نشرة “الإنسان والتطور”
30-5-2012
السنة الخامسة
العدد: 1734
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (80)
الإدراك (41)
“العين الداخلية” (12)
و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات” (11)
Information Processing
مراحل التفكك ليس لها قاعدة
فصامى يعلمنا (11):
تذكرة (معادة): لم أحاول أن أترجم ما جاء بالشكل حتى لا أشوهه، لأن المضمون ليس هو المقصود، أنا فقط أردت أن أبين ابداعا موازيا لفنان مجهول (لى) فالشكل من مجموعة Art Explosion قد رصد هذه الحجرات والثقوب والمجارى مثلما رصد رشاد “الأُوض”، (الحجرات)، والاخرام، والمِجْرَى.
مقدمة:
(نكمل اليوم ما يستحسن أن تكون مازلت تذكره –صديقى القارىء- منذ أمس، أو دعنى أدعوك للمرور به سريعا أولاً)
………………
………………
د.يحيي: فيه حاجات غريبه إنت قلتها فى الأول ما تكلمناش فيها يا رشاد يا ابنى، زى حكاية
“الأوَضْ (الغرف) اللى بتفضى وبتتملى ديه”
رشاد: ما هىّ المِجْرَى
د.يحيي: لأ ده فيه حاجات تبع الأوَضْ (الغرف) كانت فى الورقة الأوّلانية، مش مهم، يمكن نرجع لها، إنت بتقول برضه (يقرأ) “…مخى بيتقسم” مش بتقول: اتقسم وخلاص، لأ “بيتقسم نصين” هوه لسه بيتقسم لحد دلوقتى، ولا اتقسم مرتين وخلاص؟
رشاد: هو لو فى البدايه: لسه بيتقسم
د.يحيي: ودلوقتى؟
رشاد: دلوقتى لأه
د.يحيي: دلوقتى بقى نصين ولا تلات تنصاص، ما هو اتقسم مرتين
رشاد: لأ دلوقتى مافيش خالص
(*) مراحل التفكك ليس لها قاعدة، لكن يبدو أن رشاد يرصد (بعينه الداخلية غالبا) المراحل بدقة، وبرغم حرية حركته فى الزمن، إلا أنه يستطيع فى نفس الوقت أن يحدد المراحل أيها قبل الأخرى، ويصفها الواحدة تلو الأخرى بدقة كافية، على أن نفى الانشقاق أو بداية التفكيك حاليا “دلوقتى مافيش خالص” لا يعنى بالضرورة أنه استعاد واحدَّيُته، أى شُفِىَ وانضمت أبعاضه أو وحداته إلى بعضها، وإنما قد يعنى همود أو توقف حركية التفكيك مرحليا، وكذلك توقف نشاط “العين الداخلية”، ويمكن أن تعتبر هذه الخطوة مرحلة نحو الشفاء أو نحو التدهور حسب المسار اللاحق. ويواصل الطبيب التساؤل للتأكد والبحث:
د.يحيي: مافيش ازاى؟! طب نشوف المحادثه الاخيره مع د.”م” انت قلت للدكتورة (يقرأ)
“…. عشان اوصف التعب لازم أقول لك يا دكتوره حاجه بتحسسنى بيها، يعنى إنت لو شديتى شعرك على غفله حاتحسى بإيه “؟
د. يحيى (يكمل): مش انت قلت لها كده ؟
رشاد: أيوه
د.يحيي: كنت بتعاكسها ولا إيه ؟
(*) محاولة للتخفيف من جفاف الأسئلة حتى لا تبدوا مثل تحقيق النيابة.
رشاد: لأه، انا ما كنتش عارف اوصف التعب، معنى التعب اللى عندى ما كنتش عارف اوصفه، فاضطريت إنى أشرح
(*) كما ذكرنا : التأكيد على صعوبة الوصف تعطى مصداقية أكثر لما يحكيه رشاد، وبالذات حين يقول “ما كنتش عارف أوصفه”، ذلك لأن العين الداخلية لا تستعمِل اللغة الرمزية للكلام ببساطة، ثم إن النقلة من مرحلة الرصد إلى محاولة توصيل هذا الذى ترصده تصبح ترجمة عسيرة بالضرورة، بحيث لو وصفها مريض (أو أى مبدع) وصفا سهلا مباشرا لكانت أقرب إلى التخيل وليس إلى الإدراك، وقوْل رشاد “اضطريت أشرح” ، دليل أكثر على الصعوبة ومحاولة التوصيل فى نفس الوقت.
د.يحيي: إنت قلت للدكتورة بالنص (يقرأ):
“… يعنى لو شديتى شعرك على غفلهْ بتحسى بإيه، تقدرى توصفى الوجع ده؟”
، قالت لك: “الوجع يعنى حاجه بتشد كده”
قمت انت قلت لها:
“…. شوفتى يا دكتوره انت مش عارفه تشرحي، هو نفس الوجع اللى عندى أكن حد بيشد عقلى ازاى ما أعرفش”
(يكمل د.يحيي): إنت من الاول عملت حاجه لطيفه خالص: انك قلت ده “ما يتوصفش”، مش بس انت اللى مش قادر توصفه، لأه ، دا هو طبيعته إنه ما يتوصفشى، بدليل إن الدكتورة مش قادره توصف الشعور ده، وانت راخر مش قادر توصف نفس الشعور ، وده الأصعب، يعنى هى مش قادرة توصف شد شعرها، والأصعب إنك ما تقدرشى توصف شد عقلك، طب دلوقتى اقدر اساعدك أنا إزاى أنك توصف شعورك بإن حد بيشد عقلك
رشاد: هو الحوار كله بصراحه يعنى غريب
د.يحيي: حوار جميل جدا، وصادق جدا، وبسيط جدا
رشاد: هو حقيقى بيحصل كل الحاجات دى؟
د.يحيي: كل إيه؟ انت بتسألنى؟ ولا أنا اللى أسألك؟
رشاد: كل الشد ده يعنى؟
د.يحيي: أناإيش عرفنى: إنت اللى بتقول، وانا مصدقك.
(*) هذه الفقرة بوجه خاص تجعلنا نصدق رشاد أكثر جدا، لأنه يشير إلى خبرة عصية على الوصف لدرجة أنه يريد من الطبيب أن يشرح له ما يجرى، وما جرى، ويبدو أنه فوجئ بتصديق الطبيب له، ولو أن الطبيب أسرع ووصف مثل هذه الصعوبة باسم عرض، معيّن مثل “الربكة” perplexity ، أو حتى “اللاترابط” Incoherence إذن لانقطع التواصل، وانتفى الفرض قبل أن يُطرح، رشاد يسأل “هو حقيقى بيحصل كل الحاجات دى” ” كل الشد ده؟”، فى حين أن ما اعتدناه من المرضى الفصامين بالذات بعد تمام تكوين الهلاوس أو الضلالات هو أن يجزموا بأن ما يقولونه أو يسمعونه هو حقيقة مطلقة، وأيضا المتوقع أن يقف المحيطون والأطباء من ذلك موقف من يحاول أن ينفى أنه حقيقة باللغة السائدة، الموقف البحثى العلاجى الجديد هنا يمكن أن يوجز فى تعبير الطبيب أنا إيش عرفنى: إنت اللى بتقول، وانا مصدّقك.”
رشاد: هو ده بيجى من الكلام يا دكتور، بييجى من إنى أنا لما اكلم حد فابيحصل بقى اللى هو الشد ده.
