الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (14) متاهة الوعى (10) فى رحاب الوعى (6) دعه يذاكر بدون تركيز

الأساس فى الطب النفسى الافتراضات الأساسية: الفصل السادس: ملف اضطرابات الوعى (14) متاهة الوعى (10) فى رحاب الوعى (6) دعه يذاكر بدون تركيز

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 15-6-2015

السنة الثامنة

العدد: 2845 

الأساس فى الطب النفسى 

الافتراضات الأساسيةالفصل السادس:

ملف اضطرابات الوعى (14)

متاهة الوعى (10)

فى رحاب الوعى (6)

دعه يذاكر بدون تركيز

مرة أخرى نتحدث عن المخ البشرى العظيم، الذى من ضمن عظمته لا يحتكر التفكير ولا الإبداع، ونتذكر معا أن البداية كانت مع تعداد أعراض اضطرابات الانتباه ومن بينها “نقص القدرة على التركيز”، إلى أن تصل إلى: “الشكوى من العجز عن التركيز أصلا”،

ثم انتقلنا إلى محاولة توضيح الفكرة الأحدث والأصح والأجمل: أن المخ البشرى يعيد بناء نفسه، كما أشرنا إلى أنه يبدو أنه يبدوا أنه يقوم بوظائفه أفضل وأكفأ حين نصبح أقل وصاية عليه.

البداية جاءت من الخبرة الإكلينيكية، ونظرا لتواتر هذه الشكوى من كثير من المرضى بمختلف التشخيصات، وبرغم أنها تبدو شكوى أبسط من غيرها(1)، إلا أنها شكوى مزعجة لصاحبها، وخاصة أثناء الدراسة والاستذكار، ثم يأتى الإنزعاج منها أيضا للذين يعملون فى الحسابات (البنوك مثلا) حين يتصورون أن عجزهم عن التركيز يهدد عملاءهم، وأيضا يهدد أكل عيشهم، ومستقبلهم ، لكننى سوف أقصر المثال الإكلينيكي الذى أقدمه الآن على الطالب الذى يذاكر (خاصة إذا كان تاريخه الدراسى يثبت أنه متفوق أو على الأقل كان فوق المتوسط)، والذى بدأ يشكو من العجز عن التركيز مؤخرا.

وإليكم ما كان:15-6-2015_1

بلغ من تصديقى لهذا الفرض – الذى جاءنى من واقع الممارسة المتراكمة- أنني رحت أطلب من الطالب الذى  يشكو من عدم التركيز (وخاصة الطلبة أثناء المذاكرة) أن يمارس نشاطه الدراسى تحت أى مسمى: “بدون تركيز”، حتى أننى أكتب على الوصفة (الروشتة) “يذاكر بدون تركيز كذا ساعة يوميا، حتى لو نقـَل الدروس نقل مسطرة”، وأحيانا أضيف: وليعتبر ذلك لتحسين الخط !!

ويتعجب الطالب لكننى أرى قبول الفكرة فى داخله بما يسمح لى بالتمادى

لكن الوالدين، (خصوصا لو كانوا من الأطباء أو المدرسين، أو – بعد إذنكم- النفسيين عموما) يحسبون أننى أمازح ابنهم أو ابنتهم، وحين يتبينون عكس ذلك يتساءلون وكثير منهم يرفضون: ويعتبرون أننى خرجت عن أبسط القواعد التربوية والتحصيلية والنفسية والتنمية البشرية !!

ثم قد يقول الطالب، (وهو عادة يقول): لكننى إذا لم أركز، فلن أفهم شيئا خلال هذه الأربع ساعات، فأطمئنه من جديد بنفس الطريقة، وليس بالنصائح والإقناع، أن المخ أيضا لا يستطيع إلا أن يفهم، كما أنه لا يستطيع إلا أن يركز، وأنه لا ينتظر الإذن من صاحبه حتى يفهم، ويتطور الأمر إلى أن أتفق مع الطالب على أن:

15-6-2015_2

يذاكر بدون تركيز ،

وبدون فهم…”

(كذا ساعة : أربعة ساعات يوميا غالبا)،

ويزداد عجب الوالدين، لكن قد يقل تردد الطالب، فأقترح عليه أن نجرب بمثابرة نتفق عليها، واننى مسئول معه فأنا الذى أوصيت، وأن الوقت سيمر سيمر، فدعنا نملؤه بما نتفق عليه

وقد ينتقل الأمر (وعادة ينتقل) إلى مناقشة قرار الاستذكار من حيث المبدأ متجاوزين نوع الاستذكار أو التركيز فيه، فأجمع خبرتى:

 وأتذكر طالبا علمتُ من ورقة الكشف الصغيرة قبل أن يدخل علىّ، ان عمره 26 عاما، وأنه فى خانة الوظيفة قد أثبت (هو أو أهله) أنه: “ث.ع.” ( فأعرف أنه فى الثانوية العامة، وأنه غالبا لم يجتزها بعد)، وفعلا، وحين ناقشته فى كل ذلك وفى سبب تأخره فى الثانوى حتى هذه السن، قال أنه كان طول هذا الوقت يحاول أن “يتخذ قرار المذاكرة” فيشحذ همته، ويتذكر تاريخه، ويطمئن إلى حسن نيته، ويكتب لنفسه جدولا جديدا للمذاكرة، لكن يظل القرار كامنا فى الجدول ولا يخرج إلى التنفيذ فى شكل أداء يومىّ، وهكذأ، وأسأله هل اتخاذ القرار ووضع الجدول تلو الآخر قد استغرق منه كل هذه السنين، فيجيب بالإيجاب(2).

 وحين شرحت له كيف أنه اتخذ هو وأهله قرار أن يكون طالبا منذ دخل الروضة أو الابتدائية ثم أكمل حتى الثانوى هكذا، وأن الأمر لا يحتاج إلى قرار جديد، يوافق على المبدأ لكنه يصر على إجابته, وحين انتهى النقاش بعد مقابلة واثنتين إلى أن يعدل عن فكرة اتخاذ القرار أصلا، وأن يعود إلى المذاكرة بدون اتخاذ قرار معلن بذلك، بدا وكأنه اقتنع ولو مرحليا، وفى نهاية المقابلة سألته عما سيفعله عند عودته الليلة، فأجاب: سيعمل جدولا جديدا هو واثق أنه سينفع هذه المرة، وحين نبهته إلى أن هذا ما كان يفعله طوال ما فقد من السنين، قال لى ما كان يقوله لنفسه دائما، “لكن هذه المرة سوف يكون القرار مختلفا”

من هنا جاءتنى فكرة أن أضيف من البداية على التوصية الأولى لمن يشكو من عدم التركيز أثناء الاستذكار، أضيف: “وبدون قرار”

أى:

15-6-2015_3

يذاكر بدون تركيز

وبدون فهم

وبدون قرار

وتصل الرسالة أيضا للطالب أسرع من وصولها إلى والديه أحدهما أو كليهما،

وعادة يشك الأهل فى هذا الذى يبدو لهم تهريجا، لغياب المنطق الذى اعتادوه، وأحيانا يحسبوننى أداعب ابنهم (أو ابنتهم) فأطلب منهم أن ندخل التجربة، ثم نرى.

وكانت عبارة أن المخ لا يستطيع إلا أن يركز تأتى أحيانا وأنا أشرح للطالب –بدون حضور أهله غالبا – أن مخه يحضر نقاشنا الآن رغماً عنه بدون إذنه، وأنه يرحب بالتوصيات، وأنه يحترم هذه التوصيات لما فيها من احترام لقدراته وحتى لاستقلاله (قددرات المخ، واستقلال المخ) ، وأنه سوف يركز خفية من وراء ظهره أثناء عدم تركيزه، لأنه لن يستطيع أن يجلس أربع ساعات، وهو يتفرج على صاحبه,..جالسا على المكتب باذلا كل جهده  الداخلى أن يحول دون أن يقوم هذا المخ العظيم بعمله الذى خلق له.

وكان الحوار يتطرق أحيانا – بل عادة- إلى أن الطالب الشاكى لا يجد عنده رغبة فى أن يذاكر أصلا، بتركيز أو بدون تركيز، وهنا أبدى احترامى لرغبته هذه تماما، لكننى أشترط عليه – مادام الأمر كذلك-  أن يبدأ فورا (وأؤكد على “فورا”) العمل (أى عمل، وليس البحث عن عمل)، وأنصحه بعمل لا يحتاج إلى تركيز احتراما لصعوبته (المزعومة)، وأنه إذا كان الأهل قد اختاروا له أن يكون طالبا حتى يمكنه أن يجد عملا بشهادته، فإن رغبته الآن تعيد له الحق فى اختيار العمل من الآن، وحين يتعجب، أو يبتسم أو يرفض،أواصل وضع احتمال أن تكون عنده رغبة داخلية لاستمرار تحصيله برغم الصعوبة الظاهرة، وبالتالى أقترح أن يدعنا نعطى هذه الرغبة الداخلية فرصة، لعلها تزيح رغبته الظاهرة، بأن يذاكر حتى بدون هذه الرغبة الظاهرة (إلى أن يقرر أن يعدل عن الدراسة نهائيا إذا ثبت أنه لم يعد يصلح له ظاهرا وباطنا، وبالتالى نبدأ فى التخطيط لبداية العمل اليدوى فورا!!)

فتكتمل  التوصية هكذا:

أن يذاكر يوميا كذا ساعة

بدون تركيز

وبدون فهم

وبدون قرار

وبدون رغبة

 كنت– وما زلت أحيانا- أُحرَج من موقف الأهل، ولا أجد إجابات مقنعة لأسئلتهم عن المغزى أو المنطق وراء توصياتى هذه الغريبة، المتناقضة مع ما ينتظرون من نصح وإرشاد.

وكان الفرض الأول عندى فى كثير من هذه الحالات أن العجز عن التركيز (لدرجة التوقف الدراسى) يحمل وراءه احتجاجا قويا ضد استعمال الأهل لابنهم (أو ابنتهم) كمشروع استثمارى، دون أن يدروا، وأن هذه الرسالة حين تصل إلى الإبن – دون إعلان طبعا – قد تجعله يرفض أن يكون كذلك، ويظهر هذا فى صورة “عرَض عدم التركيز”.

وحين كانت الشكوى تتضاعف بان يشكو الطالب من أنه حتى لو ذاكر، هكذا أو غير هكذا، فورا، فإنه لا يتذكر ما ذاكره اصلا، ينتقل الحوار عبر العلاقة العلاجية المتنامية إلى مغامرة أخرى تكشف عن “علاقة التركيز بالذاكرة”

لكن دعونى أؤجل هذه النقطة إلى الأسبوع القادم، وأكتفى اليوم بأن أعيد نشر الأرجوزة التى كتبتها للأطفال- على لسانهم- بعنوان “النجاح”، لعلها تحمل تفسيرا أوضح لما ورد فى نشرة اليوم عن موقف الأهل الذين يعتبرون أولادهم مشروعا استثماريا، كتبتها على لسان حال (الطالب) المحتجّ الذى يسترد حقه فى أن ينجح لنفسه هو، وهو يعرف ما خلقه الله به من قدرات، يقوم هو باستثمارها، ولا يبخل على أهله أن يشاركوه فيها، بفضل الله!  قلت على لسانه ما يلى:

هوَّا حدّ يحب يسقط؟

هوَّا حد يحب يغلط؟

آنا طبعا  نفسى أنجحْ

عايز افرحْ. بس ما يحلّش محلى:  “إنى ناجح”

إنت مش واخدْلى بالك، إنت سارح.

 آنا باعبُـد ربنا.

ليه عايزنى أبقى عبدك؟

  هوّه وحده: ربنا أدرى بِعَبْدُه

طَبْ حاقولَّك:

لو تشوفنى انى كتاب محطوط فى جيبك

حاشعر انى نفسى أسقط أو أسيبك

إنما لو  تعترف إنى أنا حتى انْ سقطتْ

                       أو غلطتْ

         حاعرف انى قد  كبرتْ

أرجع أنجح شكل تانى

مش بعيد مالأولانى

بس أجمَل

 أصل هوّه الأصل يا با ، تبقى تعقلْ

تنتبهْلى تشوف طريقى،  واللى خـَلـَقَكْْ

حاتلاقينى وصلت قبلكْ

 آنا رايح ناحيتُهْ

زى ما هوّا خلقنى بحكمتُه

يعنى مش محدود بوهمى إنّى “انا”

أو كما رسمتْنى أوهامْكُم هنا

أنا حانجحْ  مش عشانْكمْ

مش عشان  خاطر عيونكم

النجاح دا هوّا ليّا، وانا منكم

النجاح الحلو يعنى:

هوّا  إنى:

أنتفع بنجاحى لينا، يعنى ليّا

إنى أسعد لينا فيكم،  يعنى بيّا

إنى أفـْـهَم نَفسى أكَتْرَ

يعنى أفهمكم واقدَّرْ

يعنى أكْبـرَ

النجاح دا زى عربيَّة جميلة،

تبقى حلوة، لو أسوقها، مش تدوسنى ن

فِسى مرّة فِى عواطف مالأصيلة

   مش تبوسنى:

           لما أنجح ،

    وامّا ما انجحشى كإنى، مش تبعكم  !!

أنا حانجح شكل تانى، واشترى حتى اللى باعْكُمْ

     ليكم انتمْ             وانا معْكم

[1] – أبسط مثلا من: الغم العدمى، أوالهلع المرعب، أوالرهابات المعجزة، ناهيك عن الضلالات، والهلاوس، وأعراض التفسخ.

[2] – يمكن مراجعة معنى وصعوبة اتخاذ القرار فى نشرات الإرادة (نشرة:15-2-2015 و(نشرة:16-2-2015).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *