الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (41) الوعى البينشخصى

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (41) الوعى البينشخصى

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 20-9-2015

السنة التاسعة

العدد: 2942

 الأساس فى الطب النفسى 

 الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:

 ملف اضطرابات الوعى (41)

الوعى البينشخصى

ونقد النص البشرى: فى الأدب والشعر والجنون

مقتطف (من الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع):(1)

“… إذا‏ ‏كان‏ ‏الحلم‏ ‏ليس‏ ‏حلما‏ ‏بل‏ ‏إبداعا‏ ‏مكثفا‏، ‏وتفسيره ‏‏ليس‏ ‏تفسيرا‏ ‏بل‏ ‏قراءة‏ ‏مبدعة (أو ينبغى أن يكون كذلك) ‏، ‏فالنقد‏ ‏الأدبى ‏ليس‏ حكما على نص، لكنه ‏إبداع‏ ‏على ‏إبداع‏، ‏وهو‏ ‏أهم ‏أشكال‏ ‏الإبداع‏ ‏التالى ‏القادر‏ ‏على ‏أن‏ ‏يضيف‏ ‏ويمتد‏(2)،(والعكس صحيح)

‏ ‏وقد‏ ‏بلغ‏ ‏بى ‏الأمر‏- ‏وهذه‏ ‏مغالاة‏ ‏أعترف‏ ‏بها‏- ‏أننى ‏تصورت –خطأً-‏ ‏أن‏ ‏النقد‏ ‏الذى ‏يُثبت‏ ‏فى ‏نهايته‏ ‏مـراجع‏ ‏ما‏ (‏بالأسلوب‏ ‏العلمى ‏التقليدى، ‏الدفاعى، ‏أو‏ ‏الاستعراضى) ‏قد‏ ‏تقل‏ ‏جرعة‏ ‏الإبداع‏ ‏فيه‏، …..،

النقد‏ ‏قد‏ ‏يرتقى، ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏وصل‏ ‏إلى ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏التحرر‏ ‏من‏ ‏الحبكة‏ ‏المدعمة‏ ‏بالأدلة‏ ‏الدفاعية‏ ‏أو‏ ‏التفسيرية‏، ‏إلى ‏درجة‏ ‏إبداعية‏ ‏لا‏ ‏تقل‏ ‏عن‏ ‏إبداعية‏ ‏النص‏ ‏الإنشائى ‏قيد‏ ‏النقد‏.‏

لتوضيح‏ ‏ذلك‏ ‏أشير‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏عددته‏ ‏نقدا‏ ‏لعمل‏ ‏أصيل‏، ‏بعمل‏ ‏مماثل‏ ‏مواكب‏، ‏وكان‏ ‏هذا‏ ‏المثال‏ ‏عندى ‏هو‏ ‏النموذج‏ ‏الأقصى ‏لما‏ ‏أسميته‏ ‏إبداعا‏ ‏على ‏إبداع‏ ، وذلك‏ ‏هو‏ ‏قصيدة‏ “‏محمود‏ ‏محمد‏ ‏شاكر‏”: “‏القوس‏ ‏العذراء‏” ‏على ‏قصيدة‏ ‏الشماخ‏ ‏بن‏ ‏ضرار‏ ‏الغطفانى ‏فى ‏قوس‏ ‏عامر‏ ‏أخى ‏الخضر(3)، لكن هذا لا ينبغى أن يبرر أن‏ ‏يدرج‏ ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏نقد‏ ‏إبداعى ‏كل‏ ‏المعالجات‏ ‏التى ‏عولجت‏ ‏بها‏ ‏نصوص‏ ‏قديمة‏ ‏أو‏ ‏حديثة ‏ولكن‏ ‏بأسلوب‏ ‏فنى ‏جديد‏، ‏خاصة‏ ‏فى ‏المسرح‏ ‏أو‏ ‏ماشابه‏، (‏وأيضا فى المعارضات الشعرية) فأغلبها‏ ‏محاولات‏ ‏أدنى ‏إبداعا‏ ‏من‏ ‏مسرحة‏ ‏النص‏ ‏الأصلى ‏وخاصة‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏محتويا‏ ‏لنبض‏ ‏أعمق‏ ‏يمثل‏ “‏الحلم‏ ‏الجمعي‏” ‏الذى ‏كان‏ ‏له‏ ‏حضور‏ ‏طاغ‏ ‏فى ‏الأساطير‏ ‏خاصة‏.‏