د.يحيي: يعنى انت وانت بتكلم حد فيه حاجه بتشد عقلك كده
رشاد: لأ الكلام نفسه مع شخص معين يقوم بيحصل حاجه زى كده
د.يحيي: يحصل إيه ؟
رشاد: يحصل شد بقى
د.يحيي: شد فى ايه؟ انت وانت بتتكلم مع واحد يحصل شد فى العقل ازاى؟
رشاد: مش عارف! بيتبع علم معين ده؟؟ ممكن بيتبع علم!!؟؟
(*) رشاد هو الذى يسأل، أو يتساءل عن تفسير لخبرته، بـ “علم معين”، ولو أننا اقتصرنا على العلم المتاح بالمناهج الجاهزة دون وضع الفروض اللازمة، لكان الرد ببساطة ” أن هذا مجرد مرض، وأن هذا الذى يحدث مستحيل أن يحدث، وأنه: “لا علم ولا يحزنون” و”إنت بس بيتهيأ لك” وربما نضيف “ده تخريف رسمى” وكلام من هذا،
أما محتوى الفقرة – بناء على الفرض “المعين” الذى نقدمه- ، وليس بالضرورة العلم “المعين” الذى يتساءل عنه رشاد، فهو شديد الأهمية لنا الآن، فهو يشير إلى نشاط أكثر من مستوى من مستويات الوعى (الذوات) ، وإلى رصد هذا التعدد الدال على بداية فقد “الواحدية” نتيجة عجز الذات القائدة (المايسترو) عن نظم سائر المستويات العازفة فى نسق متوحد هادف فى لحظة بذاتها، كل هذا ترصده العين الداخلية بشكل مباشر، قبل ان يوصف فيما يمكن أن يترجم إلى أعراض بذاتها، كما أن نفس محتوى هذه الفقرة بوجه خاص تجعلنا نصدق رشاد أكثر جدا، لأنه يشير إلى خبرة عصية على الوصف لدرجة أنه يسأل الطبيب، بعد استتباب الثقة بينهما، عن طبيعتها، وعما إذا كان ذلك ممكن أم لا..إلخ،
ثم خذ عندك كيف ترى العين الداخلية “عملية” الكلام، وأنها أصبحت غير منسابة ، فيبدو أن وعيا أخرا راح يركّز على تشكيل الكلمات وسَلْسَلَتها حتى كادت تتعرقل مثلما يتعرقل المشى لو ركزنا على حركة الساقين (بس انت لو بصيت لرجليك تقع: جاهين)، يترتب على هذا التعدد فالجذب (وليس بالضرورة الصراع) ما وصفه رشاد أنه “شد” أو “ألم”
وأخيرا ، فإن تعبير الشد، وتشبيهه بشد شعر الدكتورة فجأة، قد يشير إلى ما افترضناه من قبل: من أن العين الداخلية ليست عينا متعلقة بما هو بصر وإبصار بالضرورة، وإنما هى تشمل رصد أى إحساس غير ما اعتدنا من الحواس الخمسة ، ولكن بلغة الحواس الخمسة لأنها هى المتاحة، وهو ما عبرنا عنه فى الحلقة رقم 32 فى سلسلة نشرات الإدراك كما يلى: ” إن ثمة عين داخلية (عضو حسٍّ له علاقة بالحواس وما حولها)، هى نوع متطور من الإدراك القديم جنبا إلى جنب مع استعمال الوصف بالألفاظ بالقدر المتاح،
وهذا الإدراك القديم هو مبرمج وينشط فى حالتى المرض (الذهان) مستقبلا نسبيا، وفى حالة الإبداع متضفرا مع المستويات الأحدث من الإدراك (الفكر والتشكيل).
ثم يواصل الطبيب بحثه عن مزيد من الإيضاح بكل وسيلة :
د.يحيي: يعنى الكلام وهو طالع..، يُعتبر الكلام نفسه هوه اللى بيشد العقل مثلا، ولا إيه، ماتاخدنيش على قد عقلى يا رشاد، أنا عايز اعرف وانت بتكلم واحد زيى دلوقتى، بتقول: زى ما يكون الكلام بيشد العقل،يعنى إيه؟ انا عايز افهم ولو شوية
رشاد: انا أولا لو اعرف اللى انا فيه ده ايه كنت اقدر انى انا احدد لك كل حاجه
د.يحيي: ما احنا بنعرف سَوَا بالتقريب يابنى، هو احنا حانقعد نستنى ونأجل حياتنا، لحد ما نعرف كل حاجة مرة واحدة؟
(*) مرة أخرى نذكّر ببعض مبادئ المنهج الفينومينولوجى، وخاصة “تأجيل الحكم”، “ووضع المسألة بين قوسين”، وهذا قريب من تعبير الطبيب عن “المعرفة بالتقريب” مع “القدرة على التأجيل”، كما جاء فى نص الحوار
د.يحيي: (يكمل) والبنت العفريته الدكتورة دى، دى خليتك تقول لها (يقرأ):
“.. بقى عندى أكن حد بيشد عقلى ….. زى سلك عريان لو كان كل واحد منا معاه طرف سلك، لو حطيتى إيِدِكْ فى النَّص حايحصل إيه لإيِدك، حاتنجرح حا تنخدش، مش كده صح؟”
فهى دكتورة لئيمة وناصحة عايزة تعرف منك ، ما رديتش، رحت انت مكمل قلت لها :
” .. يعنى مخى هو الإيد اللى حاتنجرح والسلك بيجرحها”،
(*) يصف رشاد هنا هذه الجزئية من الخبرة بدقة متناهية، والأهم –بالنسبة للفرض الحالى- هو أنه يصفها باعتبارها واقعا ماثلا أمامه فعلا ليس به مسحة خيال، وهو يستعمل تشبيهات كلها حسية واضحة، مما يؤكد أن العين الداخلية ليست عينا فقط، بل حسا متعدد التلقى والقدرة على الرصد، ثم ياتى الوصف كما يستطيع، وهو يتماس فقط مع اللغة المفاهيمية الظاهرة، والحمد لله أن رشاد متوسط التعليم، قليل الاطلاع ، بل منعدمه بالنسبة للثقافة النفسية، والثقافة عموما، فهو سائق، يحاول فى مجالات مساعدة مثل الكرة والكمبيوتر، ولا أكثر، وهذا يجعلنا نحترم وصفه الجارى بهذه الدقة باعتباره الرصد الأمين للواقع الداخلى. وهو يعدد التشبيه وينوّعُه بكل ما يستطيع، أملا فى أن يوصل خبرته الدقيقة جدا بأقرب صورة يعيشها، والباحث الطبيب يريد أن يستقصى أكثر فيعلن حيرته وهو يسأل:
د.يحيي: (يكمل) : جرى إيه يا رشاد؟ مره تقول لى لبانه ومره تقول لى سلك، انا اتلخبطّ
رشاد: لأ اللبانة حاجه وده حاجه
د.يحيي: طيب قول لى بقي: اللبانه كانت فى الأول خالص فى أول مخك ما انشق، مش كده؟
رشاد: مظبوط
د.يحيي: ساعة ما رفضوك فى فريق الكوره
رشاد: آه
د.يحيي: ماشى وانت فى الجامع او وانت طالع من الجامع؟
رشاد: مظبوط
د.يحيي: مضبوط إيه؟ أنا باسألك: كنت فى الجامع؟ ولا طالع من الجامع؟
رشاد: متهيألى كنت فى الجامع لسه، فى الغالب هو يا دكتور لو انا جيبت سلك زى ما هو مكتوب، بس سلك عريان، وجيت حركت بيه يعنى شديته على إيد حضرتك مش حيحصل جرح؟
(*) ما زال رشاد قادر على وصف مراحل تفككه، وتصنيفها الواحدة تلو الأخرى، وهو هنا يعيد ما قاله للدكتورة للطبيب الأكبر، بشكل أكثر تفصيلا،
د.يحيي: بصراحه قل لى الأول: السلك يعنى متكهرب ولا مش متكهرب
رشاد: لأ مش متكهرب
د.يحيي: تخين ولا رفيع
رشاد: كان رفيعّ ساعتها
د.يحيي: إذا كان رفيعّ، ومش متكهرب حايحصل جرح، ما هو يبقى زى السكينة يعني
(*) هذه الأسئلة التفصيلية هكذا تؤكد حدة ووضوح خبرة رشاد، وكيف أنه شديد الاجتهاد فى محاولة توصيل خبرته، والطبيب حين يسأل عن كهربة السلك، وينفى رشاد ذلك، يقربنا أكثر من الخبرة الحسية العادية، لأنه إذا كان السلك مكهربا فإن الصعق المحتمل يسحق تفاصيل الخبرة الحسية بشكل أو بآخر، لكن رشاد يرد، وفورا، على أسئلة الطبيب، بشكل جاهز ومباشر، وبما أننى أنا هو هذا الطبيب فأحب أن أجزم أننى كنت أسال بجدية مطلقة، بحيث أستطيع أن أنفى – مرة أخرى- أى احتمال قد يخطر للقارىء أن هذا من قبيل ” تاخد العيان على قد عقله”، فقد كنت أسأله باعتبار أنه يحكى فعلا ما عاشه ويعيشه حسِّيا بأكبر ما يستطيع من شرح يحاوله بالأمثلة يضربها الواحد تلو الآخر مع الطبيبة ثم معى، كما أننى كنت استعمل نفس أبجدية المريض، قبل أو بدون تعريف مسبق لها، أو اختزالها إلى مضمونها المعتاد، وهى آلية خاصة جدا بمثل هذا الحوار.
د.يحيي: (نعيد) : إذا كان رفيّع، ومش متكهرب حايحصل جرح، ما هو يبقى زى السكينة يعني
رشاد: آه
د.يحيي: هو السلك الرفيع يجرح فعلا اشمعنى من الوسط؟ ما هو لو مسكته من هنا حايجرح، ولو مسكته من هنا حايجرح، ولو مسكته فى الوسط حايجرح اشمعنى انت نشّنْت على النص، وقلت للدكتورة كلام عن شد من الناحيتين، وحاجات كده
رشاد: آه، بحيث واحد من طرف يمسك ناحيه وواحد من الطرف التانى فيه واحد تانى يمسك ناحيه
د.يحيي: وبعدين؟
رشاد: ويبتدى يشدوا
(………….)
د.يحيي: طيب وبعدين؟
رشاد: التانى بقى تحطه على الشئ اللى هو حايجرح اللى انت عايز تخليه يجرح وتشده منه
(*) انتقل رشاد هنا إلى وصف تعدد القيادات لمستويات الوعى (نقاط الانبعاث ، منظمات القيادة، المايستروهات، وهو ما يقابل Pace Maker بالإنجليزية) وهذا أمر يحدث فى الحياة العادية فى الحلم خاصة، لكن حين تتمادى المسألة نحو التفسخ فالهمود: فهو المرض، وقد يتم رصد هذا التنافس –كما فى حالتنا هذه- التى عبر عنها رشاد “بالشد”، وقد يصاحب ذلك هذا الإحساس الذى نصفه عادة بالمُراق الرأسى Cephalic Hypochondriasis(نشرة: 25-4-2012) أى توهم الأوجاع فى منطقة الرأس، وهو الذى يحكيه رشاد بهذه الدقة كما يصله مما يرصده الحس الداخلى (العين الداخلية).
د.يحيي: يتهيأ لى فهمت شويه، يعنى تتقلب الحكاية زى المنشار كده
رشاد: مظبوط
د.يحيي: .. الشئ اللى هو حاينجرح ده، هوّه إنت بقى ولاّ مين
رشاد: هو انا صاحب القضية
د.يحيي: يعنى انت اللى حاتنجرح من الشد ده
رشاد: آه
د.يحيي: طب مين اللى بيشد هنا ومين اللى بيشد هنا
رشاد: أى اتنين، انا كنت باوصف بس الحاله
د.يحيي: وده كله جواك كده، وشايفه
رشاد: آه
د.يحيي: ياه!! يمكن مخك هو الإيد اللى حاتتجرح بالسلك اللى بيجرحها، امال مين بقى اللى بيشد اذا كان مخك هو اللى حايتجرح، مين اللى بيشد من الناحيه دى ومين الناحيه التانية
رشاد: اى طرفين تانيين
(*) نلاحظ أن رشاد لا يختزل الجارى إلى كلام يمكن أن يترجمه الطبيب التقليدى (أو التحليلى) الفاحص إلى “صراع”، و”لا شعور” فى مواجهة الشعور وكلام من هذا، وهو لا ينساق وراء أسئلة الطبيب فيجيب إجابات حاسمة لا باللغة الشائعة، ولا حتى بلغته الخاصة، بل يكتفى بأنه “أى اتنين، “أىّ طرفين تانيين”، وهذا صحيح علميا حسب هذا الفرض ذى المنهج الأكثر اتساعا، والذى تعجز أن تحتويه حتى نظرية التحليل التفاعلاتىTransactional Analysis حيث اختزلها مستعملوها إلى حالات الذات: “الوالد” و”الطفل” و”اليافع”، فى حين أن التعدد ليس له عدد أو حدود، وقد أصبح الاسم الأقرب فى لغة علم المعرفة العصبى Cognitive neuroscierice هو “حالات العقل” Mental state، ويستحسن –علميا- ترك العدد والأسماء مفتوحا لكل الاحتمالات تطوريا ونمائيا وإمراضيا وإبداعيا، ورشاد يدرك هذا الاحتمال دون لغة علمية، لكنه يعلن نتيجته بأنه “كنت باوصف بس الحالة”، ثم هو يسرع بتحديد الثمن الذى يدفعه لهذا الذى يحدث لأنه: هو الذى يدفع الثمن فى النهاية لأنه “صاحب القضية“ ، وهذا يُعلى من أهمية عدم اختزالنا خبرته باستعمال أسماء أكثر شيوعا لوصف أى صراع، مثل: “الشعور فى مقابل اللاشعور”، أو “الطفل فى مقابل الوالد”، المهم هنا هو ما وصله من عدم الاتساق نتيجة لفقد الواحدية، ومن ثم “الشدّ”.. وما تيسر له من وصف مهما كانت الصعوبة، ومع ذلك يواصل الطبيب المحاولة للتأكد:
د.يحيي: مين يعنى؟
رشاد: احنا بنوصف بس الحاله
د.يحيي: رجعت تانى قلت للدكتورة (يقرأ) : “…. عقلى هو أوضه (حجرة) فيها باب واحد، لو حد عايز يسحب فكرة ولو معاه المفتاح وما يفتحش، أو لو مش معاه المفتاح، يكسر الباب فيقوم الباب يبقى حتت، ومش حايعرف يلحمه ويرجعه زى ما كان”
(*) هكذا ينتقل رشاد إلى مرحلة أصعب ، لكنه ما زال يصف ما يصله من الجارى بداخل دماغه، ما رآه يجرى أمام حسه، رؤيته، وعيه بالجارى ، وهنا فى فقرة واحدة تتجمع نتائج شديدة الترابط مع خلل عملية “معالجة المعلومات” ، وكأنه يعلن الخلل فى فتح مخزون المعلومات اللازمة للتناغم مع المعلومات المُدخلة وبالتالى العجز عن معالجة المعلومات، لدرجة التشتت (التفتت)، ثم العجز عن ضمها (لحامها) من جديد؟
د. يحيى (يكمل): مش انت اللى قايل الكلام ده كله، يعنى إيه بقى؟
رشاد: عايز معناه؟ ولاّ شرْح؟
(*) تفرقة رشاد بين المعنى والشرح تفرقة مهمة أيضا، وأعتقد أن لها أكثر من احتمال تفسير، فرشاد متمكن (ولو نسبيا) من رصد ما يجرى، ثم من وصفه، ومحاولة ضرب أمثلة تشبهه، لكن إذا انتقلنا إلى مرحلة التفسير فإنه يسأل الطبيب ويتساءل معه، وربما هذا ما يعنيه بكلمة “شرح” ، أما ما يقصده بكلمة “معنى” فلست متأكدا إن كان يعنى ترجمته إلى مفهوم متعارف عليه أو غير ذلك.
د.يحيي: بس قل لى الأول هو ده حصل لك؟
رشاد: أيوه ده حصل
د.يحيي: يعنى الباب كان مقفول، وما حدش عارف يفتحه ما معهوش مفتاح، فكسره؟
رشاد: اتكسر
د.يحيي: وبعدين هوه عايز يقفله تانى ولاّ إيه؟ هو ده حصل لك ازاى؟ واثره ايه عليك يابنى؟
رشاد: هى الفتره اللى فاتت يا دكتور كان فيه (يسكت ويطأطئ رأسه..)
د.يحيي: الظاهر انا انهكتك، والله أنا آسف
رشاد: لأ لأ عادى بس انا بحاول اركز بس
(*) قد يكون الطبيب قد استدرجته فروضه النشطة إلى التمادى فى الأسئلة بما يحتمل ان يكون على حساب العلاج، وهذا وارد فى أى بحث علمى، لكن يبدوا ان لهذه الأسئلة مع ذلك وظيفة علاجية، فمن ناحية هى تؤكد للمريض أن الطبيب يصدّقه، وأنه يأخذ كل حرف من كلامه مأخذ الجد، وأنه يحاول أن يستزيد من معرفة تفاصيل ما جرى ربما تفيده فى رأب الصدع، وأن كل ذلك يوثق العلاقة بين رشاد وبينه، ومع ذلك وجب الانتباه والاعتذار ومعاودة الاستئذان.
د.يحيي: ولا تركـِّز ولا حاجة، حاتركز حتبوظ المسألة وحا تبص تلاقيك بتقول كلام زى اللى الناس دول بيقولوه (يشير إلى الجالسين للدرس)، خليك كده بلا تركيز بلا بتاع، اللى يتركز يتركز واللى ما يتركزش انشالله ما اتركز، هوا بوّظ الناس دول (يشير إلى الأطباء الحضور) غير إنهم بيركزوا زيادة عن اللزوم، فتلاقيهم بيركزوا غلط، بيركزوا الناحية التانية
رشاد: بس على فكره الكلام ده دقيق جدا
د.يحيي: هو انا اللى قلته ما انت اللى قلته يا ابنى الله يفتح عليك، فعلا هوّا دقيق، بس على الله يصدَّقوا (يشير إلى الحضور) .
(*) يبدو أن ما جاء يهذه الفقرة له علاقة ما باللعبة التى لعبناها فى العلاج الجمعى (وغير العلاج الجمعى) والتى لم نعرضها بعد بالتفصيل ونصها: ” يا خبر!! دانا لما ما بافهمشى يمكن….(أكمل)” ، وأيضا باللعبة الأخرى التى سنعرضها لا حقا وهى ” ..أنا أخاف أقول كلام من غير كلام لحسن ….(أكمل(“، ومع أن رشاد قرر أن الكلام أحيانا يكون غير واضح، وأنه عاجز عن وصفه، وأنه يحاول شرح ما يعايشه بأكثر من تشبيه بما يتيسر له من كلماته، إلا أن إعلانه هنا أنه ” …بس على فكره الكلام ده دقيق جدا” هو شديد الصدق لأن محاولاته للشرح والتوصيل فيها اجتهاد مطلق ومثابرة حادة، ثم يتواصل الحورا:
رشاد: هى الفتره دى يا دكتور (يسكت….)
د.يحيي: عارف انا صعبان عليا ايه دلوقتى يا رشاد؟! إن الكلام ده اللى انت بتقول عليه دقيق جدا، واللى هوه فعلا محدد جدا، الدكاتره دول يختزلوه فى كلمايه تبعدهم عنى وعنك وعن ربنا، ويحطوا صباعهم على حاجات خايبه كده، تبص تلاقيهم بوظوا البنى ادم، وهما مش واخدين بالهم، مع إن ربنا حايحاسبهم، زى ما حايحاسبنا، مش برضه يا رشاد ما يصحش ربنا يخلق خَلْقُه صح، يقوم ييجى ناس تجار يلعبوا فى خلقة ربنا من غير ما يجتهدوا باللى يستحقه، بس الصغيرين دول لسه غلابة، فابيصدقوا اللى هما شايفينه جارى دلوقتى بينى وبينك، وبعدين بينسوا، ده اللى بيحصل معايا جيل ورا جيل
رشاد: الصغيرين مين؟
د.يحيي: الجماعة الطيبين دول اللى انت شايفهم قاعدين معانا ومستحملينا
رشاد: دا بالنسبه لحضرتك صح ..، صغيرين بس همّا…
د.يحيي: آه طبعا صغيرين صغيرين، ودى ميزتهم
رشاد: بس هم كبار فى العقل يعنى
د.يحيي: يا عم كبار إيه وعقل إيه؟ العقل مفروض ما يكبرشى، مفروض يوسع ويساعى، خليهم صغيرين كده أحسن، دول كل ما حايكبروا حاتصغر فرصتهم إنهم يفهموا زى ما بيحاولوا دلوقتى، الواحد بيكبر من هنا يا رشاد، تبص تلاقيه ما بيفهمش بشااااكل
(*) يبدو أن العلاقة قد توثقت بين رشاد وبين الطبيب لدرجة جعلت الطبيب يشركه فى حيرته المعرفية، ومأزقه التعليمى معا، فتحول الحديث إلى ما يعانى منه الطبيب فيما يخص حالة رشاد وما يشابهها، وقد اتخذ رشاد موقف المدافع عن الحضور طالبى العلم والمعرفة بطيبة ورقة واحترام، لا يتصف بها أى فصامى عادة، ولا معظم الناس العاديين حتى، وفى نفس الوقت يبدوا أنه التقط مأزق الطبيب ضمنا دون أن ينحاز تماما إلى موقفه، ثم أخيرا فإن منطق الطبيب الخاص برغم أنه نابع من واقع مأزقه وخبرته الشخصية حين يزعم أنهم ” دول كل ما حايكبروا حا تصغر فرصتهم إنهم يفهموا زى ما بيحاولوا دلوقتى، الواحد بيكبر من هنا يا رشاد، تبص تلاقيه ما بيفهمش بشكل” جعل رشاد يندهش ثم ينبرى للدفاع :
رشاد: مش معقول يا دكتور
د.يحيي: آه والله، دا المصيبة إن الواحد كل ما يكبر بيبذل جهد عشان ما يفهمش، ييجى يفهم يتخض ويرجع، يكمل قلة فهم، انت مش مصدق؟
رشاد: صعبه شويه دى
د.يحيي: ان شاء الله لما تخف حا تبقى كويس خالص زيهم، حاتروح فاهم وتتجمد زيهم لما تخف، والاخرام دى بقى تتسد، والشقوق ترجع تتلحم، مش حا تعرف تقول جملة واحده على بعضها من اللى احنا بندشه ده؟
(*) هذه الفقرة –بما فيها سخرية – تحمل نوعا من التحذير من الاستسلام لعلاج تسكينى سطحى، ولها علاقة أيضا باللعبتين السالفتىْ الذكر، وخاصة لعبة ” يا خبر دانا لما ما بافهمشى يمكن…..”، كما أن لها علاقة كذلك بالتفرقة الباكرة بين أحوال الوجود الخمس، إذ ينطبق هذا الوصف السلبى أكثر على الحالة التى اسميناها “فرط العادية” من انطباقه على حالة “العادية” كما ظهرت فى نص الفقرة؟
رشاد: إيه؟ مش حاعرف إيه؟
د.يحيي: مش حاتعرف تقول اللى بتقوله دلوقتى، لكن بقى ان كان ربنا حايفتح عليك يمكن تقولها فى الحلم، بشكل تانى، لكن برضه ساعة ما تصحى فى الغالب حاتبوظها وتحكى حاجة تانية، إحنا كنا بنقول على الأوضه (الغرفة) والباب اللى اتكسر والمش عارف ايه وإننا مش حا نعرف نلحمه، ولا مش عايزين نلحمه، دا انت بعد كده اتكلمت كلام مهم بشاكل، قلت للدكتورة إن الدكتور يحيى قال لى مش عارف ايه، وحانعمل “إعداد”، مع إنى ما باستعملشى الكلمة دى من أصله، قصدى كلمة “إعداد”، انا ما قولتش إعداد ولا حاجه، بس انت طلعتها صح ميه ميه
(*) لفهم ما جاء بالحلم فى هذه الفقرة يمكن الرجوع إلى وظيفة الحلم كصمام أمن ضد ما حدث لرشاد، وأيضا إلى فرض احتمال قلب الحلم الأصلى إلى حلم مَحْكى (“الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع”) [1] ، ويبدو أن فعلنة المعلومات تكتمل بما يجرى أثناء الحلم من إعادة تشكيلها وترتيبها ” Re-patterning” الأمر الذى ينظم نشاط مستويات الدماغ والوجود بالتبادل لتجنب التصادم والتمهيد للتكامل فجدل النمو
أما الإشارة إلى ما أسماه رشاد “إعداد”، وهو ما تحفظ عليه الطبيب فسوف نناقشها تفصيلا الأسبوع القادم.