الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس : الافتراضات الأساسية (32): الصحة النفسية (25) : ماهية الحرية، والصحة النفسية (8) التنازل عن الحرية لإحيائها: (الحزن النابض: ضد الجنون!)

الأساس : الافتراضات الأساسية (32): الصحة النفسية (25) : ماهية الحرية، والصحة النفسية (8) التنازل عن الحرية لإحيائها: (الحزن النابض: ضد الجنون!)

نشرة “الإنسان والتطور

26-1-2011

السنة الرابعة

 العدد: 1244
4-1-2011

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (32)

 الصحة النفسية (25)

 ماهية الحرية، والصحة النفسية (8)

التنازل عن الحرية لإحيائها: (الحزن النابض: ضد الجنون!)

مقدمة:

كان عنوان نشرة أمس شديد التحدى، جديد الغرابة، وكانت النشرة مختصرة مركزة، حتى فزعت وأنا أقرأها اليوم لأكمل، يستوى فى ذلك العنوان تحديدا “الجنون هو فعل الحرية لتستحيل” أو ما جاء بالعنوان الفرعى “الجنون مقصلة الحرية” ثم ما جاء أيضا بالمتن يقول: “الحرية تنتحر اختيارا”!، وقد توقعت هجوما مشروعا من تعليقات وتعقيبات تؤكد الصعوبة أو عدم الفهم.

استكمالا لهذا المفهوم، إنتبهت إلى صياغةٍ فى الاتجاه الآخر، بمعنى يؤكد أن الحزن النابض باعتباره الموقف الدال على التوجه إلى إرساء علاقة بالآخر، برغم الصعوبة (ضد الجنون) إنما يتضمن تنازلا عن بعض الحرية فى مقابل هذه العلاقة بشكل أو بآخر.

 ولقد شعرت من هذا وذاك بما يؤكد ما أريد توصيله عن مفهوم الحرية، ليس بالمعنى السطحى الشائع “حريتى تنتهى عند بدء حرية الآخرين“، وإنما بالمعنى الذى  اقترحته سالفا لنقد هذه المقولة قائلا: “حريتى تبدأ حين تلتحم جدلا مع حرية الآخرين”،

 أما الثمن الذى ندفعه لهذا التنازل الواعى فهو الحزن العظيم، ليثبت أنه الثمن الذى نقبضه وليس الذى ندفعه، هذا الحزن الحيوى هو كذلك شريطة ألا يتعدى الحدود إلى الاكتئاب العقيم.

الفرض المكمل هنا يقول:

 “إن الحزن الحيوى هو موقف دال على فعل الوعى المتكامل (المتعدد معا) فى مواصلة سعيه للتفاعل الموضوعى مع وعى بشرى آخر يقوم بنفس الدور، وهذا نوع أرقى (او أكثر حركية نماء) لأنه إعلان إرادة اختيار نوع ناضج من الحرية يكاد يختص به الكائن البشرى

‏إن نمو الإرادة‏ (1) ‏مثل‏ ‏سائر‏ ‏الوظائف‏ ‏النفسية‏، ‏يتناسب‏ ‏تناسبا‏ ‏طرديا‏ ‏مع‏ ‏مسيرة‏ ‏التكامل‏، ‏أى ‏مع‏ ‏المساحة‏ ‏من‏ ‏النفس‏ ‏التى ‏تعمل‏ “معا”، ‏أى ‏مع‏ ‏مدى ‏الترابط‏ ‏وعمق‏ ‏الولاف‏ ‏المتصاعد بين كل مستويات الوعى‏، ‏ومستواه”.

الاكتئاب والآخر واختبار كلية العلاقة

لا‏ ‏توجد‏ ‏إرادة‏ ‏بالمعنى ‏الحقيقى ‏إلا‏ ‏فى ‏حضور”‏آخر” ‏موضوعى ‏ماثل‏ ‏تتم مواجهته والتفاعل معه على نفس المستوى من ‏مواجهة‏ ‏الوعى ‏الفاعل (بمستوياته المتعددة).

 إن ‏‏الاختبار ‏الحقيقى ‏لفعل‏ ‏الإرادة‏ (‏الحرية‏) ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏فراغ‏،

يسرى هذا حتى على من يعلن حريته بانسحابه ‏ عن‏ “الموضوع” ‏(الآخر/الواقع) كلية‏، مثل الفصامى (السلبى) الذى يبدو وكأنه ‏قد‏ ‏تنازل‏ ‏فى ‏واقع‏ ‏الأمر‏ ‏عن‏ ‏حقه‏ ‏فى ‏أن‏ ‏تقيـَّـم‏ ‏اختياراته‏ ‏بميزان‏ ‏حضور الآخر فى وعيه، إلا أن النظرة التالية تـُظهر كيف أن الآخـر (الواقعى) قد حضر عند الفصامى بشكل جعله لا يقبله احتجاجا، فاحتد عليه انسحابا، وهذا نوع من “تأكيد الحضور بالغياب، فالتغييب”، بما لا ‏يتنافى ‏مع‏ ‏فرضنا‏ ‏الأساسى ‏الذى ‏يشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المجنون (بدءا بالفصامى) قد ‏اختار‏ ‏أن‏ ‏يسلب‏ ‏نفسه‏ ‏حق‏ ‏الاختيار‏.

‏ ‏البارنوى (المجنون) ‏الذى ‏ألف‏ ‏لنفسه‏ ‏عالمه‏ ‏البديل‏ ‏عن‏ “الآخر” (الواقعى أيضا)، أو اختزل الآخر إلى مصدر تهديد أو وعيد، باعتباره خطرا‏ ‏على ‏تفرده‏، ‏هو‏ ‏أيضا‏ ‏يمارس‏ ‏إرادة‏ ‏جزئية ذاتية‏ ‏منغلقة‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏تجلت‏ ‏فى ‏أفعال‏ ‏توحى ‏باختيار‏ ‏حاسم‏ يؤكد استبدال الآخر بآخرين من صنعه، أو من ذخيرة داخله وهم عادة ملاحِقُون مطارِدون له، معقبون على أفعاله، موجهون لسلوكه، برغم أنهم ليسوا إلا بعض  داخله. ‏

تتجلى ‏الإرادة‏ ‏الحقيقية‏ المرتبطة تمام الارتباط بحضور الآخر فى الخارج وفى الوعى‏ ‏فى ‏موقف‏ (‏مأزق‏) ‏الاكتئاب‏ ‏الأصلى (‏البيولوجى‏/‏المواجِهى‏)(2) كما ذكرنا حالا: ‏حيث‏ ‏يعتبر‏ ‏حضور‏ “الآخر” ‏‏- ‏ ‏فى ‏الواقع‏ ‏والوعى ‏معا‏- بكل‏ ‏موضوعيته‏ ‏وتحدياته‏ ‏هو‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏ظهور هذا النوع من‏ ‏الاكتئاب‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، هذا يختص بالحديث عن الاكتئاب الحيوى الحركى النشط على مسار النمو والمرض، وهو ما يمثل تجليات “الموقف الاكتئابى” (جانترب)(3) فى المرض (والصحة) أثناء النمو،

 هذا الاكتئاب هو إنسانى فى المقام الأول بل يكاد يكون خاصا بالإنسان دون سائر الأحياء (الوعى والوعى بالوعى فى حضور آخر)، ‏ذلك‏ ‏أن ممارسة هذا الحزن اليقظ يتطلب من صاحبه أن‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏علاقته‏ ‏بالآخر‏، بالتنازل النسبى عن حريته، فهو ‏لا‏ ‏ينسحب‏ ‏من‏ ‏مواجهته‏، ‏ولا‏ ‏يلغيه‏، ‏ولا‏ ‏يستبدله، ‏ولكى ‏يحقق‏ ‏ذلك‏ ‏فإنه‏ ‏يختار‏ “المجال” ‏الذى ‏يحافظ‏ ‏على ‏هذا‏ ‏الوعى ‏وهو‏ “واقعية‏ ‏العلاقة”، ‏وهو‏ ‏إذ‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏يجد‏ ‏أن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتحمل‏ ‏الوعى ‏بكلية‏ ‏الآخر‏ ‏وبمخاطر‏ ‏الاقتراب‏ ‏منه‏ مختلفا ‏ككل‏ ‏موضوعى، فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ هو يفعل ذلك دون يقين باستمرار هذا الحضور، فيعايش ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يهجره‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ طول الوقت، ‏فيتولد هذا الاكتئاب الحيوى أكثر إيلاما وحيوية، الأمر  الذى يعلن حركية الحرية/الإرادة بشكل عميق متجدد‏.

 الوعى ‏بالآخر‏ ‏ـ‏ ‏كموضوع‏ ‏حقيقى ‏ـ‏ ‏مع‏ ‏اختيار‏ ‏الاستمرار‏ ‏معه دون اختزال أو إجمال، هما‏ ‏العاملان‏ ‏الأساسيان‏ ‏اللذان‏ ‏يولّدان‏ هذا الحزن الأساسى (4)

 هذان‏ ‏العاملان‏ ‏الأساسيان‏ ‏هما اللذان‏ ‏يسعى إلى تحقيقهما ‏العلاج‏ ‏النفسى عموما والجمعى خصوصا، ومواجهة هذا الاكتئاب سواء بتخفيف جرعة المواجهة وليس بالغائها تسكينا، ‏أو بتعميق “المواكبة” المنتظمة خصوصا فى‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏الجمعى، ‏هو‏ ‏الذى ‏وصفته‏ ‏تحديدا‏ ‏بتعبير‏ “‏إحياء‏ ‏ديالكتك‏ ‏النمو” (5) حيث‏ ‏يهدف‏ ‏هذا‏ ‏العلاج‏ ‏إلى ‏تنمية‏ ‏الوعى ‏ليس فقط بالآخر كموضوع شخصى، وإنما بالجانب‏ ‏الآخر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏قضية‏، ‏ومن‏ ‏كل‏ ‏موضوع‏، ‏ومن‏ ‏ثَمَّ‏ ‏الوعى ‏بـ‏ “‏كلية‏ ‏الآخر‏” ‏وحريته معا.

خلاصة القول:

نلاحظ كيف أن هذا الموقف (التنازل عن الحرية لتخليقها مع آخر) هو أقرب إلى الصحة الفائقة منه إلى كل من “العادى” أو “المجنون”، فهو بمثابة “فعل الحرية المنضبطة لاختيار ما هو “ضد الجنون”

 أو بتعبير آخر كأنه التنازل عن الحرية لإحيائها (مع دفع ثمنها)

ثم مرة أخرى: إن ثمنها كما ذكرنا هو ذلك الحزن الحيوى النمائى .

إن تعريفنا لما هو إنسان بأنه الكائن الذى اختار أن يحمل الأمانة حتى دون أن تعرض عليه عندما اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى، ثم راح يمارس عبء ما اكتسبه هذا مع كائن بشرى آخر له نفس المواصفات، هو الذى فرض علينا هذا النوع من الحرية الذى أصبح – حسب هذا الفرض – هو ممارسة حريتنا من خلال قدرتنا على “أن نحزن معا” لنمارس حمل أمانة العلاقة مع بعضنا البعض معا، لنفرح معا، وهكذا.

[1] – أنظر أبعاد الإرادة فى (نشرة 21/12/2010 “الإرادة – التوجّه – الحرية” فى تجليات الوجود البشرى)، (نشرة 22/12/2010 “ماهية الإرادة”)

[2] – “الاكتئاب البيولوجى المواجهى” هو مصطلح صكه المؤلف من خلال فرض يحاول التحقق من صحته خلال  سنوات خبرته الإكلينيكية، وهو يعتبر هذا النوع الذى أسماه بالإنجليزية Biololgical Confronting Depression  وبالعربية “الحزن الحيوى النابض””، وهو يختلف كل الاختلاف عن الاكتئاب بمعناه المرضى، وعن “الزهق” بالعامية، وعن الهم، وعن الغم، وعن الضيق، مما لا مجال لتفصيله. هذا الحزن الحقيقى– من خلال هذا الفرض – هو  جزء لا يتجزا من  مظاهر وضرورات العلاقة بالموضوع بالمعنى الذى شرحته مدرسة التحليل النفسى الإنجليزية (جانترب بوجه خاص) ، باعتبار أنه يعلن صعوبة العلاقة بموضوع (آخر) حقيقى مستقل لا مفر من صحبته برغم صعوبة استقباله بما هو. وسوف نتناول كل ذلك فى عمل مستقل نرجو ألا يطول انتظاره، هذا علما بأن إرهاصات هذا الفرض ظهرت فى فكر المؤلف من قديم أنظر “‏دراسة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى” ‏دار‏ ‏الغد‏ ‏للثقافة‏ ‏والنشر‏ 1979- القاهرة.

[3] – مدرسة العلاقة بالموضوع

[4] – كما خلقنا به – “خلقة ربنا” حسب التعبير المستعمل لإثارته فى ثقافتنا فى المقابلة الإكلينيكية وفى العلاج الجمعى خاصة.

[5] – د. يحيى الرخاوى ” مقدمة فى العلاج الجمعى”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *