الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (57) الإدراك (18) “علم الإدراك” يتجاوز “علم النفس” نبدأ من ثقافتنا: من حيث نمارس ونفعل

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (57) الإدراك (18) “علم الإدراك” يتجاوز “علم النفس” نبدأ من ثقافتنا: من حيث نمارس ونفعل

نشرة “الإنسان والتطور”

 13-3-201225-1-2012

السنة الخامسة

 العدد:  1656 

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (57)

الإدراك (18)

“علم الإدراك” يتجاوز “علم النفس”

نبدأ من ثقافتنا: من  حيث نمارس ونفعل

كررت مرارا كيف أنه كلما وصلتنى معرفة طريفة، أو رأيت رؤية جديدة  أثناء الممارسة، فرحت وانتشيت، وتصورت أنى وصلت إلى ما لم يسبقنى أحد إليه، وهات يا إثبات، وهات يا إبداع، وأحيانا هات يا فخر (ولو بينى وبين نفسى)، ثم أفاجأ بعد عام أو أعوام أنها قديمة وتكاد تكون معروفة ، وأحيانا تكاد تكون بديهية للموسوعيين الأعلم، فأخجل لأول وهلة، ثم أطمئن نفسى قائلا لها : ” لكننى عثرت عليها بنفسى دون قراءة أو اطلاع أو موسوعية، فهى لى حتى لو لم تحمل اسمى، ووقد أوهم نفسى أن فكرتى التى قد تكون نسخة ميسرة من فكر سابق، هى غالبا أرسخ، وأقدر على التطبيق من تلك المعارف التى تصلنى من القراءة والاطلاع، وحتى من الأبحاث العلمية بما فيها ما أشرفت عليه من رسائل الدكتوراه والماجستير وخلافه، ولعل هذا الأمر (بنفس السكريبت : اكتشاف- دهشة- انبهار- رؤية – فكرة – تسجيل نظرية- إبداع – اطلاع – خليط من الفخر والخجل، وهكذا) أقول لعل هذا الأمر قد زاد حين بدأت أحذق استشارة عمنا “جوجل”، فرحت  أكتشف جهلى أولا بأول، فى نفس الوقت الذى أمارس فيه ما أسميته “المصداقية بالاتفاق الطولى “Consensual ValidityLongitudinal، وأعنى بها أن الاكتشاف الأحدث يدعم أو يثبت الاكتشاف الأسبق وبالعكس، إلا أن السيد جوجل قد وفر علىّ سنوات الانتظار حتى أكتشف جهلى المبدع، ونظرا لتمسكى بهذا الجهل جنبا إلى جنب مع وضع خبرتى المهنية فى “نقد النص البشرى” فى أولوية لا تقبل المنافسة، فقد عدلت مؤخرا عن الإسراع إلى مولانا جوجل، حتى أعطى لنفسى فرصة أن يختمر ما عاينت، وعشت، ومارست ، قبل أن أجهض كل ذلك بمعلومات جاهزة مهما كانت رائعة، فاكتسبت من كل هذا ثقة بالنفس بدلا من شعور بنقصٍ معلوماتىّ، كما زاد احترامى لمصدرى الأول، وهو مرضاى وخبرتى معهم ومع نفسى.

ما العمل، وما علاقة هذا بموضوعنا هذه الأيام ونحن نتصفح معا ملف الإدراك؟

اكتشفت أنه يوجد علم مستقل بذاته اسمه “علم الإدراك”، وهو غير علم النفس الإدراكى، وأيضا غير “فصل الإدراك” فى أى مرجع لعلم النفس العام، وكل ذلك غير اضطرابات الإدراك التى كانت بداية دخولنا إلى هذه الأحجية ، التى يمكن أن نكتشف أنها جنة وارفة الظلال دانية القطوف

سوف أحاول ألا أستطرد كالعادة حتى لا نخرج عن هدفنا الأصلى، لكن الشىء لزوم الشىء، فماذا أفعل؟

قبل أن نعرض لبعض هذه الأبجدية  العلمية المتاحة ، والتى يبدو أنه من الضرورى أن نعرج إليها، دعونا نسترجع معا تسلسل مراحل تناول هذا الموضوع، والهدف من عرضه على الوعى الخاص والعام، المختص وغير المختص على الوجه التالى :

  1. بدأت المسألة ونحن نستعرض الافتراضات الأساسية التى ستنبنى عليها دراستنا معا لما أسميناه “الأساس فى الطب النفسى” (من واقع ثقافتنا، وبلغتنا أساسا).
  2. بدءا بدراسة الأعراض (اضطرابات الوظائف النفسية) كان لزاما أن نتعرف على هذه الوظائف فى حالة السواء، حتى نتبين حقيقة وأبعاد اضطرابها فى حالة المرض.
  3. حلّ “الإدراك” ابتداءً كأول وظيفة معرفية تستحق التقديم والفحص.
  4. اكتشفت أن علاقتى بمحاولة سبر غور هذه الوظيفة قديمة منذ كتابتى الكتاب المبدئى المشترك مع المرحوم أ.د. عمر شاهين “علم النفس فى الممارسة الطبية” Psychology in Medical Practice
  5. تحدد موقفى الشخصى فى كتابى المستقل اللاحق “دليل الطالب الذكى، فى علم النفس”
  6. اكتشفت أن كل ممارستى خلال أكثر من ثلث قرن فى العلاج الجمعى خاصة هى من خلال تنشيط وتصحيح وظيفة الإدراك أساسا، خاصة فى علاقتها بطبيعة الوجدان (كإدراك) وأيضا فى إسهامها فى عملية الإبداع (إعادة التشكيل)، ومن ثم إطلاق مسيرة النمو نحو ما تعد به.
  7. أكتشفت أيضا أن الفروض العشرين (نشرة 25-1-2012) التى طرحت فى المقدمات هنا فى هذا الفصل هى نابعة كلها من الممارسة ، وليست من الاطلاع النظرى، وإن كانت قد صقلت أولا بأول بالاجتهاد التنظيرى.
  8. حين ركزت على الفروض الثلاث الصادمة عن “تعدد الذوات”، و”الإدراك المتجاوز الحواس”، ثم: فرض “العين (العيون) الداخلية”، شعرت بابتعادى مسافة أكبر فأكبر عن اللغة السائدة والمنج الغالب.
  9. عاودت التركيز منذ أسبوعين على أن تكون نقطة البداية من ثقافتنا جدا، وبلغتنا أصلا، (لعلنا نتذكر أن الدين واللغة هما عمودا الثقافة) فوجدت نفسى أرجع إلى ما أسميته “تكوين الوعى الجمعى” وهو المصطلح الذى استعملته مؤخرا فى تفسير العامل العلاجى الأول فى هذا النوع من العلاج
  10. وجدت نفسى لا أملك إلى أن اتابع الوصلة من هذا الوعى الجمعى حالة كونه يتكون أثناء الممارسة العلاجية الجماعية، إلى الوعى الكلى المجتمعى، إلى الوعى الكونى المطابق، إلى الوعى المتواصل كدحا نحو معرفة الله سبحانه
  11. وأنا أطلع اليوم على ماهية “علم الإدراك” كعلم مستقل، فوجئت بعلاقته العكسية بعلم الكلام الإسلامى، المتعلق بعقلنة الطريق إلى إثبات صحة العقيدة بما فى ذلك وجود الله، وكنت قد أشرت سابقا إلى خبرتى وأنا بعد طالبا حين أراد صديق أكبر أن يعرّفنى “من كان قبل الله” بنظرية أظن أنها تنتمى إلى علم الكلام وهى نظرية “الدور والتسلسل” على ما أذكر، وأننى فزعت منها حتى كدت أنكر ما سألت عنه، ومؤخرا تأكد لى : أن علم الكلام التقليدى، هو عكس ما نحاول تقديمه عن الإدراك تماما، مع أننى ما تحمست للإطالة فى تناول الإدراك إلا حين بلغنى أنه الوسيلة الأولى (وليس بالضرورة الأخيرة) لمعرفة الله، مع الإشارة إلى عجز التفكير عن إثبات هذا الوجود (بما فى ذلك ما ذهبت إليه المعتزلة)
  12. اكتشفت أن هذا الفرض قد نبع أيضا من واقع ممارسة العلاج الجمعى، وتكوين الوعى الجمعى أثناء العلاج، واتصال ذلك مباشرة تقريبا بالوعى الأعلى فالأعلى، والأوسع فالأوسع، إلى معرفة الله سبحانه.
  13. انتبهت، وناقشنا طويلا دور هذا الوعى العلاجى فى الشفاء، خاصة فى مجتمعنا المتميز، وفى ثقافتنا الخاصة، وذلك أثناء ممارسة هذا العلاج، وأيضا أثناء المناقشات بعد العلاج.
  14. تعلمت من مرضاى، بعيدا عن العلاج الجمعى أكثر فأكثر عن “العين الداخلية
  15. ربطت – أو سأربط – بين هذه العين الداخلية والبصيرة من ناحية، وبينها وبين الهلاوس من ناحية أخرى ، وإلى درجة أقل بينها وبين معرفة الله
  16. تعلمت من مرضاى أيضا أهمية احترام الإدراك المتجاوز للحواس ، قبل أن يشطح إلى المغالاة والتأليف، وهو أمر نادر، بل نادر جدا بين من يسمون الأسوياء
  17. انتبهت إلى أن الإفاضة فى هذا الاتجاه قد تساعدنا حين نعود إلى دراسة الوجدان العواطف (الانفعال) فى تطوره، وتوظيفه، ثم تجلياته فى الصحة المرض

