نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 12-11-2012
السنة السادسة
العدد: 1900
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (128)
الإدراك (89)
لمحات إدراكية: (2 من ؟)
(مازلنا مع لمحات أ.د.صادق السامرائى: “الشعر الممتنع”)
أريد أن أتراجع مرة ثانية عن التعقيب على قصائدك السبعين أيها الصديق الكريم، فأنت تعرف ماذا يمكن أن يصيب الإدراك إذا أصبح “التفكير” (أو الإدراك الحسى أو العقل المفاهيمى) وصيا عليه، حتى أننى حين أعدت قراءة تعقيب الزميل الكريم صاحب الفضل وجامع المجتهدين والمجاهدين الإبن جمال التركى، ووجدته قد وصف حوارنا بأنه نابع من “فكرنا” أو حتى من نور فكرنا غلبتنى غيرة متوسطة على “الإدراك” حين اعتبر حوارنا نتاج فكر حتى لو كان نور الفكر أو اشراقاته، لأن تصورى هو أننا نحاول أن نعطى للإدراك فى ذاته حقا مستقلا قد يحتوى الفكر، وقد يستعمل اللغة، لكنه يظل منبعا للمعرفة يبحث عن أداة تعبير، أو قناة توصيل، أو ناتج خبرة يعلن من خلالها بعض ما لاح له بيقين الغيب، فإن وجدها فبها ونعمت، وإلا فسوف يظل فاعلا حاضراً مهما تأخر إعلان أثره أو آثاره.
قبل أن أعقب على بعض شعرك، يا أخى العزيز صادق واحتراما لحرجك وأنت تشفق على من يغامر بمتابعتنا دعنى أسألك أو أتساؤل معك! ما فائدة فتح هذا الملف لأهل مهنتنا بالذات؟ أليست شبكتنا هذه شبكة “نفسية” ونحن المنتمين إليها متخصصون فى الطب النفسى والعلاج النفسى والعلوم النفسية؟ ألا يتطلب ذلك أن نربط معظم ما نساهم به من فكر ومعرفة وإبداع بمهنتنا؟ وإلى درجة أقل – بالنسبة للأطباء والمعالجين خاصة- بتخصصنا فى الطب النفسى بالذات؟ ألست ترى معى أن ما فتحته علينا يا عم صادق من ربط “الإدراك” “بالموت” “بالشعر” هو أبعد مما اعتاده الطبيب النفسى فى ممارساته التقليدية التى نعلمها، وأغلبها مستورد، وهى تبدو أعقد من معلوماته الطبية التى حفظها، وأغرب من تعليماتهم الرصينة التى فرضوها عليه؟
دعنى أحدد أكثر بالنسبة للمرضى النفسيين، وبينى وبينك، بالنسبة للذهانيين عامة وللفصام خاصة: ماذا يمكن أن يفيد الطبيب النفسى فى ممارسته من الغوص إلى هذا المستوى الذى وصلنا إليه فى محيط الإدراك وهو يحاول أن يلم بالفرق بين التفكير والإدراك، أو بين الإدراك الحسى والإدراك المتجاوز للحواس، أو بين العين الظاهرة والعين الداخلية التى ترى الواقع الداخلى سواء فى الحلم أو فى الإبداع أو فى الجنون؟ سواء كانت فى صورة حركة العين السريعة فى الحلم أو بالعين الحاسة الجامعة التى قلت فيها (قصيدة 24): “حاسته التى تتوحد فيها جميع الحواس”، (طبعا لاحظت أننى حذفت كلمتى “الواعية وأكثر” حتى أناقشها لاحقا)؟ أقول ماذا يقيد الطبيب النفسى من كل هذا وغيره مثل القصيدة (28) ونصفها يقول: “لا يسمع بآذانه ولا يرى بعيونه، لكنه يرى ويسمع ويتفاعل مع موجودات أفكاره على أنها حقائق المكان” (ولى تحفظ أيضا على تعبير موجودات أفكاره وسوف أعود إلى ذلك)، وكذلك يا صادق حين رجعت بنا إلى أصل الأصل وأنت تقول فى قصيدة (10) “الإدراك إندماج وذوبان في محلول الوجود الأعظم، والمعرفة إنفصال، ونفي لمعدن التراب”
كل هذه الأسئلة تفرض نفسها علينا ونحن نعايش مرضانا الذين ينشط عندهم الإدراك، لكنه يُجهض ويتشتت، ولا يكتفى بمآله التناثرى فى ذاته، بل قد يفسخ معه فى كثير من الأحيان منظومات المفاهيم الراسخة، الصحيحة منها والزائفة على حد سواء، وأيضا قد يبعثر “كلية” الشخصية؟
دعنى أحاول الإجابة بصفة مبدئية:
إن مجرد الاعتراف بهذه القدرة المعرفية – الإدراك – على أنها قدرة قادرة، وعامة (موجودة عند سائر البشر) وقد هُمّشت لأغراض عملية، بعضها ضرورى، وكثير منها اغترابى وصىّ، هو مدخل لاحترام مواجهتها فى مرضانا خاصة فى الأطوار الباكرة لتطور الذهان، وأثناء العلاج المكثف، وفى العلاج المعرفى الأعمق، والعلاج الجمعى.
لا مكان لتفصيل أى من ذلك الآن، ولا سبيل لتحويله مباشرة – بمجرد الكتابة والبيان – إلى خبرات معيشة يمكن أن يطبقها الزميل القارىء المهنى الصديق، لكنها تذكرة، إذا وصل إلى أى ممارس احتمال صدقها فحركت فيه ما يتحرك من “خلقة ربنا” فإنه سيجد نفسه أقرب وأقدر، كما سيرى مريضه أوضح وأكمل، ونأمل أن يساعده ذلك أرحب وأشمل.
إذن، وبرغم هذه المقدمة التى طالت فإن كل ما نستطيعه هو أن نواصل الحوار دون ربط مباشر بالممارسة والتطبيق، ولنضع كرْمنا على دربهم، فيه العنب وفيه الحصرم، وعلى زائره أن يجرب حظه.
وبعد
نرجع مرجوعنا إلى قصائدك لأكرر أننى لا أميل إلى التعقيب عليها واحدة واحدة، مع أننى أريد ذلك وأمنع نفسى عنه، فبما أننى استقبلها شعرا، والشعر لا ينقد إلا شعرا، فأنا أحرص عليها من أن تلمسها كلمات أخرى غير التى خرجت بها، ولكن لتسمح لى أن ألحق ببعض قصائدك بعض ما سبق لى كتابته مما يؤكد نوعا من المصداقية وهى التى اسميها “المصداقية بالاتفاق الطولى”(1) حين يتفق فكر مع آخر لم يلتق صاحبهما، فيكمل أو يوافق أو يدعم أحدهما الآخر.
ثم أعود بعد ذلك – فى نشرات لاحقة – إلى ما أسميته “تحفظات” أو “ملاحظات” مما لا يعتبر نقدا أو تعقيبا،
وربنا يستر.
ملحوظة:
قبل أن أعرض بعض ذلك خطر لى أن أذكرك بمواقف مولانا النفرى وبعض اجتهاداتى الخطرة فى قراءته، دون أى تفصيل أو روابط.
المثال الأول (للمصداقية بالاتفاق):
كنت طفلا أو صبيا أتضايق جدا من تعريف أن الماء سائل بلا لون، وبلا طعم، وبلا رائحة”
وحين فتح الله علىّ وكتبت ديوان سر اللعبة لأبين جانبا من ممارستى المعيشة فى مهنتى، التى خرجت منى شعرا (ديوان سر اللعبة)(2) رفضت هذا القول قائلاً (1971)
وتعلمنا فى السنة الأولي:
أن الماء بلا لونٍٍ وبلا طعمٍٍ وبلا نكهةْ،
لكنّ الحقََّ يقولْ:
إن الماءُ العذبْ ..
هو شهدًُ الفطرةْْ
هذا ما حضرنى وأنا أقرأ قصديتك رقم (12)
“القطرة تكنز طبيعة الماء لكنها لا تدري ما فيه”
المثال الثانى:
حين كتبت قصيدتى: “عفوا.. فعلتـُها” من ديوان شظايا المرايا، وجاءت بدايتها تقول:
-1-
يــاليتنى طفوتُ دون وزنِ
ياليتنى عبرتُ نهر الحزنِ
من غير أن يبتل طرْفى فرقا.
ياليت ليلى ما انجلي،
ولا عرفت شفرة الرموز والأجنة.
إى هجرة الطيور ،
فى الشاطئ المهجور .
عفوا فعلتـــها …
……….
………
ثم وصلت إلى ما يلوح وكأنه عُرِضَ علىّ أن أوهب كلمة “كن”، رعبت من حمل أمانتها فقلت:
…يا مقودَ الزمان لا تـُطـْـلقـْنى
ثقيلةٌ ومُرعبةْ :
قولةُ ”كـُـنْ”.
لو “كان” : بــتُ بائسا،
لو “كان” طرتُّ نورسا،
لو كان درتُ حول نفسى عبثا!.
ثم هأنذا أقرأك فى قصيدتك رقم (18):
طاقة الروح المحبوسة في بودقة الصيرورات العظمى
ونبض “كن” في قلب “يكون”
ثم إنى حين قرأت قصيدتك رقم (30)
مخاض العرفان إدراك كان
وتواشج الحرف بالحرف إمعان
والنون سلطان
واليراع يسطر البرهان
وما وعى الذي وعى ولكن إدّعى البيان
وأيضا قصيدتك (33)
كأنه هو لكنه ليس هو
وبين هو وهو
خيط نور يختزن روح الإدراك
حضرنى من قصيدتى “البرعم والأنغام” مقطع آخر يقول:
تحتضن الفِـكْـرةُُ معناَهاََ
يستأذن لفظٌٌٌٌ:”يعلِـنُـها”؟
تتأبّى
تهجعُ فى رحمِِ الفجرِ القادمْ
تتملصُ من قضبان الكلمهْ:
تتمازجُُ – فى ذرّات الكون- الذرات
لا يُفـشى أحدٌٌ سـرّه.
الزرقة والطبقاتْ،
ورحيق الطمىِ، وطينُ الجسدِ وأنفاسُ الجنسِ
إيقاعُُ تلاشى الأشياءِ المغمورةِِ
ذائبةُ فى المطلق.
أتلولب فى جذلٍ صاخبْ.
ثم حضرنى مقطع آخر من مقامة (قصيدة) “كومة رعب” الذى قلت فيه:
لا،.. .. لا لـم يُــقـَـلْ بعدُ الذى لاَ يـرتـسـمْ أبدًا، لأنَّ الـرسـمَ ضدَّ الإسـمَ، ضد الحـرفِ، ضـد العـيـنِ: ضد
الحقِّ، ضد الوجـدِ سـهْـمـًا يغـــمِدُ الجُمَل المفيدة فى الرمـال الزاحفة.
إلى أن قلت:
يا حولُ ماذا حــوّلـَـكْ؟
فى أىِّ شـبـه القـارةِ المنـسـيـةِ الرّبعِ المكوَّمِ خالياًً خلفَ الشبكْ؟
فى أىِّ شـكـلٍ صوَّرك؟
فى شـكـلِ عنقاءِ اليمامـةِ أيقظتْ نـومَ المـطـأطـئِ رأسَــهُ خـلـفَ السـِّياج يـنـاهـزُ العـمـرَ الذى قـد
أفـرزك؟
فبأىِّ آلاء الحياة البـكـر عـاهـدَكَ الـذى لا يـمـلكُ العـهـدَ الـذى قـدْ كـانَ لـكْ؟
أُمــدد يمينــكَ خـلـفََ وهـمِ البُــعدِ، بَـعـْـدَ البَعـْدِ عـمَّـا أنـت فيه الآن، ليس الآن إلا من سَلَكْ.
ما أحـلـكَـْك !
ألست معى يا صادق أن شعرك الأكثر تركيزا، والذى جاءنى بفضل صديقنا جمال، وقد آنسنى هكذا، هو معيار مصداقية لا يعرفها أهل المناهج الكمية العددية الخانقة.
ثم إنى حين قرأت فى قصيدتك رقم “57” التى جاء فيها “فأنزع كل حرف من بدن الكلمات”، لكن دعنى اثبتها كلها أولا وأنت تقول:
هذا وهذا يلتقيان عند مملكة الحرف الفريد
فانزع كل حرف من بدن الكلمات
كي نقرأ المكتوب معا
حضرتنى قصيدتى بعنوان “كلمة” وهى التى ختمتها قائلا:
………..
………..
أبوحُـها؟
أرسلـُها؟
أربطُـها من رجِـلِـها، الحمامهْ؟
يسمعُنى؟
يجيبُنى؟
يعيُـنَـنى علِـيْـها؟
يعيُـنِـنى بها؟
(الـَّنْـفىُ والسكون -،
الخوفُ والضجيجْ)
تضم نفسها وتنزلقْْ
تفرّ رجلىَ اليسارْ،
من فوق سطِـحَـها
أقفز فوق رأسِـهَـا
تحِـملـُنـِى
أخاف سقطةً مفاجئهْْ
يُـرَفْـرفَ الهواءُ نمتزجْ
تكوننى، أكـونُـها،
تنبت حولىَ الحروف أجنحه
4/6/1982
وبعد
مازلنا يا صادق بعيدين عن ربط الإدراك بالموت بالشعر بما يحترم حدسك ورأيك، ولست متأكدا كيف سأواصل بعد ذلك، هل سأسمح للتداعى من قصائدك “اللمحات الإدراكية” بما يؤنسنا معا، أم ننتقل إلى الموت “ذلك الشعر الآخر” كما قال أدونيس فى رثاء عبد الصبور لنرى كيف ربطته أنت بالإدراك.
فعلا لست أدرى كيف نواصل؟
لكننا سوف نواصل. أليس كذلك.
[1] – Longitudinal Consensual Validity
[2] – الذى ظهر شرحه فى كتابى الأم دراسة فى علم السيكوباثولوجى