرة) لزميلنا الثالث دون تردد، ولم يقبل، أو لم يستطع، أن يكمل.
- أما استمرار الحالة الإيجابية التى وصفها المعقب بأنها “حالة إيجابية مفرحة بعد الخبرة ورغبة ملحة أيضا فى تكرارها” فهى تشبه كثيرا نشوة المبدعين حين ينجزون ما خاضوا غماره أثناء عملية الإبداع، طالت أم قصرت.
- وأخيرا، فمن المعروف أن الإبداع يولـّد الإبداع فى معظم الأحوال (إلا إبداع بيضة الديك)(4)، وهذا ما أقره المعقب مما يؤكد أن هذه التجربة المتواضعة التى طرحت على بساط الوعى العام وليس وعى الصفوة المبدعة، فى مجموعة من عامة الناس البسطاء، هى إبداع مهما أثار ذلك حفيظة بعض محتكرى ما يسمى الإبداع، وهذا يعيدنا إلى الفرض الحالى عن طبيعة كل الأحلام عند كل الناس: أنها نوع من الإبداع.
[1] – د. مروة طبيبة زميلة متدربة، وهى آخر واحدة لعبت ونشرنا نص حلمها الأربعاء الماضى: 23/9/2015
[2] – تعبير “تدى الكورة لمين” نقصد به من الذى تختار ليلعب بعدك، وتحديد التوجيه من المعالج هنا مقصود به أن يكون الدور على أحد المرضى وليس لمتدرب أو متدربة، وهذا مقصود حتى لا يتأثر فريق بأداء الآخر ما أمكن ذلك.
[3] – أستعمل تعبير الشخص العام (وليس العادى) لأن كلمة “عادى” تنفى عادة المرض، ونحن فى سياق علاج جمعى لمرضى، وإنما أقصد بالعادى هنا، أى شخص يمكن أن يمثل مجموع الناس دون تحديد لثقافة معينة، أو تعليم مميز، وهو ما شرحاناه فى بداية وصف المشاركين فى هذا العلاج المجانى فى مستشفى جامعى عام.
[4] – يعتقد أهل بعض القرى في جزيرة العرب أن الديك يبيض في العمر مرة واحدة، ويطلق هذا التعبير على بعض المبدعين الذين لا ينتجون طوال حياته إلا عملا واحدا، وقد يكون من أروع الإبداع فعلا.