اصنام تتحطم:

ثلاثة أصنام آن لها أن تتحطم بهدوء، لكن بإصرار، حتى تنطلق الممارسة الطبنفسية، إحدى وسائل المعرفة، إلى غايتها، بمقاييس أخرى لتحقيق نوعية اخرى من الحياة البشرية، تنبع من ثقافتنا إلى غيرها.

  1. صنم العلم الكمى المؤسسى (وما أدى إليه من ميكنة الطب النفسى، واختزال الخبرة الإنسانية إلى كيمياء كمّية)
  2. وصنم العقل المسيطر المنفصل (وما أدى إليه من تغليب التفكير “الحلـّمـَشَاكلى” Problem Solving على كل وسائل وقنوات المعرفة الأخرى
  3. وصنم “الكلام” المحتكـِر لمسارات التواصل والتعاطف والإبداع بين المعالج والمرضى، وأيضا كوسيلة أولى وأهم فى توصيل المعلومات المبرمجة

البدائل والطريق:

أثناء دراستنا للإدراك اتضح لنا ولو بصورة تقريبية، ولكن عملية وإمبريقية، البدائل المحتملة، كما يلى:

  • فبالنسبة للصنم الأول علينا أن نطرق باب مناهج أخرى تقاس نتائجها بمقاييس أخرى
  • وبالنسبة للصنم الثانى علينا أن نفهم التطور الفردى والنوعى بالطول، (نماء وتطورا)، وبالعرض: تعددا وإنصاتا وتفاعلا وجدلا
  • وبالنسبة للصنم الثالث علينا أن نضع الكلام ومن ثمَّ “علم الكلام” للأسف فى حدوده، وأن نقيده بقيوده التى قيد نفسه بها كما أسمى نفسه بهذا الاسم الجدير به، والذى لا بد أن أهله يفخرون به وهم يسمون “المتكلمون”

هذه الأصنام قد شاع استعمالها بسطحية مفرطة حتى أتت بعكس المراد، وأركز هنا على ما أعرف وهو الإسلام

أولاً: أنا ضد اختزال الإسلام بالفخر به على أنه “دين العقل”، حتى المعتزلة الذين يوصفون (أو يتهمون) بأنهم أعلو من قيمة العقل، هم توقفوا عند العقل الظاهر (المنطقى غالبا) الذى ساد مؤخرا منذ القرن الثانى عشر فى ثقافة الغرب، وهو الأمر الذى يراجعه الآن أهل هذه الثقافة بكل شجاعة وإبداع، ديننا – كما ذكرت سابقا- هو دين العقول مجتمعة متجادلة، وليس دين العقل الأرسطى ولا العقل الأفلاطونى، ولا العقل الكيميائى التجارى الحديث، والقرآن الكريم لم يكرم أو يمدح الذين يعقلون أى يمتلكون هذا العقل دون غيرهم، وإنما مدح وكرم وقرب الذين يذكرون، والذين يصبرون، والذين يتقون، والذين يوقنون..إلخ، وكل ذلك لا يتطلب هذا العقل الحديث جدا الذى رحنا نسجن ديننا فيه فخورين بما ليس محلا للفخر.

ثانياً: مثلما اختزلنا هذا الدين إلى أنه دين العقل لصقنا به صفة مائعة رخوة هى صفة  “الوسطية”، وقد حاولت مرارا أن أشير إلى أن الحل الوسط ، والوضع الوسط ، والترتيب الوسط، والموقف الوسط ليس هو أفضل الحلول، وأنه يحمل معانى التسكين والتسوية أكثر من أى شىء آخر، وأن ديننا ، (مثل كل دين لم يتشوه)، دين الإبداع وإعادة الخلق، وبالتالى هو لم يأت ليكون حلا وسطا بين اليهودية والمسيحية مثلا، ولا هو الآن الحل الوسط بين الفرق المتناحرة فى السياسة، أو المتنافسة على الرئاسة، أو المتناحرة على الحكم. ديننا هو دين الحركة والتجديد، دين الكدح والكشف، دين التطور والنمو، مثله مثل كل دين لم يتشوه، والله سبحانه وتعالى لم يميز الأكاديميين أوالمتكلمين أو الحاسوبيين عن أى بشر يحمل تراكم العقول التى احتواها عبر تاريخ الحياة وما جعلنا أمة وسطا بأى من المعانى السابقة وإنما لنكون شهداء على الناس: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ…”، وليس للتوقف متوسطين بين الناس.

هذه القضية، معرفة الله ووظيفة الوعى الإيمانى (الشهادة) فى إدراك الواقع بكل مستوياته للانطلاق منه لم تكن قضيتنا الأولى التى دعت لتناول مداخلة “الإدراك” هكذا إلا أننى للأمانة، وجدت أثناء العلاج الجمعى، وأثناء بحثى عن طريق لمواجهة الإغارة المالية الدوائية، وفى محاولة مواجهة ما يجرى من غسيل مخ الأطباء، وأثناء مقارنتى ثقافتنا الأصل بثقافة تسبقنا وتحاول أن تصحح نفسها الآن، أقول أثناء كل هذا وجدت نفسى فى بؤرة قضية اعتبروها ميتافيزيقية عبر التاريخ، وإذا بى أتعثر بها وسط مجموعتى العلاجية ، وأكتشف أنه إذا صح فرض أننا لن نعرف الله، أو الطريق إلى الله إلا من خلال الإدراك وليس الإثبات بالعقل الحديث، أو التدبر بالفهم، والمنطق، فنحن فعلا فى نقطة البداية الصحيحة

ثالثاً: بالنسبة للصنم الثالث الكلام، و”علم الكلام” سوف نفرد له نشرة الغد بإذن الله.

ملاحظة

أثناء بحثى عن موضوع العقل وتعريفه وعلاقته بالعقول الأخرى، رحت أدق على دليل جوجل للصور، وأنا أكتب كلمة عقل،Mind وفى أول صفحة حضرتنى هاتين الصورتين، قلت اثبتهما دون تعليق، ودون ترجمة ، لأظهر كيف يمتد الخيال ليحفظ لنا كل هذا التشعب الذى وصلنا إليه، وقد أعود إليهما أو لا أعود، وقد أترجمهما أو لا أفعل

التشكيل الأول: له علاقة بمدى تداخل الوظائف المعرفية وفى مركزها الإدراك برغم عدم ذكره تحديدا

أما الثانية: فمركزها “إدارة الوقت”، ولعلنا نذكر علاقة الإدراك بالزمن وكيفية إدارته.

13-3-2012

13-3-2012a

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *