الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (114) الإدراك (75) الإدراك، والإيمان، والدين، والله!! (2 من ؟)

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (114) الإدراك (75) الإدراك، والإيمان، والدين، والله!! (2 من ؟)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 1-10-2012

السنة السادسة

 العدد:  1858

 

 الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (114)7-9-2011

 الإدراك (75)

 

الإدراك، والإيمان، والدين، والله!! (2 من ؟)

مقدمة:

مازلت أكتشف ما سبق أن تناولته من هذا الموضوع وهو كثير، فقد وجدت أننى جعلته الجزء الأول من مشروع كتابى “الفطرة البشرية والطب النفسى” على أن يكون الجزء الثانى هو “الأسس البيولوجية للإيمان”، والثالث: “تطبيقات عملية” فى التوصيف والعلاج.

واليوم نعرض المقتطفات المكملة لنشرة أمس والتى ظهرت فى مقال: كدحاً إليه، لنلاقيه “نشر فى مجلة سطور عدد يونيو 2006، وذلك بالإضافة إلى لمحة من العلاج الجمعى سبق نشرها هنا فى النشرة رقم 256 بتاريخ 13-5-2008.

أولاً: بقية المقتطفات

جمود تحت سقف منخفض

…….. بدلا من أن تواكب السلطات الدينية وعلماؤها هذه التحولات الثورية فى المنهج والعلم والمعرفة، توقفت عند ما تصورتْـهُ نهاية المطاف لما يسمى “العلم” أو “العقل” كما يشاع عنهما وليس كما تطورّا مؤخرا. لم تعرف هذه المراجع الدينية، أن كثيرا مما تبقى تحت الشائع من هذه المسميات انتهى إلى أن يكون مؤسسات مقدسة جاهزة جامدة لا تقبل جديدا، حتى أنها راحت تتهم العلم المعرفى مثلا بالهرطقة، تماما مثلما فعلت كنيسة العصور الوسطى معها (مع تلك العلوم التقليدية، وهذا ما سبق ذكره ونحن نتناول “العلم المعرفى” فى ملف الإدراك) وغيره.

 هذه الصدمة المنهجية المعرفية ليست أقل صدْما من عديد من الصدمات المعرفية عبر التاريخ مثل صدمة دوران الأرض والشمس (كوبرنيكس). يحدث ذلك فى الوقت الذى تـُواصل فيه السلطات الدينية التقليدية التمسح بمعلومات العلم التى تجمدت فى عقرها. أهل السلطة الدينية لم ينتبهوا إلى أنهم باستشهادهم بعطايا هذه العلوم المغلقة، وتمسّحهم بمعلوماتها، ينفون حركية الديانات الأصل، وبالتالى يحُـولون دون مسيرتها وحفزها للوعى البشرى أن يواصل سعيه إلى وجه الله سبحانه وتعالى. النتيجة أنه تم تحالف خفى بين السلطة الدينية التقليدية، والسلطة المنهجية المعقلنة المتوقفة عن التطور (الدين الجديد المسمى العلم)، على حساب التطور البشرى، والحركية الإبداعية الولافية نحو التناغم مع الكون إلى وجه الحق سبحانه، هذا هو الطريق إلى معرفة الله.

استمرار المواجهة

كل ذلك زاد من مسؤولية النقد الأحدث والمواجهة المنهجية فى اتجاه إعلان وتأكيد وإثبات أن للمعرفة مناهل متعددة، وقنوات ومستويات متوازية، ومتكاملة فى آن، وأنه لا ينبغى أن تحتكر إحدى هذه القنوات حق المعرفة، وأنه على “الأحدث” ألا يلغى “الأقدم”. بل عليه أن يحتويه ويتكامل به. منذ نشأت الحياة ظلت الأحياء تتعرف على المحيط حولها، وتنظم وتطور قوانين بقائها، وتنجح، قبل أن يكون ثَـمَّ عقل مثل هذا الذى توّج مسيرة الإنسان، ثم أحكم قبضته عليها دون غيره، وقبل أن يكون لها علم مثل هذا الذى انتفخ مؤخرا حتى كاد ينفجر فى محله. كلُّ الأحياء كان لها “وعيها الخاص” الذى تتعرف به على المحيط (فالكون- ربما) قبل ظهور المخ عضوا رئيسا متميزا، وقبل اكتساب ثروة الرموز المتنوعة (اللغة أساسا). لا أحد يستطيع أن يجزم أنْ ليس للاحياء الأدنى من الإنسان نزوعا إيمانيا معينا. لولا الخوف من فهم استشهاداتى لغير ما أريد، لكنت أوردت من القرآن الكريم نصوصا بلا حصر لدعم ما أقول  مما ورد فيه عن الطير والجبال وكافة ما بين السماء والأرض وهى تشارك فى عزف هذه الهارمونية الكونية بما يسمى باللغة الدينية: تسبيحا!!.

 تكامل قنوات ومناهج المعرفة

علينا أن نقر أن مفهوم العلم قد تطور بقدر اتساع مناهجه. العلم لم يعد قاصرا على ما يَثبتُ بالتجربة وما يدعم بالمقارنة، وما يمكن إعادته فيأتى بنفس النتيجة،  كما اتسع مفهوم التفكير حتى تبين أن أغلبه يجرى بعيداً عن الوعى الظاهر، وبالذات فى مجال الإدراك كذلك استعاد الوعى موقعه المحورى فى الوجود البشرى، فلم يعد مجرد وساد للوظائف المعرفية المحددة، بل أصبح مشاركا فعالا فى عمليات المعرفة المختلفة،  ثم إن الجسد عاد ليأخذ موقعه كمساهم إيجابى فى حركية المعرفة أيضا بصفة عامة(1)

“وابتغوا إليه الوسيلة”(2)

يقرأ بعض الطيبين هذه الآية الكريمة باعتبارها دعما لالتماس رحمة ربنا ورضوانه عن طريق التبرك بالأولياء والدعاء فى رحابهم، وتوسيطهم للشفاعة مثلا، أو عن طريق اتباع مشايخهم، كل فى طريقته. ليكن، لكن إذا قرأنا هذه الآية الكريمة كدعوة لطرق كل أبواب المعرفة حتى نسلك كل دروبها المتاحة بما يوصلنا إليه، إذن لهـُـدينا إلى صراط مفتوح النهاية.  لم يعد مناسبا أن تُختزل ظاهرة مثل ظاهرة الإيمان والدين، ناهيك عن السعى إلى الله لمعرفته، إلى ما نتناولها به مما يسميه أغلبنا عقلا فى حدود ماشاع. حين يفخر الفقهاء حسنو النية بأن “الإسلام (أو أى دين) هو دين العقل” (مثلا)  لا ينتبهون إلى أنهم بذلك يقزّمون الإسلام (أو أى دين) فى حدود العقل كما يعرفونه، وحين يقررون أن النص الإلهى لا يفسَّر إلا من خلال تعريف ألفاظ المعاجم للمعانى التى كانت حين نزوله، بهذا هم يحبسون رسائل الله داخل صفحات المعاجم فى لحظة تاريخية معينة، مع أن لغة النص المقدس قادرة أن تنزّل وحيا حافزا جديدا على عباده طول الوقت من يوم نزولها إلى يوم القيامة، لكنهم بما يفعلون يحولونها إلى أصنام ألفاظ المعاجم الساكنة، بدلا من أن يطلقوها فى رحاب حركية لغةٍ تتطور كل يوم لتنبض بالحركة إليه. هم يتحدثون عن الثوابت بجمود مطلق مع أن الدين الثابت ليس دينا، وإلا فلماذا الكدح؟ كما أن العلم الثابت ليس علما، وإلا فلماذا البحث؟  إن إثراء الدين وحركيته لا يعنى تبديله، ولا اختراع دين جديد. إن الثابت بالضرورة بفرمان سلطوى، لا بد أن يخنق الحركية الساعية إليه لتتحرر به، والتى بغيرها لا يكون الكدح كدحا.

انتبه بعض الطيبين من العلماء والمتدينين إلى هذا المنزلق فقللوا من حماسهم وفخرهم بأن الإسلام – أو أى دين – هو دين العقل، لكنهم اتجهوا إلى الناحية الأخرى يفترضون أن ما هو دين أو إيمان هو مسألة عاطفية خاصة، لها وظيفتها الرقيقة المكِّملة للعقل لمن شاء أن يمارسها بعض الوقت، فتم بذلك -للأسف- تهميش الدين واختزال دوره إلى اختيار شخصى عاطفى رقيق، يُستعمل من الظاهر، بعض الوقت، كلما احتاج صاحبه إليه. هذا الفريق بدوره اقترف خطأ أدى إلى نفس النتيجة من طريق آخر، وهى توقف  السعى كدحا متصلا  إليه”.

انتهت المقتطفات

وبعد (30/9/2012):

هل يمكن معرفة الله بعيدا عن وصاية أى دين؟ أو بتعبير أكثر جسارة هل من حق مَنْ أنكر الأديان أن يكون مؤمنا بالله؟ إن طرح هذا السؤال الصعب له أهمية منهجية خاصة بغض النظر عن احتمال التطبيق العملى مرحليا، ذلك أننا إذا كنا نبحث عن علاقة الإدراك بمعرفة الله، وأنه الوسيلة الأكثر مصداقية، والأقرب والأرحب حركية، فعلينا أن نقبل احتمال أن يتم قيام هذه الوظيفة بعملها فى توجهها للتعرف على الله من خلال تنشيطها المتبادل مع وعى مشارك أى مع آخرين فى نفس الاتجاه، وهذا ما يحققه كل دين حين يستلزم أن يؤمن به عدد متزايد من الناس.

يمكن القول بناء على ذلك أنه لا يوجد دين فردى، ولكن توجد فرصة فريدة لكل واحد أن يتعرف عل ربه بكل ما ذكرنا وغيره، لكن ليس من المقبول أن يسمى هذا دينا إلا إذا انتمى إلى جماعة تشاركه التجربة والرؤية بشكل أو بآخر، لكن تظل وسيلة معرفة الله هى نفس الوسيلة التى قد يسهلها الدين، وتساهم فيها الجماعة، لكنها هى هى من خلال الإدراك أساساً.

تنشيط الإدراك: بالناس معاً “هنا والآن”:

لن آمل من تكرار فضل مرضاى ومهنتى على منهج معرفتى، وقد تبين لى أن إدراك الله عز وجل يكون أساسيا وأكثر مصداقية من خلال الحوار الحيوى بين مستويات وعى البشر مع بعضهم البعض، ولعل هذا هو ما يحققه العلاج الجمعى (الذى أمارسه منذ أربعين عاما بانتظام) مع التركيز على مبدأ “هنا والآن” الذى يقلل كثيرا من الحكى المسترسل، والمناقشات الفكرية الإقناعية الإثباتية، فتنشط قنوات التواصل الأخرى والتى تتبين لى الآن أنها متضمنة فيما يسمى “الإدراك“، ولتوضيح ذلك وخاصة فى علاقة هذا العلاج بمعرفة الله عز وجل، أعيد نشر هذه الجزئية عن العلاج الجمعى.

لمحة من العلاج الجمعى (من نشرة سابقة بتاريخ:  13-5-2008).

“…فى العلاج الجمعى – الذى أمارسه منذ 37 سنة بانتظام حتى الآن، لاحظت أن الذى يربط أفراد المجموعة بعضهم ببعض هو “كيان يتكون” داخل الدائرة، أكاد أراه رأى العين(3)  لولا خشيتى أن أتهم بالهلوسة البصرية، كما تحاط المجموعة من خارجها بنفس الكيان وهو يضم الأفراد ويحتويهم، تشارك معه كل الأشياء والأناسى المحيطة – بما فى ذلك “الزمن المحدد للقاء والانتهاء” – وبقليل من الخيال (الذى اسميه هنا الامتداد) أدركتُ أن هذا الكيان ينمو مع نمو المجموعة ككل، وأيضا يتواكب هذا عادة- فى الأحوال الطيبة – مع نمو أفرادها فردا فردا. لاحظت أيضا أنه بقدر قدرة هذا الكيان الحقيقى (ليس تجريدا) على الامتداد إلى ما حوله وما بعده تكون قدرة الأفراد على إطلاق مسيرة نموهم امتدادا طولا وعرضا.

استلهمت من خلال هذه الملاحظة معنى الجماعة، وكيف أن التركيز فى هنا والآن يخلق هذا الكيان الذى اسميته “الوعى الجمعى” الممتد!، وامتد بى الامتداد إلى أن بدأت أرى أن هذا الرابط الجماعى، الذى لا يحل محل، ولا يستغنى عن الروابط الثنائية والثلاثية .. الخ. وهو يوثِّق ويُمَوْضِعُ العلاقات بين البشر، بما فيها العلاقات الثنائية الصعبة، يمتد طولا وعرضا حتى نتمحور حوله إلى ما يجمعنا معا متوجهين إلى وعى أشمل وأعلى بلا حدود.

طوال سبع وثلاثين سنة (الآن أربعين) وأنا أتابع هذا الواقع الماثل أمامى مئات المرات فى آلاف الأفراد، بما فيهم شخصى، فنمى وعىٌ يقول: إن هذا الذى يتكون، إذا كان من قوانين فاعليته وحضوره قانون التوازن الممتد، فهو لابد قادر على أن يكرر ما فعلناه أفرادا مع مجموعات أخرى تكونت على شاكلته، ولكن فى ظروف مختلفة، وأن هذا القانون – قانون الامتداد وتكوين وحدات أكبر – سوف يظل يعمل تصعيدا واقعيا إلى مدى لا نعرفه .

من خلال هذه الرؤية كنت أشعر بالثقة والأمان أن ما نمارسه يوجهنا إلى الشافى المعافى معاً معاً، وأحيانا كنت استعمل مضطرا ألفاظا دينية محدوده لأوصل توضيحا لما يجرى، لا يرتبط بدين بذاته، ومن أهم تلك الألفاظ لفظ الجلالة سبحانه وتعالى، لكننى كنت ألاحظ أنه بمجرد استعمال هذا اللفظ الكريم، خاصة فى بداية نمو المجموعة، مشيراً مثلا إلى أنه هو الذى يجمعنا عليه لنفترق عليه، أنظر حولى أطالع ماذا وصل للمجموعة، فأرجح أن معنى آخر غيرْ الذى أعنيه قد أبعدنا عن بعضنا بقدر ما من الاغتراب عن “هنا والآن”، عكس ما كنت أرمى إليه، ويظهر ذلك أكثر وضوحاً حين تضم المجموعة أفرادا ملتزمين دينيا تقليديا بشكل زائد، فكنت أتراجع لأعود للألفاظ الخالية من الشحن الانفعالى المسبق.

……………

……………

وبعد

أشعر أنه قد حدث ما توقعته من استدراجى (استدراجنا) إلى ملف بالغ الصعوبة مترامى الأبعاد، فأنا مضطر أن أواصل توضيح “بعض ما آل إليه الدين” حتى وقتنا هذا، وأيضاً مواصلة محاولة التمييز بين ما هو دين وما هو روحانية مع التحذير من سوء استقبال اللغة المستعملة.

الإشكال فى تناول هذه المواضيع الحساسة هو الخلط الجاهز والمحتمل بين معانى الألفاظ التى نستعملها، وبين استقبالها عند كل فريق، وكلما اختلطت معانى الكلمات المتقاربة ببعضها البعض، زادت الحيرة وزاد سوء الاستعمال،فالدين غير السلطة الدينية غير الإيمان غير الروح غير الروحانية.

لكل ذلك أرجو ممن يتابع هذه المداخلات أن يتروّى قليلا، بل كثيرا، قبل أن تقفز إلى ذهنه، إلى عقله، إلى وعيه، المعانى والمضامين التى أعتاد عليها عند سماع أى من هذه الألفاظ.

[1] – Philosophy in the Flesh : The Embodied Mind and its Challenge to Western Thoughts   (in English Copyright 1999) By George Lakoff and Mark Johnson

 “الفلسفة منغرسة فى الجسد”. تأليف جورج لاكوف , مارك جونسون

[2]-  سورة المائدة  – الآية 35

[3] – وإلى درجة أقل لاحظت ذلك أيضا فى علاج “الوسط” فى  المجتمع العلاجى، لكننى سأقصر إشارتى إلى العلاج الجمعى هنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *