الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (75) الإدراك (36) “العين الداخلية” (7) و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات” (6)

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (75) الإدراك (36) “العين الداخلية” (7) و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات” (6)

نشرة “الإنسان والتطور”

 15 – 5 – 2012

السنة الخامسة

 العدد: 1719

   24-4-2012

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (75)

الإدراك (36)

“العين الداخلية” (7)

و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات” (6)

Information Processing

إيقاف التمادى إلى التفسخ مع إرساء دعائم العلاقة العلاجية

مقدمة:

ما زلنا مع رشاد وهو يرى بدايات خلل عملية اعتمال المعلومات رأى العين، بواسطة ما أسميناه “العين الداخلية”، وهو ما زال متماسكا (دون أن ينفصم)، ومازل كلامه العادى (مخه الأيسر) قادرا على التعبير عن ما جرى بشكل واضح منظم.

انتهت الحلقة السابقة بنهاية المقابلة الأولى، على وعد لقاء تال، لعله يحسم موضوع سفره للسعودية (بعد توقف عامين عن العمل، وبعد توفير عقد عمل هناك)، واعتراض الطبييب (شخصى) على التوقيت (سفره الآن)، وليس على المبدأ،  كما أشار أنه قد يوافق على السفر تكون الأمور أكثر وضوحا، والمضاعفات أبعد احتمالا

استعادة “الفرض” وإضافة محدودة إليه

مقابلة رشاد 26-3-2009

انتهينا  فى الفقرة الأخيرة من الحلقة (5) بهذا الحوار:

دكتورة (د.م): هو حايجى الأسبوع الجاى يا دكتور؟

د.يحيى: طبعا حايجى اللى جاى، واللى بعده، واللى بعده، لو ما سافرشى.

وحضر رشاد فعلا الأسبوع التالى للمتابعة فكانت هذه المقابلة القصيرة الهامة التى سمحت بأن نكمل فحص ما جرى (كما رصدته العين الداخلية)  قبل (أو دون) الإسراع بترجمتها إلى أعراض محددة، أو أسماء أمراض.

نبدأ بأن نعيد التذكرة، بالفرض الأساسى، لأنه هو الذى قد يفسر أقوال رشاد أولا بأول، ثم قد نـُلحقها بجزء من المقابلة التالية، (هذا، وسوف نكمل هذه المقابلة القصيرة غداًـ الأربعاء)

رشاد: السلامو عليكوا

د.يحيي: أهلاً وحشتنا، أُقعُـد أنا موافق

رشاد: على إيه؟

د.يحيي: مش على السفر على إنك تخفّ الأول

رشاد: البدايه جديده شويه

د.يحيي: احتياطى، مش أنا صنايعى يا بنى!

رشاد: صنايعى ازاى؟

د.يحيي: صنايعى فى شغلتى زيك يا أخى، مش انت صنايعى؟

رشاد: أه

(*) البداية تبدو هنا نوعاً من الاسراع بالمواجهة لما ما تصوره الطبيب الدافع الذى أتى برشاد للمقابلة، فقد رجح الطبيب أن رشاد لم يأت للمتابعة والعلاج، وإنما لأخذ الموافقة على السفر وفى هذا الأسلوب نوع  من المخاطرة، فقد يصيب وقد يخيب مثل هذا الحدْس، لكنها مخاطرة إن صحّت فإنها تقرب المسافة بين الطبيب ورشاد وتسرع بالمواجهة المطلوبة، وفيها مفاجأة للمريض حين يحسب أن الطبيب وافق على سفره، وإذا بموافقته اعتراض صريح، وتمسك بنصحيته الحاسمة ألا يسافر.

د.يحيي: أهو أنا صنايعى زيك

(*) أكرر ذكر اعتزازى بهذه الصفة “صنايعى” وهو ما أكرره للمرضى عادة، وقد يدهش منه زملائى المتدربين الأصغر مع درجة من الرفض، على اعتبار أنهم ما صدقوا أن صاروا أطباء، وكل واحد منهم دفع من عمره ووقته ما دفع لينادونه فى النهاية بيا “دكتر”، فكيف يجد فجأة أن غاية المطاف (متمثلا فى أستاذه) أن يكون “صنايعى” بهذه البساطة، وأتصور أنه لا توجد كلمة يمكن أن  تحمل رسالة أننى أمارس “فن اللأمْ” وفن “المداواة” ومؤخرا “إبداع نقد النص البشرى”  مثل هذه الكلمة “صنايعى”، ولا حتى كلمة فنان، ولا كلمة مبدع، ولا كلمة ناقد.

رشاد: مظبوط

د.يحيي: بس..!!  صنعتى بتقول كده، إنك مش مشغول إلا بالسفر، إنما أنا مشغول بإنك تخف

رشاد: هو انا لازم أخف من إيه؟

د.يحيي: من إيه ؟؟؟!!!!!

رشاد: هو اللى عندى ده مرض؟

د.يحيي: (ساخرا) لأ والله، دلع!!

رشاد: أنا شاكك انه مش مرض

د.يحيي: يعنى دلع يعنى؟

رشاد: لأه مش دلع

د.يحيي: ما هو المرض ممكن يبقى لعبة كده، شبه الدلع

(*)  كثيرا ما يأتى المريض فى بداية الذهان وبعد أن يشكو شكواه التى قد يتعجب هو منها قبل الطبيب، أو مثل الطبيب، ثم يلحق ذلك بقوله “الظاهر يا دكتور أنا بتدلع” ويكون صادقاً فى نقده لذاته، لأنه فى هذه المرحلة  يشعر أن ما تحرك بداخله هو “ذات اخرى” تحررت ولو جزئيا من وصاية الذات القائدة (صانعة الخطوات Pace Maker) طول الوقت، لكن رشاد مازال يستقبلها على أنها “أنا”، وهى فعلا هو، وبما أنه يرى ببصيرته (التى إحدى تجلياتها عينه الداخلية، وليست مجرد الاستبطان كما ذكرنا) أنها ذات طفلة، أو ذات لعوب، تستسهل وتهم بالانسحاب من الواقع، بواسطة ما يسمى “الحل المرضى” فإنه يلتقط كل ذلك، وهكذا فإن المريض فى بداية الذهان خاصة كثيرا ما يصرح بهذا التعبير “الظاهر يا دكتور أنا باتدلع”الذى لم يرد فى نص كلام رشاد  بل إنه نفاه ” لأ مش دلع”، وهذا يحتاج إلى تفسير خاص، لأن النفى هنا يمكن أن يفيد الإثبات من ناحية، ولأنه فى نهاية النهاية، حتى لمن يقول “الظاهر يا دكتور أنا بتدلع” ليس “دلعا”، بل حلا لا يسمى مرضا إلا بعد فشله، فهو مجرد إعلان يشير إلى أن  المرض (بما فى ذلك الجنون) هو اختيار على مستوى ما من مستويات الوعى كما ذكرنا مرارا، المريض، أكثر من الشخص العادى، يقبل هذا الاحتمال ، احتمال أن يكون هذا الحل هو استسهال اقرب إلى “الدلع”، على شرط ألا يصله مثل هذا الاحتمال على أنه اتهام، وإنما يتم من خلال لغة مشتركة ومحاولات اقتراب للإنارة، فتكون البداية (بداية العلاقة، فالعلاج) أكثر قربا وموضوعية.

رشاد: أنا ماعرفش إيه هو الدلع

د.يحيي: إيه؟!!

رشاد: يعنى إيه دلع؟

د.يحيي: ماتسمعشى عن “الدلع المِرِق اللى كل ما يمشى يدّلق”

رشاد: ده شاى ده ولا إيه اللى يدّلق؟

(*) هذه إما لمحة لتفكير عيانى Concrete thinking عجز عن تجريد “المثل العامى”، وإما جهل شديد بالمثل، ومع ذلك فإن هذا الإنكار يجعلنا نتناول حالة رشاد باحترام أكثر، باعتبار أنه يصف فعلا تغيرا تركيبيا طرأ على داخله، وبالذات فيما يتعلق بعملية “اعتمال المعلومات” ، فأين الدلع إذن، ويكون رده “ ده شاى ده ولا إيه اللى يدّلق”، هو أقرب إلى رفض ضمنى لهذا التفكه السخيف نوعا، ورغبة فى التركيز الجاد على ما أصابه.

د.يحيي: ……(يعنى) بعد الهيصه دى كلها تقول لى هو اللى عندى مرض؟ أصوات وكلام واضطهاد وقلة شغل وتقول مش مرض، الله يخرب بيتك، أمال حايكون إيه يا شيخ؟

رشاد: هو انا شاكك بصراحة

د.يحيي: أنا مش شاكك بقى، دى شغلتى وأنا باقول لك من خلالها إنه مرض.

رشاد: إزاى يعنى ؟

د.يحيي: مش انت سواق وحاجات كتير تانية، خلينا فى السواقة إنت لما تروح لواحد ميكانيكى وتقوله أنا مسافر مرسى مطروح بالعربية دى، والعربية فيها حاجة مش كويسة، مش بيقول لك لأ ما تسافرش؟

رشاد: هو لو عنده ضمير حا يقول لأه

د.يحيي: وأنا ماعنديش ضمير يعنى؟

رشاد: لأ ما أقصدش حاجة والله

د.يحيي: طب خلاص ما أنا باقول لك أهه: ما تسافرشى

رشاد: ما هو مستقبلى برضك

د.يحيي: ما أنا عارف، بس نحسبها سوى

رشاد: نحسبها

د.يحيي: كل شئ وله أوان، وكل وقت وله أدان

رشاد: بس السفر بقى ضرورى ضرورى

د.يحيي: يمكن فعلا ضرورى، بس ده مش وقته خصوصاً بعد ما قلت النهاردة “هو أنا عندى مرض”؟ أنا اتخضيت إنك ما تشوفش خطورة اللى عندك، خفت من العَمَى ده، وبعدين تقول عايز تسافر وانت بالعمى ده كله؟ وانت لوحدك!؟! صعب يا ابنى، لو مفتـّح كفاية كنت أقول لك روح واستحمل، واحنا مع بعضينا حتى وانت بعيد، تقدر تكلم الدكتوره “م”  مثلا، إنما بالشكل ده تقول لى “هو اللى عندى ده مرض”، واسيبك لوحدك؟ دى مسئولية، لو هو مش مرض إمال هو اللى عندك أيه؟!

(*) إنكار “رشاد” للمرض لا يعنى عمى بمعنى فقد البصيرة بالمعنى الشائع، وإنما هو يأتى من منطلق الهدف الذى نقدم به هذه الدراسة هو تأكيد أن ما يعيشه رشاد هو “حقيقة أخرى” ، لا أكثر ولا اقل، ويبدو أن قبول الطبيب بهذه الفكرة بأنها “حقيقة أخرى” من بدياة المقابلة هو الذى شجع رشاد أن ينكر تسميته مرضا، خاصة  عند الأطباء، لكنه لا ينكر غرابته، وأثره المعطـِّل عموما، وقد أصبح تركيزه على السفر هنا دافعا جديدا لرفض تسمية ما به مرضا، حتى لا يحول ذلك دون سفره، مع أن السفر مهما بدت أسبابه وجيهة موضوعيا، إلا أنه يمكن أن يكون تحديا واردا، ذا احتمالين : أن يكون تجنبا للاعتمادية فالتمادى فى الحل المرضى، أو أن يكون هربا من العلاج، ومن ثم حرمانه من هذا الاختيار الذى لاح له من داخله ، مهما بدا خطرا على تماسكه وواحديته، ومن ثم “الفصام”

د. يحيى (تكرار المقطع الأخير) ….. لو هو مش مرض إمال هو اللى عندك ده إيه؟!

رشاد: مرض

د.يحيي: حاترجع فى كلامك عشان أقول لك سافر، لأه ما تستعجلش، رزقك حايجيلك لحد عندك إنشاء الله، وحاتسافر وكله فى الوقت المناسب

رشاد: أصله مستقبلى برضك

د.يحيي: يا حبيبى يا ابنى أنا فاهم، ما ينفعش دلوقتى، أنا صنايعى زى الميكانيكى باقول لك العربيه لسه مش مضمونة، العربية فى التليين لسه، إنت لما بتسوق وتكون العربية بتتليّن لسّه ، مش بتكتب يافطة على العربية مكتوب عليها: “العربية فى التليين”، عشان العربيات التانية تاخد بالها؟!

رشاد: آه بتمشى براحتها

د.يحيي: أيوااه، بتمشى براحتها، فا إنت دلوقتى فى التليين لسه، وبعدين إنت كنت بتقول عاوز أقابل الدكتور يحيي عشان كده، ولا عشان حاجة تانية؟!

رشاد: لأه عشان السفر يعنى

د.يحيي: أه شفت بقى أنا عرفت إزاى من غير ما تقول

رشاد: لأ طبعاً مش كده وبس، قصدى عشان السفر، وبرضه عشان حاجة تانية

د.يحيي: إيه هى الحاجة التانية دى بقى؟

رشاد: يعنى عشان أشوف إيه اللى عندى

د.يحيي: طيب، ولما تشوف إيه اللى عندك ونقول إسمه كذا، حا تعمل إيه؟ مش الأحسن تشوف حانعمل إيه فيه، حانتصرف إزاى؟ هو احنا حندوّر على نمرة العربية ولاّ على إنها تنفع تسافر مرسى مطروح، يعنى هو أنهو الأهم؟ نسأل المرض ده اسمه إيه، ولا نشوف حانعمل فيه إيه، انت اللى عندك مش شوية يا رشاد يا ابنى.

(*) يمكن الرجوع إلى أول حديثنا عن الفصام وعن موقع التشخيص ماله وما عليه أيضا

رشاد: أروح العباسيه بقى؟

د.يحيي: إنت تطول!! يا راجل حمد الله على السلامة

رشاد: الله يسلمك

د.يحيي: يعنى باختصار مافيش سفر

رشاد: لأه صعب دلوقتى

(*)  قول الطبيب : “انت تطول“!! ربما يشير إلى تنبيه رشاد أنه لم يستطع أن يتمادى فى أن يتفسخ ويتدهور حتى يصل إلى درجة خطيرة تجعله من نزلاء العباسية، وهو المعنى الذى يعنيه العامة عادة بـ “تروح العباسية” وهذا التعبير “انت تطول” يشير أيضا إلى أن هذا المرض حين يتمادى يصبح أقل إرهاقا للمريض لأن مواجهته لداخله وخارجه تكون أقل شدة وتحديا.

أما إلحاق ذلك بتعبير “حمد الله على السلامة” فهو أسلوب أتبعه لأسارع ضمنا فى التأكيد على أن رشاد قد وافق ولو جزئيا على العلاج أولا، لإيقاف  مسار المرض، بالتعاون على طريق الشفاء.

د.يحيي: طيب مافيش سفر دلوقتى، بس يعنى ممكن بعد جمعه تختلف الأمور، ولاّ بعد جمعتين، إنت خليك على أتصال بالدكتوره “م” وحا نشتغل هنا لحد ما تشوف الفرص، ونشوف الفيزه ونشوف الكفيل ونشوف الكلام ده، واحنا اللى نقرر سوا، أنا وانت والدكتورة “م”.

رشاد: بعد كل الخطوات دى كلها ممكن يبقى فيه قرار تانى؟

د.يحيي: أيوه، هى مش مسئولية ولا إيه؟

رشاد: يعنى حاتوافق حضرتك على السفر؟

د.يحيي: ما أنا ماعرفش إيه اللى حايجدّ

رشاد: لأه، إنت تدلنى على الطريق الصح

د.يحيي: الطريق الصح دلوقتى إنك ما تسافرشى، لكن بعد جمعه يمكن يبقى فى الأمور أمور

رشاد: خلاص ماشى

د.يحيي: خلى بالك أنا عارف  أكل العيش يعنى إيه اليومين دول، بس صنعتى بتقول لى لأه مافيش سفر دلوقتى، لما يخلص التليين، تبقى تعمل اللى انت عاوزه، خلينا دلوقتى ماشين على ستين وثمانين لما يخلص التليين تمشى على 140 إنت حر، وبرضه يبقى فيه خطر، يمكن تعمل حادثة تموت فيها

رشاد: ما حدش حا يعيش يا دكتور

د.يحيي: طيب ومستعجل ليه بقى

رشاد: خلاص كده؟

د.يحيي: آه طبعاً

رشاد: لأ بجد؟

د.يحيي: أه والله ايه عاوز حاجة تانية؟

رشاد: لأ يعنى، قصدى بس كفاية القعدة جنب حضرتك يعنى

د.يحيي: متشكرين، إحنا نشوفك الجمعة الجاية، ويمكن نخصص المقابلة كلها لك، عشان نعرف أكتر، ونقرر أحسن.

(*َ) .. وفعلا، حدثت فى الأمور أمور سوف يعرفها القارئ مع تتبّع الحالة، لكننا نذكر هنا أن تدخل الطبيب المباشر هكذا فى قـرارات رشاد – وهو ما سبق أن شرحنا تفسيره وتبريراته – هو أمر متعلق بثقافتنا ، أى بدور الطبيب ومسئوليته  (والدا “صنايعيا”، “ناقدا” عنده معلومات طبيه) وباطنا، فهو لا يمنع مريضه من اتخاذ القرار ولا من التصرف ضد ما يشير به (مثلما فعل رشاد لاحقا، أنظر بعد) ولكنه يعلن موقفه بوضوح حاسم  دون ادعاء أن “مريضه حر”، فى حين أنه يعلم أنه لا هو ولا مريضه يستطيع أن يكون حرا، ولا هو يرضى أن يكون حرا إذا تضمنت الحرية أن يتخلى بعضنا عن بعض !! فما بالك بتخلى القادر عن المحتاج تحت زعم الحرية !!

وغدا نكمل ما تيسر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *