نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 7-10-2012
السنة السادسة
العدد: 1864
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (115)
الإدراك (76)
الإدراك، والإيمان، والدين، والله!! (3 من ؟)
ذكرت فى نهاية الحلقة السابقة من هذه السلسلة عن الإدراك والدين والإيمان ومعرفة الله أنه ينبغى أن نتفق ولو نسبيا على مضامين الألفاظ التى نستعملها فى هذا المجال حتى لا تختلط الأوراق، وأول ذلك كما ذكرت مرارا: التفرقة بين الدين والإيمان، ليست تفرقة ليستبعد أى منهما الآخر، وإنما فقط لنفى الترادف ونحن نسعى إلى التعرف على الله سبحانه.
وجدت – كالعادة – أننى تناولت بعض ذلك فى مقال نشر لى – أيضا- فى مجلة سطور عدد يوليو 2004 بعنوان ماذا آل إليه حال الدين، وقد حدثته بعد ذلك وأنا أعد الفصل الأول من كتابى الذى لم يتم بعد، بعنوان “قراءة فى الفطرة البشرية” كما قلت سابقا، وحتى يتحقق فرض أن الله سبحانه نعرفه بالإدراك أكثر كثيرا جدا مما يمكن أن نثبت وجوده بالتفكير، ينبغى أن نزيح وصاية السلطة الدينية، وجمود المعاجم بخبطة واحدة، فكلاهما متوقف عند مستوى “الكلام”، أو مستوى حتى “علم الكلام” دون أن يعلن ذلك، من هنا رأيت أن أخصص هذه النشرة لاقتطاف ما تيسر عن “حالة الدين الآن”، وما وصل إليه هذا المفهوم من خلط أو تدهور أو تشويه أو تسطيح أو سوء استغلال أو تهميش، وهو ما جاء فى المقال المشار إليه حالا .
ماذا آل إليه حال الدين؟
صدرت المقال بكلمة أينشتاين عن علاقة العلم بالدين وهو يقول : العلم بلا دين أعرج، والدين بلا علم أعمى. ثم قول ابن عربى: “فانظر ما ترى، واعلم ما تنظر، وكن بحيث تعلم، لا بحيث ترى” كذلك قول ابن عربى أيضا: “..لا أعلمُ من العقل، ولا أجهل من العقل.” ثم ختمت التصديرات بمقتطف من “موقف المطلع” من مواقف النفرى يقول: “اطلِّعْ فى العلم: فإن لم تر المعرفة، فاحذرْه، واطلِّع فى المعرفة فإن لم تر العلم فاحذرها”، وأنا أعلم جيدا كيف يتلقى من نشأ يقدس ما هو التفكير، وما هو العقل كما يستعمله أغلب الناس وخصوصا أهل السلطة الدينية والعلم المؤسسى، كيف يتلقى هذه الأقوال إما بالرفض، أو فى أحسن الأحوال بعدم الفهم، خاصة من لم يكن معنا ونحن نؤكد على أهمية عدم الفهم الإيجابى فى تعرفنا على حجم وفاعلية الإدراك طول الوقت.
ثم نبدأ المقتطفات من المقال السالف الذكر:
أسئلة وإجابات ناقصة
نبدأ بمحاولة متواضعة للإجابة على بعض الأسئلة الأساسية منعا لخلطٍ محتمل.
السؤال الأول:
هل هناك فروق جوهرية بين الأديان؟
الإجابة الظاهرة التقليدية أنه لا توجد فروق جوهرية، وهى إجابة ناعمة هروبية كاذبة غالبا، كما أنها إجابة تستعمل حاليا، فى أغلب الأحيان للتأجيل والتسكين والخداع، ذلك لأن الواقع المعلن، والواقع الخفى يؤكدان وجود هذه الفروق بشكل صارخ لا يمكن إنكاره. صحيح أن إعلانات الاجتماعات، وادعاءات الحوارات، تعلن غير ذلك، لكن صحيح أيضا أن فتاوى المفتيين المعلنة والمغلقة تؤكد أن الفروق الحالية فى واقع الممارسة من خلال وعود وتهديد المستقبل، أكبر من كل حسابات.
لكن ثم قاسم مشترك حقيقى يمكن أن يمتد ليشمل كل ما هو دين، بل إنه قد يمتد ولو تعسفا خطر إلى الأساطير أيضا(1).
السؤال الثانى:
هل ثم فرق بين الدين والإيمان؟
الفرق موجود، ومعترف به، وهام . فمن ناحية هما ليسا مترادفين، “قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ”. الحجرات الآية رقم (14)، ومن ناحية أخرى هما ليسا متلازمين: فَثَّم متدين هو ليس فى عمق أعماقه مؤمن (الآية الكريمة السابقة)، وثَمَّ مؤمن لا ينتمى إلى دين بذاته (وهذا ما أشرنا إليه بحذر)، وبرغم هذه التفرقة الواضحة فإن العلاقة وثيقة بينهما، فالأغلب أن الدين أو التدين هو المظهر السلوكى والعقائدى لما يسمى الإيمان الذى يصبح فى هذه الحال خبرة أو معايشة أو موقف وجودِ غائر.
السؤال الثالث:
ما علاقة ما يسمى الروحانية بالدين؟
يعترف الكاتب بأن تناول مسألة الروح (التى هى من أمر ربى) ليست واردة فى هذه المداخلة بالمعنى الشائع عن كلمة”الروحانية”، ومع ذلك يبدو أن المشتغلين بمحاولة التوفيق بين الأديان قد جعلوا ما أسموه الروحانية، نسبة إلى الروح كما صوروها أو تصوروها، هى القاسم المشترك الذى يجمع بين المتدينين.
باختصار: إن الروحانية هى مفهوم كامن فى غور كل من الدين والإيمان، لكن لى رأى واضح أنها قد تكون اغترابا عنهما أحيانا، بل وأحيانا أخرى تكون اغترابا عن الواقع المعيش، وعن الجسد، وعن البيولوجيا . من هنا لزم التنويه أن الفرض المقدم فى هذه المداخلة هو من منطلق أبعد ما يكون عما يسمى “الروحانية” كما يتناولها الدعاة المحدثين مؤخرا، وحجتى فى تجنب استعمال لفظ الروح ومن ثم الروحانية هو أمر ربنا سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يتركها لربنا “وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي..” الاسراء الأية رقم (85)
السؤال الرابع:
ما هى علاقة السلطة الدينية بالدين والإيمان؟
واقع ما آل إليه حال معظم الأديان، حتى تاريخه، هو نتيجة محاولة مقاومة استيلاء ما يسمى السلطة الدينية على حق تفسير الأديان باعتبارها من الملكية الخاصة، لهذه المؤسسة الفوقية. وقد استسلم أغلب المتدينين لهذا الترادف حتى ابتعدوا، بغير قصد غالبا، عن حقيقة وظيفة الدين وحقيقة الإيمان. ثم إن السلطة الدينية من جانبها قد استمرأت هذا الترادف بينها وبين الدين فعينت نفسها وصية ليس فقط على الدين والإيمان، وإنما أيضا على وعى الناس المتدينين (وغير المتدينين).
كثيرا ما يتردد الحديث عن الوصاية على ضمائر البشر، وهذا أمر وارد من جانب السلطة الدينية، لكن ثمَّة وصاية أخطر هى الوصاية الداخلية على حركية الوعى، فهى أكثر قهرا حيث أنه يترتب عليها منع معايشة خبرة الإيمان إلا بالمقاييس التى تضعها هذه السلطة منذ الطفولة حتى تنغرس غائرة معيقة، تمنع حركية الوعى قبل أن تمنع مغامرة طلاقة التقليد الحر، وحين يصل الأمر إلى هذا القهر المبدئى الداخلى يكاد يستحيل الكدح إلى وجه الله بالإدراك خاصة.
السؤال الخامس:
هل ثمة علاقة بين الدين والغرائز؟
الشائع فى ظاهر الأمر، مع التعجل فى الحكم، أن التدين يقف على طرف نقيض من الغرائز، كذلك الإيمان، وذلك باعتبار أن الغرائز بدائية فجة، وأن الدين التزام منضبط، أو أن الغرائز دوافع دونية فى حين أن الإيمان هو روحانية راقية. هذا الشائع يحتاج إلى مراجعة مسئولة، حتى بالنسبة للغريزة الجنسية (بما فى ذلك مراجعة مقولات فرويد) وكذلك بالنسبة لغريزة العدوان (الذى قد تساهم إيجابياته فى الابداع(2)). من باب أولى: علينا أن نستوعب ابتداءً كيف أن هذا الاستقطاب غير وارد أصلا فى تناول مسألة الدين والايمان وجذورهما البيولوجية، الغريزية.
الغرائز هى أصل الوجود، والارتقاء بها، وليس على حسابها، هو التكامل الطبيعى على مسار التطور، فكيف تنفصل عن حركية مستويات الوعى كدحا إليه، ربما لو استعملنا تعبير البرامج الفطرية يكون الأمر أكثر تقبلا بعد تجنب استعمال كلمة الغرائز، لكن هذا قد يحمل مظنة التحايل الذى أحاول تجنبه ما أمكن ذلك.
وبعد
أعتقد أن السؤال الأولى بالتقديم قبل كل ذلك هو : أين يقع ما هو “دين” فى منظومتنا الحياتية الآن؟
إن إمعان النظر فيما آل إليه حال التدين فى الممارسة الفعلية فى عالمنا المعاصر يحتاج إلى وقفة مراجعة نوجزها على الوجه التالى:
1) عَجَز التدين التقليدى، الموصى عليه من سلطة مغلقة، عن الوفاء باحتياجات الإنسان وسعيه إلى الإبداع والتطور.
2) لم يستطع العلم (خاصة بمنهجه المؤسسى المحكم) أن يحل محل الدين والإيمان، حتى بعد أن أصبح له (للعلم) كهنته وطقوسه ومفتيوه الجاهزون للحكم بالهرطقة على كل من خالف العلم (كما يرونه).(وبالتالى أصبح بكهنوته هو الدين البديل أو الدين الجديد)
3) فشلت محاولات اختزال الدين إلى ما أتى به العلم كما فشل حبس العلم فيما يقره الدين.
4) فشلت أغلب محاولات التخلص التام من الدين، أو تهميشه، لصالح ما يسمى العلمانية، كما فشلت محاولات إنكاره كلية تحت زعم أن الدين مخدر للشعوب. (الشيوعية التقليدية)
5) فشلت محاولات تفسير التدين والإيمان باعتبارهما مجرد ميكانزمات لسد حاجة شعور البشر بنقصهم فى مواجهة قوى ساحقة أوغامضة. (التحليل النفسى التقليدى: فرويد)
6) أيضا: فشل ترويج تفسيرات تعتبر الدين بمثابة موقف أخلاقى لتحسين العلاقات فى المجتمع (أو حتى باعتباره ديكورا أخلاقيا يزين حقوق الانسان)
7) ثُم إن محاولات تحديث الدين- بإعادة تفسير نصوصه من منطلقات أحدث بدت وكأنها تسويق للدين بلغة معاصرة، وليست استلهاما لدوره المحورى المتكامل الأساس فى تركيبة فطرة الكيان البشرى.
8) أما ما يسمى تثوير الدين، باعتباره دافعا مناسبا لاستعادة كرامة وإنسانية الإنسان (مثلا: الكنيسة اليسارية، واليسار المسلم، وبعض الأفكار الشيعية الثورية) فإنه انتهى إلى اختزل الدين إلى أداة سياسية لجمع الناس لرفع الظلم، أو حتى لاستلام الحكم أملا فى دفع الظلم أو تلويحا بما يدفع الظلم.
9) ظهرت محاولات انقلابية وطرْفيه (شاذة) تعلن ما يشبه الثورة، على الدين التقليدى بإحلال أديان حديثه لكنها – لظروف معاصرة – بدت بدعاً انقلابية أكثر منها أديان بديلة، ومن ذلك:
(أ) إحياء ديانات قديمة شاذة
(ب) ابتداع ديانات خصوصيه (من الكنائس الجديدة جداً حتى عبادة الشيطان)
(جـ) نشاطات فيها سرِّية ما، تتهم بأنها ديانات (كما اتهمت الماسونيه – والروتارى)
(د) طرق صوفية خاصة جدا : قديمة أو جديدة
(هـ) تدين كيميائى (تجلى فى “ثقافة الإدمان”) بحركيتها فى الوعى، وطقوسها رغم سلبية نتائجها.
(و) ظهرت أيديولوجيات بديلة، لها نفس مواصفات ما هو دين، برغم أنها قد تكون مبنية على إنكار الدين التقليدى، وقد حسب أصحابها أنها يمكن أن تقوم مقام الدين وتؤدى وظيفته، ومن ذلك المناهج العلمية المغلقة اليقينية (دين العلم) وكذا المناهج التنويرية المتعصبة (دين التنوير) أو المناهج السياسية العقائدية (الماركسية التقليدية)، أو المناهج التحريرية الإعلامية (تسويق الديمقراطية، وحقوق الإنسان المكتوبة)، كل ذلك دار فى فلك العقل الممنطق، لكنه اتصف بكل المواصفات التى يمكن أن يدرج بها – سرا – تحت ما هو “دين”.
وبعد مرة أخرى:
إذا صح كل هذا وبعضه، فأين يقع الإدراك منه؟ وكيف يكون البحث فى الإدراك “هكذا” هو بعض واجبات الذين يتعاملون مع الفطرة البشرية وقد تعرت احتجاجا ثم تشوهت إجهاضا.
وهل يوجد مبرر حاليا يستدعى هذه الوقفة للمراجعة وكأننا نجدد صيحة البشر معا أنه “يا نقاد المعرفة، ويا مبدعى الحقيقة اتحدوا لمنع انقراض هذا الجنس الرائع؟”.
أقول: إذا صح ما قدمته هكذا منذ سنوات قبل أن يكشف الدين العولمى الجديد (دين المال والظلم والاستغلال والعنصرية الفوقية والعناوين الذكية) عن وجهه السافر، وهو يخدع كل من يخالفه، ويخيف كل من يجرؤ على مراجعته، ويرهب كل من يقاومه، أفرادا وشعوبا، إذا صح ذلك منذ سنوات فهو يتأكد الآن بشكل خليق بأن يحفز كل الناس الذين يحبون الناس سعيا إلى رب الناس ملك الناس إله الناس، يحفزهم إلى الإسراع بفهم أنفسهم أكثر، وشحذ أدواتهم أمضى، والاستعانة بالحق سبحانه وتعالى أكثر فأكثر، ومن ذلك العناية بتنمية القدرات المهمشة مثل الإدراك، وخوض المجالات المحظورة مثل الغيب، وإتقان كل شىء بكل شىء خليق بإتقانه، كل هذا مع إزاحة جادة لوصاية سلطان العلم المؤسسى باهظ التكاليف، والمبادىء البراقة بضاعة المطففين، والعنصرية المعلنة والخفية فى كل محافل التمدين الذى يفقد روحه إذ تنسلخ منه الحضارة.
عذرا ونراكم غدًا.
[1] – إن ما جاء فى هذه الفقرة يسرى على الأديان السماوية والأديان غير السماوية معا، مع زعم أو حقيقة أن الأديان غير السماوية أقل تعصبا، وإن لم تكن –غالبا – أقل استعلاء من الأديان السماوية.
[2] – العدوان والإبداع مجلة الإنسان والتطور، عدد يوليو 1980