نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 6-7-2015
السنة الثامنة
العدد: 2866
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية: الفصل السادس:
ملف اضطرابات الوعى (20)
صدمة معرفية!! والمحاولة مستمرة
نبهت أمس إلى مدى ما يمكن أن يتطرق إليه بحثنا فى هذا الجانب من الوعى: وعى النوم ووعى الحلم، وخشيت أننا بذلك قد نبتعد عن اهتمامات الطبيب/المعالج بقدر لا يمكن تداركه، وفى نفس الوقت اكتشفت أننى حين أصر على أن ما أكتبه فى هذه المرحلة فى هذا العمل الذى لم أستقر على تغيير عنوانه بعد هو مرحلة “قراءة النص البشرى”، وهى كما ذكرت أمس مرحلة ضرورية، تكاد تكون حتمية ، قبل الانتقال إلى مرحلة “نقده” (علاجه)، ثم إنى أزعم أننى أستلهم هذه القراءة من واقع ثقافتنا، فى نفس الوقت الذى لا أتباهى بثقافتنا دون ثقافة الآخرين، ولا أرفض أى إضافة مناسبة من أى ثقافة أخرى.
ثم إنى توقفت مرة أخرى لأؤكد أن قراءتى فى ثقافتنا هى قراءة محدودة بثقافة عربية (بقدر ما تجمعنا الجغرافيا والتاريخ واللغة المشتركة)، مصرية (بقدر ما يتاح لى من نصوص بشرية سواء تعرت بالمرض أم تغطت بالدفاعات)، وهنا تثار قضية أثيرت من قديم بدءًا بمواجهة سيجموند فرويد نفسه وهى التى ترفض تعميم ما نشاهده فى المرضى على الأسوياء، وقد سبق أن ناقشت ذلك ورفضته، ولن أعود إليه الآن، المهم: هذه هى مصادرى التى تحددنى، وفى نفس الوقت تسمح لى بالانطلاق منها، للاستعانة بكل ما تيسر من خارجها.
بالصدفة – تقريبا- أتيحت لى دعوة كريمة للتعرف على بعض إنجازات: رائد، عربىّ، معاصر، مبدع، شجاع، عالم، نادر، وكان الفضل فى ذلك للشبكة العربية أيضا “شعن” ورئيسها د.جمال التركى، وإذا بى أمام هذه الصدمة المعرفية الرائعة التى أشعرتنى بالخجل الشديد، والتقصير الهائل، لتأخرى عن معرفته كما ينبغى حتى هذه اللحظة، وقد بلغت هذا العمر، وادعيت كل هذه الادعاءات: إذ كيف أسمح لنفسى بالتحدث عن الشخصية العربية، واللغة العربية، والثقافة العربية، وخاصة فيما يتعلق بتخصصنا وأنا لم اقرأ كل حرف كتبه هذا الإنسان العربى الفريد؟ آن الأوان أن أذكر اسمه وأنا أستحى منه، هو “أ.د.على زيعور”، وقد وجدت أنه لا يصح أن أعقب على روعة ما وصلنى منه فى اللغة، والتاريخ، والعلوم، والفلسفة، والفكر، والإيمان،(1) لمجرد أننى اطلعت على عناوين مؤلفاته، وتصفحت بعضها (مجرد تصفح)، حيث وصلنى أن مواضيعه كلها ترتبط ببعضها البعض بفكرة محورية رائعة صلبة جوهرية فى صلابة الماس والتوحيد، وبالتالى فلا يصح لمن مثلى أن يدلى بدلوه إلا شكرا واحتراما حتى يلم بأغلب ما جاء فيها بشكل أو بآخر مهما طال الزمن، فوجدت – بكل صراحة – أن هذا يتطلب منى أن أوقف كل نشاطاتى لمدة بضعة أشهر بل ربما أعوام حتى أكون أمينا فى الحكم أو النقد، أهلا للتعلم والاستزادة، ومع تقديرى لهذه الإنجازات كلها دون استثناء ، اعتذرت لنفسى قبل أن أعتذر له، وقلت أمر على بعض ما وصلنى مما يخص ما أنا فيه الآن وهو الأحلام.
عثرت على عمل له بعنوان:
“الكرامة الصوفية، والأسطورة، والحلم:
القطاع اللاواعى فى الذات العربية”، ط2 سنة 1983
بالله عليكم هل يصح أن أواصل الكتابة فى موضوعى هذا بدون الإلمام برؤية وإبداع هذا الموسوعى المبدع معا فى هذه الكتاب على الأقل؟
ثم خذ عندك:
“تفسيرات الحلم وفلسفات النبوة” 2000
وأيضا:
“الأحلام والرموز أداة كشف وعلاج نفسى:
فى مجالات الشخصية والاضطرابات النفسية والفكر”، 2002
طيب ، بالله عليكم مرة أخرى كيف أواصل الادعاء بأننى أكتب عن وعى النوم ووعى الحلم فى ثقافتنا العربية دون أن أطلع على هذه الأعمال الرائدة بهذا القدر الهائل من الموسوعية والإيمانية والإبداع ؟
ثم بكل جهد، وبأكبر قدر من الاعتذار، وضعت كل ذلك جانبا واعدا نفسى بعودة ضرورية فى أقرب وقت يكون أوْلى بها كما يتيحه لى ربى، وأن أقصر حديثى الآن على ما وصلنى من قراءة النص البشرى مباشرة من خلال مهنتى فى مواجهة “اللحم الحى”، (بالتعبير المصرى الشائع)، هذا المنهج الذى يحدد دورى فى تسجيل خبرتى لتتدعم أو لا تتدعم بالمعارف الأخرى من كل أنحاء الدنيا أو التاريخ، وبالذات بما يخص ما أسميه ثقافتنا الخاصة.
وقد بلغنى من أعمال هذا الرائد المبدع أن انطلاقاته إنسانية إيمانية عالمية تاريخية (وليست عولمية ولا شوفينية)، فاطمأننت إلى فكرة خطرت لى أن النص المسمى “الكائن البشرى” (وهو اسم أفضله عن اسم الهوموسابيانز) لابد ألا ترتبط قراءته ارتباطا استبعاديا بأى نص بشرى بذاته، من ثقافة معينة، وبالتالى تكون الاختلافات فى اللغة والثقافة الظاهرة المتاحة وليس فى الطبيعة الإنسانية الغائرة وقوانين البقاء الخاصة بالكائن البشرى عامة.
هذه هى الصدمة المعرفية التى عنونت بها هذه النشرة، خجلا، واعتذارا، ووعدا، واحتراما.
ثم أكتفى اليوم بأن أحدد للطبيب/المعالج المعالم الأساسية التى ربما تغريه بالعودة إلى المتابعة دون استغراق فيما ليس كذلك.
مدخل تطبيقى عن طبيعة النوم والأحلام:
يعتبر النوم محكا جيدا لرصد درجة من التوازن الحيوى النفسى والبيولوجى معا، وهذا لا يعنى أن من ينام جيدا هو سليم مثلا، فلكل شخص نظامه فى النوم الذى تعوّد عليه، والذى يُعتبر سويا له مادام يساعد فى كفاءة أدائه وتكيفه.
فإذا اختل هذا النظام الخاص بشخص بذاته مع ما يصاحب ذلك من تعطـّل فى كفاءته أو إعاقة لتكيفه اعتبر اضطرابا، وفى كثير من الأحيان تعلن بداية الاضطراب النفسى أو النكسة من خلال اضطرابات النوم، وأيضا: عادة ما يؤخذ النوم وعودته إلى طبيعته محكا للتقدم نحو الشفاء.
والنوم حالة طبيعية من تبادل مستويات الوعى، ولم يعد ينظر إليه باعتباره الوجه السلبى لليقظة أى أنه ليس غيابا للوعي، وإنما ينظر إليه الآن على أنه “وعىٌ آخر” (كما ذكرنا أمس) .
كما أن الأحلام هى كذلك متغير دال على مسيرة وأطوار أى اضطراب نفسى. وقد تغّيرت النظرة إلى الأحلام أيضا، فبعد أن كان الاهتمام السائد هو بمحتواها وتفسيرها، انتقل الاهتمام إلى رصد الظاهرة فى ذاتها والعناية بوظيفتها وإسهاماتها المعرفية والتنسيقية مهما كانت خفية غير مرصودة، الأمر الذى يُستنتج أكثر من أثرها وليس مما يحكى عن محتوياتها، وذلك باعتبارها مستوى ثالث من الوعى غير مستوى وعى اليقظة ووعى النوم (كما أشرنا أمس)، وهذا التبادل الإيقاعى الدورى ما بين النوم واليقظة ثم ما بين النوم الحالم (النقيضى) والنوع غير النقيضى بشكل منتظم هو من أهم ما يحافظ على سلامة الإيقاع الحيوى للكائن البشرى شريطة أن يقوم كل طور بفاعليته (كما سيرد ذكره لاحقا)
ويمكن إيجاز وظيفة النوم – بصفة عامة - فيما يلى:
(1) توفير الراحة ، ليس بمعنى الاسترخاء والسكون، ولكن بمعنى الاتساق مع الطبيعة الدورية، وإعطاء كل مستوى من الوعى حقه للقيام بمهامه بما تتاح له من فرص طبيعية ونظام حيوى فطرى.
(2) إعادة تنظيم وتماسك المعلومات، وهذا يتجاوز ويسهم مع كل من عمليات العقل الحديث (المفكر) فى معالجة (اعتمال) المعلومات، وأيضا مع العقل الوجدانى الاعتمالى الذى رأينا كيف يساهم فى هذه المهمة.
(3) صمام أمن ضد أى “بسط” عشوائي، حيث يقوم الحلم بهذا البسط النفسفسيولوجى بانتظام إيقاعى واق، كما ظهر من تجارب الحرمان الحلم.
وإذا لم يقم النوم بتأدية هذه الوظائف نتيجة لخلل كمى أو نوعى أدرج ذلك فيما يسمى اضطرابات النوم.
وبعد
يا ترى هل هذه المقدمة تكفى أن تسمح لى بالانتقال إلى تعداد اضطرابات النوم وأنواعها ومغزاها، أم أن الأمر يحتاج إلى أن نعرج بقدر مناسب إلى التعرف على مشاهداتى وفروضى التى أوردتها أمس فيما يختص بمستويات الوعى، ومستويات الحلم، وعلاقة الحلم المحكى، بعملية الحلم ذاتها، والوحدة الزمنية متناهية الصغر التى نـُشـَكـّل فيها الحلم قبيل اليقظة، بأقل قدر من الارتباط المباشر بما هو حلم كامن، بل بما هو الحلم بالقوة كما أسميناه فى أطروحة سابقة (الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع)، وكيف أن الحلم بهذه الصورة هو إبداع الشخص العادى على كل المستويات، باعتبار أن الإبداع هو إعادة تشكيل بعد تفكيك، وهذا هو ما يقوم به النشاط الحالم تحت مظلة نشاط النوم المحيط.
فى انتظار رأيكم ولكم ما تطلبون بإذن الله.
وفيما يلى إعادة ما نشر أمس عن ما يمكن أن يستدرجنا قبل الدخول فى تعداد اضطرابات النوم.
1) النوم حالة وعى إيقاعية تبادلية وليست غيابا أو نفيا لوعى اليقظة.
2) الحلم (النشط: حلم الريم REM) هو حالة وعى إيقاعية تبادلية أخرى داخل وعى النوم.
3) اليقظة هى حالة وعى إيقاعى ثالثة تتبادل مع حالة وعى النوم (بما يشمل وعى الحلم).
4) الإبداع هو حالة وعى فائق يحتوى بجدل نشط معظم الانواع السابقة من الوعى وغيرها.
5) الاغتراب فى فرط العادية على حساب حركية الإيقاع التبادلي والجدلى بين مستويات الوعى: هو من أخطر ما يهدد النوع البشرى حاليا برغم عدم إدراجه – عادة – ضمن المرض الصريح.
6) الجنون فى أخطر صوره السلبية (الفصام المتفسخ إلى المتدهور) هو تخثر فى مستويات الوعى (جيمعها تقريبا) لدرجة الحيلولة دون أى تبادل إيقاعى مناسب بينهاُ فضلا عن انتفاء أى احتمال للجدل نحو الواحدية.
أما بالنسبة للنوم والأحلام فقد فضلت أن أنبه ابتداءً إلى موقفى من دراساتها، وبالذات تفسيرها على الوجه التالى:
1- إن التركيز على “الحلم المحكى” يتم على حساب استيعاب وظيفة النوم والحلم التنظيمية والإبداعية.
2- إن الحلم المحكى، مهما بلغت دقة رصده، فحكيه، واجتهادات تفسيره، لا تمثل إلا جزءا يسيرا جدا من زمن نشاط عملية الحلم الإيقاعية والإبداعية، فضلا عن ترجيح علاقة وثيقة بينه وبين حقيقة العملية التى يمكن أن يكون الحلم المحّكى ليس إلا زبدا طافيا بالنسبة لها (أنظر بعد).
3- إن تفسير الحلم المحكى قد يكون على حساب تلقائية التبادل وإعادة البناء الحيوى الطبيعية. (بما فى ذلك التفسير التحليلى النفسى).
4- إن هذا لا يعنى إهمال كل ما يُحكى على أنه حلم، ولكنه ينبّه إلى محدودية الإفادة، وأيضا احتمالات القصور فى معنى رموزه وقيمة حضوره.
5- إن العلاقة بين الحلم والإبداع والجنون تبدأ من تماثل بداية العمليات الثلاثة مع الاختلاف الشديد بين نتائجها، وفى نفس الوقت فإن المقارنة ممكنة ومفيدة.
6- إن الوعى الجمعى، والجماعى، وكذا ما يسمى اللاوعى الجمعى (المستوى الأعمق من الوعى المشترك) تسهم جميعا فى إيقاعية وإبداع الأحلام طول الوقت.
-[1] وكلها متاحة بالمجان PDF على النت لمن يشاء وقتما يشاء كيفما يشاء، فيا للكرم ويا للرسالة !!!