نشرة “الإنسان والتطور”
15-2-2012
السنة الخامسة
العدد: 1629
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (50)
الإدراك (11)
الحوار يتواصل حول الإدراك (8)
الحوار يحل محل المتن
مقدمة:
منذ بدأت هذه النشرة، وأنا فى شوق شديد لتعقيب أو حوار أو نقد أو اختلاف حول ما أكتب فيها فى أى موضوع من أى نوع، هذا ما زعمت وكررت طوال أكثر من خمس سنوات فى بريد الجمعة أساسا، وفى غيره أحيانا، وهذا أيضا ما دعا إليه وتمناه الصديق والابن صاحب الفضل فى “إحياء علوم النفس فى العالم العربى” أ.د. جمال التركى رئيس الشبكة العربية للعلوم النفسية فدعى إلى تشكيل جماعات حوار وتنشيط المرة تلو الأخرى: مرة لمتابعة النشرة، وأخرى حول “ملف الادمان” الذى لم أبدأه تقريبا، وثالثة حول “فقه العلاقات البشرية: السيكوباثولوجيا الوصفية” (وهو الكتاب الذى انتهيت منه مسلسلا فى النشرات شرحا لديوان أغوار النفس) وكنت أشفق عليه، وأحترم حماسه، وأتألم لإحباطه الذى لم أكن أعانى مثله شخصيا بنفس الدرجة ربما لاعتيادى عليه، لم يحل أى من ذلك أن نواصل هو وأنا وبعض الأصدقاء المحاولة مهما ندر النقد أو انعدمت المشاركة،
وحين فتحنا ملف موضوع “الإدراك” ضمن الكتاب الأول من سلسلة “الأساس فى الطب النفسى”، تبينت حقيقة عمق علاقتى بهذه القضية، فتنينت بوضوح أكثر:
- إن هذا الموضوع بالذات – الإدراك– قد شغلنى من قديم ليس فقط فى مجال الطب النفسى والمرض النفسى (كيف نعرف؟ قبل ومع: ماذا نعرف؟).
- إن حجم تناوله قد يصل إلى أضعاف ما قدرت له.
- إنه من أقرب المواضيع ارتباطا بثقافتنا العربية الإيمانية بوجه خاص.
- إن هذا الارتباط بثقافتنا هو مرتبط بدوره بما اسميته (الحلقة؟؟) “ثقافة التوحيد”، وهى ما ظهرت ملامحها بشكل عابر فى مقالين سابقين تكررت الإشارة إليها فى مقالى الأهرام (العولمة ونوعية الحياة بتاريخ 14-5-1999) ، (هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم بتاريخ 1-6-1999).
- إن ربط الإدراك بمعرفة الله، وفى نفس الوقت بثقافتنا كما تتجلى فى الفعل اليومى قد يكون الفكرة المحورية التى حولت الموضوع إلى هذا الحجم وفتحت ملف الحوار على مصراعيه (الأمر الذى سنحاول تنظيمه اليوم معا)
وبعد
كنت قد أشرت يوم الأربعاء الماضى (نشرة 8-2-2012 “الحوار يتواصل حول الإدراك(6) د. محمد يحيى الرخاوى يـرد 2) فى نهاية ردى على د. محمد يحيى بقولى: “استسمحك أن نبدأ من الأسبوع القادم تبادل الآراء حول الفروض مباشرة”.
وإذا بى أفاجأ برسالتين من زميلتين الأولى من د. أميمة رفعت نشرناها أمس مع بعض الرد عليها والثانية من د. حسينة (من الجزائر) تقول بعد تحية للجمعية (الشبكة) النفسية التى تتفضل بنشر النشرات تباعا ما نصه:
“موفقون جميعا..
موضوع الادراك مهم جدا في حياتنا اليومية ،بحيث يتولد ويتكون وينمو بشكل جيد من خلال التنشئة الاسرية الجيدة
– به تدرك الحياة وبه يحسن الانسان التصرف وبه تسير الامم
– لكن التركيبة الخاطئة والافكار المدركة الخاطئة تولد الامراض النفسية المتواجدة في حياتنا المعايشة العربية نتيجة سوء في المعالجة المعرفية للعالم الغربي وللحياة ككل هذا هو نوع من الادراك لدى البعض منالعرب”.
وقد أثلجتنى هذه الرسالة لما فيها من صدق وبساطة، ولربط الموضوع بكل من التربية والحياة اليومية ولشعورى بأن د. حسينة قد التقطت بسهولة كيف أن هذه الأطروحة هى فى إطار الكشف عن معالم ثقافتنا الخاصة فى الصحة والمرض.
وبعد
أما الصديق والابن أ.د.جمال التركى الذى لا ينقطع عن قراءة ما أكتب برغم انشغالاته المترامية فأريد أن أطمئنه، وأننا أسأله بتردد: تصور يا جمال كيف كانت الأمور ستمضى لو أن أملك تحقق وشارك عدد عشرة أو عشرين من الزملاء الممارسين (دع جانبا العلماء الثقاة) فيما أغامر بكتابته طوال هذه السنوات الخمس، وأنت أدرى بعدد الموضوعات التى فتحناها ولم نكملها، وكم موضوعا تمنينا أن نسمع فيه رأيا آخر وكم موضوعا كان سيحولنا عن الموضوع الأصلى لو جاءتنا تعقيبات ونقد بهذا العمق وهذه الجدية طول الوقت، أليس فيما حدث الآن ما يجعلنا نحمد الله على ندرة المشاركة، كما نحمده أكثر ونحمد المشاركين على كرم الحوار وحصافة النقد؟
أنا شخصيا أحمد الله حمدًا كثيرا مباركا فيه على الحالين، وأسألك أنت ود.محمد يحيى، ود. أميمة ود. حسينة ود. ماجدة صالح ود. أسامة عرفة، ود. طلعت مطر وكل من يهمه الأمر عن الخطوة التالية:
1) هل أرد أولا بأول مهما بلغت الاستطرادات والتداعيات؟
2) هل أكمل عرض وشرح الفروض كما ذكرتها الأربعاء الماضى؟
3) هل أكمل العرض وأنا أنتقى من التعقيبات أولا بأول ما يتناسب مع كل فرض من الفروض قبولا أو دعما أو نقضا أو تعديلا؟
4) هل عندكم اقتراحات أخرى؟
والآن إلى رد د. محمد يحيى الرخاوى على د. أميمة رفعت (ود.يحيى الرخاوى ضمنا)
****
تعقيب د. محمد يحيى الرخاوى
على رسالة د. أميمة: (نشرة 14-2-2012 الإدراك “7” الحوار يتواصل برسالة من واقع الخبرة)
بت لا أعرف ما الذى انفتح بالضبط فى هذا الحوار وبه، و أكاد أخشى أن يبدأ فى الدوران حول نفسه معطلا ما هو أهم. لذلك أكتب وأنا لا أعرف إن كان ينبغى أن أكتب. ومع ذلك ففيما يلى متابعة للحوار حفزتها رسالة د. أميمة رفعت.
1- على الرغم من تداخل كل أجزاء هذا الحوار، بل على الرغم من تداخل كل شىء فى كل شىء؛ فقد وجدت أنه من الضرورى “إدراك” أن المسارين ليسا واحداً. ثمة نظريتان تسعيان للتشكل والتواصل، لا واحدة. نظريتكما ونظريتى (أصل انا بيتهيألى إن عندى نظرية، والله).
ينطلق المسار الأول من الممارسة الإكلينيكية أساساً، ويسعى لتشكيل لغوى/علمى يتواصل به ولو بعض ما يتكشف داخل هذه الممارسة، هذا الذى يتكشف لوعى أمين متجدد طازج خاصة. وينطلق المسار الثانى من مراجعة المفاهيم على الواقع غير الإكلينيكى بالضرورة. وراء كل مسار نظرية مختلفة، وتسعى كل منهما لإنارة واستنارة متباينة التفاصيل والمسارات المنهجية، على الرغم من التقاءات جوهرية فى “معنى” (منشأ وقصد) كل منهما. على سبيل المثال: تسعى الأولى (الإكلينيكية) للتنبيه إلى حجم الدور الخاص بـ “الواقع الداخلى” و”جدلياته” فى مسألة الإدراك (والوعى بعامة)، مع لجوء أساسى لمجال الممارسة الإكلينيكية كمرجع ودليل. بينما تسعى الثانية إلى التركيز على دور “اللحظة/الآن” فى إحداث انقلاب جذرى فى نظرياتنا عن “الإدراك” و “المعنى” و”الوعى” و”الوجود” مع لجوء أساسى لمساءلة التعريفات المتاحة عن جدارة تعريف ما تدعى أنها تعرفه.
ومع ذلك يلتقى المساران فى مسائل جوهرية –كما أشرت.
دعك من اشتراك المسارين فى “اسم الإدراك”؛ فهى أسماء قد نلتقى فيها وقد لايحدث،. أن يحدث هذا اللقاء أو لا يحدث أمر لا يرجع إلى اللغة بما هى مفاهيم وأسماء/مصطلحات، مهما دققنا واتفقنا.
نحن نلتقى فى “معمار اللحظة” المشتركة (يتضمن معمار اللحظة -من بين ما يتضمن- “معمار لغة” كل منا) كما يتضمن “معمار اللحظة” أيضاً توجه هذه اللحظة (الإيمانى/اللاإيمانى خاصة).
لو تجاوزنا اللغة (تجنيباً أو إبداعا لمستوى لغوى آخر)؛ فلقاؤنا فى معمار اللحظة متناغم ومتسع.
لو لم نتجاوزها؛ فنحن ملتقيان فى التوجه، وبعض الأساسيات. منها مثلا، وبشكل لا يمكن التكهن بوضعه النهائى الآن: نحن نلتقى فى “إدراك” أهمية دور المعرفة الهشة فى الإدراك، وفى “إدراك” علاقة ذلك بإدراك الله، أو فى إدراك معنى الكون. أنا أدعى هذا. أو ليس هذا جوهرياً!؟
2- بناء على هذا، سأعفى نفسى، وأعفيكما، وأعفى القارئ، وأعفى نظريتكما من مداخلات تفصيلية أعترض فيها على استعمالكما لهذا المصطلح هنا، وتلك الصيغة هناك. سأكتب نظريتى –إن شاء الله- التى أنا الآن فرح بها جداً، بعد تأجيل كتابتها لمدة 22سنة (ما زال اسمها “لغوية الوجود المؤمنة”). منشأ هذه النظرية مطروح فى مداخلتى السابقة، فهو يتعلق بـ “إدراك” حجم الأثر المعرفى الذى يمكن أن يترتب على عدم تجاهل التفرقة الحاسمة بين “لحظية الإدراك”، أو آنيته، وارتباطه بمعنى الكون، وبين الاستمرارية الكامنة لما هو من الذاكرة. ألا نتجاهله فى كل لحظة نحاول أن ندرك فيها عن الوعى الإنسانى، ويمكن حتى عن الوجود نفسه. هى التفرقة الحاسمة نفسها بين “لحظية المعنى اللغوى”، واستمرارية الكلمة/اللفظ كذاكرة، حتى ولو حبر على ورق، وهى التفرقة التى “أدركتها” فى “لحظة” الكتابة الأولى للنظرية، والتى أفخر بأنها تتفق بصورة كبيرة مع معطيات فيزياء الكوانتم الحديثة (فى حدود فهمى لها)، وهو ما أتمنى أن أنجح فى كتابته.
ولكنى فى الوقت نفسه سأظل أنتظر وأتابع بلهفة، حاضرة الآن، أن أتعلم مما سينجلى ويتشكل من نظرية د. يحيى الرخاوى وحواراته، ومداخلاتك الحية يا د. أميمة.
3- ولكننى لا أستطيع يا د. أميمة إلا أن أشكرك على “إدراكك” لما أسميته أنت “أناقة حجيتى“، هذا التعبير الأنيق أيضاً، وهو شىء أحاوله فعلا (كما أحاول تأنيق لغتى أيضاً)، وأعتز به، فى الوقت نفسه الذى أغار فيه من طلاقة وحيوية وحضور لغتك أنت والدكتور يحيى. كما ما زلت أغار أيضاً وأستفز من المعنى الذى ورد فى عبارتك “الممارسة العملية لهذه المهنة التى جعلتنى \” أرى\” ذوات\” الإنسان بداخله من خلال مرضاى الذهانيين“. أغار لأننى أصدقكما (بصراحة د. يحيى أكثر) أنكما تريان ما تتكلمان عنه، أصدقكما رغم أننى لا أراه. أصل نفسى اشوفه معاكم.
لكن بالذمة ده كلام؟؟ بصى معى للجملة التالية مباشرة لتعبيرك السابق: “فأراهم أيضاً داخلى حتى قبل أن أقرأ للدكتور يحيى، مما جعلنى أتقبل نظريته بمنتهى البساطة، وكأننى أعرفها أو قرأتها من قبل، فأخذتها معى فى طريقى بشكل طبيعى بديهى …..“. هل هذا كلام يصح؟؟ طبعاً يصح ونصف فى شروط عديدة للتواصل، الشفاهى منها خاصة، والأدبى، والدينى والصوفى، ولكن إن أردنا إسهاماً فى جسم العلم لا يصح. مهما نقدنا (معاً) لغة العلم وقصورها وأدركناه وكرهنا سطوتها وكافحنا فى مناهضة سيادتها غير المشروعة؛ فإنها تظل تحدياً مواجهاً علينا أن نتخذ منه موقفاً.
لست متحيزاً للغة العلمية كما يبدو، ربما على العكس، هى بالنسبة لى لغة شديدة الفقر، وكذابة جدا جداً حين تدعى القبض على المعرفة. ينضاف إلى ذلك مخاوفى من هذه المنظومة العلمية بأكملها -ومنها اللغة العلمية- بما أدت إليه من فصل المعرفة عن العارف، وما أدى إليه ذلك من وقوعها فى يد غير العارفين، فانفصلت عن المعرفة بوصفها فضيلة وجودية، وهو ما باتت له ملامح تهدد الحياة (التهديد المعاصر للبيئة مثال ساطع، وليس وحيداً). ومع ذلك فمثل هذا التواصل الخاص جداً لن يرضى ولا حتى يحيى الرخاوى نفسه.
أقر وأعترف وأشهد أن يحيى الرخاوى، بلغته هذه تحديداً، وصل واتصل وتواصل مع أجيال وأجيال من الممارسين الناجحين وأغلبهم فهم وتعلم بطريقة مشابهة لفهمك وتعلمك. ولكن: هل على الجميع أن يكونوا معالجين نفسيين أو مرضى ليفهموا؟ بطريقتك التى حددتها أنا بالبنط الأسود المائل؟ لدى طموح أكيد أن يتم تخطى هذه الدائرة التى لا أحب أن تكون مغلقة، وليست لدى حلول واضحة. سأذكركما فقط بالكم الهائل من الكتابات فى نظريتى النسبية والكوانتم، كتابات موجهة للقارئ العادى، أكاد لا أفهم منها شيئاً، تقريباً يعنى، ولكنها محاولات أمينة لتوصيل أصعب النظريات الرياضية للساعين إلى المعرفة سعى العابدين. أتمنى أن يتحقق مثل هذا يوماً ما.
أو أن تتخلق لغة أخرى، تنتمى لمنظومة أخرى، بس “أدرك” بيها حكاية تعدد الذوات دى، زيكم وكده يعنى.
رغم إنه، على رأى موش عارف مين كده، فى فيلم موش فاكر اسمه: “الموضوع كبيير كبيير كبيير”.
مع كل الشكر.
محمد الرخاوى
ملحوظة تذكرتها الآن فقط: على فكرة، كل الوجود مجاز، وكل اللغة مجاز، يعنى “الذوات” كمان مجاز، فهل يمكن أن يكون فى مثل هذا ما يدعوك يا د. يحيى، أو أنت يا د. أميمة لمحاولة شرح هذا المجاز لمن لا يفهمه من المهتمين من أمثالى؟؟
أرجو ألا يعطل هذا د. يحيى عن مواصلة الكتابة فى الإدراك، كما يفعل عادة.
حلوة دى، برضه افتكرتها دلوقتى حالاً. يقول دريدا: يخيفنى الكلام لأننى، بألا أقول أبداً ما يكفى؛ فأنا أيضاً أقول أكثر مما ينبغى. (لعن الله اللغة العلمية).
****
أسف يا محمد أن أؤجل تعقيبى على تعقيبك إلى الأسبوع القادم (الثلاثاء)، لأبدأ فورا فى اليوم التالى عرض الفروض الأساسية دون أن أقرأ البريد منكما إلا بعد نهاية عرض الفروض وربما “الاضطرابات”، مع وعد أكيد بعدم إهمال أية كلمة تصلنى.
عذرا
وشكرا مرة أخرى لك وللزميلة د. أميمة والزميلة د. حسينة وأ.د. جمال التركى من قبل ومن بعد.