‏ ‏وكما نوهتُ إلى‏ ‏أنه‏ ‏لايصح‏ ‏أن‏ ‏نُستدرج‏ ‏إلى ‏تفسير‏ ‏الحلم‏، ‏كذلك‏ ‏لايصح‏ ‏أن‏ ‏نتعامل‏ ‏مع‏ ‏النص‏ الأدبى (والشعر أكثر) ‏كما‏ ‏لو‏ ‏كنا‏ ‏نفسره‏، ‏بخاصة‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بالمبالغة‏ ‏فى ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏أسبابه‏ ‏المتعلقة‏ ‏بالمبدع‏ (‏ظاهر‏ ‏شخصيته‏ المبدع ‏بالذات‏)(4).

………….

“….كذلك ‏ ‏لا‏ ‏يجوز‏ ‏تفسير‏ ‏النص‏ ‏الأدبى، ‏بتحليله‏ ‏إلى ‏مفرداته‏ ‏فحسب‏، ‏بما‏ ‏يقابل‏ ‏نظام‏ ‏فولك(5) لتفسير الأحلام‏ (‏نظام‏ ‏تسجيلى ‏للبنية‏ ‏الكامنة‏) SSLS، ‏وقد‏ ‏قابلت‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏ ‏فى ‏الدراسات‏ ‏النقدية‏ ‏التحليلية‏ ‏الملتزمة‏ ‏تحت‏ ‏أسماء‏ ‏مختلفة‏….، ‏ولكننى ‏كنت‏ ‏أجدنى ‏أبتعد‏ ‏عن‏ ‏النص‏ ‏الأدبى ‏كلما‏ ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏أمام‏ ‏معادلات‏، ‏ورسوم‏ ‏بيانية‏، …..، ‏تهددنى ‏بأن‏ ‏عائدها‏ ‏على ‏المبدعين‏ ‏قد‏ ‏ينتهى ‏بنا‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏يشبه‏ ‏الإبداع‏ ‏الكمبيوترى، ‏ثم‏ ‏إنى ‏فى ‏حدود‏ ‏تعرفى ‏المتواضع‏ ‏على ‏الظاهرة‏ ‏البشرية‏ ‏حالة‏ ‏كونها‏: ‏حالمة‏/‏مجنونة‏/‏مبدعة‏، ‏لا‏ ‏أملك‏ ‏إزاء‏ ‏هذه‏ ‏الممارسات‏ ‏إلا‏ ‏الشكر‏ ‏والتأدّب‏، ‏فى ‏محاولة‏ ‏الاستفادة‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏العلوم‏ ‏المساعدة‏، ‏ولكن‏ ‏ليس‏ ‏على ‏حساب‏ ‏النقد‏ ‏الإبداعى، ‏وإنما‏ ‏دفعا‏ ‏له‏ ‏وإثراء‏، ‏لتحقيق‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏ماذهب‏ ‏إليه‏ ‏أساجيولى Assagioli))(6)، ‏مما‏ ‏أسماه‏ ‏الولاف‏ ‏النفسى Psycho-synthesis ‏وهو‏ ‏العملية‏ ‏العكسية‏، ‏والمكملة‏، ‏للتحليل‏ ‏النفسى. ‏وهذا‏ ‏أقرب‏ ‏إلى ‏فكر‏ ‏يونج‏ ‏…، ‏حيث‏ ‏يكون‏ ‏الهدف‏ ‏من‏ ‏التحليل‏ ‏هو‏ ‏التكامل‏ ‏بما‏ ‏أعطى (‏أكثر‏ ‏من‏ ‏تسليك‏ ‏الطريق‏ ‏لما‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏ينطلق‏) ‏ليحقق‏ ‏الولاف‏ ‏المتجاوز‏، ‏والمتفرد‏.

على نفس القياس نرى أن ‏ ‏النقد‏ ‏الإبداعى ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يعطى ‏للتحليل‏ ‏الإحصائى، ‏أو‏ ‏البيانى، ‏أو‏ ‏التخطيطى، ‏جرعة‏ ‏أكبر‏ ‏من‏ ‏توظيفه‏ ‏فى ‏خدمة‏ ‏الإبداع‏ ‏المكمل‏ ‏له‏. ‏أما‏ ‏إذا‏ ‏احتل‏ ‏التحليل‏ (‏إلى ‏المفردات‏ ‏والوحدات‏) ‏كل‏ ‏الساحة‏، ‏كأنه‏ ‏هو‏ ‏النقد‏، ‏فسيقع‏ ‏فيما‏ ‏وقع‏ ‏فيه‏ ‏تفسير‏ ‏الأحلام‏ ‏من‏ ‏منطق‏ ‏التحليل‏ ‏الفرويدى، ‏أو‏ ‏منطلق‏ ‏طريقة‏ ‏النظام‏ ‏التسجيلى ‏للبنية‏ ‏الكامنة الذى أشرنا إليه حالا.

(انتهى المقتطف)

وبعد

 (18 سبتمبر 2015)

..ثم تطور بى الحال وأنا أغوص وأطفو فى محيط الإدراك، ثم الوجدان بما فى ذلك العقل الوجدانى الاعتمالى(7)، ثم الوعى بمستوياته وغموضه واستحالة تحديده بشكل جامع مانع مثلما نفعل مع  بقية الوظائف النفسة، وكذلك تطور فى مجال الإئتناس بمناهج من خارج ما يسمى العلم (التقليدى والسلطوى)، كان من أهمها التجريب أثناء العلاج الجمعى، سواء بالألعاب (نشرة 17-11-2013)، (نشرة 21-8-2012)، أو المينى دراما النابعة من ثقافتنا (نشرة 6-10-2013)  ثم من خلال الطليق استلهاما من  مواقف النفرى(8)، ثم فروضى المتلاحقة فى الوجدان والإدراك والوعى والأحلام جميعا، وقد تبين لى من خلال كل ذلك:

إننا ما لم نستعمل لغة الجدل والحوار بين مستويات الوعى المختلفة، ونحن نبدع (لا نفسر) النصوص المتاحة (من أول النص الأدبى، حتى النص البشرى، وخاصة نص المجنون ونص الحالم  ونص المعالج) فنحن أبعد ما نكون عن المنهج الأصوب.

(انتهى المقتطف، مع إضافة بعض الإيصاحات بين قوسين بخط مائل، كما أن النقط تمثل محذوفا ليستقيم السياق المختصر)

بالنسبة لكل النصوص السالفة الذكر، بما فى ذلك قصيدة النثر، فإنه يوجد شكل  محدد المعالم نستطيع أن ننطلق منه دون وصاية عليه، أما بالنسبة للحلم (المحكى) وقد أقمنا شكوكا هائلة حول علاقته بالحلم الأصل وحول علاقته بحركية نبض النوم عامة  (بطوْريه: بحركة العين السريعة وبدونها  REM & NREM)، لا بد أن يثار تساؤل عن: ما هو النص الحلمىّ الذى نبدأ منه إذا تكلمنا عن الإبداع النقدى بديلا عن التفسير المتحفَّظ عليه (من جنبنا على الأقل)؟

الوعى البينشخصي  والنقد الإبداعي (تجربة شخصية)

فى تجربة نقدية شخصية غامرتُ بعملٍ نقدىٍّ صعب، ولم  يكن فى ذهنى حينذاك أى  محاولة لتطبيق فروضى، حين قمت بنقد آخر عمل تركه لنا نجيب محفوظ “أحلام فترة المراهقة ” بطريقتين:

الأولى: هى قراءة نقدية تقليدية (تقريبا)، مع اعتبار علاقة ظاهرة وخفية بحركية الحلم التى قلبها محفوظ بوعى فائق إلى تشكيلات إبداعية

والثانية: باستجابة نقدية تلقائية استلهمتُها أيضا من قصيدة “القوس العذراء” لمحمود محمد شاكر على قصيدة الشماخ، وقد شجعنى على ذلك أننى اعتبرت أحلام محفوظ هذه شعرا خالصا، وأن الشعر لا ينقد إلا شعرا كما أشرنا.

حين أنهيت الخبرة، وتم نشر الكتاب(9) رحت أراجع ما فعلت بمناسبة احتمال نشر مجموعة أخرى من أحلام جديدة(10) فوجدت ما يلى:

إن النقد الإبداعى هو استجابة وعى الناقد لما حرّكه النص الأصلى، وهى استجابة فيها من إعادة التشكيل أكثر مما بها من محاولة التفسير (تماما كما ذهبت إليه فى تناول تفسير الحلم الظاهر)، وأن هذا يتم من خلال حوار جدلى بين وعى المبدع الأصلى ووعى الناقد المبدع جدلا وتخليقا بلا أى محاولة لفك الرموز أو فهم المغزى.

وقد اتبعت الطريقة التقليدية (مع نقدها أحيانا) فى 52 حلما

ثم استوحيت (فى بقية الأحلام 157حلما) ما تحرك من وعى عندى لأستلهم من الوعى الذى وصلنى من النص ما تيسر من تشكيلاتى تكاملا مع الإبداع الاصلى،

وفيما يلى عينتين من الطريقتين من نفس العمل.

أولا : النقد تفسيرا (مع تحفظ منهجى): حلم (11)

اللحن الأساسى:

فى ظل نخلة على الشاطئ استلقت على ظهرها أمرأة فارعة الطول ريانة الجسد وكشفت عن صدرها ونادت. يزحف نحوها أطفال لا يحصرهم العد. وتزاحموا على ثدييها ورضعوا بشراهة غير معهودة، وكلما انتهت جماعة أقبلت أخرى وبدا أن الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم. وخيل إلىّ أن الحال تقتضى التنبيه أو الاستغاثة ولكن الناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل. وحاولت النداء ولكن الصوت لم يخرج من فمى وأطبق على صدرى ضيق شديد. أما الأطفال والمرأة فقد تركوها جلدة على عظم ولما يئسوا من مزيد من اللبن راحوا ينهشون اللحم حتى تحولت بينهم إلى هيكل عظمى. وشعرت بأنه كان يجب على أن أفعل شيئا أن أكثر من النداء الذى لم يخرج من فمى وأذهلنى أن الأطفال بعد يأس من اللبن واللحم التحموا فى معركة وحشية فسالت دماؤهم وتخرقت لحومهم. ولمحنى بعض منهم فأقبلوا نحوى أنا لعمل المستحيل فى رحاب الرعب الشامل.

القراءة:

من السهل أن نقول إن هذه المرأة هى “مصر”(11)، ثم نقرأ الحلم وكأنه رمز صريح مباشر لمصر وما يفعله بها بعض أبنائها.

هل هذا يكفى؟

هل هذه المرأة هى هى “البقرة السودا النطاحة” التى ناح عليها الشيخ إمام منذ 1968 وهو يرقِّص كلمات أحمد فؤاد نجم: “ناح النواح والنواحة، عالبقرة السودا النطاحة، والبقرة حالوب….حاحا، تحلب قنطار….حاحا، لكن مسلوب..….حاحا، من أهل الدار….حاحا ؟؟”  ..إلخ؟

بل إن الرمز فى هذا الحلم أكثر وضوحا، فالنيل أكثر حضورا بنخيله  وطوله الفارع، وجسده الفيضان، (أعنى الريّان!!) والناس يغطون فى النوم على شاطئ النيل، ماذا يتبقى بعد ذلك لتكون هذه المرأة هى “هبة النيل”؟  هل هذا يكفى؟ هل يكون الإبداع إبداعا إذا اكتفى بوصف الحاضر رمزا، مهما بلغ إتقان التشكيل، وجمال التوليف؟

 ليس عندى مانع! ولكن: دعونا نبحث فى بعض ما هو “قبل وبعد ذلك”:

المرأة هنا هى التى تنادى، وهى لم تنادِ أطفالها، هى تكشف عن صدرها وتنادى فقط، ربما هى إشارة إلى وفرة العطاء الذى فاض عنها فيضانا لا تريد بحكمتها أن ينتهى إلى البحر، فناسُها أولى بعطائها، بل لعل النداء موجه لكل الناس. ينفتح العطاء ويغمر حين لا يتحدْد المُنَادَى (بفتح الدال) المرأة نادَت (فقط)، “كشفت عن صدرها ونادت” وهذا هو العطاء الأكرم.

 الأطفال – وليس الناس – هم الذين زحفوا نحوها وتزاحموا على ثدييها، بينما الناس كانوا “يغطون فى النوم على شاطئ النيل”، أطفال بلا حصر، مختلفو الهوية، ليسوا أطفالها بالضرورة، أما ناسها فهم نيام نيام!!.

أطفال فى جماعات تتلاحق، هل هم الحكام المصريون جيلا بعد جيل؟ الحكام منذ الفراعنة وقبلهم؟ على حساب الناس الغافلين!؟ هل هم الغزاة المستعمرون؟ حَمْلةْ بعد حَمْلةْ؟ فلماذا هؤلاء أو أولئك ظهروا  فى الصورة أطفالاً؟

ربما يتعلق ذلك بما سبق أن أشرتُ إليه عن أحد أوجه معالم الطفولة، أعنى  ضراوة الطفولة وقسوتها إذا هى انفصلت عن الفطرة المتكاملة فأصبحت البدائية لا الطفولة؟(12)

هذا السعار المتتالى  جيلا بعد جيل، هو أقرب إلى سعار التكالب على السلطة، والاستقلال، والاستعمار جميعا، وفى حالتنا هذه: هى سلطة بلا قانونٍ يردعها، بلا عدلٍ يزن تصرفها (الأمر أفلت زمامه وتمرد على كل تنظيم) ، الأطفال هنا إذن يمثلون سعار عدم الأمان البدائى الذى قلت فيه يوماً:      “…..

من فرط الجوع التهم الطفلُ الطفلْ،

فإذا أطلقتُ سُعارى بعد فواتِ الوقتْ، ملكنِىَ الخوفُ عليكمْ

 فلقد ألتهم الواحد منكم تلو الآخر، دون شبع”(13)

حين يمتد الالتهام من الرضاعة إلى امتصاص وجود الأم المصدر، ثم نهش لحمها، حتى تصير هيكلاً عظمياً، إلى التقاتل بين القتلة المسعورين، فهو نذير ذو شقين: أولا أنهم بدلا من أن يرعوها احتراما لكرم ندائها دون تمييز، لتظل تفيض عليهم من جسدها الريان، غلبهم الجشع والجوع الذى لا يشبع، فذبحوا الدجاجة التى تبيض ذهبا، ثم إن ذلك لم يروِهِم، فانقلبوا يتقاتلون حتى لاح لى أنهم انتهوا إلى أن يكونوا من أكلة لحوم البشر، لا أكثر.

هل كانوا كلهم كذلك؟ الإجابة بالنفى، لأن الذى استغاث بالراوى كان “بعض منهم ” أقبلوا نحوه لعمل المستحيل.

دور الراوى هنا هكذا كشف لى عن دلالة مستقلة، فهو منذ البداية يشعر أن ما هكذا تكون الرضاعة، وما هكذا تكون الاستجابة لكرم نداء المرأة المعطاء، وهو لايكتفى بهذا الحدس المتخوف، بل إنه يشعر بالحاجة إلى التكاتف لإجهاض هذه الجريمة المتمادية، وذلك حين خيل إليه – ومن البداية – “أن الحال تستدعى التنبيه أو الاستغاثة”،

ينتهى الحلم  -كما أشرنا- باستغاثة بعض الأطفال القتلة بالراوى نفسه “لعمل المستحيل”، لنتذكر أنه هو الذى همّ بالاستغاثة أول الحلم،

 لماذا كانت الاستغاثة بلا جدوى؟ لأنها جاءت بعد الأوان، انتهت البقرة، ولم يشبع الأطفال بل ازدادوا سعاراً وتقتيلا فى بعضهم البعض، حين يصل الأمر إلى مثل ذلك، لا يكون أمامنا إلا المستحيل..

ثانيا : النقد إبداعا: باستثارة الوعى البينشخصى: حلم (53)

نص اللحن الاساسى:

سألت‏ ‏عن‏ ‏صديقى ‏فقيل‏ ‏لى ‏إن‏ ‏الموسيقار‏ ‏الشيخ‏ ‏زكريا‏ ‏أحمد(14) ‏يسهر‏ ‏فى ‏بيته‏ ‏كل‏ ‏ليلة‏ ‏شاديا‏ ‏بألحانه‏ ‏حتى ‏مطلع‏ ‏الفجر‏ ‏فقلت‏ ‏يا‏ ‏بخته‏ ‏ودعيت‏ ‏لحضور‏ ‏سهرة‏ ‏فذهبت‏ ‏إلى ‏الحجرة‏ ‏الواسعة‏ ‏المزخرفة‏ ‏جدرانها‏ ‏بالأرابيسك‏ .. ‏ورأيت‏ ‏الشيخ‏ ‏زكريا‏ ‏جالسا‏ ‏على ‏أريكة‏ ‏محتضنا‏ ‏عوده‏ ‏وهو‏ ‏يغنى ‘‏هوه‏ ‏ده‏ ‏يخلص‏ ‏من‏ ‏الله‏’ ‏وفى ‏حلقة‏ ‏جلست‏ ‏الأسرة‏ ‏نساء‏ ‏وأطفالا‏ ‏وبينها‏ ‏رجل‏ ‏معلق‏ ‏من‏ ‏قدميه‏ ‏وتحت‏ ‏رأسه‏ ‏على ‏مبعدة‏ ‏ذراع‏ ‏طست‏ ‏ملئ‏ ‏بمية‏ ‏النار‏.‏

(نجيب محفوظ)

‏ ‏وضاعف‏ ‏من‏ ‏ذهولى ‏أن‏ ‏الجميع‏ ‏كانوا‏ ‏يتابعون‏ ‏الغناء‏ ‏دون‏ ‏أدنى ‏التفات‏ ‏إلى ‏الرجل‏ ‏المعذب‏.‏

تقاسيم على اللحن الأساسى

(استثارة الوعى البينشخصى إبداعا تكامليا ):

… قالت المرأة المتنقبة للرجل الأملس، إن هذا هو آخر ما كنت أتصوره من الشيخ زكريا بالذات، ردّ الرجل بصوت عالٍ مع أنه كان يتلفت: ما عليك، المهم هو ما سيكون بيننا بعد السهرة، فقالت هامسة: إخفض صوتك.

وصاح طفل من المتحلقين حول الرجل المعلّق صياحا غامضا كأنه يطلب ماء أو أماناً، فزع الجميع لأن صياحه أخذ يتصاعد حتى بدا كعواء ذئب جائع، بل مسعور، وتحرك العطش فى الجميع دون استثناء.

 نبه الشيخ سيد درويش أنه “ما هكذا يكون الغناء”،

 سأله محمد عبد الوهاب: إذن كيف يكون؟

قال السيد أحمد عبد الجواد: يا جماعة دعونا نستمع الله يخليكم، هل هذا وقته؟

ويلاحظ الجميع، أن الرجل المعلق مازالت تدب فيه الحياة جدا. ويسأل جار جاره: ألا يشبه وجهه وجه “أحمد عاكف”، فيرد: لست متأكدا، لكن صوت سعاله يشبهه.

ثم خطف الأطفال طست ماء النار وجروا به وهو يترجرجر بين أيديهم إلى خارج الدار فرحين مهللين، فولولت النسوة وهرولت إحداهن  وراء الأطفال، فاصطدمت بالرجل المعلق الذى ابتسم وغمز بعينه اليسرى برغم رعبه وألمه، فزغردت بقية النسوة ورحن يتراقصن معه وهن يصنعن كورسا مع المحيطين بالشيخ، مرددين من جديد:

 “هوا دا يخلص من الله”.

(يحيى الرخاوى)

[1] – يحيى الرخاوى: “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” مجلة فصول-  المجلد الخامس- العدد الثانى- 1985

[2]- ‏خطر‏ ‏لى ‏أن‏ ‏كل‏ ‏الممارسات‏ ‏النقدية‏ ‏التى ‏تخلو‏ ‏من‏ ‏إبداع‏ ‏أصيل‏ (‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الممارسات‏ ‏الأكاديمية‏‏): ‏لا ينبغى أن تعتبر نقدا إبداعيا، وأن الأجدر بها أن تسمى باسم: ‏تطبيقات ‏العلوم‏ ‏النقدية‏ ‏المساعدة.‏.‏

[3]- محمود‏ ‏محمد‏ ‏شاكر‏: “‏القوس‏ ‏العذراء” ‏مكتبة‏ ‏الخانجى ‏القاهرة‏. ‏الطبعة‏ ‏الثانية‏.‏

[4]- أشير‏ ‏بوجه‏ ‏خاص‏ ‏إلى ‏المعالجات‏ ‏التى ‏تفرض‏ ‏إيديولوجيات‏ ‏اجتماعية‏، ‏أو‏ ‏اقتصادية‏ ‏حديثة‏ ‏على ‏النص‏ ‏القديم‏، ‏فتعلن‏ ‏وصاية‏ ‏الوعى ‏اليقظ‏، ‏بما‏ ‏يفسد‏ ‏الأصل‏، ‏لا‏ ‏يبدعه‏ ‏جديدا‏.‏

[5] – “‏فولك‏” Foulkes: “‏نظام‏ ‏تسجيل‏ ‏للبنية‏ ‏الكامنة‏” SSLS، ‏وواضع‏ ‏النظام‏ ‏هو‏ ‏من‏ ‏رواد‏ ‏البحث‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏النفسفسيولوجى ‏فى ‏الأحلام‏، ‏وقد‏ ‏انطلق‏ ‏فولك‏ ‏من‏ ‏فرويد‏ -‏كالعادة‏- ‏ليوفق‏ ‏بينه -‏بشكل‏ ‏ما‏- ‏وبين‏ ‏معطيات‏ “‏علم‏ ‏نفس‏ ‏الأنا‏” ‏وبنيوية‏ ‏ليفى ‏شترواس‏، ‏وبياجيه‏، ‏ولغوية‏ ‏تشومسكى، والأبحاث‏ ‏النفسلغوية‏، ‏وكذلك‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏المعرفى ‏الحديث‏، ‏دون‏ ‏إغفال‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏السوفيتى، ‏وكذلك‏ ‏دون‏ ‏إهمال‏ ‏عطاء‏ ‏علم‏ ‏النفس‏ ‏العصبى. ‏وقد‏ ‏تمكن‏ ‏فولك‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يؤلف‏ ‏بين‏ ‏تفسير‏ ‏أحلام‏ ‏فرويد‏ ‏والبنيوية‏ ‏اللغوية‏ ‏لـ‏ “‏تشومسكى”، ‏فأظهر‏ ‏أن‏ ‏العلاقات‏ ‏بين‏ ‏تصاوير‏ ‏الحلم‏ ‏مقابلة‏ ‏لوحدات‏ ‏الجمل‏ ‏فى ‏التحليل‏ ‏اللغوى، ‏كما‏ ‏قدم‏ ‏نموذجا‏ ‏حسابيا‏ ‏لإخراج‏ ‏الحلم‏ (‏كما‏ ‏وصفه‏ ‏فرويد‏) ‏مستعملا‏ ‏نظرية‏ “‏الدوغراف‏”، ‏وبذا‏ ‏أصبحت‏ ‏دراسة‏ ‏الحلم‏ -‏عنده‏- ‏ممكنة‏، ‏بطريقة‏ ‏منظمة‏، ‏محكمة‏ ‏تماما‏.‏

[6]- Assagioli. R: Psychosynthesis, Psychosynthesis Research Foundation, (1965), New York.

[7] – Emotionally Processing Mind

[8] – مثلا موقف الليل: نشرة 19-9-2015،  ونشرة: 12-9-2015

[9] – يحيى الرخاوى: (“عن طبيعة الحلم والإبداع” دراسة نقدية فى: “أحلام فترة النقاهة” نجيب محفوظ) دار الشروق سنة 2011..

[10] – نشرة يوم الخميس الماضى  17-9-2015 قراءة فى صفحة 206 من الكراسة الأولى  

[11] – حتى حميدة فى زقاق المدق قالوا – تعسفا- إنها مصر!! فما بالك بهذه المباشرة هنا؟

[12] – النشرة اليومية “الإنسان والتطور” 6-11-2007 “عن الفطرة والجسد وتَصْنيم الألفاظ” www.rakahwy.org

[13] – يحيى الرخاوى “الوجود المثقوب” ديوان سر اللعبة، 1978، القاهرة، دار الغد للثقافة والنشر. (وشرح على المتن “الفصل السابع” فى دراسة فى علم السيكوباثولوجى 1979).

[14] – حين قرأت اسم الشيخ زكريا أحمد فى هذا الحلم تذكرت بعض ما حدثنى شيخى عنه، فعدت إلى أوراقى، وقلت أقتطف هذه الأسطر مما سجلته آنذاك، (وهو مقتطف ليس له علاقة مباشرة بالحلم)

الخميس‏: 19-1-1995‏

‏…. ثم‏ ‏عاد‏ الأستاذ‏ ‏يهاجم‏ ‏مرض السكر‏ ‏ويذكر‏ ‏الشيخ‏ ‏زكريا‏ ‏أحمد‏, ‏وأنه‏ ‏كان‏ ‏مصابا‏ ‏بالسكر‏ ‏حتى‏ ‏ظهرت‏ ‏له‏ ‏دمامل‏ ‏في‏ ‏كل‏ ‏جسمه، ‏وأنه‏ ‏كان‏ ‏يذهب‏ ‏ليعوده‏ ‏في‏ ‏الفجالة، ‏فيفتح الشيخ زكريا‏ ‏الصوان‏ ‏فى‏ ‏حجرة‏ ‏نومه‏ ‏ويريهم‏ ‏ما‏ ‏تفضل‏ ‏عليه‏ ‏أهل‏ ‏المزاج‏ ‏بالهدايا‏ ‏المناسبة‏ ‏تقديرا‏ ‏لفنه‏، ‏وحين‏ ‏زاره‏ ‏محمد‏ عبد ‏الوهاب‏، ‏وأطلع‏ ‏علي‏ ‏ذلك‏ ‏فزع‏ ‏خائفا‏ ‏وتراجع …الخ.

… وتوالت‏ ‏الذكريات‏ ‏بشكل‏ ‏هاديء‏ ‏رائع‏ ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أتابع‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏قيل‏ ‏من‏ ‏أسماء‏ ‏وأغاني‏ ‏ومخرجين‏، حتى قال‏ ‏الأستاذ‏: ‏هذه‏ ‏هي‏ ‏الفترة‏ ‏التي‏ ‏كنا‏ ‏فيها‏ ‏واقعين‏ ‏في‏ ‏أسر‏ ‏الشيخ‏ ‏زكريا‏ ‏أحمد‏ و‏نكثر‏ ‏من‏ ‏التردد‏ ‏عليه‏.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *