نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 30-9-2012
السنة السادسة
العدد: 1857
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (113)
الإدراك (74)
الإدراك، والإيمان، والدين، والله!! (1 من ؟)
أنهيت نشرة الأسبوع الماضى بطلب الرأى فى تفضيل أى الموضوعات أبدأ بها: وفى حدود ما جاءنى من ردود أغلبها من زملائى الأصغر كان التفضيل أن أبدأ بعلاقة الإدراك بالإيمان (والدين والتصوف…الخ) وكنت قد أشرت إلى أننى أفضل ذلك، ومع ذلك فقد تعجبت من غلبة هذا الاختيار لأننى أرجح أن الحديث فى هذا الموضوع لن يحل الإشكال الذى يشغل من يطلب منى البدء به، فمازلنا نتصور أن ثمة إجابات جاهزة يمكن أن ترسينا على بر، وهذا غير صحيح، لذلك لزم التنويه من البداية أنه ليس عندى منهج عام يمكن تسويقه لكل من يريد، فترددت طويلا قبل أن أبدأ بعرض وجهة نظرى فى علاقة الإدراك بالإيمان والدين فضلا عن أن هذا الموضوع يمكن أن يجرجرنا لعدة شهور بعيدا عن الموضوع الأصلى الذى هو فرع من موضوع أكبر!!
ما علينا، دعونا نبدأ
قلبت فى أوراقى فإذا بى قد بدأت بحث هذا الموضوع من قديم مع أننى كنت أحسب أننى أتعرف على ماهية الإدراك وجوهريته وعلاقته بمعرفة الله بالذات لأول مرة هذه الأيام
وإليكم بعض ما وجدت:
أولاً: فى مقال بعنوان: “كدحا إليه لنلاقيه” نشر فى مجلة سطور عدد يونيو 2006 جاء ما يلى بالحرف الواحد:
“….إنه سبحانه يُدرك ولا يفهم، يُدرك بالحواس كلها (وبدونها وبغيرها)، وأنه لا يمكن الإحاطة به أو حتى ببعض جوانبه بالتفكير المُسبب الخطى الحتمى المرموز، وأنه جل شأنه لا يمكن إثباته بعقولنا الظاهرة دون بقيتنا، ولكن يمكن السعى إليه” بكل ما هو نحن” وعْياً فى رحاب وعىٍ أكبر فوعى أكبر فوعى أكبر بلا توقف، وأن هذا السعى ليس حدسا عشوائيا هذر مذر، لكنه سعى يحتاج إلى تدريب للحواس والعقل والوجدان جميعا كلٌّ بطريقته، وإذا كان الجسد قد استعاد دوره فى المعرفة، فإنه أولى بالقيام بدوره فى المشاركة فى لحن السعى الوجودى الفردى فالجمعى فى الكون، الأمر الذى يتجلى بوجه خاص فى العبادات والطقوس المنتظمة، دون حاجة إلى ترجمتها إلى ما يقوله العقل الظاهر وصيا عليها. ثم إنه سبحانه ليس كمثله شىء، وليس له كفوا أحد، كما أن كرسيه قد وسع السماوات والأرض، وهو غايةٌ لا تُدرك تحديدا، وإن كانت تجذٍب بوجودها الحقيقى كل جاد يكدح إليه اكدحا ولا يتوقف إلا ليعاود، دون أن يصل، مع أنه وصَلَ منذ بدأ ما دام مستمرا.
إن “حتْمَ الحضور بالنفى” هو وسيلة معرفية إيجابية تكمـّل وتتفوق أحيانا على الحضور بالإثبات.
ثم ألحقت بذلك مباشرة ما يلى:
“كل هذه الافتراضات تبدو نظرية، وكثير منها سوف يُحتج عليه بأنه غير مفهوم، لأننا نريد أن نفهمها بالعقل الذى اعتدنا أن نحل به مسألة حساب أو تمرين هندسة، وليس بالوعى والجسد (فى العبادات – والهجرة- والجنس)، وسط جموع الناس (مثل الجمعة، الجماعة، الحج، وما يقابلها فى أى دين)، إنه إبداع الذات فالحياة فى كل مجال. إن الشخص الأمّى يمكن أن يصل إلى كل ما أشرنا إليه حالا دون حاجة إلى هذا التنظير. إن هذه الافتراضات كلها لا تدخل إلى وعينا المعرفى بالحجج والبرهان، وإنما بالمعايشة والتدريب والممارسة، إن التعرف عليها يستلزم منا أن نفهم معنى تدريبات الوعى وحركية الجسد للمعرفة، مع توثيق علاقتنا بوعى الطبيعة فالكون فى رحلات “الذهاب والعودة”، دون توقف”.
ثم ألحقت بذلك كذلك مايلى:
“شحذ كل أدوات الإدراك. تسليك منافذ الوعى
المسألة ليست تنظيرا بديلا يعرض رأيا أرجح. هى إشارات إلى ضرورة نقلة نوعية فى التربية والنمو، والتدريب والعبادات، لعلها تسهم فى استعمال واستلهام ومحاولة كل وسيلة “إليه” دون تمييز، ودون احتكار. إن شحذ أدوات الإدراك ومنافذ الوعى من خلال عبادات كل دين حقيقى لم يتشوه، هو أمر وارد، بل هو أمر واجب، يجرى هذا جنبا إلى جنب مع حركية الإبداع فى كل مجال، بهذا يتحقق التوازن بين مناهل وقنوات المعرفة من جانب، وأيضا بين أدوات ووسائل السعى إليه “معا” من جانب آخر. خذ مثلا تنمية العلاقة بالموضوع (ببعضنا البعض) فى رحاب وعى أشمل (اجتمعا عليه، وافترقا عليه) بديلا عن التماهى الثنائى وجها لوجه، أو خذ مثلا حين يصبح الجنس عبادة وإبداعاً تحت مظلته، أو خذ الإيمان بالغيب تدريبا وحفزا للإبداع، أو خذ تجاوز الحواس الخمس دون الوقوع فى خرافة الحدس العشوائى، أو خذ حركية مواكبة الإيقاع الحيوى للطبيعة توازيا مع الإيقاع الحيوى للعبادات، أو خذ آثار تغيير الوعى مع تنويع رسائل وعى الكون من خلال الحركة والترحال، أو خذ الموقف النقدى فى كل تجلياته دون استثناء، وهو موقف يشمل تحمل الغموض، والقدرة على التأجيل، فالإبداع النقدى.
أغلب النظم التربوية المعاصرة، ليس لها وظيفة إلا طمس أغلب ذلك.
موقف شخصى
ولدتُ مسلما. لم أستطع أن أدعى أن الإسلام دون غيره هو الذى تسمح تعاليمٌه بتنمية كل من الوعى والإدراك والإبداع طريقا سعيا إلى ربنا كما وصلنى، لكننى أيضا لا أستطيع أن أنكر فضل إسلامى على ما وصلت إليه. ثم إنه تصادف أننى امتهنت مهنة أتاحت لى أن أعايش الوعى البشرى فى تناثره، ورِدَّته، (المرض) ومحاولة إعادة تشكيله، (العلاج) الأمر الذى لم أتمكن من أن أمارسه إلا بالمشاركة المسؤولة بوعيى الشخصى مشتبكا مع وعى بشرى آخر، مستهديا ببعض العلم والخبرة. إن بعض ما وصلنى من إسلامى ومهنتى هو ما هدانى إلى معنى حتمية الحركة، تحت مظلة الرحمن إليه. أنا لا أستطيع أن أفصّل أيا مما بلغنى من حضور التوحيد فى حياتى ومهنتى تحريرا من كل اغتراب، أو فضل ما بلغنى من سورة الفاتحة علىّ وعلى مرضاى، أو دلالة التفرقة بين الشهادة والاعتقاد فى “شهادة” أنه “لا إله إلا الله”، وغير ذلك كثير.
آليات المعرفة إليه:
“السعى إليه لا يكون إلا بالسعى إليه،
والعقل أحد السبل إلى ذلك شريطة ألا يقتصر مفهومه على تلك القلنسوة اللامعة المصنوعة تماما من الرموز والأبجديات الساكنة،
“العقل القلنسوة” لا يمكن أن يُثبت وجود الله، لكنه وبنفس منطقه الخائب، لا يمكنه أن ينفيَه.
نحن نحتاج إلى إعادة التعرف على مفاهيم كثيرة شاع استعمالها قاصرة بعد أن تجمدت فلم تعد كما وعدتْ، وفى مقدمة ذلك: العقل، والوعى، والعلم، والواقع.
الوعى والعقل:
فى كتابه عن “الطريق لفهم الوعى” والمسمى “أنواع العقول” (1) تناول دانيال دينيت تصنيف العقول ومراحل تطورها باعتبارها مراحل فطبقات من الوعى، منذ ما قبل الإنسان. هذه الأنواع من العقول هى مستويات وجود متصاعدة تم برمجتها بذكاء فطرى حافظ على بقاء كل نوع إلى مداه. العلوم النفسية الأحدث لا تتناول ما هو “وعى” بما ينبغى من جدية ومثابرة. علم السلوك ينفيه أو يهمشه، والتحليل النفسى التقليدى يضعه قشرة شعورية فوق، وحوْلَ، مجهولٍ غامض مراوغ اسمه “اللاشعور”، والطب النفسى التقليدى والعلوم العصبية تختزله إلى وظيفة لجهاز عصبى شبكى صاعد، يقوم بوظائف الانتباه واليقظة وما إلى ذلك. الوعى غير كل ذلك، مع أنه يشمل كل ذلك. مستويات هذه البرامج الحيوية ترتبت هيراركيا بطريقة شديدة الإحكام ترجع عادة إلى تاريخ حيوى أقدم كثيرا من ظهور الإنسان، ثم اشتملها الإنسان لتحمل تاريخه ليتكامل.
الوعى المشتمِل هو أداة السعى إليه، وفى نفس الوقت هو هدف السعى الذى لا يتوقف، هو “عملية” حركية جُماع العقول التشكيلية الكلية الهيراركية المتناغمة الفاعلة الذكية. لا يجوز، والأمر كذلك، أن يحل العقل الظاهر أو الشعور (الفرويدى) محله بحال.
تحديث: لعل ذلك ينبهنا إلى التقليل من الحماس للتأكيد على أن الإدراك هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله، لعله الوسيلة الأهم، لكن تعبير “الوعى المشتمل” يكون هو التعبير الأقرب للحقيقة، خاصة ونحن نؤكد على أنه يعنى “جماع العقول التشكيلية الهيراركية المتناغمة الفاعلة”.
الواقع الآخر وإنكار الغيب
فى نفس الوقت، أدى الرعب من الخرافة إلى إنكار الغيب برمته، مع أن الغيب هو واقع آخر. احتكَر الواقع الظاهر كَّل ما يسمى الواقع، فاحتل أرضا هى أرحب بكثير من أن يشغلها، هذا الواقع الملموس أزاح كل واقع آخر سواء بالداخل أم بالخارج، سواء أمكن رصده أو رصد آثاره أم اقتصر الأمر على استشرافه فالإيمان به يقينا من خلال إيقاع الحركية إليه. بداية الطريق هى الإقرار بأن الواقع هو واقع وواقع وواقع، وكثير، تماما كما أن الوعى هو وعى ووعى ووعى ، وكثير، إليه واحدا أحد.
قبول التحدّى (يفتح آفاق الإدراك، فالعلوم الأحدث)
المعرفة الشاملة، والاجتهادات المنهجية، والإبداع المغامر، لا يمكن أن يتوقف أى من ذلك عند مرحلة متوسطة مهما بدا أن لها ما يبررها، لهذا يتحرك النقد العلمى الأحدث، وتتنشط المراجعات المنهجية، لتتولد علوم جديدة، تسد النقص وتتجاوز الوقفة، وتحول دون اختزال الإنسان إلى عقله أو إلى وعيه الظاهر أو إلى علمه المحكم المنغلق على معلوماته. حركية هذه المواجهة تحول دون فصل الإنسان عن تاريخه من جهة، وعن الكون من جهة أخرى. هذا هو ما سمح للعلوم الجديدة أن تكشف عن نفسها: مثل العلم المعرفى، وعلوم الشواش والتركيبية. حضَـَرنا العلم المعرفى مؤخرا باعتباره منهجا بديلا فى مواجهة الخرافة من ناحية، ومواجهة ديانات العلم المصنوعة، وديانات التعقلن المغلق من ناحية أخرى، فضلا عن مواجهة جمود السلطة الدينية واحتكارها لحق التفكير تحت زعم التفسير.
جمّاع الوعى الفطرى العام، عبر العالم، عبر التاريخ، لم يتنازل عن أىٍّ من قنوات المعرفة التى حافظتْ على علاقات الإنسان الخفية بتاريخه الأسطورى، والدينى، ومن ثمَ: التوجه الكونى، والغيب، وإن كانت المبالغة والتسرع العشوائى فى هذا الاتجاه قد أديا إلى ظلمة مستنقعات الخرافة أحيانا كثيرة إلا أن هذا لا يبرر استبعاد أى من مناهج المعرفة الممكنة.
وبعـد
أعتقد أن كثيرا مما جاء فى هذه النشرة اليوم قد سبقت الإشارة إليه فى نشرات ضمن ملف الإدراك، لكن لعل فى جمعه معا اليوم ما يسمح بقدر أكبر من التكامل المعرفى.
[1] – Daniel C. Dennett Kinds of Minds 1996 Towards Understanding of Consciousness Weiden feld& Nicolson 1996.
قام المترجم د. مصطفى فهمى، (المكتبة الأكاديمية: 2003) ربما تسهيلا على القارئ العربى بترجمة العنوان إلى “تطور العقول” برغم أنه ترك العنوان الفرعى مشكورا وهو “الطريق إلى فهم الوعى”.