نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 30-10-2012
السنة السادسة
العدد: 1887
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (124)
الإدراك (85)
وبدأ الحوار الرائع حول “الإدراك” (2 من ؟؟)
إدراك الإدراك
[أ.د. صادق السامرائى يدلى بدلوه وينير الطريق شعرا خالصا]
نكمل مع أ.د.صادق السامرائى،
انتهينا أمس عند وقفة اختيارية أملا فى أن نركز على الخبرة الخاصة التى حكاها أ.د.صادق السامرائى هكذا:
“… لكن تجربة حصلت لي قبل أكثر من عشرين عاما، عندما كنت أقود سيارتي في إحدى الولايات الأمريكية، ذات شتاء قارص وليل داج، داهمته عاصفة ثلجية شديدة بعد منتصف الليل فشلّت الحركة، وحولت الشوارع إلىمنزلقات جليدية. ووسط حشد من السيارات التي كانت تسير متراصفة على الطريق السريع، إنزلقت سيارتي وتحولت إلى مصراع يدور بين السيارات، وكنت أراقب المشهد وقد فقدت السيطرة تماما، وتمثل الموت أمامي، فانتقلتإلى محطة إدراكية أخرى، وكأنها اليقظة من حلم الدنيا، لأني أصبحت في مواجهة حقيقية مع الموت، وتمثلت الحياة حينها لحظة أو ومضة، بعد أن أصبحت سيارتي تحت شاحنة عظيمة الحجم، فأيقنت بالموت ورحلت إلىعوالم مجهولة ذات أنوار وإشراقات صافية لذيذة مطلقة، وكأن قيدا قد أزيل عني، وجدارا سقط من أمامي، ولا أعرف أو أعي ماذا حصل بعد تلك الرحلة الإنقطاعية اللحظوية الفائقة الطاقات والقدرات والتي إستيقظت منها، وإذابسيارتي قد إنغرست في تلٍ من الثلج في الجزرة الوسطية.
هل خرجت من تحت تلك الشاحنة العظيمة، وكيف خرجت وما هي القوة التي إنتشلتها، لا أعلم ولا أدري. الذي أدريه أن الشرطة إكتشفت سيارة مطمورة بالثلج وجاءت لانتشالها.
كنت بداخلها أواجه قوة ضاغطة، فالأبواب يستحيل فتحها، وآليت أن أبقي محرك السيارة يدور لكي أتمتع ببعض الدفء، ولا أدري كم من الوقت قد مضى على تلك الحالة، لكنها إستغرقت أقل من ساعتين، فاليقظة البوليبسةعالية جدا وخصوصا في الطرق السريعة والظروف الطارئة.
خرجت من هذه المحنة اليقظوية بسلام ودون أى خدش أو أذى، لكني مضيت أقود سيارتي في ذلك الليل البارد العاصف البهيم، بدهشة وحيرة ووعي جديد، وتساؤل مدوٍّ في أعماقي عن معنى الحياة، وهل ندركها حقا أم أن هناكإدراك آخر، ومستوى من الوعي لا نعرفه أو نتبينه؟
ففي تلك اللحظات أدركت ما لم يُدرك ورأيت ما لا يُرى، وانتقلت إلى عوالم أخرى غير العالم المادي الذي نسمى فيه بشرا.
وأخذتني هذه التجربة إلى إستكناه معاني الموت، وكيف يكون الشعور بالموت وماذا نعرف عنه؟
وأخذت أسأل المرضى الذي يُقدمون على الإنتحار وكيف يبصرون حقيقة الموت ويكررون محاولاتهم الإنتحارية، فما كنت أقتنع بالتفسيرات المتداولة عن الإنتحار والتي ما أسهمت في تقليل نسبه بدرجات ذات قيمة.
التعقيب
لم أتعجب وأنا أقرا هذه الخبرة، وصدقت كل حرف فيها، لكننى دهشت لربطك يا د. صادق هذه الخبرة بالإدراك هكذا بهذه السلاسة والمباشرة، وحضرتنى تجربة شخصية موازية أفضل أن أحكيها قبل أن أمضى فى التعقيب وخاصة أنها قد رصُدت منى شعرا بشكل مباشر، وقد أكد لى حضورها الآن دليلا جديدا لدعم ما أشرتُ له أمس، أعنى “المصداقية بالاتفاق” Consensual Validly وأيضا جعلتَنى أربط بين الإدراك والموت بشكل لم يخطر ببالى، وحين نشرت لمحة عن تلك الخبرة فى الأهرام منذ سنوات كانت مجرد مدخل ألوم فيه تقاعس إسعافات الحكومة فى مقابل مبادرة عامة الناس المصريين الفرسان (قارن ذلك بما جاء فى خبرة د. صادق نصا بقوله “فاليقظة البوليسية عالية جدا وخصوصا فى الطرق السريعة والظروف الطارئة”، المهم إليكم نص ما نشر منذ سنوات قبل التعليق على خبرة أ.د.صادق.
الاهرام: 18-4-2005، مقال بعنوان: “نسيج شعبنا الجميل!! و”لودر” الحكومة.”
“رحت أؤكد لحضرة الضابط أننى سليم، برغم غوص العربة حتى نصفها فى كثيب من الرمال فى هوة على جانب الطريق، وسط سلسلة من الجبال بين نويبع ودهب، فأصر أن منظر العربة، وعمق الهوة يشيران أن الأمر خطير. شكرته، ووقعت له تأكيدا على سلامتى، وأنه لم يكن معى أحد كما ما طلب (!!!) فوعدنى بإرسال لودر الحكومة فورا (!)”. أثناء انتظارى لم أجد ما أفعله سوى أن أخرج كتابا عن “جاك لاكان” كان معى استعدادا لمناقشة فى جمعية النقد الأدبى عن المتخيل الثقافى والتحليل النفسى (17 الجارى)، فجأة أضاء ذهنى بما عجزت عن فهمه عن “لاكان” طول عمرى فى مسائل اللغة، والدال، والمدلول، والزمن، والموت، والآخر”..إلخ!. ما الذى حدث؟ هل جعلنى الحادث أفهم أفضل، هل أنا واحد آخر، بوعىِ أخر؟ ما هذا الوضوح والهدوء؟ توقفت العربات تباعا (أعلى الطريق) وتوافد الناس، وجدونى أقرأ، لابد أنهم يظنون بى الظنون، هل هذا وقته؟ أخبرتهم أنى أنتظر لودر الحكومة، ضحك بعض الأعراب. فهم أدرى بالحكومة، فك سائق عجوز مقطورته من عربته النقل واستعد ليرفعنى بسلاسله، عدد الذين أحاطونى يتزايد، هذا يزيح التراب من أمام العجل، والآخر يركـّب الإطار الاحتياطى، والجميع يهدئون من روعى (مع أنه لم يكن بى روع، ربما من فرط الروع). أشار البعض على العجوز أن محاولته لن تنجح. فجأة وجدت عربة 4X4، تهبط علينا يقودها شاب فارس، “مِكرٍّ مـِفـَرٍّ مُـقـْبـِلٍ مـُدْبـِرٍ معا، كمبعوث نُبلٍ حَطّه الحُبُّ من عَلِ”، اقترب الشاب، وربط حباله بعربتى، وطلب من الناس أن يدفعونى من خلف، ومنّى أن أقود عربتى واحدة واحدة حتى وجدت نفسى على الطريق. الجمع قارب الخمسين، أشكر مَنْ أم مَنْ؟ لم يقبل أى منهم أى مقابل، تسحب السائق العجوز إلى مقطورته بعد أن ربت على كتفى بأبوة حانية، ثلاث ساعات مرت ولم يحضر لودر الحكومة، لكن نسيج هذا الشعب الذى يسيـّر صحته واقتصاده وأمانه (دون تعليمه أو سياسته) بنفسه أمر غير مصدق. يستحيل أن تنتمى تلك الأجسام الأخرى الغريبة المتطايرة المتفجرة فى خلق الله من الأقصر إلى الأزهر مرورا بهلتون طابا إلى هذا النسيج، كل خيط فى هذا النسيج هو مسئول حتما عن تماسكه إلى آخر الزمان. مهما تأخر “لودر” الحكومة!
ملأ وعيى هاجس حسبته شعرا وكان قد هجرنى ربع قرن بالتمام، إلا ما نظمته لمحفوظ ذات عيد ميلاد، لم يتجلَّ الهاجس ماثلا إلا بعد عودتى، ففهمت من خلاله “لاكان” بعد طول غموض، أدركت أخيرا كيف يكون الدال هو الأصل، هو القادر على تنويع مدلوله والتلاعب به، وكيف أن “النقص” فى اللغة والحياة هو الذى نخلّق من خلاله ما نتلقى إذ نكمله، فإن شككتَ عزيزى القارئ فى ذلك فحاول أن تقرأ ما غاب مما حضرنى هناك فاستحال شعرا. وقانا الله وإياك شر عقم ما نعرف، وأثرانا بما لا نعرف”
انتهى المقال بإثبات بعض أبيات القصيدة الأولى، التى شخبطتها آنذاك.
****
ونسيت الحكاية كلها أو أنسيتها، لكننى عدت إلى القصيدة وأنا أرتب شعرى، (شعرى الذى لم يُجمع، وأغلبه لم ينشر)، بعد ذلك بشهر وثلاثة أيام، وإذا بحالة الوعى السابقة تحضرنى فتكتمل القصيدة، ويضاف إليها جزء ثان:
وكل من الجزأين يحتاج من القارئ أن يكمله فقرة بفقرة ولو بدون ألفاظ، يا ترى هل حالة الوعى هذه هى التى قلت عنها يا د. صادق: “وأروع الشعر ما تم تصنيعه فى مختبرات الإدراك البشرى الفياض”؟
ميتة موت
-1- الجزء الأول (15/4/2005)
لا …، لم يكن هذا الأنا….”أنا”
ما صرتُ إلا ما تبقى بعدنا…
ما كنتُ إلا طرح لـُُعبة الظنونْ..،
لا لن يكونْ:
ما كان أصلا لم يكنْ..
-2-
الموتُ ماتْ..،
فتساقط القطْرُ المحمَّـل باللقاحْ،
وتماوجت حباته: بالوعد والألم
فى جوف نبض الصخر والأحلام والعدم
وتلولب “الدَّنا”….(1)
حتى كأننا….
-3-
طارتْ، فمالتْ، فاستقرتْ عكس ما كان المسار:
وأفاق ينعى ميتةً ماتت: فأحيت ميّتا لا يرتوى:
إلا بنض الفرح في زخم التلاقى عبر نهر الحزن:
يعلن أننا:
قد نستطيعْ…..
-4-
وتجسدتْ فيما حسبتُ أنها “هىَ” ؟؟
ليست “هىَ” !!!!
تلك التى لم تُخْلق الدنيا لنا إلا بِهَا،
مع أَّنهَا ……
-5-
صرْنا معا فى حالةٍ
لَسْنَا كما …..
-6-
وتخلقتْ تلك البراعمُ الجديدةْ
نحو الذى ما قد نكونُهْ بِنَا…
لكننا…….
*****
الجزء الثانى: (10/5/2005 )
وعادَ لى مَنْ لَمْ يكن فارقِنى
فراقَهُ مالَمْ أكنْ أرصدهُ
وقال تبأ للذى خاًيَلنِى
ولم أكن بعدُ ارتويت منهما،
فهالنى ما لم يصلنى بعد ما..
***
وكنت أعرف أّنهُ:
مازال بيننا كَذا..
وكان يعنى أننى:
لا .. لم أكن أبداً كَمَا ..
ولا أنا قد كنتُ لِى..
***
فى غمرةٍ من اليقين الشائكِ
وجدتُهَا
تسعى بنفس الخطو تحت بشائر المطر ْ
فراعنى
أنى وجدتُنِى على سطح القمر
وكانَ مظلما
***
وتكاثفت مُهَج المُنى فى أرضِها
لكنها ظلت كما كانت: تَطنُّ ولا تِعدْ
فأحَاطَنَا
فرضيتُ أن أغفوَ وعياً ساكناً
لكنَّهُ استدرجَنِى،
فما حسبتُ أنه هو،
فلم يعقِّب وانقضى.
لكنَّهُ: ظلَّ معى ..
صدقت يا صادق يا أخى، “.. أروع الشعر ما تم تصنيعه فى مختبرات الإدراك البشرى الفياض. وصدقت من قبل ومن بعد فى رجائك لزملاء الشبكة وغيرهم ممن يغامرون بمتابعتنا وأنت تلتمس لهم العذر قائلاً: “وأرجو أن تطيقوا معنا صبرا”
لكن دعنى أؤجل الخوض فى مسألة الموت والشعر والإدراك الآن، لأختم ببضع مقتطفات قد تطمئنك وتطمئننى معك، الأول: اقتطفته ابنتى وسجلته فى نتيجة الجمعية المصرية للعلاجات الجماعية التى ترأسها EAGT” وهو لواحد اسمه “بالمر” (لم أعرفه بعد) وهو يقول:
“إنك لن تعلم أبدًا مدى تأثير ما قد تفعله أو تقوله أو تفكر فيه اليوم على حياة الملايين غدًا” بالمر.
من فرط ما فعلته هذه الجملة بى، حفرتها على رخامة وضعتها فوق مكتبى وقد حرّكت فىّ ما جعلنى أحفر على الوجه الآخر للرخامة ما يلى:
“الحياة هى مجموعة هذه الأجزاء من الثوانى التى نعيش إحداها معاً “هنا والآن”
ثم دعنى أختم لقاءنا بكلمات الشاعرة الزميلة أ.د. كريمة علاق وهى تقتطف محمود درويش:
أجمل ما تكونُُ أن تُخلخلَ المدى
والآخرون – بعضهم يظنّك النّداءَ
بعضهم يظنّك الصدّى
أجمل ما تكونُ أن تكون حجّة
للنور والظلام
يكون فيك آخرُ الكلام أوّلَ الكلام
إلى أن قالت (بعد حذف ما تيسر إلى شخصى): … وتنتظر هذه (القلوب الواعية) الجلسات الحوارية بين-ذاتية التي تشركها فيها هموم المعرفة وعناء البحث عنها… ، وهو موقف بعضنا الذي ينتظر شروق نور المعرفة ….. ممن لا يهمهم إلا الوصول إلى الهدى..
……..
مرة أخرى ليست أخيرة:
“شكرا يا جمال”!! جمعتنا بفضلك، بعد فضل الله، وما كنا نحسب أنا نلتقى
بارك الله فيك ورعاك..
وبعد
هل اطمأننت يا د. صادق كما فعلتُ أنا، إلى كلمات أ.د. كريمة: أن هناك قلوبا تستطيع معنا صبرا، ليصل ما تيسر مما قد يتجمع فيؤثر فى الملايين غدًا، كما يقول “بالمر”؟.
وإلى الأسبوع القادم مع الخبرة الإكلينيكية، والموت والإدراك، فرسالتك يا د. صادق قد أثارت كل ذلك.
[1] – DNA